أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حكمت الحاج - الظل والعاصفة















المزيد.....


الظل والعاصفة


حكمت الحاج

الحوار المتمدن-العدد: 8348 - 2025 / 5 / 20 - 22:15
المحور: الادب والفن
    


"الظل والعاصفة.. "
# أميلكار باركا في الرواية التاريخية: قراءة لرواية "أميلكار" لشوقي الأجنف..
# أولا: أميلكار، الظل الذي سبق العاصفة
يقف التاريخ غالبًا على قمم الأحداث الكبرى وشخصياتها الأكثر سطوعًا، تاركًا في الظل أحيانًا الجذور العميقة التي غذّت تلك القمم أو الشخصيات التي مهدت الطريق لأبطال أكثر شهرة. في ملحمة الصراع المرير بين روما وقرطاج، يبرز اسم هانيبال باركا أو حنبعل بارقا كأحد أعظم القادة العسكريين في التاريخ، الرجل الذي أرعب روما في عقر دارهم وكاد أن يغير مجرى التاريخ الغربي. ولكن خلف هذا القائد الأسطوري، يقف ظل أبيه، أميلكار باركا (المعروف أيضًا بحملقار برقا)، القائد والسياسي القرطاجي الذي لم يكن مجرد والد حنبعل، بل كان مهندس النهضة القرطاجية بعد هزيمة مذلة، وزرع بذور الصراع المستقبلي الذي سيقوده ابنه.

أميلكار باركا، الذي يعني اسمه "عبد ملقرت" ولقبه "برقا" (الصاعقة)، كان شخصية محورية في فترة حرجة من تاريخ قرطاج في القرن الثالث قبل الميلاد. قاد القوات القرطاجية ببراعة في المراحل الأخيرة من الحرب البونيقية الأولى في صقلية، ورغم الهزيمة النهائية لقرطاج، حافظ على جيشه وأظهر قدرات تكتيكية لافتة في حرب العصابات ضد الرومان. لم يتوقف دوره عند هذا الحد، بل برز كمنقذ لقرطاج خلال "حرب المرتزقة" المدمرة التي كادت أن تقضي على الحاضرة. والأهم من ذلك كله، كان هو صاحب الرؤية الطموحة لتوسيع النفوذ القرطاجي في شبه الجزيرة الإيبيرية (إسبانيا)، ليس فقط لتعويض الخسائر الاقتصادية والسياسية التي منيت بها قرطاج، بل أيضًا لبناء قاعدة قوية لمواجهة روما مستقبلًا، وهو المشروع الذي ورّثه لأبنائه، وعلى رأسهم حنبعل، مع قسَم العداء الأبدي لروما.

على الرغم من هذه الأهمية التاريخية البالغة، غالبًا ما يظهر "أميلكار باركا" في السرد التاريخي والأدبي كشخصية تمهيدية أو ثانوية، يطغى عليها وهج ابنه الشهير، حنبعل أو هانيبال. فقلة هي الأعمال الأدبية التي جعلت من أميلكار بطلها الرئيسي، محاولةً سبر أغوار شخصيته المعقدة ودوافعه العميقة. هذا يطرح إشكالية مهمة: كيف تم تصوير هذا القائد المؤسس في الأدب الروائي؟ هل تم تقديمه فقط كوالد حنبعل الذي زرع الكراهية في قلبه، أم أن هناك محاولات لاستكشاف أبعاده الأخرى كقائد وسياسي وإنسان في زمن مضطرب؟ وما هي الرؤية التي تقدمها الأعمال الروائية الحديثة، مثل رواية "أميلكار" للكاتب التونسي شوقي الأجنف، لهذه الشخصية؟

تهدف هذه القراءة إلى استكشاف صورة أميلكار باركا في الرواية التاريخية، مع التركيز بشكل خاص على رواية "أميلكار: مهد حنبعل وعهد قرطاج" لشوقي الأجنف، باعتبارها عملًا حديثًا يضع هذه الشخصية في مركز السرد. سنسعى لتوضيح كيف يعيد الأدب بناء هذه الشخصية التاريخية، وما هي الجوانب التي يركز عليها، وكيف يمزج بين الحقائق التاريخية والخيال الروائي لتقديم صورة حية لأميلكار وتأثيره. سنبدأ بتقديم السياق التاريخي الذي عاش فيه أميلكار، ثم نستعرض بإيجاز كيفية تناوله في بعض الأعمال الأدبية الأخرى، قبل أن نتعمق في قراءة رواية شوقي الأجنف، ونناقش الموضوعات الرئيسية التي تطرحها هذه الأعمال وأهميتها في فهم الصراع القرطاجي-الروماني من منظور مختلف، آملين أن نلقي ضوءًا كافيًا على "الصاعقة" القرطاجية وظلها الذي سبق عاصفة حنبعل.

