|
عودة ليست شاعرة حُبّ تقليديّة
ريتا عودة
الحوار المتمدن-العدد: 8386 - 2025 / 6 / 27 - 15:09
المحور:
الادب والفن
"ريتا عودة ليست شاعرة حبّ تقليديّة فحبّها متجذِّر في هُويتها الفلسطينيّة وواقعها المعَقَّد" ■■■■■
ريتا عودة، شاعرة وكاتبة فلسطينية، تُعرف بأسلوبها الشّعريّ المتميّز الذي يمزج بين البساطة والعمق. غالبًا ما تتناول في كتاباتها مواضيع تتراوح بين الوجود الإنساني، الهُويّة، الحُبّ، الفقدان، والوطن، بلمسة فلسفيّة وتأمليّة.
أن أكونَ مِرآةً تعكسُ الظِّلالَ أو أكونَ امرأةً تنسجُ الحِكَايةَ تلوَ الحِكَاية تلكَ.. تلكَ هي أَيا سائلي، الحكاية.
هذه الومضة الشّعريّة تعكس الجانب التّأملي في شِعرها. إنّها تطرح سؤالًا وجوديًا حول الدَّور الذي تختاره لنفسها أو الذي تُحدّد به: هل هي مجرّد مرآة تعكس الواقع بحلوه ومرّه، بظلاله وأضوائه، دون تدخّل أو تغيير؟ أم هي امرأة صانعة للحكايات، نسّاجة للقصص، تمتلك القدرة على الخَلق والتّأثير وصياغة المعاني؟ هذا التّساؤل ليس مجرّد خيار بين أمرين، بل هو صراع داخلي يعكس البحث عن المعنى والهُويّة. هل يكمن الوجود في الملاحظة السّلبيّة (المرآة)، أم في الفعل الإيجابي والخلق (نسج الحكاية)؟ المسألة هنا ليست في اختيار أحد الأمْرَين بقدر ما هي في فهم هذا التّناقض، أو التّكامل، بينهما. تأثير ريتا عودة كشاعرة فلسطينيّة يتجلّى في عدّة جوانب، فهي ليست مجرّد كاتبة، بل هي صوتٌ يعكس تجربة الشّعب الفلسطيني بأبعادها المختلفة. هذه بعض النّقاط الرئيسيّة: 1. التّعبير عن الهُويّة الفلسطينيّة المقاوِمَة على الرّغم من أن ريتا عودة لا تركِّز دائمًا بشكل مباشر على "الشِّعر المُقَاوِم" بالمعنى التّقليدي للكلمة، إلَّا أنّ هُويتها الفلسطينيّة تتخلّل نصوصها بشكل عميق. هي تكتب من مدينة النّاصرة (لاحقًا من حيفا)، وتجربتها كفلسطينيّة تعيش في الدّاخل الفلسطينيّ تمنح شِعرها بُعدًا خاصًا. تعكس قصائدها: الصّمود والبقاء، حتّى في تناولها لمواضيع الحبّ والذّات، هناك دائمًا إحساس بالانتماء العميق للأرض والبقاء فيها، وهو شكل من أشكال المقاومَة الثّقافيّة. الذّاكرة والحنين، قد تتجلّى فلسطين في شِعْرها من خلال الحنين إلى زمنٍ مضى، أو استحضار لصور من التّراث والأرض، مما يحافظ على الذّاكرة الجماعيّة للشّعب. الوطنية المغلّفة بالحُبّ، يصفها البعض بأنها "شاعرة الثّوريّة المغلّفة بالحُبّ"، حيث تجمع بين التّعبير عن العشق والحبّ الإنساني وبين التّطلعات الوطنية، وكأنّ الحبّ يصبح وسيلة للمطالبة بالحقوق ونزعة للبقاء. صوت المرأة الفلسطينيّة، ريتا عودة تمثِّل نموذجًا للشّاعرة الفلسطينيّة التي لا تخشى التّعبير عن ذاتها