حكمت الحاج
الحوار المتمدن-العدد: 8368 - 2025 / 6 / 9 - 21:46
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
الشعر والفلسفة.. أية علاقة!
لا وجود لحقيقة خارج اللغة: نظرية الشعر عند ريتشارد رورتي
كثيرا ما كنت أقرأ لبعض "الألسنيين" المعاصرين فأجدهم "وضعيون مناطقة". وعندما كنت أكمل الرحلة معهم بوصفهم فلاسفة الوضعية المنطقية (عربيا كما لدى فيلسوفنا الوضعي المنطقي الأول والأوحد، زكي نجيب محمود، الذي كتب عن الشعر برصانة متفردة) أجدهم يفردون أجزاء من أبحاثهم وخطراتهم الفلسفية للشعر ولنظرية الشعر، فتتملكني الحيرة، لأنني لا أكاد أفهم كنه تلك العلائق التي تبدو لي متناقضات، بينما يشتد أزري، كشاعر في الأقل، حينما أكون قد وجدت دعما لامتناهيا من عقل مفكر فيلسوف.
لكنني اليوم، وأنا أستعرض هذا الكتاب الصغير الحجم العظيم الأهمية، والذي أهدانيه ودلني عليه الصديق الشاعر الكويتي علي بن نخي، مشكورا، لفيلسوف البراغماتية الشهير ريتشارد رورتي، أكون ربما قد وضعت يدي على مفتاح الفهم، وامتلكت أداة مُثلى لتبديد تلك الحيرة.
ففي عصر "ما-بعد-الميتافيزيقا"، حيث تفقد الفلسفة سلطتها التقليدية بوصفها حارسة للحقيقة، يظهر صوت ريتشارد رورتي الفلسفي وقد اتخذ موقعًا خارج الأسوار الأكاديمية الضيقة والميتة، داعيًا إلى إعادة تصور الفلسفة لا بوصفها بحثًا عن الحقيقة، بل باعتبارها فعلاً لغويًا في الخيال، شبيهًا بالشعر.
وفي كتابه "Philosophy as Poetry"، الفلسفة بوصفها هي الشعر"، لا يقدّم رورتي أطروحة نقدية كلاسيكية، بل يكتب نصًا هو نفسه شكل من أشكال الشعر الفلسفي، يعيد فيه تشكيل العلاقة الملتبسة ما بين الشعر والفلسفة.
يرى رورتي أن الفلسفة الحديثة وقعت في فخ التمييز الكلاسيكي بين "الواقع" وبين "الظاهرة"، بين "الحقيقة" وبين "الخيال". وهذا ما ورثته عن أفلاطون، واستمرّت تُعيد إنتاجه حتى في صورها الوضعية والتحليلية. يدعو رورتي إلى التخلي عن هذا التمييز، لأن "لا وجود لحقيقة خارج اللغة"، وكل ما نملكه هو طرق مختلفة للقول، أي للاستعارة، للتأويل، لإعادة التسمية.
وهنا يقترب الشعر من الفلسفة: ليس لأنه يزينها، بل لأنه يمثل بديلها. فحين تتوقف الفلسفة عن ادّعاء امتلاك الحقيقة، تصبح قريبة من الشعر في وظيفتها التي تتلخص في توليد إمكانيات جديدة للتفكير والعيش بسلام.
وفي قلب النظرية الرورتية نجد فكرة أن الشعر ليس مجرد فن لغوي، بل هو القوة التي تخلق المفاهيم والصور والرموز التي نعيش بها. اللغة ليست مرآة، بل أداة نحت، والشاعر هو النحّات الخلاق للواقع. يقول في اقتباس من الكتاب: "الخيال هو الذي يبتكر اللعبة التي يلعب فيها العقل." بهذا المعنى، يكون الشعر هو الشكل الأعلى للفكر لأنه يبتكر ولا يفسّر؛ لأنه يُعيد التسمية ولا يصف ما هو موجود.