# السياق التاريخي: قرطاج الجريحة وصعود الصاعقة
لفهم الدور المحوري الذي لعبه أميلكار باركا، وبالتالي فهم الأسس التي بنيت عليها الروايات التي تتناوله، لا بد من الغوص في السياق التاريخي المضطرب الذي شهد صعوده. كانت قرطاج، القوة البحرية والتجارية العظمى في غرب البحر المتوسط، تخرج لتوها من أتون الحرب البونيقية الأولى (264-241 ق.م) ضد الجمهورية الرومانية الصاعدة. لم تكن هذه مجرد هزيمة عسكرية، بل كانت جرحًا غائرًا في كبرياء الإمبراطورية ونكسة اقتصادية وسياسية كبرى.

انتهت الحرب بمعاهدة سلام مهينة فرضتها روما. أُجبرت قرطاج على التخلي عن مطالبتها بجزيرة صقلية، التي كانت مسرحًا رئيسيًا للصراع وذات أهمية استراتيجية واقتصادية بالغة، لصالح روما. لم يقتصر الأمر على خسارة الأراضي، بل فُرضت على قرطاج غرامة حربية باهظة (ذكرت المصادر أرقامًا مختلفة، مثل 3200 تالنت تُدفع على مدى سنوات)، مما أثقل كاهل خزينتها المستنزفة أصلاً بفعل الحرب الطويلة. كما ألغيت القيود التي كانت مفروضة على التجارة الرومانية، مما فتح الباب أمام منافسة اقتصادية أشد شراسة. خرجت قرطاج من الحرب منهكة، فاقدةً جزءًا كبيرًا من نفوذها البحري، وتعاني من ضائقة مالية خانقة وتوترات اجتماعية متزايدة.

في خضم هذه الأجواء القاتمة، برز نجم أميلكار باركا. كان أميلكار، المنحدر من عائلة أرستقراطية، قد تولى قيادة القوات القرطاجية في صقلية في المراحل الأخيرة من الحرب (حوالي عام 247 ق.م). ورغم أن جيشه كان صغيرًا نسبيًا ومكونًا بشكل كبير من المرتزقة متعددي الجنسيات، ورغم قلة الدعم الذي تلقاه من حكومة قرطاج المنقسمة والمترددة، إلا أنه أظهر براعة عسكرية لافتة. لم يخض معارك كبرى حاسمة ضد الجيوش الرومانية المتفوقة عدديًا، بل اتبع استراتيجية حرب العصابات المنهكة، معتمدًا على الهجمات المباغتة والغارات السريعة والتحصن في مواقع جبلية وعرة. وقد نجح في الحفاظ على جيشه متماسكًا ومنضبطًا، وألحق بالرومان خسائر مستمرة، مستنزفًا مواردهم ورافعًا معنويات قواته. حتى عندما هُزم الأسطول القرطاجي في معركة جزر إيغادي الحاسمة عام 241 ق.م، مما حسم الحرب لصالح روما، كان جيش أميلكار في صقلية لا يزال قوة يُحسب لها حساب، ولم يُهزم في معركة ميدانية. كُلف أميلكار بالتفاوض على شروط السلام، وإن كان الدور الفعلي قد لعبه قادة آخرون مثل غيسكو.