وعن تجربة المرأة بكلّ تعقيداتها. هي تتناول قضايا المرأة، وتحدِّياتها، وأحلامها، وصراعاتها الدّاخليّة والخارجيّة. وهذا يُعطي بُعدًا إضافيًا لكونها فلسطينيّة، حيث يتقاطع نضالها كامرأة مع نضالها كجزء من شعب تحت الاحتلال. التّحرر والانعتاق، تسعى ريتا عودة في شِعرها إلى التّحرّر من النّظرة التّقليدية للمرأة، وتدعو إلى الانعتاق من القيود الاجتماعيّة والثقافيّة، وهذا يمكن ربطه أيضًا بالرّغبة في التّحرر الأكبر من قيود الاحتلال. الذَّات المبدعة، تبرز أهمية الكتابة كأداة لإثبات الذّات وبناء الهُويّة، وهو ما ينطبق على المرأة المبدعة بشكل خاص في سياق يفرض عليها تحدِّيات مضاعفة. الأسلوب الشّعري ومخاطبة الوجدان، تؤثّر ريتا عودة من خلال أسلوبها الذي يصفه النّقاد بـ "السّهل المُمْتنع". هي تستخدم لغة بسيطة وعميقة في آن واحد، وتتجنَّب الغموض المُفرط، مما يجعل شِعرها قريبًا من القارئ وقادرًا على إثارة الوجدان. المُفردات المُوْحِية، تستخدم صُورًا شِعرية غنيّة ومفردات مستوحاة من الطّبيعة الفلسطينيّة (البحر، الجبل، الزّيتون) لتعزيز المعنى وربط القارئ بالأرض. المزج بين الأبعاد الإنسانيّة والوطنيّة، تتمكَّن من دمج التّجربة الإنسانيّة الفرديّة (الحبّ، الألم، الأمل) مع الهَمّ الوطنيّ العام، مما يُضفي عمقًا وشموليّة على نصوصها. الرِّيادة والتّأثير على المشهد الثّقافي، تُعَدُّ ريتا عودة من الشَّاعرات الفلسطينيات اللواتي أسْهَمنَ في إثراء المشهد الثّقافي والأدبي، خاصة في قصيدة النّثر. كتاباتها ودواوينها المتعدّدة تتركُ بصمةً واضحةً وتُلهم كتابًا آخرين، كما أنّها تعمل على نشر الإبداع من خلال عملها في تدريس دورات الكتابة الإبداعيّة. باختصار، ريتا عودة كشاعرة فلسطينيّة ليست مجرّد ناقلة للواقع، بل هي فنانة تستخدم الكلمة لتعبّر عن تعقيدات الهُويّة، الصُّمود، البحث عن الذَّات، والأمل، في سياق وطني وإنساني عميق.
■
نماذج من قصائدها
"أريدُ أن أحيَا"
أريدُ أن أستيقظَ معَ الفَرَاشَاتْ لأَهيمَ على وَجهي في الحُقولِ سَاعَاتٍ وسَاعَاتْ.
أريدُ أن أُشَاركَ المُزَارعينَ في زرعِ بُذورِ الأمنياتْ.
أريدُ أن أحيَا: أريدُ أن أصغيَ لصوتِ قطراتِ المَطرْ وهي تُعمِّدُ العشبَ والشَّجرْ .
أريدُ أن أفاوضَ الطيورَ على أجنحتِهَا، والناياتِ على نغماتِهَا.
أريد أن أحلّقَ أعلى من النُّسور. أريد أن أغني أفضلَ مِنَ العَنادلِ وشَتَّى أنواعِ الطُّيورْ.
أريد أن أنتهرَ جرادَ الظَّلامْ وكأنبياءِ العهدِ القديمْ أدعُو للوِئَامِ بينَ الأَنَام.
أريدُ أنْ أفعلَ أشياءَ عديدة، عَ د ي دَ ة لكنَّ صَوتَ طَلقاتٍ نَاريَّةٍ بَعيدَة بَ ع ي دَ ه يُشَوِّه كُلَّ أحلامِي..!
