معتصم الصالح
الحوار المتمدن-العدد: 8416 - 2025 / 7 / 27 - 19:21
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
المقدمة
تمثل قضية الحدود العراقية-الكويتية أحد أبرز النماذج على كيفية تشكل الحدود الجغرافية للدول في ظل ظروف استعمارية غير متكافئة، ومن ثم إعادة تثبيتها لاحقًا تحت مظلة القانون الدولي دون اعتبار لتوازن المصالح الإقليمية. فمنذ ترسيمها الأولي في عشرينيات القرن العشرين من قبل المندوب السامي البريطاني بيرسي كوكس، وحتى اعتمادها نهائيًا بقرار من مجلس الأمن في 1993، بقيت هذه الحدود محل جدل سياسي وقانوني، لا سيما من الجانب العراقي الذي يرى أنها حرمته من حقه الطبيعي في منفذ بحري استراتيجي.
أولاً: الجذور الاستعمارية للترسيم – اتفاقية العقير 1922
عُقدت اتفاقية العقير في ديسمبر 1922 برعاية بريطانيا، حيث اجتمع السير بيرسي كوكس، بصفته المندوب السامي البريطاني، مع ممثلين عن سلطنة نجد وإمارة الكويت، دون وجود ممثل فعلي عن العراق. قامت بريطانيا، باعتبارها الدولة المنتدبة على العراق، برسم الحدود بين العراق والكويت والسعودية وفق رؤيتها الاستراتيجية، مانحة الكويت جزر بوبيان ووربة، ومقيدة وصول العراق إلى الخليج العربي بممر ضيق قرب أم قصر. لم يكن هذا الترسيم نتيجة مفاوضات متكافئة بل تعبيرًا مباشرًا عن إرادة استعمارية فرضت واقعًا جيوسياسيًا غير عادل.
رغم قبول الحكومة العراقية الوليدة بهذا الترسيم كأمر واقع، لا سيما في عهد نوري السعيد الذي اعتبر الاتفاق مؤقتًا ضمن ترتيبات بناء الدولة والخروج من الانتداب، إلا أن ذلك القبول لم يكن تعبيرًا عن رضا دائم، بل عن واقع سياسي مفروض.
ثانيًا: اتفاقية 1963 – من الاعتراف تحت الضغط إلى التثبيت الرسمي
بعد استقلال الكويت عن بريطانيا عام 1961، رفض الزعيم العراقي عبد الكريم قاسم الاعتراف بالدولة الجديدة، معتبرًا إياها جزءًا من ولاية البصرة العثمانية. إلا أن تغيّر النظام السياسي في العراق عقب انقلاب 8 فبراير 1963 أفضى إلى تحوّل في الموقف، حيث سعى النظام البعثي الجديد إلى تحسين علاقاته الإقليمية واكتساب شرعية دولية. في هذا السياق، وُقّعت في 4 أكتوبر 1963 اتفاقية رسمية بين العراق والكويت، مثّل العراق فيها الرئيس عبد السلام عارف ونائبه أحمد حسن البكر، والكويت الشيخ صباح السالم الصباح.
أقرت الاتفاقية اعتراف العراق باستقلال الكويت وسيادتها، بما في ذلك جزر وربة وبوبيان، وحددت الخطوط الحدودية بناءً على اتفاقية 1922. كما تضمنت بنودًا للتعاون الاقتصادي، منها منح الكويت قرضًا ماليًا للعراق. إلا أن الاتفاقية لم تحسم مسألة الحدود البحرية بشكل دقيق، وهو ما أدى لاحقًا إلى استمرار الخلافات، خصوصًا في منطقة خور عبد الله.
رغم أهمية هذه الاتفاقية من منظور القانون الدولي، فقد وُوجهت لاحقًا بانتقادات من بعض السياسيين العراقيين، خاصة خلال عهد صدام حسين، الذين اعتبروها مُوقعة تحت الضغط الدولي وتهدف إلى تقليص النفوذ البحري العراقي.
