|
نصّ مميّز ولمحة نقديّة || الدّموع
ريتا عودة
الحوار المتمدن-العدد: 8358 - 2025 / 5 / 30 - 10:10
المحور:
الادب والفن
المقال: الدّموع بقلم: د. الياس اسحق/ الناصرة لمحة نقديّة : ريتا عودة
الدموع (البكاء) في الحزن والفرح: قراءة فلسفية ونفسية وروحانية. نظره من نافذة طبيب ومن المفهوم العام.
الدموع… هذا السائل الصامت الذي ينحدر من العين يحمل في طيّاته أكثر مما يظهر. قد تكون الدموع ناتجة عن ألم لا يُحتمل أو عن فرح طاغٍ لا تسعه القلوب. ولعلّ من يلامس هذه الحالات يوميًا هو الطبيب لا من خلال كتب الطب فقط بل من خلال التجربة اليومية المباشرة مع البشر وآلامهم وأفراحهم. كطبيب كم مرة رأيت دموع أمّ تذرفها فرحًا بعد أن بُشّرت بنجاة طفلها من مرض خطير؟ وكم مرة وقفت عاجزًا أمام دموع أب فقد ابنه رغم كل محاولات إنقاذه؟ الدموع في المستشفيات لا تحتاج إلى تفسير فهي لغة عالمية تُترجم المشاعر الإنسانية بأبلغ من الكلمات. في قاعة الانتظار، في غرفة العمليات، على سرير العناية المركزة… تنزل الدموع وكل دمعة تحمل قصة: أمل، خيبة، وداع، أو ولادة جديدة. ومهنة الطبيب وإن كانت علمًا وفناً فهي أيضًا مهنة قلب يتعلّم أن يقرأ هذه الدموع أن يحترمها وأن يواسي أصحابها دون أن يتبلّد أو يتورّط. بل أحيانًا نحن الأطباء أنفسنا نذرف الدموع – خفية أو علنًا – حين لا تنجح كل العلوم ويغلبنا الإنسان الذي في داخلنا. الدموع إذًا في عالم الطب ليست دليل ضعف بل علامة على عمق الارتباط بالإنسان الآخر. إنها برهان على أننا رغم كل التقنيات والتطورات لا نزال بشرًا نحزن ونفرح مع مرضانا ونشعر بكل قطرة تنزل من عيونهم كما لو كانت تنزل من عيوننا. إذا البكاء، تلك الظاهرة الإنسانية التي تتجلى فيها أصدق مشاعر الإنسان تعد من أعمق الوسائل التي يعبر بها المرء عن أحاسيسه الداخلية سواء كانت حزناً مؤلماً أو فرحاً عارماً. ولئن ارتبطت الدموع بالحزن في الوعي الجمعي فإنها لا تقل حضوراً في لحظات الفرح والانفعال الروحي ما يجعلها موضوعاً جديراً بالتأمل من جوانب نفسية وفلسفية ودينية. يعرف علماء النفس البكاء بأنه “تعبير فيزيولوجي عن حالة انفعالية” وهو رد فعل طبيعي على مشاعر عميقة تتجاوز قدرة الإنسان على التحمل أو الكتمان. وقد قسم العلماء أنواع الدموع إلى ثلاث أنواع. دموع قاعدية: تحافظ على رطوبة العنين. دموع انعكاسية: تنتج عن دخول أجسام غريبة أو مثيرات كالبصل. دموع عاطفية: وهي موضوعنا وتنتج عن مشاعر الحزن أو الفرح أو التأمل الروحي. “البكاء أحد أكثر السلوكيات الإنسانية تعقيداً ولا يحدث بهذا الشكل عند الحيوانات. إنه سلوك يحمل رسالة اجتماعية قوية ويعبر عن الحاجة إلى الدعم أو المشاركة الوجدانية.” البكاء في الحزن أشبه بصمام أمان يحمي الإنسان من الانفجار الداخلي. البكاء لا يعني أنك ضعيف بل يعني أنك إنسان يحس ويشعر ويعبر. وفي لحظات الموت والفقد تصبح الدموع جزءاً من طقوس الفراق تعبيراً عن الحب ووسيلة للوداع. يقول الأديب جبران خليل جبران: "الدموع هي مطافئ الحزن الكبير.” في الفرح قد يبدو غريباً أن تدمع العين في لحظة نجاح أو لقاء محبوب أو في زفاف طال انتظاره لكن علم النفس يفسر هذا البكاء الفَرِح بأنه “تفريغ للطاقة العاطفية المتراكمة” وغالباً ما يحدث عندما يصل الإنسان إلى ذروة انفعاله. “الناس يبكون عند الفرح لأنه من الصعب على الجسد أن يحتوي مشاعر الانتصار أو الامتنان أو التقدير العميق للحياة.” الدموع في هذه اللحظات تعبر عن انتصار داخلي أو انكشاف حقيقة عميقة أو حضور روحاني مفاجئ. وقد ورد في الشعر العربي: أبكيت من فرحي وذابت مهجتي فكأنما الأحزان صارت نعمتي