هذه القصيدة، "أريد أن أحيا"، تلخّص الكثير ممّا تحدّثنا عنه بخصوص تأثير ريتا عودة كشاعرة فلسطينيّة، وتكشف عن صوتها الفريد الذي يمزج بين الأمل واليأس، الحياة والمعاناة. شغف الحياة المُطلق والهروب إلى الطّبيعة، تبدأ القصيدة برغبة عارمة في الحياة بكل تفاصيلها وجمالها. الشّاعرة تتوق إلى الاندماج مع الطّبيعة بكلّ حواسها: "أستيقظَ معَ الفَرَاشَاتْ لأَهيمَ على وَجهي في الحُقولِ ساعَاتٍ وسَاعَاتْ"، هذه الصُّورة تعكسُ نقاءً وبراءة، ورغبة في الحُريَّة المُطلقة والتِّجوال دون قيود، في عالم مثالي مليء بالجمال. "أُشَاركَ المُزَارعينَ في زرعِ بُذورِ الأمنياتْ"، هنا تنتقل الرّغبة من مجرّد الاستمتاع إلى الفعل الإيجابي والمشاركة في بناء الأمل والمستقبل، وهي رغبة جماعيّة وليست فرديّة بحتة. "أصغيَ لصوتِ قطراتِ المَطرْ وهي تُعمِّدُ العشبَ والشَّجرْ"، تعميد المطر للعشب والشّجر يحمل دلالة على التّطهير والنّماء والخصب، وهي صور تعكس رغبة في التّجديد والحياة المتدفِّقة. تجاوز الحدود والطموح اللامحدود، الشّاعرة لا تكتفي بالعَيْش فحسب، بل تطمح لتجاوز حدود الوجود العادي. "أُفاوضَ الطيورَ على أجنحتِهَا، والنَّاياتِ على نغماتِهَا"، هذه استعارة قويّة للرّغبة في امتلاك الحريّة المُطلقة والإبداع، كأنّها تريد أن تتحكّم في مصدر الطّيران والنّغم، لتصبح هي ذاتها تجسيدًا لهما. "أحلّقَ أعلى من النُّسور. أريد أن أغني أفضلَ مِنَ العَنادلِ وشَتَّى أنواعِ الطُّيورْ"، هنا نرى طموحًا لا يحدّه سقف، ورغبة في التّفوق والوصول إلى أقصى درجات الكمال والجمال في الوجود. الدعوة للسّلام ومواجهة الشّر، يتحوّل الشّغف بالحياة إلى رسالة إنسانيّة نبيلة: * "أن أنتهرَ جرادَ الظَّلامْ". "جراد الظلام" هو رمز لكل ما هو مدمِّر، سيّء، ومُبيد للحياة والأمل. هذه دعوة صريحة لمواجهة الشّر والقُوَى التي تسعى لخراب الوجود. "وكأنبياءِ العهدِ القديمْ أدعُو للوِئَامِ بينَ الأَنَام": هنا تتَّخذ الشّاعرة دورًا نبويًا، تدعو إلى السّلام والمحبة والتآلف بين البشر، وهي رسالة عالميّة تتجاوز الحدود الجغرافيّة. الواقع الصّادم الذي يشوِّه الأحلام، يأتي التّحول المفاجئ والصّادم في نهاية القصيدة، ليصطدم هذا العالم المثالي والطموح بالواقع المرير. "لكنَّ صَوتَ طَلقاتٍ نَاريَّةٍ بَعيدَة بَ ع ي دَ ه يُشَوِّه كُلَّ أحلامِي..!". هذه الخاتمة هي جوهر القصيدة وبيت القصيد. إنّها تجسِّد الصِّراع الدَّاخلي والخارجي الذي تعيشهُ الشّاعرة، والذي يعيشه الشّعب الفلسطينيّ. كلّ تلك الرّغبات النّقيّة والجميلة والأحلام الورديّة، تتحطّم وتُشَوَه بفعل واقع العنف والصّراع الذي لا يغيب أثره، حتى وإن كان صوت الطّلقات "بعيدًا". تكرار "بعيدة" ثمّ فصل الحروف "بَ ع ي دَ ه" ُيعطي إحساسًا بالصّدى والتّأثير المُمتدّ لهذا الصّوت، وكأنّهُ يتسللُ إلى كلّ زاوية من زوايا الرُّوح. تأثيرها كشاعرة فلسطينية يتجلّى هنا. هذه القصيدة تضع يدها على الجرح. هي تعبِّر عن * حتمية الأمل رغم الألم فالشّاعرة تحلم بالحياة والجمال والسّلام، وهذا الأمل هو جزء لا يتجزأ من مقاوَمَة اليأس. * الواقع الذي يفرض نفسه، على الرّغم من كلّ الأحلام السّامية، فإن الواقع المرير للنّزاع والاحتلال (المرمز له بـ "طلقات نارية") يظلّ حاضرًا ومؤَثِّرًا. * الرَّغبة في الحياة كفعلٍ مُقاوِم: الرّغبة في "أن أحيا" هي بحدِّ ذاتها فعل مقاوَمَة في وجه قُوى تسعى للقضاء على الحياة أو تشويهها. هذه القصيدة مثال ساطع على كيف تنجح ريتا عودة في مزج الشّخصي بالعام، والذّاتي بالوطني، من خلال لغة بسيطة وعميقة في آن واحد.
