أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - داود السلمان - فيروز غنّت كلماته...والرصاص أسكته إلى الأبد















المزيد.....

فيروز غنّت كلماته...والرصاص أسكته إلى الأبد


داود السلمان

الحوار المتمدن-العدد: 8407 - 2025 / 7 / 18 - 15:18
المحور: الادب والفن
    


تميز هذا الإنسان، السيد علي - صاحب القلب الخافق بالحب - بوجهين متكاملين: وجه رجل الدين المتزن، ووجه الشاعر الرقيق، وقد استطاع أن يجمع بين الوقار الديني وحرارة التعبير الفني. ولعلّ أبرز مثال على ذلك هو القصيدتان اللتان كتبَهما وغنّتْهما السيدة فيروز لاحقًا، دون أن يُعلن اسمه: "أنا يا عصفورة الشجن" و "لَملَمتُ ذكرى لقاء الأمس". باع القصيدتين لعاصي الرحباني، بشروط واضحة: ألا يُعلن اسم الشاعر، وأن لا تُنسب إليه علنًا. وهو ما تحقق، وبقيت هوية صاحب هذين النصين مجهولة لعقود، حتى كُشف عنها في السنوات الأخيرة من خلال شهادات أدبية وبحثية.
اللافت للنظر، أن رجال الدين اللبنانيين، وخصوصًا من الطائفة الشيعية، يتميّزون بصفة فريدة قلّما نجدها لدى رجال الدين في بقية الدول الإسلامية، وهي الانخراط العميق في الشأن العام والوجدان الشعبي. فهم لا يكتفون بالدور الديني التقليدي كالإفتاء أو الخطابة، بل يتحوّلون في كثير من الأحيان إلى رموز اجتماعية وسياسية وثقافية، تشارك الناس يومياتهم وتعبّر عن آمالهم ومخاوفهم. هذه الخصوصية، بين الشعبي والروحي، وبين الفقيه والمثقف، أنتجت شخصيات مركبة مثل السيد محمد حسن الأمين، أو الشاعر المعمم السيد بدر الدين، والشيخ محمد جواد مغنية، وغيرهم ممن لم تُحدّهم الأدوار التقليدية، بل تجاوزوها إلى الفضاء الأرحب: فضاء الناس واللغة والفن.
إن سيرة علي بدر الدين ليست فقط قصة رجل دين اغتيل في زمن الحرب، بل هي أيضًا حكاية شاعر عاش في الظل، ومات في الظلمة، لكن كلماته بقيت تنير أرواحًا كثيرة، بصوت فيروز، وبصدى الشجن الذي لا يهدأ.
ولد السيد علي محمد جواد بدر الدين في بلدة حاروف، إحدى قرى قضاء النبطية في جنوب لبنان، عام 1949، في بيئة ريفية متدينة أثّرت بشكل عميق في تكوينه الروحي والثقافي. نشأ في كنف أسرة دينية؛ والده السيد محمد جواد كان رجلاً تقياً يعمل في الأرض ويكسب قوته بعرق جبينه، وقد تأثر علي بهذه القيم باكرًا. في طفولته، كانت أولى محطات وعيه في المساجد والحقول، حيث كان يسمع ترتيل القرآن ويشاهد صبر الفلاحين. تلقّى علومه الأولى في مدرسة حاروف، ثم التحق بثانوية النبطية، وهناك تفتحت موهبته الأدبية، فكان يكتب الشعر خفية، وينشد قصائده أمام أصدقائه، لكن التقاليد والحياء الاجتماعي حالا دون نشر تلك الأعمال في وقتها.
في عام 1969، قرر أن يسلك طريق العلم الديني، فسافر إلى النجف الأشرف في العراق، أحد أبرز مراكز الحوزات العلمية في العالم الشيعي. في النجف، درس على أيدي كبار العلماء مثل السيد أبو القاسم الخوئي والسيد محمد باقر الصدر، وكان قريبًا من الصدر بشكل خاص، حتى أنه شارك في وساطات سياسية حساسة بينه وبين النظام البعثي في العراق. رغم ثقل العلوم الدينية، لم يتخلَّ علي بدر الدين عن عشقه للشعر، فانضم إلى الرابطة الأدبية في النجف، التي كان يديرها السيد مصطفى جمال الدين، وهناك ازدهرت موهبته. كتب شعرًا وجدانيًا وغزليًا، وكان متمكنًا من الإيقاع واللغة والرمز، لكنه بقي مترددًا في نشر شعره، فكان يخشى أن يُؤخذ عليه كونه رجل دين يكتب عن الحب والحنين.
ثم عاد السيد بدر الدين إلى لبنان في أواخر السبعينيات، إبّان الحرب الأهلية اللبنانية، وقد وجد بلده يتخبط في فوضى سياسية وأمنية، وانقسامات طائفية مريرة. حاول أن يقدّم دورًا إصلاحيًا، فخطب في الناس، وشارك في نشاطات اجتماعية في بلدته والمنطقة المحيطة، لكنه لم يكن محسوبًا على أي فصيل حزبي أو تيار سياسي، وهو ما جعله "مستقلاً في زمن الانحيازات"، وبالتالي عرضة للريبة من أكثر من جهة. وفي خريف عام 1980، وبينما كان متوجهًا إلى أحد المساجد، اختفى بشكل مفاجئ. وبعد أيام، عُثر على جثمانه في أحد الوديان بين بلدتي حاروف وزفتا. كان الجسد مثقلاً برصاصات عدّة، وآثار تعذيب شديد ظهرت عليه، مما يشير إلى عملية اغتيال منظمة ووحشية.
