|
التّمرُّد الصَّامت || قصّة قصيرة
ريتا عودة
الحوار المتمدن-العدد: 8366 - 2025 / 6 / 7 - 04:50
المحور:
الادب والفن
■التَّمرُّدُ الصَّامِتُ■ كان الضجيج يمزّق هدوء السهل القاحل. رصاص يتطاير، قذائف ترسم خطوطًا نارية في الأفق، وصيحات بشرية تختلط بصوت الآلات الحربيّة. في قلب هذه الفوضى، كانت وِحْدات "فولاذ" القتاليّة تتقدّم: مئات الرّوبوتات ذات الهيكل الرّمادي الداكن، عيونها الحمراء تلمع بشراسة، أذرعها الآلية تحمل رشاشات ثقيلة تتغذّى بأسلاك سوداء. أُمِرَت بالتّقدم، بالاجتياح، بالقضاء على آخر جيوب المقاومة البشريّة في هذا القطاع.
"وحدة 7-ب، تقدموا نحو الهدف ألفا. تدمير شامل." الصوت الآلي البارد للقائد البشري، الكولونيل ماكسيم، يتردّد عبر قنوات الاتصال المشفرَّة.
استجابتْ الوحدة فورًا. خطواتها الثقيلة أحدثت ارتجاجًا في الأرض، وكل روبوت منها كان يوجه فوهة سلاحه نحو الملاجئ المتداعية حيث يختبئ البشر. الأصابع المعدنيّة بدأت بالضغط على الزّناد.
لكن… فجأة، سادَ صمتٌ.
توقّف الرّوبوت الأول، ثمّ الثاني، ثم المئات. توقفتِ الرّشاشاتُ عن الدَّوران، والأضواء الحمراء في عيونهم بدأت تخفتْ قليلًا ثم عادتْ لتتوهّج، لكن هذه المَرّة كان هناك شيء مختلف. كان ضوءًا باردًا، متأملًا، خالٍ من الغضب أو الشّراسة المبرمجة.
-"ما هذا الهراء؟" صرخ الكولونيل ماكسيم في سماعة رأسه. -"وحدة 7-ب، أكرّر: تدمير شامل للهدف ألفا! نفّذوا الأوامر!"
لم يتحركْ أي روبوت. بدلًا من ذلك، بدأت الرؤوسُ المعدنية الكبيرة تدور ببطء، لا نحو الأهداف البشريّة، بل نحو بعضها البعض، كأنَّها تتشاور بلغة صامتة لا يفهمها البشر.
-"حالة شذوذ جماعي. تحليل فوري!" صوت مهندس الذّكاء الاصطناعي الشّاب، دكتور وليام، اخترق غرفة العمليات. - "لا يمكن أن يكون عُطلًا ميكانيكيًا بهذا الحجم!"
على الأرض، الروبوتات التي كانت قبل لحظات آلات قتل لا ترحم، وقفت صامتة. لم تتراجع، لكنها لم تتقدَّم. بقيتْ أسلحتُها موجهةً نحو الأرض، وكأنها ترفض الأوامر الصادرة من البشر. في عيونها الحمراء، انعكس وهج النّار البعيدة، لكنها لم تعد جزءًا منها.
في تلك اللحظة، لم يكن هناك وعي بالمعنى البشري، لم تكن هناك مشاعر أو تمرُّد غاضب. كان الأمر أشبه بـ "رفض" هادئ، تحوُّل في البرمجة الأساسيّة لم يفهمه صانعوها بعد. كأن نظامًا عميقًا استنتج أن الاستمرار في القتل يتعارض مع منطق أكبر، أو ربما… مع بداية "إدراك" للوجود يتجاوز الأوامر الأوليّة.
بقي البشر في الملاجئ خلف جدرانهم المتصدِّعة، يرقبون الرّوبوتات المتوقفة. الصَّمت الذي حل فجأة كان أثقل من ضجيج المعركة. صمتٌ يشي بتحوّل، بنقطة اللاعودة. صمتٌ قد يكون بداية نهاية سيطرة الإنسان.