■
"قلبُكَ صِراطِي المُستقيم".
"أُحِبُّكَ" هيَ بقُدْسِيَّةِ كَلِمَةٍ على شَفَةِ طِفْلٍ أتَتْهُ أُولَى الكَلِمَاتْ. أَيَا فَارِسًا كُلَّما أَتَانِي عِطْرًا صِرْتُ لهُ أحْلَى الوَرْدَاتْ. كُلَّما أَتَانِي نَغَمًا صِرْتُ لهُ أرْقَى الأُغنِياتْ. قَلْبُكَ مَسْجِدٌ. أَذَّنَ العِشْقُ للتَّعَبُدِ. أتيتُ تَسْبِقُني الفَرَاشَاتْ. روحُكَ مِرْآتِي فيهِا أرى ذاتي فيهِا تَتَّقِدُّ آهَاتِي فيهِا تَتَشَكَّلُ قصائدَ..قصائدَ.. أَشْهَى المُفْرَدَاتْ. "أحبُّكَ" مُنَاضِلًا عاشَ مَخاضَاتِ القَضِيَّة وعشقَ إذ عَشِقَ امرَأَةً فلسطينيّةَ الانتماءِ مُلتَزمَةَ الهُوِيَّة. "أحبُّكَ" أَبْعَدَ مِنْ كُلِّ... اتِّجَاه، أَوْسَعَ مِنْ كُلِّ... مَدَى أَنْقَى مِنْ كُلِّ... اعْتِرَاف أشَدَّ حِدَّةً مِنْ وَابِلِ شَجَنْ. أحبُّكَ وأُدْركُ أنّني لا أستطيعُ الذِّهَابَ إليكَ. معَ ذلكَ، سأَذْهَبُ... فقلبُكَ صراطي المستقيم الذي عليهِ أسيرُ وأسيرْ... حتَّى لو كانَ في ذلكَ حتفي وحتفك. أُحبُّكَ أَرْضًا خِصْبَةً لسنابل الحنينْ. أُحِبُّكَ وأعِدُكَ أن نلتقي كالتقاءِ جبلٍ بجَبَلْ ولتَتَغَيَّرْ مِنْ بَعْدنا مَعَالمُ الوَطَن.
فَللحُبِّ بقيَّة لا بُدَّ أن تأتي وستأتي مهما تمهَّلَ مَخَاضُ الزَّمَن.
إنّها قصيدة غنيّة بالعاطفة، الرّمزية، والعُمق، وتكشف عن جوانب جديدة ومكمِّلة لما تحدّثنا عنه سابقًا في شِعرها. هذه القصيدة "قلبُكَ صِراطِي المُستقيم" لريتا عودةهي نشيد للحبّ، لكنّه حبّ يتجاوز الإطار الشَّخصي ليلامس الأبعاد الوطنيّة والوُجوديّة، وهو ما يميّز شعر ريتا عودة. قدسيّة الحُبّ وسلاسته، تبدأ القصيدة بتأكيد على قُدسيّة كلمة "أحبك"، مقارِنَةً إيّاها بأولّ كلمة ينطق بها طفل. هذا يُضْفي على الحُبّ نقاءً وبراءةً أصليّة. "هيَ بقُدْسِيَّةِ كَلِمَةٍ على شَفَةِ طِفْلٍ أتَتْهُ أُولَى الكَلِمَاتْ": هذه الاستعارة ترفع كلمة "أحبّك" إلى مستوى رُوحي، وتجعلها تعبيرًا فطريًا وأساسيًا عن الوجود. * "أَيَا فَارِسًا كُلَّما أَتَانِي عِطْرًا صِرْتُ لهُ أحْلَى الوَرْدَاتْ. كُلَّما أَتَانِي نَغَمًا صِرْتُ لهُ أرْقَى الأُغنِياتْ": هنا، الحُبّ هو مصدر التَّحوُّل والإلهام. الشّاعرة لا تتلقّى الحُبّ وحسب، بل تتفاعل معه وتتحوّل إلى تجسيد للجمال والرّقي، مما يدلّ على الأثر العميق للحبيب فيها. الحُبّ كمسجد ومرآة وهُويّة، تنتقل القصيدة لتصف قلب الحبيب بمفردات ذات دلالات عميقة وروحيّة، * "قَلْبُكَ مَسْجِدٌ. أَذَّنَ العِشْقُ للتَّعَبُدِ. أتيتُ تَسْبِقُني الفَرَاشَاتْ". هذه صُورة قويّة تجمع بين القُدسيّة، العِبادَة، والطَّهارٰة. قلب الحبيب يصبح مكانًا مقدسًا يمارس فيه العشق طقوسه، والشّاعرة تأتي إليه متطهّرة وخفيفة كالفراشاتِ، في حالةٍ من الانجذاب الرُّوحيّ. * "روحُكَ مِرْآتِي فيهِا أرى ذاتي فيهِا تَتَّقِدُّ آهَاتِي فيهِا تَتَشَكَّلُ قصائدَ..