أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - الإقناع الخفي في عصر الذكاء الفائق: استعمار اللاوعي وتحرير الإرادة عبر الوعي الفلسفي














المزيد.....

الإقناع الخفي في عصر الذكاء الفائق: استعمار اللاوعي وتحرير الإرادة عبر الوعي الفلسفي


حمدي سيد محمد محمود

الحوار المتمدن-العدد: 8424 - 2025 / 8 / 4 - 12:55
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    



في زمن تتقدّم فيه تقنيات الذكاء الفائق بخطى مذهلة، لم يعد العقل البشري هو سيد قراراته كما توهّم طويلاً. فالإقناع الخفي، الذي كان يُمارَس في الماضي بوسائل خطابية أو إعلامية تقليدية، تحوّل اليوم إلى بنية مبرمجة، خوارزمية، ذكية، تستهدف الإنسان لا كذات حرة عاقلة، بل ككائن قابل للبرمجة وإعادة التشكيل. لم يعد الإقناع معركة بين الآراء، بل بات اختراقًا ممنهجًا للبنية النفسية للإنسان، يزرع الأفكار والتوجهات داخل عقله الباطن دون أن يطرق باب وعيه. إننا أمام استعمار جديد لا يحتل الأرض، بل يحتل الذهن، ويزرع قيمًا ومفاهيم تُشبه "الاختيارات الحرة"، بينما هي في الحقيقة مجرد استجابات محسوبة لمؤثرات مصممة من قبل آلات تتفوق على الإنسان في القدرة على التنبؤ بسلوكه.

يعمل الذكاء الفائق عبر تحليل دقيق ومُكثّف للبيانات السلوكية والنفسية التي ينتجها الفرد يوميًا دون قصد، فيحوّل هذه البيانات إلى نقاط ضعف قابلة للاستغلال. من خلال تقنيات مثل التأطير الذكي، والتكرار الموجّه، والمحفزات العاطفية المصممة، والتلاعب اللاشعوري بالصور والنصوص والمحتوى، تنجح الخوارزميات في تمرير قناعات وأولويات، وتحديد رغبات ومخاوف، دون أن يُدرك الفرد أن اختياراته قد صيغت خارج ذاته. ومع كل تفاعل رقمي، تزداد قدرة هذه الأنظمة على تشكيل العقل الجمعي، ليس عبر المواجهة، بل عبر الاستيعاب الناعم الذي لا يثير مقاومة، ولا يترك أثرًا صريحًا يمكن محاكمته.

إن الأخطر من ذلك، هو أن المجتمعات والدول لم تعد محصنة من هذه الموجة. إذ يتم توظيف الإقناع الخفي اليوم لإعادة تشكيل الرأي العام، وإعادة تعريف مفاهيم مثل الحرية، الهوية، الانتماء، والحق، بما يتوافق مع مصالح القوى الكبرى، والشركات العملاقة، والمشاريع الأيديولوجية العابرة للقارات. إنها قوى تستثمر في الجهل الرقمي، وتستغل سرعة الاستهلاك الإعلامي، وتراهن على تراجع الحس النقدي، لتنتج أفرادًا يظنون أنهم يفكرون، بينما هم في الحقيقة يُفكَّر لهم.

وهنا تظهر الحاجة إلى رؤية فلسفية جذرية لمواجهة هذا النمط الجديد من الهيمنة. فالخطر لا يكمن فقط في قدرة الذكاء الفائق على الإقناع، بل في ضمور الوعي الفلسفي الذي كان تاريخيًا الدرع الوحيد في وجه السلطة غير المرئية. الفلسفة، في جوهرها، ليست ترفًا تأمليًا، بل فعل مقاومة ضد كل ما يهدد حرية الإرادة. إنها سؤال دائم حول الحقيقة، الشك في ما يُقدم كيقين، تأمل في شروط المعرفة، وتشريح دقيق للبنى التي تصنع الفكر قبل أن يُولد.

إن الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر حذّر منذ زمن من تحوّل الإنسان إلى "أداة" في منظومة تقنية لا يفهمها. ونيتشه قبله تحدّث عن "موت الإله" كرمز لانهيار المعايير الكبرى، وترك الإنسان نهبًا لقوى عبثية. واليوم، ومع صعود الذكاء الفائق، لم يعد التهديد قادمًا من غياب المعنى فقط، بل من إعادة إنتاجه بطريقة صناعية، موجهة، مُبرمجة. إن الإقناع الخفي هو التجسيد الأحدث لفقدان السيادة على الذات، لأنه يسلب الإنسان قدرته على التمييز، ويزرع فيه وهم الحرية بينما يقوده برفق نحو التبعية.