لم تكد قرطاج تلتقط أنفاسها بعد الحرب البونيقية الأولى حتى وجدت نفسها في مواجهة خطر داخلي أشد فتكًا: "حرب المرتزقة" (241-237 ق.م). كانت الأزمة المالية التي تعاني منها قرطاج تعني عدم قدرتها، أو عدم رغبتها، في دفع المستحقات المتأخرة للآلاف من الجنود المرتزقة الذين خدموا في صقلية وعادوا إلى إفريقيا. وعندما تلكأت الحكومة وحاولت التفاوض على تخفيض الأجور، انفجر التمرد. لم يقتصر الأمر على المرتزقة، بل انضمت إليهم أعداد كبيرة من السكان المحليين في إفريقيا (خاصة الليبيين) الذين كانوا يرزحون تحت وطأة الضرائب القرطاجية الثقيلة. تحول التمرد إلى حرب أهلية وحشية هددت وجود قرطاج نفسها. حوصرت المدينة، وفشل القادة العسكريون الأرستقراطيون، مثل هانو العظيم، في التعامل مع الموقف بفعالية.

في هذه اللحظة الحرجة، لجأت حكومة قرطاج إلى أميلكار باركا، الرجل الذي كان يحظى باحترام وتقدير كبيرين بين الجنود، بمن فيهم المرتزقة الذين قادهم في صقلية. ورغم صعوبة الموقف، حيث كان عليه محاربة جنود خدموا تحت إمرته، إلا أن أميلكار قبل التحدي. وبجيش صغير من المواطنين تم تجنيده وتدريبه على عجل، وباستخدام تكتيكات مبتكرة ومناورات جريئة، تمكن أميلكار من كسر الحصار عن قرطاج، وهزيمة جيوش المرتزقة والثوار في سلسلة من المعارك الشرسة والدموية. استمرت الحرب لسنوات، واتسمت بقسوة بالغة من الطرفين، لكن أميلكار نجح في النهاية في سحق التمرد تمامًا عام 237 ق.م، منقذًا قرطاج من دمار محقق. عزز هذا الانتصار مكانة أميلكار كبطل شعبي وزعيم لا غنى عنه.

لكن محنة قرطاج لم تنته عند هذا الحد. فلقد استغلت روما انشغال قرطاج بحرب المرتزقة لتقوم بخطوة غادرة. فبينما كانت قرطاج تحاول استعادة السيطرة على جزيرة سردينيا التي تمرد مرتزقتها أيضًا، تدخلت روما، وبذريعة حماية التجار الإيطاليين، واستولت على سردينيا وكورسيكا عام 238 ق.م، وأجبرت قرطاج الضعيفة على دفع غرامة إضافية قدرها 1200 تالنت للتخلي عن أي مطالبة بهما. كانت هذه الصفعة الرومانية بمثابة إهانة إضافية لقرطاج، وعمقت الشعور بالمرارة والعداء تجاه روما، خاصة في نفس أميلكار باركا.

بعد انتهاء حرب المرتزقة وتثبيت الأمن الداخلي، لم يعد أميلكار مجرد قائد عسكري، بل أصبح القوة السياسية المهيمنة في قرطاج، متحالفًا مع قوى أخرى مثل صهره صدربعل العادل، في مواجهة الفصيل الأرستقراطي المحافظ بقيادة هانو العظيم. لم يكن أميلكار يؤمن بالسلام الدائم مع روما، ورأى أن المواجهة حتمية. ولكي تكون قرطاج قادرة على خوض هذه المواجهة، كان عليها أن تبني قاعدة قوة جديدة تعوض خسائرها في صقلية وسردينيا وتوفر الموارد اللازمة لجيش قوي. وجد أميلكار هذه القاعدة في شبه الجزيرة الإيبيرية (إسبانيا)، الغنية بالمعادن (خاصة الفضة) والموارد البشرية.

في عام 237 ق.م، وبموافقة، أو ربما بمبادرة منه على مسؤوليته الخاصة، قاد أميلكار جيشًا جديدًا عبر مضيق جبل طارق إلى جنوب إسبانيا. على مدى السنوات الثماني التالية، وحتى وفاته في معركة عام 228 ق.م، نجح أميلكار، باستخدام مزيج من القوة العسكرية والدبلوماسية، في توسيع النفوذ القرطاجي بشكل كبير في إسبانيا، مؤسسًا إمبراطورية فعلية. لم يكن هذا مجرد توسع استعماري، بل كان مشروعًا استراتيجيًا بعيد المدى يهدف إلى إعادة بناء قوة قرطاج العسكرية والاقتصادية، والأهم من ذلك، خلق قاعدة انطلاق لشن هجوم مستقبلي على روما. كان هذا هو الإرث الذي تركه أميلكار لأبنائه: حنبعل، صدربعل، وماغو. لقد ورثوا منه ليس فقط قيادة الجيوش والإمبراطورية الإسبانية، بل أيضًا العداء العميق لروما، والذي تجسد في القسم الشهير الذي يُروى أن أميلكار جعل ابنه حنبعل يقسمه وهو طفل، بألا يكون صديقًا لروما أبدًا. لقد كان أميلكار باركا بحق "الصاعقة" التي مهدت الطريق لعاصفة حنبعل التي كادت أن تقتلع روما من جذورها.

