أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - حمدي سيد محمد محمود - إمبراطورية الانقسام: كيف أعادت بريطانيا رسم العالم بالصراعات















المزيد.....

إمبراطورية الانقسام: كيف أعادت بريطانيا رسم العالم بالصراعات


حمدي سيد محمد محمود

الحوار المتمدن-العدد: 8421 - 2025 / 8 / 1 - 15:13
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


إن الإمبراطورية البريطانية لم تكن فقط قوة عسكرية احتلالية سعت إلى توسيع رقعتها الجغرافية، بل كانت منظومة استعمارية ذات رؤية استراتيجية عميقة لتفكيك المجتمعات التي أخضعتها لسلطتها، وإعادة صياغتها على نحو يضمن تبعيتها البنيوية طويلة الأمد. ومن خلال مزيج من العنف المنظم والإدارة البيروقراطية والتحكم الاقتصادي والهندسة الثقافية، أنتجت بريطانيا واحدة من أعقد التجارب الاستعمارية التي لا تزال آثارها تضرب بجذورها في حاضر كثير من دول الجنوب العالمي، وخصوصًا في الهند، والعالم العربي، والإسلامي، وإفريقيا.

ففي الهند، يمكن القول إن الاستعمار البريطاني شكّل نقطة تحوّل بنيوية في مسارها التاريخي والاجتماعي. لم تكتف بريطانيا بالسيطرة العسكرية على الهند، بل عمدت إلى إعادة صياغة علاقتها بالهويات الدينية واللغوية والطبقية، بما يخدم مصالحها الاستعمارية. وقد ساعدها في ذلك اعتمادها على طبقة من النخب المحلية التي جرى ترويضها فكريًا وتعليميًا داخل منظومة "الراج البريطاني"، وكانت تعمل كوسيط بين السلطة الإمبراطورية والجماهير الهندية. أبرز تجليات هذه السياسة تمثّلت في تصعيد الانقسام بين المسلمين والهندوس، إذ قدّمت بريطانيا نفسها كقوة ضامنة للتوازن بين الطرفين، لكنها في الواقع عمّقت التباينات وشجعت النزعة الانفصالية لكل منهما. هذا ما ساعد لاحقًا في تفجير الصراع الدامي الذي أدى إلى تقسيم شبه القارة الهندية عام 1947 إلى دولتين: الهند وباكستان، في سياق دموي راح ضحيته أكثر من مليون إنسان، وشُرّد الملايين في واحدة من أكبر موجات اللجوء في القرن العشرين. فالحقيقة أن بريطانيا لم تترك الهند إلا بعد أن زرعت فيها بذور صراع دائم يعيد إنتاج ذاته جيلاً بعد جيل.

أما في المجتمعات الإسلامية والعربية، فقد اتسم المشروع البريطاني بطابع مزدوج: تفكيكي-سياسي من جهة، وثقافي-هوياتي من جهة أخرى. ففي مصر مثلًا، استغلت بريطانيا انهيار الدولة العثمانية لتعزيز سيطرتها على قناة السويس وضمان تبعيتها للهيمنة الإمبريالية، رغم ادعاءاتها بمنح مصر استقلالًا شكليًا عام 1922. ولتحقيق ذلك، استخدمت أدوات عديدة، أبرزها تحجيم النخب الوطنية، وتقويض مشروع الدولة الحديثة، والسيطرة على الموارد الاستراتيجية، والتدخل المستمر في شؤون الحكم. كما دعمت صعود نخب تكنوقراطية مرتبطة بالاستعمار لا بالمجتمع، مما أحدث شرخًا دائمًا بين السلطة والشعب، وساهم في إضعاف التجربة الدستورية الوليدة في مصر. وفي العراق، دعمت بريطانيا بناء نظام ملكي هش تابع لها بعد الحرب العالمية الأولى، فكان الاحتلال البريطاني للعراق (1917-1932) مثالًا على الإمبريالية المقنّعة التي تفرض السيادة السياسية والاقتصادية وتمنح في المقابل استقلالًا مزيّفًا. وفي كل من فلسطين والأردن والخليج، لعبت بريطانيا دورًا مركزيًا في إعادة رسم الخارطة السياسية لما بعد سقوط العثمانيين، بما يضمن مصالحها النفطية والتجارية.

