|
-العازب- ل علي البزَاز: وجود ثالث إلى جانب الذات والعالم
نداء يونس
الحوار المتمدن-العدد: 8374 - 2025 / 6 / 15 - 04:22
المحور:
الادب والفن
"الحب بالعكس، والسير بالعكس، والكتابة بالعكس، أفضل من ولاء صحيح" كتبت نداء يونس أملي في التراب، ما نفع الذهب المُقوّى خارجٌ لأنه لا يُهادن هذا الذي أفكّر فيه ليس لديه أسنان ليجعلها أدوات للصداقة. من ديوان "بعضه سيَدُوم كالبلدان" -علي البزَاز يشكّل كتاب "كالزحف، كالنذير المبين – كتاب العازب" لعلي البزَاز الصادر عن دار المأمون، ط2، 2023، أرضية خصبة لتأملات متعددة حول الفردية التي تقع أبعد من الذات، وهي نقطة خضعت لنقاش مستفيض بيننا: أدونيس وأنا. إذ يفتح البزَاز الباب أمام مفاهيم مثل "كتابة الغريب"، وكتابة "الخردة"، و"العنعنة"، و"السياج"، و"الاستسقاء"، و"المتحفية"، و"العازب"، و"السندبادية"، و"الصبار"، والتي لا تنطلق من مركز "كتابة الذات" بمعناها التقليدي، بل من منطقة أعمق تتجلى فيها الفردانية كقوة مؤسسة للكتابة في مجمل أعمال علي الشعرية والفنية، وكقوة خفية لهويتنا. لا أقصد الفردانية هنا بوصفها تعبيراً عن الأنا/الذات أو تمجيداً لخصوصية الكاتب، بل باعتبارها تفرداً في مصدر القول، حيث تنبع الكلمات من أعماق ذات لا تخضع لنموذج مسبق، ولا تنساق وراء تسطير معرفي قائم، ولا تشتغل وفق محاكاة أو تبعية. إنها كتابة تؤسس لنظامها الخاص، لا في مستوى الطرح فحسب، بل في أنها تفرض على النقد أدوات جديدة يمكن استخدامها لفهم وتأويل هذا النوع من النصوص المنفلت من التقليدي والعمومي، وبتسميات جديدة غير مطروقة، بل ولافتة. بهذا المعنى، تبدو كتابة علي البزَاز أقرب إلى ما يمكن تسميته بـ "الكتابة الوثنية"، لا من زاوية دينية، بل من حيث انبثاقها من جوهر فرديّ بدئيّ، سابق على التنميط الثقافي والديني. إنها كتابة تنتمي إلى منطقة الاستثناء، كتابة خارجة من الفردية وعن القوالب، عصيّة على التأطير، وتستدعي فكراً نقدياً لا يقلّ فرادة عنها، بل يُرغَم على إعادة النظر في أدواته ومفاهيمه. شمس خاصة: "حارسي ولشدة ما تهرأت قبضته، صار قابلا للطي" ما يدفعنا إلى هذا التوصيف لا يتوقف عند البناءات الشعرية المبتكرة التي تميز مجمل تجربة البزَاز، ولا عند الغرابة المتعمدة في اختياره لمناطق الحفر والتنجيم اللغوي، بل يتجاوز ذلك نحو ابتكاره لمفهوم "العازب" في الكتابة. فـ"العازب" هنا لا يُفهم بمعناه الاجتماعي المتداول، بل يُعاد تأطيره بوصفه حالة وجودية من العيش خارج الجماعة، وانكشاف على العالم خارج الانتماء إلى الأحزاب والطوائف، بل حتى خارج الانصياع لأفق التوقع الأدبي ذاته، والاتجاهات المستقيمة مثل الزواج والجماعة والسعادة، وفي ارتباط واضح بالهجرة والنزوح، والنظر إلى الكاتب كرحَّالة. لا يقدم هذا المفهوم الجديد إضافة إلى ممارسة معروفة في فترة ما قبل الأديان فقط، بل يُعيد الاعتبار إلى الكتابة بوصفها فعلاً فردانياً، خارج السرب، خارج الدعاية، وخارج التوظيف الإيديولوجي الذي اجتاح الأدب – الشعر تحديدًا- في مراحل لاحقة، مع تحوّله إلى وسيلة للتعبئة الدينية أو السياسية، مُخْصِيًا الشعر وهو في أعلى مستوياته. وعلى