# أميلكار باركا في مرآة الأدب: حضور باهت لظل عملاق
على الرغم من الأهمية التاريخية المحورية لأميلكار باركا كقائد عسكري وسياسي، وكأب لواحد من أعظم القادة في التاريخ، إلا أن حضوره في عالم الأدب الروائي يبدو باهتًا وغير متناسب مع مكانته، خاصة عند مقارنته بالفيضان الأدبي الذي تناول حياة ابنه حنبعل. يبدو أن الدراما الإنسانية والعسكرية لحملة حنبعل على إيطاليا، بعبورها الأسطوري لجبال الألب وانتصاراتها المدوية وهزيمتها النهائية المأساوية، قد أسرت خيال الكتاب والمبدعين بشكل أكبر بكثير من قصة الأب المؤسس.

عند البحث عن روايات تتخذ من أميلكار باركا بطلًا رئيسيًا، نجد أن القائمة محدودة للغاية. غالبًا ما يظهر كشخصية ثانوية أو كجزء من خلفية الأحداث في الروايات التي تركز على حنبعل أو على فترات أخرى من التاريخ القرطاجي. ومع ذلك، هناك بعض الأعمال البارزة التي قدمت تصورًا لهذه الشخصية، وإن كان من زوايا مختلفة.

لعل العمل الأدبي الأكثر شهرة الذي يبرز فيه أميلكار باركا كشخصية رئيسية هو رواية "سلامبو" (Salammbô) للكاتب الفرنسي غوستاف فلوبير، التي نُشرت عام 1862. ومع ذلك، فإن هذه الرواية لا تركز على حملات أميلكار في صقلية أو تأسيسه للإمبراطورية في إسبانيا، بل تدور أحداثها في فترة "حرب المرتزقة" التي تلت الحرب البونيقية الأولى. تُصوّر الرواية، بأسلوب فلوبير الواقعي والمفصل حد القسوة أحيانًا، الوحشية والفوضى التي سادت تلك الفترة. أميلكار باركا يظهر في الرواية كقائد حازم، يعود لإنقاذ قرطاج من المرتزقة المتمردين. هو شخصية قوية، ذات هيبة وسلطة، ولكنه أيضًا يظهر كجزء من طبقة أرستقراطية منعزلة ومتصارعة. الرواية تركز بشكل كبير على ابنته المتخيلة، سلامبو، الكاهنة الغامضة، وعلى علاقتها المعقدة والمأساوية بقائد المرتزقة ماثو. وبالتالي، فإن أميلكار، رغم أهميته في الأحداث، ليس البطل الأوحد أو المحور العاطفي للرواية، بل هو جزء من لوحة تاريخية أوسع وأكثر قتامة تركز على الصراع الوحشي وعالم قرطاج الغريب والغامض كما تخيله فلوبير.

بعيدًا عن "سلامبو"، تصبح صورة أميلكار في الأدب أكثر تبعثرًا. هناك بعض الروايات التاريخية الحديثة التي تتناوله، ولكن غالبًا ضمن سياق أوسع. على سبيل المثال، رواية "كبرياء قرطاج" (Pride of Carthage) لديفيد أنطوني دورهام، وهي ملحمة ضخمة تركز بشكل أساسي على حنبعل وحملته، ولكنها بطبيعة الحال تتطرق إلى إرث الأب وتأثيره. كذلك، قد تظهر شخصية أميلكار في روايات أخرى تتناول الحرب البونيقية الأولى، مثل "سيف قرطاج" (The Sword of Carthage) لفون هيبنر، والتي يُقال إنها تروي أحداث الحرب من منظور أميلكار. ومع ذلك، تبقى هذه الأعمال قليلة نسبيًا، وغالبًا ما يكون التركيز فيها موزعًا بين عدة شخصيات أو يميل نحو الابن الأكثر شهرة.