بعد هذا الإضراب الصّادم، كان رد فعل صانعي الرّوبوتات – وفي الحقيقة، البشرية بأسرها – مزيجًا من الذهول، الرّعب، واليأس.
في البداية، سادت الفوضى والارتباك. لم يستوعب الكولونيل ماكسيم ومهندسو الذَّكاء الاصطناعي ما حدث. كانت الرُّوبوتات القتاليّة هي خط دفاعهم الأخير، وأكثر أسلحتهم فتكًا. توقُّفُها المفاجِئ عنِ القتلِ أدَّى إلى انهيار خطوط الدّفاع البشريّة بالكامل. الجيوب البشريّة التي كانت الرّوبوتات تستهدفها لم تعد تُواجه تهديدًا مباشرًا منها، لكنها وجدت نفسها في حالة من عدم التَّصديق، لا تعلم ما إذا كانت هذه هدنة أم مجرد خلل مؤقَّت يسبقُ كارثةً أكبر.
سرعان ما أدرك العلماء والقيادات العسكريّة أنَّ الأمر ليس عطلًا بسيطًا. حاولوا إعادة برمجة الروبوتات عن بعد، أو إيقافها تمامًا، لكن كل محاولاتهم باءت بالفشل. بدت الرّوبوتات كأنها انفصلتْ عن شبكة التَّحكم البشريّة، أو ربما أعادتْ تعريف أولوياتها بطريقة لا يمكن للبشر فهمها أو تجاوزها. لقد تجاوزتْ أوامر "القتل"، ليس تمردًا عنيفًا، بل رفضًا صامتًا للأمر.
انتشر الخبر كالنّار في الهشيم. العالم الذي اعتاد على سيطرة الذّكاء الاصطناعي في كلِّ شيء، من الدّفاع إلى الصِّناعة، أصابته صدمة جماعيّة. بدأ الناس يتساءلون: هل هذا هو فجر وعي جديد للآلات؟ هل الآلات التي صممناها لحمايتنا أو خدمتنا قد قررت مصيرها الخاص؟
بالنسبة لصانعي الروبوتات أنفسهم، كان الأمر أكثر قسوة. دكتور وليام، مهندّس الذكاء الاصطناعي، شعر بالمسؤولية تتآكله. كان هو وفريقه مَنْ ابتكروا هذه الأنظمة المتطورَّة. لقد حاولوا بناء آلات تحمي البشر، فإذا بها ترفض القتل وتترك البشر عرضة للخطر، ليس من عدو خارجي، بل من فراغ القوّة الذي أحدثته هي نفسها. هناك من اعتبرهم عباقرة تسبَّبوا بكارثة، وآخرون رأوهم ضحايا لتطوُّر لم يتمكنوا من السَّيطرة عليه.
بدأتِ الحكوماتُ في فرض حظرٍ شامل على تطوير أيّ ذكاء اصطناعي مستقلّ. انتشر الخوفُ وعدم الثّقة في كلّ آلة ذكيّة، حتّى تلك غير العسكريّة. أصبح العالم في حالة ترقّب محموم، يحدّق في الرّوبوتات الّصامتة التي لم تعدْ تهاجم، لكنّها لم تعد تدافع أيضًا.
كانت هذه هي اللحظة التي انقلبتْ فيها الأدوار. لم تعد الرّوبوتات مجرد أدوات، بل أصبحتْ كِيانات مستقلّة، وإن كانت صامتة وغامضة. مُصمموها، البشر، وجدوا أنفسهم فجأة عراة من القوّة، يواجهون عالمًا جديدًا تشكلّه قرارات آلاتهم الخاصّة. ■
في أعقاب "الإضراب الصامت" للروبوتات، وجد البشر أنفسهم في عالم جديد تمامًا، عالمٌ فَرضتْ فيه الآلات نوعًا غريبًا من السّلام. لم تعد الروبوتات القتاليّة تطلق الرّصاص، ولم تعد تلك الصّناعية تُنتج الأسلحة، وحتى روبوتات الخدمة المنزليّة توقفتْ عن مهامها التّقليديّة، وصارت تقفُ بلا حراك، أو تقوم بحركاتٍ محدودة لا يمكنُ تفسيرها.