نحو بالغ الأهمية، يميز البزَاز بين "العازب" ومفاهيم أخرى مجاورة مثل "الغريب"، و"الدخيل"، و "البرّاني". وبينما تنشغل هذه المفاهيم بموقع الكاتب من النص ومن الجماعة - غالباً ضمن ثنائية الداخل/ الخارج ضمن سيادة لمفهوم السلطة، فإن "العازب" ينفتح على أفق وجودي ومعرفي مختلف، "له شمسه الذاتية"، موظف لدى الكتابة والوردة، ما يؤسس لفردانية تتجاوز الانفصال الظاهري، لتغدو جوهراً لذاتيّة تؤصّل علاقتها بالكتابة من داخل انقطاعها. وحتى في اختلافهما، تؤسس فكرة العازب والغريب لتحرير الإنسان من الاغتراب بالمفهوم الماركسي أسوة بالاشتراكية، إذ تمثل تحرّراً من هذا الاغتراب، أي عودة من الإنسان إلى ذاته وتَحَقًقِهَا بصورة غير مشوّهة، بل ومنفصلة عن العالم. وهنا، تبرز إمكانيّة دراسة هذا التأسيس الفرداني للذات لا بوصفه قطعًا مع الجماعة فحسب، بل بوصفه تفكيرًا جذرياً في العلاقة بالآخر، وبالكتابة ذاتها، وهو أفق بحثيّ آخر يمكن التوسع فيه في سياق منفصل، لا سيما وأن المكان ليس هو الذي يشير إلى الغريب ويحدده، فهو وسيلة إشهار للاستدلال على الهجرة فقط، بل ما يحدده هو الآخر، فالتقابل بينهما يحدد الشخصية النافرة. في مديح اللا-استقرار والهشاشة بهذا، لا يبدو اختيار البزَاز لاقتباس بودلير في مستهل كتابه مجرد تحية رمزية للحداثة الشعرية، بل تأسيس جمالي وفكري لكتابة تنبع من منطق "العابر"، و"اللايقيني"، و"اللا-انتماء"، كاشفًا عن دلالة عميقة تتناغم مع مفهوم "العازب" الذي يؤسسه له الكاتب، فالغيوم التي يعلن بودلير حبه لها – "الغيوم العابرة، هناك، الغيوم الرائعة!" – تصبح استعارة مركزية لكتابة العازب: وهي كتابة لا تقيم طويلًا ولا تستقر في يقين، لا تنتمي، لا تُحتجز في إطار، بل تمرّ، تتشكل، وتذوب في الأفق دون أن تترك أثرًا قابلاً للقولبة؛ وفي هذا نلتقي علي وأنا في كتابة كثيرة، منها ديواني "كمثل السحب لا أعرف أين أقف". هذا الانحياز للعبور واللا-استقرار، يقربنا من مفهوم "الهشاشة الجمالية"، حيث لا تسعى الكتابة إلى التماسك البنيوي الصارم، بل تتعمد إظهار تشققها، وتقطّعها، وترددها، كنوع من الصدق الوجودي، لا كخلل فني. هشاشة ليست ضعفًا، بل قوة مضادةٍ لمنطق السيطرة والهيمنة، وتعبير عن تجربة ذاتية لا تسعى لتبرير نفسها أو للانخراط في "مشروع" أو "خطاب"، بل تكتب لتبقى على الهامش، حرة، مترددة، قابلة للانكسار، وقوية في فرادتها. وهنا تتقاطع هذه الكتابة أيضًا مع ما يمكن تسميتها بـ "الكتابة العابرة للأنظمة" - تلك التي تتسلل بين الفلسفة، والشعر، والتأمل، واليومي، دون أن تلتزم بحدود الجنس الأدبي أو الإيديولوجي. فهي لا تنتمي إلى حقل محدد، بل تتجاوز التصنيفات، وتتقاطع مع فضاءات معرفية متعددة دون أن تخضع لأي منها. وهذا بالضبط ما نجده في "كتاب العازب" و "لا تعْبر الفجر هامشيًا"": كتابة هجينة، تأملية، منفلته من النموذج، تستدعي قارئًا غير تقليدي، ناقدًا يسير وراءها لا أمامها. من هنا، لا تغدو تجربة علي البزَاز مشروعًا فرديًا فريدًا فقط، بل مثالًا على كتابة تقاوم الامتثال، وتصر على فرادتها كقيمةٍ جمالية ووجودية. إنها دعوة مفتوحة لقراءة الأدب لا