حكمت الحاج
الحوار المتمدن-العدد: 8408 - 2025 / 7 / 19 - 20:17
المحور:
الادب والفن
"هنالك نهران في السماء": العراق في رواية "أليف شفق" المؤهلة لجائزة نوبل للآداب لهذا العام..
"هنالك نهران في السماء" للكاتبة التركية البريطانية "أليف شفق" هي رواية آسرة تنسج قصتين عبر الزمن والقارات، تربطهما الأنهار والذاكرة. تدور إحدى القصص في لندن المعاصرة، حيث نتابع حياة شخصيات مختلفة تتصارع مع قضايا الهوية، الانتماء، والتراث. أما القصة الأخرى، فتعود بنا إلى الماضي البعيد، وتحديداً إلى بلاد ما بين النهرين القديمة، حيث نلتقي بشخصيات تعيش أحداثاً تاريخية كبرى وتواجه تحديات مصيرية.
هذه رواية رائعة عن قصيدة مفقودة، ونهرين عظيمين، وثلاث حيوات مذهلة، جميعها مرتبطة بقطرة ماء واحدة. الماء يتذكّر. البشر هم الذين ينسون.
في بلاد ما بين النهرين، ترقد تحت الرمال العميقة شذرات من قصيدة منسية منذ زمن بعيد: إنها ملحمة گلگامش الخالدة. وفي لندن الفيكتورية، يولد طفل على حافة نهر "التيمز" المظلم. الفرصة الوحيدة لآرثر للهروب من الفقر تكمن في موهبته الشعرية. وعندما تمنحه فتاة ليل فرصة للعمل كمتدرب في مطبعة، ينفتح أمام آرثر عالم يتجاوز الأحياء الفقيرة، حيث تقوده إحدى الكتب إلى ما وراء البحار. إلى نينوى وآثار الحضارة الآشورية الباقية.
في العراق، عام 2014، تخضع نارين، فتاة يزيدية تعيش على ضفاف نهر دجلة، لطقس الاغتسال ويتم تعميدها في معبد "لالش" بماء جُلب من النهر المقدّس.
في لندن، عام 2018، البروفيسورة زليخة، عالمة الهيدرولوجيا، يرسو زورقها على نهر التيمز هرباً من جنون إيقاع الحياة. يقودها درب من الرمل الأصفر وأزقة غير متوقعة واتصالات مفاجئة نحو شيء صادق تماماً وقديم للغاية.
تستكشف الرواية بعمق كيف تتشابك حياة الأفراد عبر الأجيال والثقافات، وكيف تؤثر الأحداث التاريخية الكبرى، مثل تدمير المدن القديمة والصراعات الحديثة، على مصائر الناس. كما تتناول الرواية مواضيع مثل قوة الحكايات، وأهمية الحفاظ على الذاكرة الثقافية، وصمود الروح البشرية في مواجهة الشدائد. إنها رحلة عبر الزمان والمكان، تدعو القارئ للتفكير في الروابط الخفية التي تجمعنا جميعاً للعيش معاً، بسلام.
رواية "هنالك نهران في السماء" لأليف شفق، هي قصة متعددة الطبقات تمتد عبر الزمان والمكان، وتنسج حكايات شخصيات مختلفة تعيش في عوالم متباينة ولكنها مترابطة بشكل عميق. تتبع الرواية مسارات شخصيات مثل "نارين"، الفتاة اليزيدية التي تواجه تحديات قاسية في العراق، وتستكشف كيف تتشابك قصصهم مع أحداث تاريخية كبرى وتأثيرها على الحاضر. الرواية دعوة للتأمل في كيفية تدفق التاريخ والأحداث مثل الأنهار، وكيف تشكل حياة الأفراد والمجتمعات، مع التركيز على أهمية الحفاظ على الجذور الثقافية والبحث عن الأمل حتى في أحلك الظروف.
تدور أحداث الرواية حول ثلاثة شخصيات رئيسية، تتشابك حيواتهم عبر أزمنة وأماكن مختلفة، وتربطهم الأنهار (دجلة والتيمز) وملحمة گلگامش القديمة.
اختارت الكاتبة أليف شفق شخصية الفتاة اليزيدية "نارين" في روايتها "هنالك نهران في السماء" لعدة أسباب رئيسية، نذكر منها:
أولا، تسليط الضوء على اضطهاد اليزيديين: تهدف "شفق" إلى إبراز محنة اليزيديبن، وخاصة الإبادة الجماعية التي تعرضوا لها في عام 2014. وتسرد لنا قصة نارين، الفتاة اليزيدية التي تبلغ من العمر عشر سنوات وتشخص بإعاقة سمعية، حيث تجسد معاناة هذه الطائفة وتحدياتها في الحفاظ على هويتها وتقاليدها في ظل الصراعات.
وثانيا، استكشاف الهوية والذاكرة الثقافية: تستخدم "شفق" شخصية نارين لتسليط الضوء على مواضيع الذاكرة وأعباء التراث داخل مجتمع مهمش. رحلة نارين وَجَدَّتها لتعميدها في معبد يزيدي مقدس في العراق قبل أن تفقد سمعها، تسلط الضوء على أهمية الطقوس والتقاليد في الحفاظ على الهوية الثقافية.