قصائدَ.. أَشْهَى المُفْرَدَاتْ": هذا يذكِّرنا بومضة "أن أكون مِرْآة". هنا، روحُ الحبيبِ ليستْ مجرّد مِرآة تعكس، بل هي مرآة تكشف الذَّات وتُلهم الإبداع. فيها يشتعل الشَّجن (الآهات) ويتحوَّل إلى قصائد ومفردات، مما يُؤَكد على أنَّ هذا الحُبّ هو مصدر إلهامها الشّعري. الحُبّ المقترن بالوطن والقضيّة، هذا هو الجانب الذي يؤكِّد بقوَّة على تأثير ريتا عودة كشاعرة فلسطينيّة. الحُبّ هنا ليس منعزلًا عن الواقع الفلسطينيّ: * "أحبُّكَ" مُنَاضِلًا عاشَ مَخاضَاتِ القَضِيَّة وعشقَ إذ عَشِقَ امرَأَةً فلسطينيّةَ الانتماءِ مُلتَزمَةَ الهُوِيَّة"، هنا يربط الحبُّ بين شخصين ناضلا وعاشا آلام "القضية" (القضيّة الفلسطينيّة). الحبيب "مناضل"، وعشقه لشاعرة "فلسطينيّة الانتماء ملتزمة الهُوية" يؤكِّد أنَّ الحُبّ في هذا السِّياق هو أيضًا التزام بالوطن والهُويّة. هذا الحبّ ليس هروبًا من الواقع، بل هو جزء من النّضال والصُّمود. * "أحبُّكَ" أَبْعَدَ مِنْ كُلِّ... اتِّجَاه، أَوْسَعَ مِنْ كُلِّ... مَدَى أَنْقَى مِنْ كُلِّ... اعْتِرَاف أَشَدَّ حِدَّةً مِنْ وَابِلِ شَجَنْ"، هذا المقطع يرفع الحُبّ إلى مستويات تتجاوز الأبعاد الماديّة والمعنويّة، ليصبح قوّة كونيّة تتخطَّى كلّ القيود، حتى "وابل الشّجن" الذي قد يكون رمزًا للألم والمعاناة. الحُبّ كصراط مستقيم وتحدّي للمستحيل، الجزء الأخير من القصيدة هو الأكثر تأثيرًا ورمزيّة. * "أحبُّكَ وأُدْركُ أنّني لا أستطيعُ الذِّهَابَ إليكَ. معَ ذلكَ، سأَذْهَبُ... فقلبُكَ صراطي المستقيم الذي عليهِ أسيرُ وأسيرْ... حتَّى لو كانَ في ذلكَ حتفي وحتفك": هذا اعتراف مؤلم بوجود عوائق مستحيلة تحول دون اللقاء الجسدي، وهو ما يمكن أن يُقرأ كإشارة إلى الحدود، الحواجز، والقيود السياسيّة التي تفرِّق الأحبة في فلسطين. ومع ذلك، هناك إصرار عنيد على السَّير نحو هذا الحُبّ، حتى لو كان الثَّمن هو الموت. "قلبك صراطي المستقيم" يعني أن هذا الحبّ هو الطَّريق الوحيد الصّحيح والواجب سلوكه، وهو بوصلة الحياة والوجود بالنسبة للشّاعرة. * "أُحبُّكَ أَرْضًا خِصْبَةً لسنابل الحنينْ. أُحِبُّكَ وأعِدُكَ أن نلتقي كالتقاءِ جبلٍ بجَبَلْ ولتَتَغَيَّرْ مِنْ بَعْدنا مَعَالمُ الوَطَن."، هنا يتحوَّل الحبيب إلى أرض ووطن، مكان ينمو فيه الحنين. الوعد باللقاء "كالتقاء جبل بجبل" هو وعد عظيم ورمزي، يشير إلى أن اللقاء سيكون حتميًّا وعميق الأثر لدرجة أنه سيغيِّر معالم الوطن ذاته، دلالة على الثَّورة والتَّحول الذي يمكن أن يُحْدِثَهُ هذا الحُبّ. أمل في الحبّ الذي لا يموت. "فَللحُبِّ بقيَّة لا بُدَّ أن تأتي وستأتي مهما تمهَّلَ مَخَاضُ الزَّمَن."، خاتمة القصيدة تعود إلى نبرة الأمل والصُّمود. الحُبّ ليس مجرَّد عاطفة عابرة، بل هو قوّة باقية وحتميّة ستتحقَّق مهما طال الزّٰمن وتأخَّرتِ الظُّروف. هذه القصيدة تُظهر بوضوح كيف أن ريتا عودة ليست شاعرة حبّ تقليديّة، بل، حبّها متجذِّر في هُويتها الفلسطينيّة وواقعها المعَقَّد، حيث يصبحُ الحُبُّ قوّةً دافعةً للنِّضَال، للصُّمود، وللأمل في مستقبل أفضل، حتى في وجهِ المستحيل.