كمرآة لجماعة أو خطاب، بل كحقل للفرادة، للعبور، وللتوتر الحرّ الذي يُبقي على المعنى مفتوحًا على احتمالات لا نهائية. وإذا ما سحبنا هذا التصور الجمالي لمسافة أبعد، يمكننا القول إن كتابة علي البزَاز، كما تتجلى في كتاب العازب، لا ترفض الذكريات كمكان والمكان كإقامة"، بل تستقر داخل ما يسميه موريس بلانشو بـ "قلق اللانهائي"، أي الكتابة التي لا تتجه نحو غاية واضحة أو بنية مغلقة، بل تتغذى من هشاشتها الخاصة، وتُبقي المعنى في حالة ترحال دائم. فالكتابة هنا لا تُنتج "نصًا" بقدر ما تخلق أثرًا مفتوحًا، حيًا، متفلتًا من الخاتمة والتأويل الأحادي. وهذا ما يجعل "العازب"، في نسخته التي يقدمها البزَاز، لا مجرد شخصية اجتماعية أو رمزية، بل كائنًا نصيًا يسكن الهامش ويكتب منه، رافضًا الحسم أو الانتماء لأي نسق فكري، ديني، أو لغوي مغلق، ونقيضًا للأيديولوجيا التي هي بطبيعتها فعل مُصَمَّتُ وجامد و "ضد التأويل"، كونها تعيد انتاج المعرفة كسلعة - وعكس ادعائها بأنها تنتج الروحي، ومرتبطةٌ بالجماعات، ومفاهيم الأدلة، والعقائد. الأيديولوجيا بهذا المعنى تشبه الملكية الخاصة لدى ماركس. إذ أن التأويل وسيلة الإنسان للتواصل مع الطبيعة وصياغة عالمه وذاته. لكن مع احتكار سلطات الخطاب للسرد والتأويل وطرق فهم العالم، تصبح الأيديولوجيا مجرّد وسيلة إنتاج خارجة عن إرادة الإنسان تنفيه وتشعره بالبؤس لا بالانتماء. بهذا، تتحول المؤسسات، الدولة، الأنظمة، العقائد والأديان والماضي، إلى تكرارات للاغتراب. الدائرة كنسق لحماية العازب وكزمن وموقف معرفي تبدو "الدائرة" في تمثّلاتها الرمزية عند البزَاز، خصوصًا كما هي عند لودفيغ، أوسع بكثير من مجرد شكل هندسي مغلق عدا بعض الدوائر التي تحمي نفسها بنفسها، مثل الأبناء، الزواج، الدولة، القانون، والجوائز. إنها نسق كوني للحماية والحياة، فضلا عما تمنحه للكاتب من فضيلة التأويل من خلال إدارة العالم لسانيًا – فالرويُّ سلسلة نقلٍ تتصل باللسان "وهو في شكل دائرة أثناء السرد"، وتتيح "عدالة الاتصال مع الهوامش.. وتأمين الحماية للنقاط على محيطها بوساطة أبراج حراسةٍ ورصد"، ومثل الجوع، تمتلك القدرة على استنساخ ذاتها. أما دائرة العازب – فإنها ورغم تكرارها الظاهري- تعكس تجددًا داخليًا، لأنها "فم على شكل الخرائب"، هامشي وملتحق بنا لا كأوامر القائد، وتتيح في الوقت نفسه لكتابة القليل اتساعًا لا نهائيًا لقضيتين: الحركة التي تُموَّل ذاتيًا وترتبط بالموجودات - ما يجعل العازب مستوطِنا في الأفكار والعواطف، والتكرار السري المنفلت المرتبط بالجنس والحواس والرغبة القريبة من الفوضى والضالة الخارجة عن الرقابة. بالمقابل، يبدو الخط المستقيم أو الملتف، أقل قدرة على إنتاج الدلالة. فهو يحمل وهم الهروب نحو الأمام، ويعيد ذاته بلا تجديد، كحركة عصابية لا تنتج معرفة أو إبداعًا. الكتابة بهذا التعريف، تبدو أشبه برحم كوني، أو عين داخلية تُراقب وتُعيد تشكيل العلاقة بين الذات وما حولها، يقول علي "أدخل إلى ذاكرتي وأحرق شموساً عديدة/ أنغلق، دوائر/ دوائر، أخرج على الذاكرة/ أعلن: سوف أقلل تجاعيدها". وبالتالي، تنبع جمالية البزَاز في كتابة العازب من هذه الدائرية الحيوية، من مفهوم الغربة كقوة. الغريب إذًا، لا يسكن خارج الدائرة، بل في احتكاك دائم بجدارها الحار، كمن يعيد توليد نفسه في الاحتكاك لا في الخروج. الدائرة بهذا تعيد تفكيك العازب وشرح بنيته الثقافية. والشعرية.