عند رورتي، تصبح الفلسفة ضربًا من ضروب الشعر، لا لأنها تكتب ببلاغة، بل لأنها تتخلى عن مطاردة الجوهر، وتلتفت إلى ما يُمكن قوله بطريقة مختلفة. يقول أيضا: "نحتاج إلى الفلاسفة الذين يصوغون لغات جديدة، لا الذين يحللون معان قديمة." وهنا تظهر الأهمية الرمزية لشخصيات مثل نيتشه، وداريدا، وبروست، وويتمان، كفلاسفة ـ شعراء. بل إن رورتي يذهب إلى أبعد من ذلك حين يعيد الاعتبار لشاعرة مثل إميلي ديكنسون، فيراها من خلال انكفائها الذاتي، وكثافة لغتها، تجسيدًا لما يسميه "الذات المعجمية"، أي تلك التي تُعيد خلق ذاتها من خلال لغتها.
أما وليم بتلر ييتس، فيُستحضر بوصفه شاعر القلق الوجودي، الذي يقف على حافة العالم القديم المتصدع دون أن يبني معبدًا جديدًا، بل يُنتج رموزًا مؤقتة للحياة وسط العدم.
إن أهم ما يقترحه رورتي هو إعادة تعريف الشعر نفسه. فليس الشعر هو القصيدة المكتوبة على السطور والأوراق، بل هو كل فعل لغوي خلاق يجعلنا نعيش بشكل أعمق وأكثر تحررًا. في هذا الإطار، يتحدث عن الشعر باعتباره قوة مضادة: حيث الشعر هو - ضد الميتافيزيقا، - ضد المركزية العقلانية، - ضد الادعاءات الأخلاقية المطلقة. الشعر عند رورتي هو شكل من أشكال المقاومة الناعمة، لأنه لا يقدم إجابات، بل يُوسّع الأسئلة، ويقترح ألف احتمال بدلاً من يقين واحد.
هذا الكتاب Philosophy as Poetry في حقيقته هو ثلاثة محاضرات لرورتي، مع مقدمة لتلميذه مايكل بيروبي، وهو ناقد أدبي وفيلسوف ثقافي بارز، وكلمة ختامية لزوجته ورفيقة فكره، ماري رورتي. ولم تكن مقدمة بيروبي مقدمة تقليدية، بل مثلت نصًا تأمليًا سرديًا فلسفيًا فريدًا، أعطى مفاتيح ثمينة للدخول إلى عالم ريتشارد رورتي المعقد والبسيط في آن واحد.
لا يقدّم بيروبي مجرد تعريف بالمحاضرات الثلاث، بل يروي تجربة شخصية له كطالب عند رورتي، ويرينا كيف كانت محاضراته ومنهجيته، وكيف كان يُقوّم الأفكار لا الأشخاص، وكيف كان يتعامل مع اللايقين بوصفه فضيلة.
يقدّم بيروبي مقارنة رشيقة بين رورتي من جهة، وداريدا، هايدغر، نيتشه، وكانط من جهة أخرى. وتُظهر مقدمته كيف أن رورتي لم يكن تفكيكيًا بالكامل، ولا بنيويًا بالكامل، ولا تحليليًا بالمعنى الضيق للمصطلح، بل براغماتي خلاق، يكتب بفكر "ما-بعد-ميتافيزيقي"، بلغة شفافة، وبلا راديكالية زائفة. ولهذا، تعتبر المقدمة جزءًا من تجربة الكتاب لا مجرد بابٍ له أو مدخل إليه.
في المحاضرة الثالثة من الكتاب، وهي ما يعجبني كقاريء أن ألفت النظر والتركيز عليها، يربط رورتي ما بين الرومانسية والبراغماتية بوصفهما نمطين ثقافيين يتقاطعان في الإيمان بالخيال، والتجربة، والتغيير. كلاهما يرفض أن يكون للحقيقة مكان ثابت خارج الزمن والتاريخ:
"التقدم الأخلاقي والمعرفي ليس اقترابًا من غاية سابقة، بل تجاوزٌ لما سبق." يقول رورتي. وهنا يصبح الشعر والبراغماتية حليفين في معركة ضد المطلق، وفي الدفاع عن الإنسان ككائن لغوي، يعيد صياغة العالم عبر التسمية العيانية، لا الكشف الصوفي.