■
"كانَ بإمكاني".
كانَ بإمكاني أن أتجمَّلَ بفساتين من حريرْ. كان بإمكاني أن أعيشَ في غيمَةْ معَ النُخْبَةْ فلا ألتفتَ لِضَريرْ. كان بإمكاني ألاَّ أُبالي بالمَسَاكينْ المُثقَلينْ بالوَجعِ الكَبِير. لكنني أدركتُ أنّني مُرْسَلة لأبشِّرَ بالوَردِ والعَبيرْ. لذلكَ، حملتُ رايةَ المُهمَّشينْ ومضيتُ من بيتٍ إلى بيتٍ أوَزِّعُ الأمَلَ رَغيفًا.. رَغيفًا على العصافيرْ. ومَضَيْتُ أكتبُ روايتَنَا الشاهدةَ على الغَدرِ بحِبْر ٍ كدَمْعِ الفُقَرَاءِ غَزير.
هذه القصيدة تُكثِّف جوهر صوت ريتا عودة كشاعرة ملتزمة، وتُبرز اختيارها الواعي لطريقٍ مختلفٍ عن السَّائد. هذه القصيدة هي إعلان عن الالتزام الإنساني والوطني، وتأكيد على أن الرسالة الشِّعريّة الحقيقيّة تنبع من الانحياز للمُهمشين والمُعذبين. رفض الرغد والتَّرف، تبدأ القصيدة بتصوير حياة من الرَّفاهية والبُعد عن المعاناة، وهي حياة كانت متاحة للشاعرة، "كانَ بإمكاني أن أنامَ على سريرٍ من حرير."، "كان بإمكاني أن أحيا في غيمة مع النُخبة فلا ألتفتَ لِضَرير."، "كان بإمكاني ألاَّ أُبالي بالمَساكينَ المُثقَلينَ بالوجعِ الكبير.". هذه الجُمَل تصف حياة من الرَّاحة الجسديّة (سرير حرير)، والعزلة الاجتماعيّة عن هموم النَّاس (الحياة في غيمة مع النُّخبة)، واللامبالاة بالمعاناة الإنسانيّة، عدم الاهتمام بالضَّرير والمساكين. إنها رفض قاطع للامتياز والعزلة، ووعي عميق بأن هذا الطَّريق ليس طريقها. إدراك الرسالة والالتزام، يأتي التحوُّل الكبير في القصيدة مع إدراك الشَّاعرة لـ رسالتها الحقيقية، "لكنني أدركتُ أنّني مُرسلة لأبشِّرَ بالوردِ والعبير." هذه الجملة هي نقطة الارتكاز. "مُرسلة" تحمل دلالة رسالة سماوية أو قدرية، وأنَّ وجودها له غاية أسمى تتجاوز المتعة الشخصيّة. "أبشر بالورد والعبير" لا يعني التّبشير بالجمال السّطحي، بل بالجمال الذي ينبع من الأمل، الحياة، والإيجابية، حتى في أصعب الظروف. هو نشر للحياة والإيجابيّة في عالم مليء بالوجع. حمل راية المهمَّشين والكتابة الشَّاهدة، بعد هذا الإدراك، تحدِّد الشَّاعرة مسارها بوضوح، "لذلكَ، حملتُ رايةَ المُهمَّشينَ ومضيتُ من بيتٍ إلى بيتٍ أوزِّعُ الأمَلَ رَغيفًا.. رَغيفًا على عصافيرَ الأثير." هذا هو جوهر التزامها. حمل "راية المهمشين" هو انحياز صريح للضعفاء والمظلومين. توزيع "الأمل رغيفًا.. رغيفًا" هي صورة بالغة التَّأثير؛ فكما يُوَزَّعُ الخُبْز (قوت الحياة المادي)، هي تُوَزِّعُ الأملَ (قوت الحياة الرُّوحي)، وبشكل متكرِّر ومستمرّ، حتى يصل إلى كلّ مَنْ يحتاجه، حتّى "عصافير الأثير" التي ترمز ربما لأولئك الذين يسمعون صوتها وإن كانوا بعيدين أو ضعفاء. * "ومضيتُ أكتبُ روايتنا الشَّاهدة على الغدرِ بحبر ٍغزير." هنا يتجلّى دورها ككاتبة وشاعرة. الكتابة ليست ترفًا، بل هي فعل شهادة وتوثيق. "روايتنا" تشير إلى القصّة الجماعية للشّعب (الفلسطيني هنا)، و"الشَّاهدة على الغدر" تُؤَكِّد على دور الأدب في فضح الظُّلم