ثالثًا: الغطاء الأممي – ترسيم ملزم بقرارات مجلس الأمن (1991–1993)
عقب غزو العراق للكويت عام 1990، تبنّى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة حزمة من القرارات التي أعادت تشكيل الإطار القانوني للعلاقات العراقية-الكويتية. كان أبرزها القرار 687 (1991) الذي نص على وقف إطلاق النار، وإنشاء لجنة لترسيم الحدود بين البلدين استنادًا إلى اتفاقية 1963. تبعه القرار 689 الذي أسس بعثة الأمم المتحدة لمراقبة الحدود (UNIKOM)، ثم القرار 833 (1993) الذي اعتمد نتائج الترسيم كحدود دولية نهائية. لجنة تتالف من لجنة فنية للامم المتحدة و جانبي الصراع العراق والكويت و طرف مراقب اندونيسيا ..انسحب العراق واندونسيا بسبب اقتطاع اجزاء من اراضي العراق لصالح الكويت في الترسيم الجديد وكذلك الحدود البحرية الغير متفق عليها سابق
ترأس لجنة الترسيم السفير اليوناني نيكولاوس ميكوليك، دبلوماسي مخضرم ومتخصص في حل النزاعات الحدودية. استندت اللجنة في عملها إلى خرائط تاريخية، ومستندات بريطانية، ومسح ميداني دقيق، واعتمدت اتفاقية 1963 كمرجع أساسي. أكدت اللجنة السيادة الكويتية على جزر بوبيان ووربة، وحددت النقاط البرية والبحرية بدقة، بما في ذلك منطقة أم قصر والنقطة المرجعية "NPK 122".الترسيم الجديد تسبب باقتطاع اجزاء من اراضي العراق لصالح الكويت في الترسيم الجديد وكذلك الحدود البحرية
رغم اعتراض العراق على نتائج الترسيم، لا سيما فيما يتعلق بالحدود البحرية وممر خور عبد الله، إلا أن القرار الأممي الصادر تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة جعله ملزمًا وغير قابل للتفاوض.
رابعًا: آثار الترسيم وامتداداته الجيوسياسية
النتائج الميدانية لهذا الترسيم تمثلت في واقع جغرافي فرض على العراق منفذًا بحريًا محدودًا لا يلبي حاجاته الاستراتيجية. بينما تمتعت الكويت بسواحل واسعة وجزر حيوية، بقي العراق محاصرًا بممر ضيق يحد من تطوره الملاحي، ويعرقل قدرته على بناء موانئ منافسة.
الخلاف حول خور عبد الله تحول لاحقًا إلى بؤرة توتر مستمر، لا سيما بعد إعلان الكويت مشروع ميناء مبارك الكبير قرب الممر المائي، وهو ما اعتبره العراق تهديدًا مباشرًا لمصالحه البحرية. ورغم الاحتجاجات، فإن الموقف الدولي لم يفتح أي باب لإعادة النظر في الترسيم.
الخاتمة: من الظلم الجغرافي إلى الغلق القانوني
تمثل الحدود العراقية-الكويتية اليوم نموذجًا مكتملًا لكيفية فرض ترسيم جغرافي من طرف واحد (بريطانيا) ثم تثبيته نهائيًا بآليات دولية لا تتيح إمكانية مراجعته، رغم تغير السياقات السياسية. لقد فُرض على العراق واقع جغرافي يتنافى مع حجمه واحتياجاته الاقتصادية، ووجد نفسه معزولًا عن ساحل الخليج العربي إلا عبر ممر لا يتناسب مع قدراته الإقليمية.
ورغم أن القانون الدولي يعتبر هذا الترسيم نهائيًا وغير قابل للنقض، فإن الإحساس بالغبن لا يزال قائمًا في الوعي السياسي العراقي. إنه مثال على أن بعض الترسيمات الجغرافية، وإن كُرّست بالقانون، تبقى من وجهة نظر الشعوب تعبيرًا عن ظلم تاريخي لم يجد سبيلًا للإنصاف.
المراجع الرئيسية:
اتفاقية العقير (1922)
اتفاقية العراق والكويت (1963)
قرارات مجلس الأمن 687، 689، 833
تقارير لجنة الترسيم الأممية (UNIKOM)
مذكرات نوري السعيد ومراسلات الخارجية البريطانية
أرشيف الأمم المتحدة: S/25811 (1993)
#معتصم_الصالح (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