وبنص قصير تأتي الكلمة الختامية للكتاب بقلم ماري رورتي، زوجة الفيلسوف الراحل وشريكته الفكرية. لتمثل لحظة تأمل حميمي تُضيء الجذر الوجداني والفلسفي لما طرحه رورتي. تخبرنا ماري أن ريتشارد ألقى هذه المحاضرات عام 2004، لكنه لم يتمكن من تنقيحها لاحقًا بسبب المرض، وأن ما نُشر هو أقرب ما يكون إلى وصيته الفلسفية. تؤكد أن هذا الكتاب يُعبّر عن "أعمق ما كان يؤمن به رورتي"، حين دعا إلى الاستعاضة عن الهوس بالحقيقة بحسّ خيالي إبداعي، يدفعنا لنعيش لا لنبرهن.
لا يطلب ريتشارد رورتي من الفلسفة، ودائما مع ماري رورتي، أن تصبح شعرًا على مستوى الشكل، بل على مستوى الوظيفة. أن تتحول من جهاز لإنتاج الحقائق إلى فضاء للتخييل الخلاق. وهكذا، تصبح القصيدة والفكرة والمجاز والاستعارة وجوهًا مختلفة لفعل واحد: خلق إمكانيات جديدة للحياة.
في عالم أنهكته ادعاءات اليقين، يدعونا رورتي إلى أن نكون شعراء، لا بمعنى كتابة القصائد، بل بمعنى أن نصبح صانعي عوالم لغوية أكثر رحابة وإنسانية. في هذا، يكمن رهان رورتي، ويكمن جوهر كتاب "الفلسفة بوصفها هي الشعر".
وفي النهاية، يمكن تلخيص "نظرية الشعر" عند رورتي في النقاط السبعة التالية:
1. الشعر هو الخيال اللغوي الخلاق (يولد مفاهيم جديدة للعيش بسلام)
2. لا وجود للحقيقة خارج اللغة (الشعر لا يعكس الحقيقة بل يصوغها)
3. الشاعر فيلسوف دون ادعاء (يعيد بناء العالم عبر المجاز)
4. الشعر فعل وجودي لا ترف جمالي (يخلق المعنى من العدم)
5. لا شعر بلا جمهور أو قراء (الشعر الحقيقي هو ما يُتداوَل ويتحوّل إلى ممارسة)
6. لا وجود للشعر الصافي أو المطلق (كل خطاب تخييلي يحمل شعرًا ضمنيًا حتميّا)
7. الشعر غاية الفلسفة المستقبلية (حين تتحرر الفلسفة من طموحها الميتافيزيقي تصبح شعرًا) .
إذن، وأخيرا، الشعر، في نظر ريتشارد رورتي، ليس نوعًا أدبيًا، بل نمط حياة، وموقفًا أنطولوجيًا، وأسلوبًا لخلق المعنى حين تفشل الحقائق. إننا لا نعيش عبر الفلسفة أو العلم، بل عبر الحكايات والمجازات، والشعر هو الشكل الأعلى لهذا التخييل المنتج للوجود والمضاد للعدم.
----------------
* ريتشارد رُورتي (توفي 2007) فيلسوف أمريكي براغماتي. اعتقد رورتي أن التخلي عن اعتبارات الفكر التمثيلي في المعرفة واللغة سوف يؤدي إلى حالة ذهنية أطلق عليها مصطلح الآيرونيزم أو «السخروية» (Ironism)، والتي يعي فيها الناس كليًا مكانتهم في التاريخ ومفرداتهم الفلسفية. ربط رورتي هذا المصطلح الفلسفي بفكرة «الأمل الاجتماعي»، واعتقد أن المجتمع الإنساني سوف يتصرف بسلمية أكثر دون اعتبارات الفكر التمثيلي، ودون الاستعارات المتبادلة ما بين العقل والعالم. نادى بثقافة «ما بعد الفلسفة» المصممة على التخلي عن اعتبارات الفكر التمثيلي للإبستمولوجيا التقليدية، ودمج البراغماتية الأمريكية مع النزعة الطبيعية الداروينية.
#حكمت_الحاج (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