رغم أن السيد علي بدر الدين لم يترك خلفه ديوانًا منشورًا أو مؤلفات مطبوعة، فإن أثره الأدبي بقي عبر تلك القصائد المغنّاة التي ذابت في الذاكرة اللبنانية، من دون أن يُعرف صاحبها الحقيقي إلا بعد فوات الأوان. كان من طينة أولئك الذين يزرعون الشعر كما تُزرَع الحقول، بصمت، وبعمق، وبانتظار موسم لا يأتي أبدًا. لم يكن يسعى إلى الشهرة، بل إلى النقاء، وربما لهذا السبب كتب أجمل قصائده باسم مجهول، ومات قبل أن يعرف الناس مَن كتب لهم أنا يا عصفورة الشجن"، تلك التي صارت رمزًا من رموز الحنين في الغناء العربي.
رغم مرور عقود على رحيله، ما تزال شخصية السيد علي محمد جواد بدر الدين تثير دهشة كل من يكتشف قصته. إذ لم يكن مجرد شاعر كتب قصيدتين لفيروز، بل كان حالة نادرة من التناقض الإنساني العميق: رجل دين يحمل في قلبه شاعرًا رقيقًا، وصوفيًا تواقًا للحب، وناقدًا خفيًا لما حوله من جمود وتحجر. عاش وسط بيئة محافظة، تشترط على أهل العمائم التمسك الصارم بالتقاليد، لا مجرد الالتزام الديني، ومع ذلك اختار، في أعماقه، أن ينحاز للحس، للغنائية، للقصيدة كوسيلة مقاومة شخصية ضد القوالب المفروضة.
من يتأمل القصيدتين اللتين غنّتهما فيروز يجد فيهما ما يشبه البوح المكبوت، أو الانفجار العاطفي لشخص طال كتمه، فخرج كلامه سلسًا، شفيفًا، دون تكلف. لم تكن القصائد مدججة بالزخارف اللفظية كما يفعل كثير من شعراء الغزل التقليدي، بل جاءت ناعمة كأنها كُتبت على استحياء، أو كأن الشاعر كان يهمس لنفسه لا للجمهور. هذا الوضوح العاطفي، والارتباك في التعبير عن الهوية (حيرى أنا يا أنا والعين شاردة)، يعكس قلقًا داخليًا لدى الشاعر الذي لم يكن مرتاحًا لتقسيم العالم بين المقدس والعاطفة.
حياته القصيرة – التي انتهت في الثلاثينيات من عمره – كانت كأنها ترجمة لنمط عيشه: مكثفة، متأملة، غامضة، وصامتة. لم يُعرف عنه أي نشاط سياسي علني، لكنه قُتل بطريقة توحي بأن هناك من رأى في وجوده خطرًا أو تهديدًا. هذا الاحتمال قد لا يتعلق بالقصيدة أو الشعر، بقدر ما يرتبط بأفكاره غير المعلنة، أو بتفاعلاته مع محيط ديني وسياسي لم يكن يتسامح مع الخروج عن السطر، لا قولا ولا كتابة. وربما كانت القصيدتان مجرد قمة جبل جليدي أكبر، يضم أفكارًا لم يُكتب لها الخروج إلى العلن.
وبحسب سيرته التي تناولتها بعض الأقلام الحرّة، فأن بعض من عرفه في الجنوب، أو تتلمذ على يديه، تحدث لاحقًا عن شخصية مميزة تجمع بين الرصانة والدفء، وعن رجل يملك كاريزما هادئة، وصمتًا ذا مغزى. لم يكن خطيبًا تقليديًا، بل مربيًا أقرب إلى العارفين بالله، يهتم بباطن الإنسان أكثر من مظاهره. وربما من هنا جاء انشغاله بالشعر، كملاذ داخلي يلجأ إليه كلما ضاقت عليه عوالم الفقه والمنبر.
مع كل الأسف، حتى اليوم، لم تُعرف الجهة المسؤولة عن قتله. لكنّ بعض المصادر رجّحت تورط أجهزة مخابرات محلية أو إقليمية، خصوصًا في ظل الصراع المخابراتي المحموم الذي كان يجتاح الجنوب اللبناني في ذلك الوقت، بين الاحتلال الإسرائيلي، والمخابرات السورية، والفصائل الفلسطينية، والقوى الشيعية الوليدة. لم تُفتح تحقيقات جدّية، ولم يُحاسب أحد، فدخل اسمه في عداد ضحايا “الاغتيالات النظيفة” التي تُرتكب ثم تُنسى. ظلّ اغتياله جرحًا مفتوحًا في ذاكرة محبيه، وحادثة صامتة لم تحظَ بالتحقيق الذي تستحقه.
مصادر المقال:
1. موسوعة المعرفة.
2. المدونة الأدبية - جبل عاملة.
3. مقال داوود الفرحان – صحيفة الشرق الأوسط.
4. الموسوعة التوثيقية – الأنطولوجيا.
5. almajd.net – مقال عن الشعراء المنسيين.