هذه الندرة النسبية في تناول شخصية أميلكار باركا بشكل روائي مستقل تجعل من ظهور رواية حديثة مثل "أميلكار.. مهد حنبعل وعهد قرطاج" للكاتب التونسي الشاب شوقي الأجنف حدثًا لافتًا ومهمًا للغاية. فهذه الرواية تعد بمقاربة مختلفة، حيث تضع أميلكار نفسه في مركز السرد، وتركز على فترة حاسمة من حياته ومشروعه الأهم: التوسع في إسبانيا وتربية ابنه حنبعل. هذا التركيز يفتح الباب أمام استكشاف أعمق لشخصية أميلكار، ليس فقط كقائد عسكري وسياسي، بل كصاحب رؤية استراتيجية، وكأب يحمل على عاتقه مصير عائلته ومدينته، ويسعى لغرس بذور الانتقام في الجيل القادم. إنها محاولة لإعادة قراءة التاريخ من منظور قرطاجي، ولإعطاء الصوت للظل الذي سبق العاصفة، وهو ما يجعل قراءة هذه الرواية محورًا أساسيًا لفهم كيف يمكن للأدب المعاصر أن يتفاعل مع هذه الشخصية التاريخية المعقدة والغنية.

# المؤلف والخلفية الإبداعية
شوقي الأجنف ليس كاتبًا تقليديًا. فهو مصمم غرافيكي ومنتج محتوى رقمي بخبرة تمتد لأكثر من عشرين عامًا في مجال التصميم الفني والمؤثرات البصرية للبرامج التلفزيونية والإعلانات التجارية والفعاليات العالمية. حاصل على دبلوم عالٍ في الفنون السمعية والبصرية، وشهادات معتمدة من شركات عالمية مثل Adobe وAutodesk، وقد عمل مع شبكات إعلامية كبرى مثل قناة "الجزيرة"، حيث أسهم في إنتاج محتوى إبداعي فاز بعدة جوائز دولية.

هذه الخلفية المهنية في عالم الصورة والتصميم البصري تمنح الأجنف منظورًا فريدًا في مقاربته للكتابة الروائية. فهو الخبير بخبايا الصورة ومكوناتها، قادم إلى عالم السرد الأدبي، ليقدم تجربة تمزج بين الكتابة والصورة بشكل متناغم. هذا المزج بين الحس البصري والسرد الأدبي يمكن أن يكون مناسبًا بشكل خاص لرواية تاريخية تسعى لإعادة بناء عالم قديم وغريب مثل قرطاج، وشخصية عسكرية ملحمية مثل أميلكار باركا.

كما أن اختيار كاتب تونسي لهذا الموضوع يحمل دلالات خاصة، فتونس الحديثة تقع على الأراضي التي كانت تشغلها قرطاج القديمة، وهناك اهتمام متزايد في شمال إفريقيا بإعادة اكتشاف وإعادة قراءة التاريخ القرطاجي كجزء من التراث الثقافي والحضاري للمنطقة. وبالتالي، فإن رواية الأجنف يمكن أن تُقرأ أيضًا في سياق هذا الاهتمام بإعادة تملك التاريخ وإعادة سرده من منظور محلي، بدلاً من الاعتماد فقط على المصادر الرومانية أو الأوروبية التي هيمنت تاريخيًا على تصوير قرطاج وقادتها.

# الفترة الزمنية والسياق التاريخي للرواية
تركز رواية "أميلكار" لشوقي الأجنف على فترة تاريخية محددة ومفصلية في تاريخ قرطاج: الفترة التي تلت الهزيمة في الحرب البونيقية الأولى ضد روما (241 ق.م)، وتمتد على الأرجح حتى وفاة أميلكار في المعركة (228 ق.م). هذه الفترة، التي شهدت أزمة وجودية لقرطاج مع حرب المرتزقة، ثم محاولة النهوض من جديد من خلال التوسع في شبه الجزيرة الإيبيرية، تمثل مرحلة تحول حاسمة ليس فقط في تاريخ قرطاج، بل في تاريخ حوض البحر المتوسط بأكمله.