وفي فلسطين، ارتكبت بريطانيا أخطر جرائمها السياسية في العالم العربي من خلال "وعد بلفور" عام 1917، الذي منح اليهود وطنًا قوميًّا في أرض لا تملكها، متجاهلة تمامًا حقوق الأغلبية العربية التي كانت تسكنها منذ قرون. لم تكن بريطانيا مجرد وسيط دولي، بل كانت الراعي الرسمي للمشروع الصهيوني، عبر دعمها المالي والعسكري والسياسي للهجرة اليهودية، وتوفير الحماية للمنظمات الصهيونية المسلحة، والتنكيل بالقادة الفلسطينيين. منعت بريطانيا تسليح الفلسطينيين، وفرضت عليهم ضرائب باهظة، وشنت حملات اعتقال واسعة خلال ثورة 1936–1939، في حين غضّت الطرف عن الجرائم الصهيونية المنظمة. ومن خلال نظامها الإداري المعقّد في فلسطين، قسّمت الأراضي، وشرعنت الاستيطان، وأسست لبنية استعمارية قائمة حتى يومنا هذا، ما جعل القضية الفلسطينية واحدة من أعقد وأطول النزاعات الناتجة عن الإمبريالية الغربية.

وفي إفريقيا، مارست بريطانيا استعمارًا بنيويًا طويل المدى، تمثل في تقطيع القارة إلى وحدات إدارية غير منسجمة، وغرس الحدود المصطنعة التي لم تعبّر عن الهويات التاريخية أو الثقافية أو العرقية، بل عن خطوط النفوذ البريطاني. وقد خلّف ذلك صراعات حدودية دموية امتدت لما بعد الاستقلال، مثل النزاعات في نيجيريا (بين الشمال المسلم والجنوب المسيحي)، وفي السودان (الذي أدى لاحقًا لانفصال الجنوب)، وفي كينيا وأوغندا وتنزانيا وغيرها. كما مارست الإمبراطورية البريطانية عنفًا مفرطًا في مواجهة حركات التحرر الوطني، كما حدث في "تمرّد ماو ماو" في كينيا، حيث استخدمت قوات الاحتلال البريطاني التعذيب، والاغتصاب، والقتل الجماعي، في محاولة لقمع الثورة. وقد كشفت وثائق بريطانية لاحقة عن وجود معسكرات اعتقال سرية وممارسات لا إنسانية ممنهجة بحق الثوار الأفارقة.

أما على الصعيد الثقافي، فقد مارست بريطانيا استعمارًا معرفيًا طويل الأمد، من خلال فرض مناهج تعليمية تنقل قيم التبعية والتفوق الأوروبي، وتقصي الرموز الثقافية والدينية المحلية، وتُعيد إنتاج النخب الفكرية وفق الرؤية الإمبراطورية. أُسِّست جامعات ومدارس تابعة للمنظومة البريطانية في الهند ومصر ونيجيريا وجنوب إفريقيا وغيرها، لكنها لم تكن تهدف لتمكين الشعوب علميًا، بل لصياغة نخبة مدجّنة تدير المصالح البريطانية بأسماء وطنية. وقد نتج عن ذلك اغتراب طويل الأمد بين المجتمع وطبقاته المتعلمة، بما عرقل محاولات النهوض الوطني بعد الاستقلال.

يمكن القول، في المحصلة، إن الإمبراطورية البريطانية لم تكن فقط قوة استعمارية تقليدية، بل كانت مشروعًا منهجيًا لإعادة هندسة المجتمعات التي احتلتها من الداخل، لتكون ضعيفة سياسيًا، متشظية اجتماعيًا، ومشوّهة ثقافيًا، ومفتتة ديموغرافيًا. وقد نجحت إلى حد كبير في ذلك، وما زال العالم حتى اليوم يدفع ثمن تلك الاستراتيجيات الخبيثة التي تلبّست لباس "الحضارة" و"التمدين"، بينما كانت تمارس أبشع أشكال الهيمنة والتدمير الممنهج. ومهما تغيرت الأشكال والأساليب، فإن آثار المشروع البريطاني ما تزال تتجلى في خرائط الصراع، وخطوط التقسيم، ونماذج السلطة، وخطابات الهوية، من آسيا إلى إفريقيا، ومن العالم العربي إلى الفضاء الإسلامي الأوسع.