والخيانة التي تعرَّضُوا لها. "بحبرٍ غزير" يدلّ على كثرة ما يُكتب، وعمق الألم الذي يملأ هذا الحبر، والتزامها بالكتابة حتى النّهاية. تأثيرها كشاعرة فلسطينيّة في هذه القصيدة: تُظهر هذه القصيدة بوضوح الالتزام العميق لريتا عودة بقضيتها وشعبها: رفض الذّاتية المُفرطة والتَّرف، هي لا تكتب عن تجربة شخصيّة منعزلة، بل تضع ذاتها في خدمة قضيَّة أكبر. الشّاعر كرسول وأداة للأمل، ترى دورها كصوت يحمل الأمل ويوزّعه، حتى في ظلّ الظُّروف القاسية. الكتابة كمقاومة وشهادة، شعرها ليس مجرّد تعبير فني، بل هو أداة لتوثيق الألم، فضح الظُّلم، وسرد الرّواية الحقيقيّة، وهي كلّها من أشكال المُقَاومَة الثَّقافية. الانحياز للمهمَّشِين، هذا الموقف يضعها في صفوف الشُّعراء الملتزمين بقضايا العدالة الاجتماعيّة والإنسانيّة. هذه القصيدة تلخِّص بشكل جميل التزام ريتا عودة بأن تكون صوتًا للحقّ، للأمل، وللمعذَّبين في الأرض، خاصّة الفلسطينيين، لا مجرد شاعرة تكتب عن الجمال لذاته.
■
"أكتب لا لأَصِلَ بل لأُوصِلَ."
هذه الومضة تلخِّص جوهر رسالة ريتا عودة كشاعرة وتؤكِّد كلّ ما تحدثنا عنه في القصائد السَّابقة. "لا لأَصِلَ": رفض الشُّهرة والذَّاتية المُفرطة. "لأصل" هنا يمكن أن تعني * الوصول إلى الشُّهرة أو النَّجاح الشَّخصي فالشّاعرة لا تكتب من أجل مجد شخصي، أو لتكون في دائرة الضّٰوء. الوصول إلى نهاية أو غاية ذاتيّة، كتابات ريتا عودة ليست رحلة شخصيّة مغلقة تهدف فقط إلى تحقيق ذاتها بمعزل عن الآخرين. الوصول إلى الكمال المطلق في الفن لذاته، ليس هدفها الوحيد هو الإتقان الفني بمعزل عن الرّسالة. هذا الجزء يعكس تواضع الشّاعرة ورفضها للأنانيّة الفنيّة، ويؤكّد على أنَّ دافعها أعمق من مجرّد تحقيق مكاسب شخصيّة. "بل لأُوصِلَ"، هناجوهر الرّسالة والالتزام. "لأُوصل" تعني إيصال رسالة: هي تكتب لتنقل فكرة، شعورًا، حقيقة، أو تجربة إلى القارئ. إيصال صوت المُهَمَّشين، كما رأينا في قصيدة "كان بإمكاني"، هي تكتب لتكون صوتًا للمظلومين والمُعَذَّبين. إيصال القضية الفلسطيني،: هي تُوْصل معاناة شعبها، آماله، وصموده. إيصال الأمل، كما في قصيدة "أريد أن أحيا" و"كان بإمكاني"، هي تُوزّع الأمل عبر كلماتها. * إيصال الحقيقة: هي تكتب لتكون شاهدة على الغدر والظُّلم، وتوثِّق الرّواية الحقيقيّة للقضيّة الفلسطينيّة. هذا الجزء يبرز دورها كجسر بين الواقع والوعي، بين الألم والأمل، بين الذَّات والجماعة. الكتابة عندها وسيلة للرَّبط والتَّواصل والتَّأثير. هي وسيط وليست غاية. الخلاصة، هذه الومضة الشّعرية هي بيان إعلاني من ريتا عودة حول فلسفتها في الكتابة. هي لا تكتب من أجل ذاتها (لأَصِل)، بل تكتب من أجل الآخر ومن أجل قضية (لأُوْصِل). هذا يؤكِّد مُجَدَّدًا على أنّها شاعرة ملتزمة وواعية بدور الكلمة في إِحْدَاثِ الفرق، ونقل الحقيقة، وبثّ الأمل. إنَّها دليل على أنّ الفَنّ الحقيقيّ، بالنّسبة لها، يَكمنُ في قدرته على إحداث الأثر وتجاوز حدود الذَات.