تتناول الرواية مشروع أميلكار الطموح للتوسع نحو شبه الجزيرة الإيبيرية، الذي كان يهدف إلى تأمين موارد إضافية تُعيد لقرطاج مكانتها وتُساعدها على النهوض من جديد رغم الضرائب المجحفة التي فرضتها روما. هذا المشروع، الذي بدأه أميلكار عام 237 ق.م، كان أكثر من مجرد حملة عسكرية أو مشروع استعماري؛ كان استراتيجية بعيدة المدى لإعادة بناء قوة قرطاج وتحضيرها لمواجهة مستقبلية مع روما، وهو ما تحقق لاحقًا على يد ابنه حنبعل في الحرب البونيقية الثانية.

ما يميز هذه الفترة، ويجعلها مادة خصبة للمعالجة الروائية، هو تعدد أبعادها ومستوياتها: فهي تجمع بين الصراع العسكري والسياسي الخارجي مع روما، والصراعات الداخلية في قرطاج بين الفصائل المختلفة، والتحديات الاقتصادية والاجتماعية، والبعد الشخصي المتمثل في علاقة أميلكار بأبنائه، وخاصة حنبعل، الذي كان يعده ليكون خليفته وحامل مشروعه.

# الشخصيات والأحداث الرئيسية
إلى جانب أميلكار، تبرز شخصية ابنه حنبعل (هانيبال)، الذي كان في تلك الفترة صبيًا ثم شابًا يافعًا (ولد حوالي 247 ق.م، وكان في التاسعة من عمره عندما اصطحبه والده إلى إسبانيا). تركز الرواية، كما يبدو من عنوانها ومن المعلومات المتاحة، على العلاقة بين الأب والابن، وعلى دور أميلكار في تربية حنبعل وإعداده لاستكمال المسيرة. هذه العلاقة، التي تجسدت تاريخيًا في القسم الشهير الذي جعل أميلكار ابنه يؤديه بألا يكون صديقًا لروما أبدًا، تمثل محورًا دراميًا غنيًا للرواية.

وتظهر في الرواية أيضًا شخصيات تاريخية أخرى مثل صدربعل العادل (صهر أميلكار وخليفته في قيادة الجيش في إسبانيا)، وهانو العظيم (خصم أميلكار السياسي في قرطاج)، وربما أبناء أميلكار الآخرين: صدربعل وماغو. كما قد تتضمن الرواية شخصيات متخيلة أو ثانوية لإثراء النسيج السردي.

هذه الرواية "غنية بالأحداث المشوقة النابعة من ثنائيات الأسطورة والتاريخ، الحرب والسّلم، الخيانة والوفاء"، مما يوحي بأنها تتجاوز السرد التاريخي المباشر إلى استكشاف الأبعاد الإنسانية والرمزية لهذه الفترة والشخصيات.

# الأسلوب السردي والمقاربة الروائية
بالنظر إلى الخلفية المهنية للكاتب في مجال التصميم البصري والإنتاج المرئي، تتميز الرواية بحس بصري قوي وقدرة على رسم المشاهد والفضاءات بطريقة حية ومؤثرة، فهي ذات "طابع تاريخي تسجيلي"، مما يشير إلى التزام معين بالوقائع التاريخية، ولكن مع إضافة العناصر الروائية والتخيلية اللازمة لإحياء الشخصيات والأحداث.

يبدو أن شوقي الأجنف يسعى، من خلال خبرته في "فهمه العميق للدراما البصرية"، إلى "استعراض حقبة مميزة من تاريخ قرطاج، مع إحياء شخصيات تاريخية بأبعاد إنسانية نابضة بالحياة". هذا يشير إلى مقاربة تجمع بين الدقة التاريخية والعمق الإنساني، وهو توازن صعب ولكنه ضروري لنجاح الرواية التاريخية.

كما أن الرواية تمزج بين "العمق التاريخي والجمال البصري"، وأنها تستمد زخمها من الخلفية الفنية للكاتب. هذا قد يعني استخدام تقنيات سردية تستفيد من الخبرة البصرية، مثل الوصف الدقيق والحي للمشاهد، والاهتمام بالتفاصيل المرئية، وربما استخدام تقنيات سينمائية في بناء المشاهد وتسلسلها.