#داود_السلمان (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حين يتحوّل الدعاء إلى إعلان مموّل
- التداخل الفني والاسلوبي في (متاهة عشق) للروائي العراقي علي ق ...
- أين نحن من الوجود؟
- التطبيع هل سيحل أزمة الشرق الأوسط؟
- تزوير التاريخ وتزييف الحقائق
- مَن هم القرآنيون؟
- التديّن المذهبي ضد الإسلام المُحمديّ
- لماذا تأخرنا وتقدّم غيرنا؟
- خطورة الجماعات الإسلامية: تهديد مستمر للسلم المجتمعي
- نظام الحكم في الاسلام: ثلاث نظريات
- من قداسة النص إلى عصمة الفقيه: سيرة الاستيلاء على الدين
- الفساد في العراق.. بنية مستدامة لا مجرد خلل طارئ
- الاسلام السياسي: صعود الايديولوجيا الدينية
- مزايا الانكسار في نص (لا تقتلوا الأحلام) للشاعرة اللبنانية س ...
- الأخلاق بين كانت وماركس: صراع المبادئ والمادة
- المشكلة ليست في الدين انما في رجال الدين
- الإرهاصات الدامية في قضية (حسبي من الشعر الشهيّ) للشاعر وليد ...
- البُعد العاطفي والنفسي في قصيدة (أوراق مُعادن) للشاعر علي ال ...
- الأسى وسطوة الفقد في نص (قشعريرة نبض) للشاعرة سوسن يحيى
- الذات والهوية في نص (ليسَ غريباً عني) للشاعرة رجاء الغانمي


المزيد.....




- أهمية الروايات والوثائق التاريخية في حفظ الموروث المقدسي
- -خطر على الفن المصري-.. أشرف زكي يجدد رفضه مشاركة المؤثرين ف ...
- هل يحب أطفالك الحيوانات؟ أفلام عائلية أبطالها الرئيسيين ليسو ...
- أحمد عايد: الشللية المخيفة باتت تحكم الوسط الثقافي المصري
- مهرجان -شدوا الرحال- رحلة معرفية للناشئة من الأردن إلى القدس ...
- لغز الإمبراطورية البريطانية.. الإمبريالية مظهر للتأزم لا للق ...
- لغز الإمبراطورية البريطانية.. الإمبريالية مظهر للتأزم لا للق ...
- وصمة الدم... لا الطُهر قصة قصيرة من الأدب النسوي
- حي المِسكيّة الدمشقي عبق الورق وأوجاع الحاضر
- لا تفوت أحداث مشوقة.. موعد الحلقة 195 من قيامة عثمان الموسم ...


المزيد.....

- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ
- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - داود السلمان - فيروز غنّت كلماته...والرصاص أسكته إلى الأبد