، فهو لا يريد أن يحسم ولا يريد أن يعيد تأهيل الهامش، إنما يجعل الوجود في توتر مستدام. وبهذا، فإن الجمالية التي يقدمها البزَاز في كتاب العازب، والتي تستدعي مفاهيم الحصار والدوران والغربة الذاتية، هي جمالية دائرية بالمعنى عند لودفينغّ: كتابة تتكرر دون أن تُملّ، وتحتفظ بحرارة الغربة كفعل خَلقٍ، لا كمأساة وجدانية. الدائرة، إذن، ليست شكلًا فقط، بل زمن وموقف معرفي: هي ضد المتَحْفِيَّة التي تحول الزمن إلى مكان وكتابة الشواهد والقبور. كتابة العازب لا تدور في الفراغ، بل تتوالد في كل دورة، وكأنها تستعيد نفسها لتبتكر اختلافًا جديدًا متجددًا. إنها كتابة تنفصل عن السائد، وتتخذ من العزوبية الأدبية والفكرية شكلًا للوجود. أما "هو"، ذاك الخارج عن الدائرة لدي، فيُجسد كسرًا في البنية الكونية، "هو"، ليس فقدًا عاديًا، بل هو الاستثناء القسري الذي يُفجّر الدلالة، ويكشف أن لا شيء يمكن أن يلتئم بالكامل، حتى في أكثر الأنساق اكتمالًا. هكذا تتحول الكتابة نفسها إلى ممارسة عزوبية، تفك ارتباطها بالعلاقات القائمة، سواء أدبية أو أيديولوجية، لتُقيم في دائرة ذاتها. العازب الشاعر.. الكتابة المرَّة وفكرة الأسيجة يشكل الشعر الأصل الوحيد الذي يورَّث كما هو تقريبًا، فهو ذاته الركود "الأصل"، وهو ذاته الجريان "النهر". بهذا لا يحقق الشعر الخلود اللساني فحسب، بل ينجو من مصيدة العنعنة الدرامية: "كتابة الشبه والشبيه"، مستخدمًا "الأصل كذريعة، كتابة مَلءِ الفراغات"، أي جعل الكتابة جزءً من نظام نقْلٍ بالتواتر، والخضوع للتأويل والأدلجةٍ المتواصلة. فالبناء الدرامي للشعر "لا يسمح بالنقلات وغير مستوعب لنظام الاستعاضة، أي إحلال الأفواه بدل الشاعر"، وبالتالي، فهو لا يحتمل الحذف والإضافة التي تخلق للمفسرين سلطة التمرير والفهم والتفسير. بهذا، يوازي الشعر المقدس، لا بوصفه إعادة تعيين لعلاقات الدال والمدلول من خلال السلطة المعرفية أو الأيديولوجية، بل بوصفه ناجًيا من خرائب العنعنة وانهياراتها على الأصل وردمها للجذور. من هنا، كان الإدراك الأول لسلطة الشعر كسلطة خطابية والحرب الأولى عليه لا بوصفه يأتي من الكائن العازب والغريب فقط، بل باعتباره قادراً على خلق "حاضر شعري وسرديّ" وثقافي عكس الراهن الذي يخلق التاريخ والآن عادة - والذي لا يعدو بدوره كونه الماضي منقولًا على الغايات والمحو والتحريف والاجتهاد الشخصي ونسيان المنبع، فـ "كل يشيِّد سياجه". يقدم هذا تفسيرًا مختلفا للآية "وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا" (الفرقان: 30)، حيث يفصل السياج التأويلي الفقهي النص عن لحظة نُطقه الأولى، ويختزله على شكل تواترٍ وتأويل، وكصورةٍ لا أصلًا، صانًعا له زمناً مغايراً "لأن له شروط إنجاز تختلف عن الأصل": تتضامن معه أو تقف ضده. وبهذا، فإنه ينتج "عنف المعنى" بدل المعنى كما يقول بودريار، مفرغًا الأصل من