عبدالله عطوي الطوالبة
كاتب وباحث
الحوار المتمدن-العدد: 8417 - 2025 / 7 / 28 - 12:04
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
لم نجد في المذكرات ما يفسر اختيار صاحبتها عنوان "اعترافات جولدا مائير". الاعترافات عادة، وثيقة التعالق بعالم الجريمة. فمن ثوابت تطبيق القانون لتحقيق العدل اعتراف المجرمين، بمختلف تصنيفاتهم وأساليبهم في الإجرام بما ارتكبته أياديهم وقارفوا. ولا نستبعد أن جولدا مائير في خلوة صفاء مع نفسها، وهي تُقر بنزوعها إلى مثل هذه اللحظات أحيانًا، قدح بداخلها وميض مصارحة بأنها شاركت في إنشاء كيان شاذ مجرم قام بالقتل والإجرام واغتصب حقوقًا ليست له. كيان قال عنه أحد قادته، وهو اسحق رابين، "أنه كُتب عليه أن يعيش بالسيف". والتاريخ يعلمنا استحالة استمرار العيش بالسيف، ومن يَعِش بالسيف منتهٍ به لا محالة عاجلًا أم آجلًا.
قرأنا "اعترافات" جولدا مائير بتركيز شديد، كلمة كلمة، انطلاقًا من قاعدة اعرف عدوك. فلا يمكن مواجهة العدو دون معرفة أدق التفاصيل الخاصة به، وبشكل خاص كيف يفكر، وما هي نقاط ضعفه، وأسباب قوته، وأساليبه ومحددات سياساته؟
ونلفت نظر قارئنا العزيز إلى أن المذكرات مُصاغة بعناية، لأنها موجهة للقارئ الأميركي والأوروبي. أما الهدف، فهو الترويج للسرديات الصهيونية لجهة إظهار "الكيان" وكأنه يسعى للعيش بسلام مع جيرانه (تكرر هذا التضليل كثيرًا) ومد يد التعاون معهم لإنعاش المنطقة، لكن هؤلاء يصرون على مناصبته العداء. ولا يخفون هدفهم، وهو إزالة دولة اليهود "المسالمة" من الوجود!!!
المذكرات بطبيعي الأمر، تنضح بالأضاليل، وتنغل بالأكاذيب، وتطفح بالأباطيل. لكنها بالمقابل، تُظهر القارئ اليقظ على ثوابت التفكير الصهيوني بشأن صراعنا الوجودي معه. فما تقوله جولدا مائير بهذا الخصوص في مذكراتها، يردده مجرم الحرب نتنياهو اليوم، وتأخذ به حكومته الفاشية في ممارسة سياساتهم العدوانية الإجرامية.
تُظهرنا المذكرات أيضًا على مواضع قوة العدو، ومواطن ضعفه. ونلتقط فيها ما يدلنا على أسباب ضعفنا، وتخلف بعض رؤانا المتعلقة بالصراع معه، وبؤس أنماط تفكير الأنظمة الرسمية.
تُدخل جولدا مائير القارئ منذ السطور الأولى في مذكراتها بمشكلة "بني اسرائيل" مع التاريخ ومع الأمم والشعوب، وكراهية الكل لليهود لمجرد أنهم يهود. تقول إن طفولتها في العاصمة الأوكرانية كييف حيث وُلدت، تخلو من أية ذكريات سارة أو سعيدة، خلال السنوات الثماني الأولى من عمرها خاصة، وهي أهم مرحلة في عمر الإنسان تتشكل خلالها شخصيته. عائلتها فقيرة، تعاني من الجوع والبرودة والشعور الدائم بالخوف. تقول بالحرف بخصوص الخوف:"لعل أبرز ما علق بذاكرتي أنني خائفة". أما لماذا خائفة، وما مصدر خوفها، فلا تترك القارئ في حيرة البحث عن السبب، إذ تقول:"كنا نعيش في الطابق الأول من منزل صغير في كييف، وما زالت ترن في أسماعي بوضوح تلك الأحاديث عن مذبحة سوف تحل بنا. لم أكن أعرف بالطبع ما هي المذبحة، لكنني كنت أعرف أنها تتصل بكوننا يهودًا". أليس هذا ما لا يفتأ يردده مجرم الحرب نتنياهو، بعد السابع من أكتوبر 2023، وذلك بالرغي على أسطوانة "نُقتل لأننا يهود".
ولكن من هم أولئك الذين يتأهبون لتنظيم المذبحة؟ تجيب جولدا مائير في مفتتح الفصل الأول من مذكراتها بنزعة عنصرية، إنهم "رعاع يجتاحون المدينة (كييف) ملوحين بالعصي والسكاكين وهم يصيحون "قَتَلَة المسيح"، خلال بحثهم عن اليهود. هؤلاء الذين سيقترفون ضدي وضد عائلتي أشياء رهيبة".
لماذا تبدأ "جولدا" مذكراتها بالمذابح والعزف على لحن الكراهية؟! مهما بحثنا عن الإجابة في مختلف مظانها، فلن نجد سوى الأسلوب الصهيوني المعروف في لعب دور الضحية واستدرار العطف واستجداء التعاطف. ودليلنا على ذلك نستله من مذكراتها، واعترافها بأنها تتحدث عن مذبحة لم تحصل، إذ تقول:"صحيح أن هذه المذبحة لم تتم، لكنني ما زلت حتى يومنا هذا أذكر مدى الرعب الذي اجتاحني، ومدى الغضب الذي استبد بي، لأن والدي لم يجد ما يفعله لحمايتي سوى دق الألواح الخشبية بالمسامير في انتظار وصول الأوغاد".