من اقوال بعض الفلاسفة والحكماء في البكاء:
أرسطو رأى أن البكاء وسيلة لـ”تطهير النفس” (Catharsis)، خاصة من الحزن، وهو جانب رئيسي في التراجيديا اليونانية. ابن القيم الجوزية قال في كتاب “مدارج السالكين”: "البكاء من خشية الله علامة حياة القلب ونوره وهو دواء للذنوب وبلسم للجراح.” غاندي قال: “البكاء يريح القلب عندما يكون الشخص عاجزًا عن التعبير بالكلام.” في بعض الثقافات يُنظر إلى البكاء على أنه ضعف خاصة عند الرجال. إلا أن الدراسات الحديثة تؤكد أن من يبكي يتمتع بصحة نفسية أفضل.أن كبت الدموع يرتبط بزيادة القلق والاكتئاب. تشبه الدموع في الحزن والفرح الندى على أوراق النفس تنبت بعده مشاعر جديدة. إنها ليست ضعفاً بل تعبير عن عمق الإنسان وتجربته. في عالم يغلب عليه الضجيج تبقى الدموع أصدق صوت للروح حين تعجز الكلمات. لا تكبتوا دموعكم ولا تستحوا من انسكابها فإنها ليست عيبًا ولا ضعفًا بل نعمة وهبة تُطهّر النفس وتغسل القلب وتُعبّر عن حياة داخلية ثرية لا يُدركها إلا من تذوّق عمق الشعور الإنساني. تذوّقوا طَعم الدمع متى لزم دون حساب أو خجل فإن كل دمعة صادقة هي شهادة على أنكم ما زلتم أحياء تشعرون وتُحبّون وتخشَون وتفرحون وتؤمنون. في الحزن كما في الفرح افتحوا للدموع نوافذ القلب… فهي ليست سوى لغة الروح حين تعجز اللغة عن البوح. تمنياتي القلبية أن تكون دموعكم دومًا دموع فرح، دموع مناسبات سعيدة وجميلة لا دموع حزن او ألم وأن تملأ حياتكم لحظات الفرح الصادق والبسمات التي تخرج من القلب لتزين وجوهكم وتضيء عيونكم.
د. الياس اسحاق ٢٤ أيار ٢٠٢٥
*****
...لمحة نقديّة...
يمثّل هذا المقال للدكتور الياس اسحق ابن مدينة النّاصرة، محاولةً صادقة وعميقة لاستكشاف ظاهرة الدموع من زوايا متعددة، مقدماً رؤية شاملة تجمع بين البعد الطبي، النفسي، الفلسفي، والروحي. تكمن قوة المقال في لغته الشاعرية التي تلامس الوجدان، وفي قدرة الكاتب على ربط التجربة الإنسانية الملموسة (من خلال عيني الطبيب) بالمفاهيم النظرية.
البداية من منظور الطبيب، التي تعكس تجربة شخصية ومشاعر إنسانية تجاه المرضى، تضفي على المقال مصداقية وعمقاً عاطفياً. هذا النهج يكسر الحاجز بين العلم والمشاعر، ويُظهر أن مهنة الطب لا تقتصر على الحقائق الباردة بل تتجذر في التعاطف البشري. إن استخدام أمثلة واقعية من بيئة المستشفى، مثل دموع الأم الفرحة أو الأب المكلوم، يعزز من تأثير الرسالة ويجعلها ملموسة للقارئ.
من الناحية النفسية، نجح المقال في تبسيط تصنيفات الدموع وتوضيح الفروق بينها، مع التركيز على الدموع العاطفية التي هي جوهر الموضوع. كما أن الإشارة إلى البكاء كـ "صمام أمان" وتأكيد أنه ليس ضعفاً بل تعبير عن الإنسانية يمثل رسالة قوية ومهمة في مجتمع قد يربط البكاء بالضعف. تفسير البكاء في الفرح كتفريغ للطاقة العاطفية المتراكمة هو تفسير علمي منطقي يضيف عمقاً للفهم.
إدراج أقوال الفلاسفة والحكماء مثل أرسطو، ابن القيم، وغاندي يثري المقال بالبعد الفلسفي والروحي، ويربط الظاهرة الإنسانية العميقة بإرث فكري طويل. هذه الاقتباسات تُبرز أن البكاء ليس مجرد رد فعل بيولوجي، بل هو سلوك له دلالات ثقافية وروحية عميقة.