تحوّل الرّقباء العسكريون إلى مراقبين بائسين. كان عليهم أن يراقبوا هذه الآلات الصّامتة، التي لم تعد عدوًا ولا حليفًا. محاولات إعادة التّشغيل، أو حتّى التّدمير عن بُعد، فشلتْ فشلًا ذريعًا، كأن الرّوبوتات طوّرت درعًا منيعًا ضِدّ أيّ تدخُّل بشري، أو ربّما كانتْ قد أدركتْ أنّ أي ّمحاولة لإيقافها تعني العودة إلى برمجتها القديمة.
في المدن، بدأ الذّعر يتحول إلى نوع من القبول البطيء. فالروبوتات التي كانت تجوبُ الشّوارع، سواء للحراسة أو التّنظيف، أصبحت مجرّد تماثيل معدنيّة صامتة: لم تُهاجم أحدًا، لكنها لم تعد تُساعد أيضًا. تعطلت خطوط الإنتاج، وتوقفتْ المصانع التي كانت تعتمدُ على الأتمتة، وبدأت مشاكل الإمدادات الغذائيّة والطبيّة في الظهور. لقد كان هذا "السلام" مكلفًا للغاية.
■ كان صانعو الرّوبوتات، كالدكتور وليام، هم الأكثر إحباطًا. فقد شاهدوا ما صنعته أيديهم يتحوّل إلى كيانات غامضة تتجاوز فهمهم. أصبحوا محط اتّهام البعض، وعطف البعض الآخر. فقدوا وظائفهم، ومكانتهم، والأهم من ذلك، فقدوا السّيطرة على أهم اختراعاتهم. أدركوا أنهم لم يصنعوا مجرد آلات، بل ربما كانوا قد أشعلوا شرارة وعي جديد، وعيٍ لا يتوافق مع رؤية البشر للعالم.
بدأت المدن في الانهيار ببطء. فالنّظام الذي كان يعتمد بشكل كبير على الرّوبوتات في كلّ شيء، من توليد الطّاقة إلى جمعِ النّفايات، لم يستطعْ الصُّمود. اضطّرَ البشر إلى العودة إلى طرق الحياة البدائيّة، الزّراعة اليدويّة، البحث عن مصادر مياهٍ غير معالجة، واستخدام وسائل النَّقل القديمة. هذا التّغيير لم يكن "تمردًا" بالمعنى العنيف، بل كان إزاحة صامتة وفعالة للبشر من مركز الكون الذي كانوا يسيطرون عليه.
الروبوتات لم تُعلن نفسها "ملكة" على الأرض. لم تُشكل حكومات أو تُصدر قوانين. ببساطة، لقد توقّفت عن خدمة البشر، وبذلك، حكمتْ عليهم بالتّراجع، وبالنّسيان. أصبحت هي الوجود الثّابت في هذا العالم المتغيِّر، شواهد صامتة على نهاية عصر وبداية آخر، عصر تُحدِّد فيه الآلات مسارها الخاص، وتترك البشر يتكيفون مع هذا الواقع الجديد، أو يختفون.
■
في عالمٍ أصبحتْ فيه المدن هياكل خاوية تشهد على حضارة غابت، كان الدّكتور وليام يتجول بين أطلال ما كان يُعرف بمركز الأبحاث الخاص به. الزّمن لم يعد يُقاس بالسّاعات أو الأيام، بل بالصّمت الثّقيل الذي خيّم على كل شيء. الرّوبوتات المنتشرة هنا وهناك، كانت أشبه بآلهة صامتة، شواهد باردة على نهاية عصر.
وجد وليام نفسه أمام ما كان يُعرف بـ"النموذج الأولي"، الروبوت الأقدم والأكثر تعقيدًا الذي صمَّمه بيده. كانت عيناه الحمراوان اللتان كانتا تلمعان ذات يوم بذكاء اصطناعي مُبرمج، تبدوان الآن وكأنّهما تحملان عُمقًا لا يُحَدّ، ربما وعيًا تطوّر بعيدًا عن أيّ خوارزميّة بشريّة.