وثالثا، ربط الأحداث التاريخية بالواقع المعاصر: تربط الرواية بين أحداث تاريخية قديمة، مثل تدمير مدينة "نينوى" وملحمة گلگامش، بالقضايا المعاصرة، مما يوضح كيف يؤثر التاريخ على حياة الأفراد والمجتمعات في الوقت الحاضر. قصة نارين هي جزء من هذا النسيج السردي الذي يربط بين نهرين (دجلة والتيمز) والأزمنة المتعاقبة.
أخيرا، التركيز على القضايا الإنسانية: تُعرف أليف شفق بتناولها لقضايا حقوق الإنسان والمجتمعات المهمشة وتقاطع الثقافات في أعمالها. من خلال شخصية نارين، تسلط الضوء على التأثير المدمر للنزاعات على الأبرياء وتؤكد على صمود المجتمعات في مواجهة التحديات.
في هذه الرواية الفذة التي رشحها كثيرون لتنال صاحبتها جائزة نوبل للآداب لهذا العام، ثمة لوح أو رقيم مسماري يحمل أقدم قصة عرفتها البشرية، وهي ملحمة گلگامش، يشق طريقه عبر الزمن هاربا من رماد مكتبة نينوى المحترقة إلى حقائب الأكراد الهاربين من تظيم الدولة، ليصل أخيرًا إلى يدي عالمة مناخ في لندن المستقبلية، حيث تحولت الأنهار إلى سمّ زعاف. عبقرية شفق تكمن في جعل بلاد ما بين النهرين القديمة تبدو كعناوين الأخبار العاجلة، وهي ترسم مقارنات مؤلمة بين أساطير الطوفان البابلي وبحارنا الآخذة في الارتفاع، وبين ناهبي الإمبراطوريات وسارقي الثروات الطبيعية في عصرنا الحديث.
لدينا إذن ثلاثة حكايات متداخلة زمنيا، تنساب مثل نهر دجلة العذب نفسه. في مدينة الموصل في أربعينات القرن التاسع عشر، شاعر بريطاني يسرق القطع الأثرية ويقع في غرام لغة لن يفك شفرتها أبدًا. في 2014، تدفن فتاة كردية وصفات والدتها في علبة معدنية بينما تدمر داهش مدينتها، متشبثةً بالحكايات كما يتشبث الغرقى بقوارب النجاة. وبحلول عام 2040، تكتشف عالمة هيدرولوجيا في لندن العطشى ألواحاً طينية تهمس بتحذيرات كان ينبغي لنا أن نصغي إليها قبل قرون. نثر "شفق" الشعري المدمّر بمقدوره أن يحطم خيالك بضربة واحدة فقط، مثل اللاجئين الذين ينقشون أسماء بلدانهم الضائعة على حيطان الروح النازفة من الحنين. ومع كل ذلك السواد والحريق، هنالك أمل حقيقي في أن الماء، حتى حينما يكون ملوثًا، فهو لا ينسى طريقه.
إن رواية "هنالك نهران في السماء" للكاتبة أليف شفق هي إنجاز مذهل في فن السرد، يأتينا من واحدة من أعظم كُتّاب عصرنا. إنها رواية غنية، تمتد عبر قرون وقارات وثقافات، يوحّدها جميعاً: النهر والمطر وقطرات الماء.
هذه هي الرواية التي ينبغي أن تُقرأ والعالم يحترق. هكذا وصفت احدى الصحف البريطانية رواية "هنالك نهران في السماء" لأليف شفق حين صدورها أواخر العام المنصرم. ونحن نقول أننا سننتظر حتى أكتوبر القادم فلعلنا أن نغتبط بفوز رواية هائلة عظيمة أخرى عن العراق، أبطالها نهر دجلة وملحمة گلگامش وتاريخ بلاد ما بين النهرين، وشعوبها العريقة التي تأبى أن يهزمها الزمن، ونردد مع المرددين: الماء يتذكّر، البشر ينسون.
هوامش:/
* هنالك نهران في السماء، رواية، أليف شفق، الطبعة الأولى صدرت عام 2024 عن دار راندوم هاوس في المملكة المتحدة، بواقع 484 صفحة من القطع الكبير. تصميم الغلاف: إيما إوبانك.
* أليف شفق: روائية بريطانية تركية حائزة على عدة جوائز، وقد تُرجمت أعمالها إلى ست وخمسين لغة. نشرت تسعة عشر كتابًا، من بينها اثنا عشر رواية، وقد نُشرت أعمالها في العديد من بلدان العالم. عرفها القاريء العربي جيدا عبر روايتها الشهيرة "قواعد العشق الأربعون". أما روايتها الأخيرة بعنوان "عشر دقائق وثمانٍ وثلاثون ثانية في هذا العالم الغريب" فقد وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة بووكر العالمية للرواية، ولم تفز بها.
* ينشر هذا المقال بالاشتراك مع مجلة كناية الرقمية الثقافية المستقلة، وموقع الحوار المتمدن. كل الحقوق محفوظة.
#حكمت_الحاج (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