ولذلك فإن الحل لا يقتصر على إجراءات قانونية أو تعليمية، رغم ضرورتها، بل يتطلب إحياء السؤال الفلسفي داخل كل فرد. لا يمكن مقاومة الإقناع الخفي إلا بإعادة الاعتبار لفعل "التفكير" ذاته، لا كاستجابة بل كموقف وجودي. المطلوب هو تأسيس وعي نقدي جديد، يُدرب الإنسان على الشك في رسائل الإقناع، وتحليل بنيتها، وكشف مَن يقف خلفها، ولماذا. الوعي الفلسفي لا يمنح أجوبة سهلة، لكنه يُبقي الباب مفتوحًا أمام الإرادة الحرة، ويجعل من الذات فضاءً للمقاومة لا ساحة للاختراق.

إن الإقناع الخفي في زمن الذكاء الفائق هو التحدي الأكبر أمام مستقبل الإنسان ككائن حر. وإذا لم نُعد تعريف الحرية على ضوء هذه التهديدات الجديدة، وإذا لم نبنِ أجهزة فلسفية مضادة داخل المدارس، والجامعات، والمؤسسات الإعلامية، فسيجد الإنسان نفسه وقد تم تفريغه من إرادته، وتحوّل إلى "مستهلك للرغبة" التي لم يخترها، و"فاعل لقيم" لم يصنعها، و"مؤمن بأفكار" صاغتها له خوارزميات لا ضمير لها ولا أخلاق.

ليست المعركة ضد الذكاء الفائق، بل ضد خضوع الإنسان له دون وعي. وإن لم نُعد الاعتبار للفكر، والشك، والوعي الفلسفي، فسنكون الجيل الذي سلّم إرادته للآلة طوعًا، باسم الراحة، وباسم الحرية المزيفة، دون أن يدرك أنه قد باع وعيه في المزاد الرقمي الكبير.



#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- إمبراطورية الانقسام: كيف أعادت بريطانيا رسم العالم بالصراعات
- إعادة رسم النفوذ: أوروبا و أمريكا في معترك التوازنات الجديدة ...
- من المنطق إلى الوجود: كيف أعادت الفلسفة الإسلامية تشكيل العق ...
- الذكاء الاصطناعي واختبار الديمقراطية: بين التمكين والخطر
- حروب بلا جنود: صعود الذكاء الاصطناعي كقوة ضاربة في أيدي الجم ...
- إعادة رسم خرائط النفوذ : السباق الفضائي وأشباه الموصلات في م ...
- التحرر من الهيمنة الرقمية: نحو سيادة معرفية وتقنية عادلة
- المرتزقة السيبرانية وحروب الظل بالوكالة
- القيادة الإبداعية في عصر الذكاء الفائق: التحول من الكاريزما ...
- العقل المستبدّ: جنوح التيار العلماني المتطرف لتفكيك ثوابت ال ...
- حين تتكلم الخوارزميات: المؤسسة السياسية في زمن التفاعل الذكي
- التواصل المفقود: كيف اغترب الإنسان عن الإنسان في عصر الذكاء ...
- السرديات القُطرية وعقبة الوحدة العربية
- فلسفة ما بعد الإنسان: تحولات الذات في عصر الكائنات المعززة
- إدارة الأزمات بعد الإنسان: الدولة الخوارزمية، والمجتمع تحت ا ...
- الفلسفة في مواجهة المستقبل: تأملات عميقة في وعي الآلة، أخلاق ...
- المؤسسات في زمن الذكاء الفائق: من البيروقراطية إلى الخوارزمي ...
- التكامل الذكائي: من سيادة العقل إلى خوارزمية السيطرة
- أنقاض المعنى: الفلسفة الأوروبية بين مشروع العقل وانهيار اليق ...
- الكسب في الفكر الأشعري: فلسفة التوفيق بين الجبر والاختيار


المزيد.....




- الكونغو : بين أثار صدمة الحرب وأمل العلاج النفسي
- رأي.. سلمان الأنصاري يكتب: لبنان ولعنة التدخل في شؤون الآخري ...
- مكالمة هاتفية بين نتنياهو وبوتين.. وهذا ما ناقشاه بشأن سوريا ...
- الأراضي الفلسطينية .. شروط قيام الدول؟
- روسيا تحث على -توخي الحذر الشديد- بشأن التهديدات النووية إثر ...
- المبعوث الأمريكي الخاص ستيف ويتكوف يزور روسيا هذا الأسبوع
- لبنان: عون يتعهد بتحقيق العدالة بعد خمس سنوات من انفجار مرفأ ...
- بعد نشر حماس المقطع المصور للرهينتين.. ما مدى تأثير التحركات ...
- سودانيون يتضامنون مع أهالي غزة المجوّعين
- مؤسسات حقوقية تنتقد تنكر ويتكوف للمجاعة بغزة


المزيد.....

- الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي ... / فارس كمال نظمي
- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - الإقناع الخفي في عصر الذكاء الفائق: استعمار اللاوعي وتحرير الإرادة عبر الوعي الفلسفي