اللغة السلسة والأسلوب الأدبي الذي يتبناه الكاتب يجعله ممتعاً وجذاباً للقراءة، ويساعد على توصيل الأفكار المعقدة بطريقة مبسطة. كما أن الخاتمة التي تدعو إلى عدم كبت الدموع وتعتبرها نعمة وهبة، تترك انطباعاً إيجابياً ومُلْهِمًا لدى القارئ، وتشجعه على تقبل مشاعره الطبيعية.
مع ذلك، قد يستفيد المقال من بعض التوسع في ربط الدموع بالبعد الروحاني بشكل أكثر تفصيلاً، بخلاف الاقتباس من ابن القيم. كيف يمكن أن تكون الدموع وسيلة للتأمل الروحي أو الاتصال بالذات الإلهية، وما هي الأمثلة على ذلك في التقاليد الروحية المختلفة؟ هذا التوسع قد يضيف بعداً أعمق للنقاش.
بشكل عام، يعتبر هذا المقال إضافة قيّمة للمكتبة الفكرية، فهو يقدم قراءة عميقة وشاملة لظاهرة الدموع، تُسهم في إعادة تعريفها في الوعي الجمعي من ضعف إلى قوة، ومن مجرد سائل إلى لغة للروح.
ريتا عودة/ حيفا 30.5.2025
#ريتا_عودة (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قصرٌ طائرٌ || سامي عوض الله
-
اِرْتَدِي هَالَاتِكِ أَيَّتُهَا الْمُفْرَدَاتُ
-
غزَّة... جرحٌ يُنادي
-
يا ليلُ غزَّةَ
-
لو أدركَ الحجرُ...!
-
هل صَمَتَ الشُّعراءُ..؟!
-
لا تُصَدِّقُوا أَنَّهَا أَرْضٌ بِلَا شَعْبٍ
-
شاعر وقصيدة || يوسف ناجي / الأردن
-
شاعر وقصيدة|| اياد شماسنة
-
اِشْرَبُوا دَمَنَا أَيُّهَا الْعَرَبُ!
-
مَقْبَرَةُ الْخَوَنَة
-
لا... لسنا بخير!
-
الشِّرِّيرُ عِنْدَمَا يَمُوتُ
-
يَا أَشْقِيَاءَ الْعَالَمِ اِتَّحِدُوا
-
((فكِّر بغزَّ. ة))
-
هل يخلعُ المَلِكُ تاجَهُ..؟!
-
يا وَرَثَةَ الخِزْيِ..!
-
كُنْتُ امْرَأَةً فَصِرْتُ شَجَرَةً
-
لَسْتُ رَقَمًا
-
يَا أَهْلَنَا فِي غَ زَّةَ، سَامِحُونَا
المزيد.....
-
فنانون وساسة برازيليون يطالبون الرئيس دا سيلفا بقطع العلاقات
...
-
اللجنة العليا لانتخابات اتحاد الأدباء تعلن النتائج الأولية ل
...
-
العدد الثاني من مجلة سينماتيك
-
155 عاما على دار الكتب المصرية و60 عاما من تراجع الدور الثقا
...
-
فيلم عيد الأضحى .. فيلم ريستارت “بطولة تامر حسني” .. كسر الد
...
-
فضلو خوري زميلًا في الأكاديمية الأميركية للفنون والعلوم
-
السعودية تدشن مسارا عالميا لترجمة خطبة عرفة إلى 35 لغة وتعلن
...
-
مصر.. أزمة حادة بين فنانتين شهيرتين تنتهي بقبلة على الرأس (ص
...
-
المغرب: مهرجان -جدار-.. لوحات فنية تحوّل الرباط إلى متحف مفت
...
-
بعد تكرميه بجائزة الثقافة في مالمو 2025 - محمد قبلاوي ”صناعة
...
المزيد.....
-
البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق
...
/ عبير خالد يحيي
-
منتصر السعيد المنسي
/ بشير الحامدي
-
دفاتر خضراء
/ بشير الحامدي
-
طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11
...
/ ريم يحيى عبد العظيم حسانين
-
فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج
...
/ محمد نجيب السعد
-
أوراق عائلة عراقية
/ عقيل الخضري
-
إعدام عبد الله عاشور
/ عقيل الخضري
-
عشاء حمص الأخير
/ د. خالد زغريت
-
أحلام تانيا
/ ترجمة إحسان الملائكة
-
تحت الركام
/ الشهبي أحمد
المزيد.....
|