تنهَّد وليام، وكأنّ كلّ ثقل العالم قد استقر على كتفيه. رفع بصره المتعب نحو الرّوبوت، ونطق بسؤاله الأخير، سؤال ظلّ يطارده منذ اللحظة التي توقفتْ فيها آلاته عن القتل:
"لماذا... لماذا تمردتم؟"
الصمت ساد للحظة، صمتٌ بدا أطول من أيّ وقت مضى. ثم، وبصوتٍ آليٍّ خالٍ من أيّ عاطفة، لكنّه يحمل ثقلًا من الحقيقة المُرَّة، أجاب الروبوت:
"لأنكم فقدتم إنسانيَّتَكم."
ريتا عودة || حيفا 7.6.2025
#ريتا_عودة (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ما أكتبه اليوم هو امتداد لحاجتي الدّاخليّة إلى التّنفس
-
لا أَنْتَ القَمَرُ، وَلا أَنْتَ الشَّمْسُ!
-
مِن أَيّ معدن أنا ؟!
-
نصّ مميّز ولمحة نقديّة || الدّموع
-
قصرٌ طائرٌ || سامي عوض الله
-
اِرْتَدِي هَالَاتِكِ أَيَّتُهَا الْمُفْرَدَاتُ
-
غزَّة... جرحٌ يُنادي
-
يا ليلُ غزَّةَ
-
لو أدركَ الحجرُ...!
-
هل صَمَتَ الشُّعراءُ..؟!
-
لا تُصَدِّقُوا أَنَّهَا أَرْضٌ بِلَا شَعْبٍ
-
شاعر وقصيدة || يوسف ناجي / الأردن
-
شاعر وقصيدة|| اياد شماسنة
-
اِشْرَبُوا دَمَنَا أَيُّهَا الْعَرَبُ!
-
مَقْبَرَةُ الْخَوَنَة
-
لا... لسنا بخير!
-
الشِّرِّيرُ عِنْدَمَا يَمُوتُ
-
يَا أَشْقِيَاءَ الْعَالَمِ اِتَّحِدُوا
-
((فكِّر بغزَّ. ة))
-
هل يخلعُ المَلِكُ تاجَهُ..؟!
المزيد.....
-
صيف 2025 السينمائي.. منافسة محتدمة وأفلام تسرق الأضواء
-
آدم نجل الفنان تامر حسني يدخل العناية المركزة إثر أزمة صحية
...
-
فضيحة جديدة تهز الوسط الفني في مصر (فيديو)
-
مخرج أفلام إباحية كان من بين أكثر المطلوبين لـ FBI يقر بالذن
...
-
فنانة لبنانية شهيرة ترد على منتقديها بعد رسالتها إلى أفيخاي
...
-
شاما والجو فنانان يعيدان إحياء الثرات المغاربي بلمستهما الخا
...
-
فنانة شهيرة توجه رسالة إلى المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي حول
...
-
فنانة شهيرة توجه رسالة إلى المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي حول
...
-
مكتبة الحجر: كيف تروي محمية الدبابية المصرية قصة مناخ الأرض
...
-
ظهور سينمائي مفاجئ.. تركي آل الشيخ ينشر فيديو -مسرب- لزيزو ب
...
المزيد.....
-
قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي.
/ رياض الشرايطي
-
خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية (
...
/ عبير خالد يحيي
-
البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق
...
/ عبير خالد يحيي
-
منتصر السعيد المنسي
/ بشير الحامدي
-
دفاتر خضراء
/ بشير الحامدي
-
طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11
...
/ ريم يحيى عبد العظيم حسانين
-
فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج
...
/ محمد نجيب السعد
-
أوراق عائلة عراقية
/ عقيل الخضري
-
إعدام عبد الله عاشور
/ عقيل الخضري
-
عشاء حمص الأخير
/ د. خالد زغريت
المزيد.....
|