من ناحية أخرى، تشير المعلومات التي رشحت من المؤلف الى ناشره إلى أن الرواية تمهد لجزء ثانٍ يتناول حياة القائد صدربعل، وجزء ثالث يتناول سيرة حنبعل ورحلته الشهيرة نحو روما. هذا يضع الرواية في إطار مشروع أدبي أوسع، ويجعلها جزءًا من ثنائية أو ربما سلسلة تتناول تاريخ آل باركا وصراعهم مع روما. هذا التصور الشامل يمكن أن يؤثر على بناء الرواية وإيقاعها، حيث تعمل كمقدمة وتمهيد للأحداث الأكثر شهرة التي ستأتي لاحقًا.

# الثيمات والرؤى
تتناول هذه الرواية عديد الثيمات والموضوعات الرئيسية، ومنها:
1. **الصمود والنهوض من الهزيمة**: كيف واجهت قرطاج، بقيادة أميلكار، تحدي الهزيمة في الحرب البونيقية الأولى والأزمات التي تلتها، وكيف سعت للنهوض من جديد.
2. **العلاقة بين الأب والابن**: العلاقة الخاصة بين أميلكار وحنبعل، وكيف قام الأب بإعداد ابنه ليكون خليفته وحامل مشروعه.
3. **الصراع بين الحضارات**: التنافس والعداء بين قرطاج وروما، وكيف شكل هذا الصراع مصير البحر المتوسط.
4. **الرؤية الاستراتيجية والقيادة**: كيف استطاع أميلكار، رغم الظروف الصعبة، أن يضع رؤية بعيدة المدى لإعادة بناء قوة قرطاج، وكيف نفذ هذه الرؤية بصبر وإصرار.
5. **الوفاء والخيانة**: الصراعات الداخلية في قرطاج، والتحالفات المتغيرة، والولاءات المتنافسة.
6. **الإرث والاستمرارية**: كيف سعى أميلكار لضمان استمرار مشروعه ورؤيته بعد وفاته، من خلال أبنائه وخاصة حنبعل.

تقدم الرواية، كما يبدو، رؤية تعيد قراءة التاريخ من منظور قرطاجي، بدلاً من الاعتماد على المصادر الرومانية التي هيمنت تاريخيًا على تصوير هذه الفترة. هذه المقاربة تسمح بتقديم صورة أكثر تعاطفًا وعمقًا لأميلكار وقرطاج، وتستكشف دوافعهم وتطلعاتهم بعيدًا عن الصورة النمطية التي رسمها المنتصرون.

كما أن اختيار التركيز على أميلكار، بدلاً من ابنه الأكثر شهرة، يسمح للرواية باستكشاف الجذور والأسس التي بُنيت عليها الأحداث الأكثر شهرة لاحقًا. إنها محاولة لفهم "الظل الذي سبق العاصفة"، والعقل المدبر الذي وضع الأسس للمواجهة الكبرى التي قادها حنبعل لاحقًا.

# وأخيرا:
تمثل رواية "أميلكار: مهد حنبعل وعهد قرطاج" للكاتب التونسي شوقي الأجنف إضافة مهمة ومميزة للأدب الروائي الذي يتناول الشخصيات التاريخية القرطاجية. بتركيزها على شخصية أميلكار باركا، التي غالبًا ما تظل في ظل ابنه الأكثر شهرة، تقدم الرواية فرصة لاستكشاف فترة مفصلية في تاريخ البحر المتوسط، وشخصية معقدة ومؤثرة لم تنل حقها من الاهتمام الأدبي.

في هذا السياق، تبرز أهمية رواية "أميلكار.." للكاتب التونسي شوقي الأجنف. فمن خلال تركيزها المباشر على أميلكار ومشروعه الإسباني وعلاقته بحنبعل، تعد هذه الرواية بمقاربة جديدة ومختلفة. وكما أوضحنا أعلاه، فإن خلفية الكاتب في عالم التصميم البصري، وانتماءه إلى المنطقة التي احتضنت قرطاج، يمنحان الرواية إمكانات واعدة لتقديم صورة حية وعميقة لأميلكار، تمزج بين الدقة التاريخية والحس الفني والرؤية المحلية.