#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- إعادة رسم النفوذ: أوروبا و أمريكا في معترك التوازنات الجديدة ...
- من المنطق إلى الوجود: كيف أعادت الفلسفة الإسلامية تشكيل العق ...
- الذكاء الاصطناعي واختبار الديمقراطية: بين التمكين والخطر
- حروب بلا جنود: صعود الذكاء الاصطناعي كقوة ضاربة في أيدي الجم ...
- إعادة رسم خرائط النفوذ : السباق الفضائي وأشباه الموصلات في م ...
- التحرر من الهيمنة الرقمية: نحو سيادة معرفية وتقنية عادلة
- المرتزقة السيبرانية وحروب الظل بالوكالة
- القيادة الإبداعية في عصر الذكاء الفائق: التحول من الكاريزما ...
- العقل المستبدّ: جنوح التيار العلماني المتطرف لتفكيك ثوابت ال ...
- حين تتكلم الخوارزميات: المؤسسة السياسية في زمن التفاعل الذكي
- التواصل المفقود: كيف اغترب الإنسان عن الإنسان في عصر الذكاء ...
- السرديات القُطرية وعقبة الوحدة العربية
- فلسفة ما بعد الإنسان: تحولات الذات في عصر الكائنات المعززة
- إدارة الأزمات بعد الإنسان: الدولة الخوارزمية، والمجتمع تحت ا ...
- الفلسفة في مواجهة المستقبل: تأملات عميقة في وعي الآلة، أخلاق ...
- المؤسسات في زمن الذكاء الفائق: من البيروقراطية إلى الخوارزمي ...
- التكامل الذكائي: من سيادة العقل إلى خوارزمية السيطرة
- أنقاض المعنى: الفلسفة الأوروبية بين مشروع العقل وانهيار اليق ...
- الكسب في الفكر الأشعري: فلسفة التوفيق بين الجبر والاختيار
- الفلسفة الأوروبية المعاصرة وتحديات العصر الحديث: بين العلمنة ...


المزيد.....




- ترامب يناور بالغواصات النووية.. مما يتألف الأسطول الأميركي ت ...
- أوكرانيا تضرب العمق الروسي وتكشف عن فساد واسع يستهدف قطاع ال ...
- الأطفال الجائعون وتفشي البلادة الأخلاقية
- أسير إسرائيلي جائع يحفر قبره.. المقاومة تزلزل العالم
- إدانة ماليزية شعبية ورسمية لجرائم التجويع في غزة
- مواقف جديدة لإيران بشأن التخصيب النووي: استئناف القتال مع إس ...
- فيديو- مشاهد مؤثرة لطفل فلسطيني يركض حاملاً كيس طحين وسط واب ...
- رقم قياسي - هامبورغ تشهد أكبر مسيرة في تاريخها لدعم -مجتمع ا ...
- ويتكوف يلتقي في تل أبيب عائلات الرهائن الإسرائيليين المحتجزي ...
- -واشنطن بوست- تنشر صورا جوية نادرة تكشف حجم الدمار الهائل ال ...


المزيد.....

- شعب الخيام، شهادات من واقع احتجاجات تشرين العراقية / علي الخطيب
- من الأرشيف الألماني -القتال في السودان – ينبغي أن يولي الأل ... / حامد فضل الله
- حيث ال تطير العقبان / عبدالاله السباهي
- حكايات / ترجمه عبدالاله السباهي
- أوالد المهرجان / عبدالاله السباهي
- اللطالطة / عبدالاله السباهي
- ليلة في عش النسر / عبدالاله السباهي
- كشف الاسرار عن سحر الاحجار / عبدالاله السباهي
- زمن العزلة / عبدالاله السباهي
- ذكريات تلاحقني / عبدالاله السباهي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - حمدي سيد محمد محمود - إمبراطورية الانقسام: كيف أعادت بريطانيا رسم العالم بالصراعات