تتأبى العنصرية أن تفارق صاحبة المذكرات حتى وهي تدون مذكراتها، مستعيرة القناع الديني المشهود لهم بالبراعة في الاستثمار به وتوظيفه. فتؤكد "جولدا" عدم قبولها بأن "اليهود شعب الله المختار"، وترى من دون دليل واحد يمكن أن يستسيغه العقل، أن الأكثر معقولية "أن اليهود هم أول شعب اختاروا الله، وأنهم أول شعب في التاريخ يفعل شيئًا ثوريًّا بحق. وكان اختيارهم هذا هو الذي جعلهم شعبًا فريدًا في نوعه". هنا، تتقصد انتقاء جانب بعينه من عادات عائلتها وأقاربها في كييف وغيرها من المدن الأوكرانية. وفي القصد عمد، كما سنبين تاليًا، وخاصة على صعيد استحضار "أرض الميعاد"، التي وعدهم الله بها، وكأن إلههم إقطاعي أو تاجر أراضٍ يوزع منها ما يشاء على من اختاروه دون غيرهم من الناس. تقول "جولدا": "كنا نذهب إلى الشول(المعابد) في الأعياد وأيام الصوم. وكنا نتبرك بيوم السبت، ونحتفظ بتقويمين، أحدهما روسي والآخر يتعلق بالأرض البعيدة التي نُفينا منها قبل ألفي عام". المقصود بائن بينونة كبرى، ولم يعد بحاجة إلى مزيد بيان. فلسطين حق لهم بوعد من الرب، وهناك من اعتدى عليهم ونفاهم منها قبل ألفي عام، وبالتالي، من حقهم العودة إليها. هذا بالضبط ما عملت الدعاية الصهيونية بدأب، على مدار عقود، لغرسه في أذهان الأميركيين والأوروبيين. وللأسى والأسف، فإن الإعلام العربي الغبي المُدجَّن ترك الساحات ردحًا من الزمن لترتع فيها الدعاية الصهيونية وتكرس أباطيلها. مكمن الخلل ليس في قلة الأدلة والبراهين الداحضة، وإنما في الكسل الذهني والغباء وعدم فهم المشروع الصهيوني على حقيقته. وليس يفوتنا التذكير بأن أولوية الأنظمة وإعلامها المدجن حتى اليوم تثبيت كراسي الحكم وتوريثها، على حساب مصالح الشعوب والأوطان.
تبدأ المزاعم التلفيقية الداعمة لأكاذيب اليهود بأن فلسطين "أرض آبائهم وأجدادهم" بما يُعرف بهجرة النبي إبراهيم، أبي الأنبياء اليهود، إلى فلسطين. لكن التوراة ذاتها تدحض هذه الحجة الباطلة من أساسها، في تأكيدها غربة ابراهيم في فلسطين. فالرب يظهر لإبرام(إبراهيم)، كما نجد في الإصحاح السابع عشر من سفر التكوين، ويصف له أرض فلسطين مخاطبًا إياه بالقول:"أرض غربتك". وفي سفر التكوين التوراتي الإصحاح (23) نجد دليلًا قاطعًا آخر، يتعلق بموت سارة زوج ابراهيم: "فأتى ابراهيم ليندب سارة ويبكي عليها. وقام ابراهيم من أمام ميته وكلم بني حث قائلًا أنا غريب ونزيل عندكم. أعطوني مُلك قبر معكم لأدفن ميتي من أمامي". في السياق ذاته، ننتقل إلى ما هو أهم من الروايات الدينية، ويُعجِز "جولدا" ومعها مجرم الحرب نتنياهو والدعاية الصهيونية عن الرد. فاليهود جماعات تؤمن بالديانة اليهودية منتشرة في بقاع العالم، وليسوا شعبًا أو جنسًا أو قومًا. هذه الجماعات تنتمي إلى أصول متعددة. ويستحيل إثبات أن مستعمري فلسطين خاصة واليهود المعاصرين عامة، أحفاد أولئك اليهود الذين طردهم الرومان منها عام 70 بعد الميلاد. والدليل القاطع اختلاف ملامحهم، فمنهم ذوو العيون الزرقاء والشعر الأشقر في أوروبا وأميركا، وذوو الشعر المجعد في افريقيا، والسمر في جنوب الهند، والصفر في الصين وغيرها من بلدان شرق آسيا(أحمد الشقيري، خرافات يهودية). ومن غير المعقول انحدار هذه السِّمات من سلالة واحدة. ولم تقتصر الديانة اليهودية على منطقة بعينها، فقد انتشرت في الجزيرة العربية وفي مصر قبل الإسلام بقرون. وفي أوروبا، نشير إلى قبائل الخزر. وهي في الأصل قبائل مغولية، انتشرت بينها الديانة اليهودية بتأثير يهود القوقاز. فأي صلة تربط الخزر بفلسطين؟!
وأي صلة تربط "جولدا" المولودة في العاصمة الأوكرانية كييف، ومجرم الحرب نتنياهو المولود في بولندا، بفلسطين؟!
يعزز هذه التساؤلات الاستنكارية أيضًا وجود تجمع يهودي كبير تكوَّن قبل ميلاد المسيح بقرنين أو ثلاثة، في الحوض الشمالي لنهر الراين، كما نقرأ في كتاب "خرافات يهودية" لمؤلفه المرحوم أحمد الشقيري. ومن هذا التجمع تفرعت مجموعات يهودية في بولندا وأوكرانيا. فمن أين لهذه الجماعات المنتمية إلى سلالات جرمانية وسلافية صلة بفلسطين ومحيطها الجغرافي؟!!! يتبع.
#عبدالله_عطوي_الطوالبة (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