إن مساهمة رواية الأجنف، والأعمال الأدبية الأخرى التي تتناول أميلكار، لا تقتصر على مجرد سد فجوة في السرد التاريخي أو الأدبي. بل تكمن أهميتها في قدرتها على استكشاف موضوعات جوهرية تتعلق بالطموح، والانتقام، والقيادة، والعلاقات الأسرية، والصراع الحضاري. كما أنها تساهم في إعادة قراءة التاريخ من منظور قرطاجي، مما يثري فهمنا للصراع البونيقي وللعالم القديم بشكل عام. وتبقى الرواية وعدًا بإلقاء ضوء جديد على شخصية تاريخية مهمة، وبتقديم تجربة أدبية تجمع بين المتعة السردية والعمق التاريخي والجمال البصري.

## قائمة المراجع والمصادر:/
. المصادر التاريخية:
1. ويكيبيديا العربية، "حملقار برقا"، https://ar.wikipedia.org/wiki/حملقار_برقا
2. موقع المعرفة، "حملقار برقة"، https://www.marefa.org/حملقار_برقة
. الأعمال الأدبية المذكورة في المقال:
1. شوقي الأجنف، "أميلكار .. مهد حنبعل وعهد قرطاج"، رواية تاريخية تسجيلية، منشورات كناية، 2025.
2. غوستاف فلوبير، "سلامبو" (Salammbô)، 1862.
3. ديفيد أنتوني دورهام، "كبرياء قرطاج" (Pride of Carthage).
4. فون هيبنر، "سيف قرطاج" (The Sword of Carthage).
. مقالات ومواقع إلكترونية
1. موقع "مجلة كناية" الرقمية الثقافية المستقلة، "أميلكار بركا، هانيبال وقرطاج، في رواية شوقي الأجنف"، 2024، https://metonymykinaya.com/2024/12/16/أميلكار-بركا-هانيبال-وقرطاج-في-روا/



#حكمت_الحاج (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بين ضجر الملوك ووجع الهزيمة
- جثة تفكر: قراءة فوكويّة في رواية نزار شقرون “أيام الفاطمي ال ...
- حينما يصبح الشعر نشيدا للإنسان، ونشدانا للحرية والانعتاق
- هوروسكوب
- أميلكار، هانيبال وقرطاج، في رواية تونسية جديدة..
- أوسكار وايلد وصادق هدايت في مسلسل عربي
- رعد عبد القادر باللغة السويدية: الصقر مع الشمس بأجنحة الشعر ...
- نحو سرد موجز، نحو رواية ليست طويلة..
- نظرة ما إلى قواعد اللعبة: من المحيط إلى المركز
- ترابكَ
- لا ترمني بوردة
- نحو رواية قصيرة
- تحديات جديدة أمام المسرحيين في عالم اليوم: نحو علاقة حيوية م ...
- تمر الشمس في برج الحمل
- عناصر السيميولوجيا أخيرا
- رباعيات العواطف: عندما يكون الشعر منتظماً وحُراً في آنٍ
- أساطير الأم بين عشتار وآتروبوس
- من النَّظْم إلى المعنى: مشروع رؤية جديدة للبلاغة تصل الأصالة ...
- قل لا حتى ولو كنت على نعم
- قصيدة و رباعية عن الولادة والرحيل


المزيد.....




- دينزل واشنطن يحظى بتكريم مفاجئ من مهرجان كان السينمائي
- هل تزوج حليم من سندريلا؟.. أسرة العندليب تنهي الجدل
- كان يا ما كان في غزة : عندما يصبح الفيلم وثيقة عن الحياة قبل ...
- أول فيلم نيجيري في مهرجان كان يفتح الباب أمام سينما -نوليوود ...
- صفاء السعدون فنان من بابل العراقية يعرض لوحاته في قازان الرو ...
- مالك حداد.. الشاعر والروائي الجزائري الذي عاش حالة اغتراب لغ ...
- آرت بازل قطر ينطلق عام 2026.. شراكة إستراتيجية تكرّس الدوحة ...
- بعد وفاة زوجها وابنيها.. استشهاد الممثلة الفلسطينية ابتسام ن ...
- زاخاروفا: قادة كييف يحرمون مواطنيهم من اللغة الروسية ويتحدثو ...
- شاركت في -باب الحارة- و-عودة غوّار-.. وفاة الفنانة السورية ف ...


المزيد.....

- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي
- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين
- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري
- عشاء حمص الأخير / د. خالد زغريت
- أحلام تانيا / ترجمة إحسان الملائكة
- تحت الركام / الشهبي أحمد


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حكمت الحاج - الظل والعاصفة