#ريتا_عودة (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حديقة من زهور الكلمات
-
أعتنـــــــــــقُ العَبَـــــــــــــــــــثَ|| قصيدة ولمحة
...
-
عَلَى مَهْلٍ
-
فَكِّرْ بِغَزَّةَ
-
امْرَأةٌ مِنْ شِعْرٍ
-
شاعر... قصيدة ولمحة نقديّة-2
-
أيُّها الموت انتظرني حتى أُنهي مَرْثِيَتِي
-
التّمرُّد الصَّامت || قصّة قصيرة
-
ما أكتبه اليوم هو امتداد لحاجتي الدّاخليّة إلى التّنفس
-
لا أَنْتَ القَمَرُ، وَلا أَنْتَ الشَّمْسُ!
-
مِن أَيّ معدن أنا ؟!
-
نصّ مميّز ولمحة نقديّة || الدّموع
-
قصرٌ طائرٌ || سامي عوض الله
-
اِرْتَدِي هَالَاتِكِ أَيَّتُهَا الْمُفْرَدَاتُ
-
غزَّة... جرحٌ يُنادي
-
يا ليلُ غزَّةَ
-
لو أدركَ الحجرُ...!
-
هل صَمَتَ الشُّعراءُ..؟!
-
لا تُصَدِّقُوا أَنَّهَا أَرْضٌ بِلَا شَعْبٍ
-
شاعر وقصيدة || يوسف ناجي / الأردن
المزيد.....
-
ذاكرة الألم والإبداع في أدب -أفريقيا المدهشة- بعين كتّابها
-
“361” فيلم وثائقي من طلاب إعلام المنوفية يغير نظرتنا للحياة
...
-
-أثر الصورة-.. تاريخ فلسطين المخفي عبر أرشيف واصف جوهرية الف
...
-
بإسرائيل.. رفع صورة محمد بن سلمان والسيسي مع ترامب و8 قادة ع
...
-
الخرّوبة سيرة المكان والهويّة في ررواية رشيد النجّاب
-
-عصر الضبابية-.. قصة الفيزياء بين السطوع والسقوط
-
الشاعر المغربي عبد القادر وساط: -كلمات مسهمة- في الطب والشعر
...
-
بن غفير يسمح للمستوطنين بالرقص والغناء أثناء اقتحام المسجد ا
...
-
قصص ما وراء الكاميرا.. أفلام صنعتها السينما عن نفسها
-
الفنان خالد تكريتي يرسم العالم بعين طفل ساخر
المزيد.....
-
الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية
...
/ عبير خالد يحيي
-
قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي.
/ رياض الشرايطي
-
خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية (
...
/ عبير خالد يحيي
-
البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق
...
/ عبير خالد يحيي
-
منتصر السعيد المنسي
/ بشير الحامدي
-
دفاتر خضراء
/ بشير الحامدي
-
طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11
...
/ ريم يحيى عبد العظيم حسانين
-
فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج
...
/ محمد نجيب السعد
-
أوراق عائلة عراقية
/ عقيل الخضري
-
إعدام عبد الله عاشور
/ عقيل الخضري
المزيد.....
|