مضامينه، مدمرًا قدرة الإنسان على الفهم والتمييز. ومن هنا أيضاً، يمكن فهم أنظمة التدجين المؤسسية للشعر مثل المنابر وتمجيد الخطابة والقوالب الشعرية التقليدية - التي تهتم بالإيقاعية والتنميق، والكتابة الأيقونية النموذجية التي تعمل كمحاكم للأخطاء المفترضة - مرتبطة رمزيًا بالأديان ومعنويًا بالمتحف وملتصقة بالصفات القياسية وسيكولوجية الماضي كارهة للفجوات والاضطرابات في بنيتيْ الكتابة والمفاهيم معًا؛ كما هو الحال في أنظمة الجوائز، حيث يصبح "على الكتابة التمدد داخلها" – أي داخل الجوائز وعلى قياسها، والاستجابة إلى دائرة حدودها المؤطَرَةِ من حيث الموضوع، والقفز إلى النتائج، مع إهمال واضح للوسطاء مثل "القارئ ومسارات الكتابة ..."، وإلى الثوابت أو "كتابة الدولة أو كتابة السياج، وأن تكون في تطابق مع الشعارات والعقائد والسياسة"، ما يؤدي إلى مساواة العدو والصديق، وعدم احترام التحول والذات، وحيث يصير الشعر من خلال الخضوع لشروط التسويق السياسي إلى بوستر سياسي عقائدي وإلى وظيفته الإشهارية، والتي لا يمكن بحال أن تتقاطع مع الذات والداخل إذا أنها فكرة مُسقطةٌ، تعتبر الدليل صديقاً والأصل صونًا، والعدو دوماً خارج المنظومة المهيمنة بدلالته الأمنية والإبداعية، فالمبدع كأي خطر برّانيٌ، منبوذ ويحارب. وفي هذا ألتقي شعرياً في مجمل عملي مع اشتغال العازب على مناهضة كتابة الأسيجة وعلى كشفها؛ وعلى الوقوف ضدها وما هو على شاكلتها مثل التأويل، والإعلام المعلب، والسلطة المتعالية، ونسق الشكل – ومن ضمنه اللباس؛ كما أنني نقيض الأدلة التي تؤسس لشرح "متحف المفاهيم والتراث"، إضافة إلى اشتغالي الدائم على تعرية شفافية الأسيجة التي تعزز طبقات الخداع والتمويه وتقنين تدفق النقد، وسلامة الهيمنة الأيديولوجية وإحداث القلاقل والاضطرابات والفجوات وإثارة الأسئلة. الكتابة كتمزق واختبار لحدود المعنى وحدود الذات هنا يلتقي تصور علي البزَاز مع عبارة سابقة لي: "كل شيء دائري سواك" "كتابة الصمت، 2019)، في توظيف الدائرة لا معناها، ويكشف عن تواشجٍ عميقٍ بين الشكل الرمزي والمحتوى الشعوري. فبينما يبني البزَاز عالمًا دائريًا يحميه من الانتماء الجماعي، اخترت أن أشير إلى ما لا يُحتوى، إلى ما يقع خارج الدائرة، خارج قابليتها للاحتواء والتكرار إلى خسارة "هو". وعليه، يتحول "هو" في شعري إلى علامةٍ فاصلة: إلى ما لا يندرج ضمن النظام، وما لا يعود، وما لا يمكن للغة أن تلتئم حوله. فبينما تمثل الدائرة عند عليٍّ التئام الجرح، العودة، وحتى الخلود، يُمثِّل الخط الخارج عنها - ذاك الذي يمثّله "هو" – لدي خسارة نهائية لا تُستعاد. بهذا المعنى، تتجاوز الدائرة في تجربة البزَاز دلالتها الشكلية لتصبح مجازًا للكتابة الفردية، الوثنية بالمعنى الثقافي: كتابة تنبع من نقطة سابقة على الدين والجماعة والانتماء، وتبحث عن صوتها من داخل العزلة كما يفعل موريس بلانشو. في المقابل، أُسائل أنا هذا النموذج عبر تسليط الضوء على ما يستحيل إدراجه داخله، الفقد الذي لا يستجيب للتطويق الرمزي. فحتى أكثر الأشكال اكتمالًا، تعجز عن احتواء الغياب حين يكون مطلقًا. وهكذا، تلتقي اللحظة الفلسفية بالشكل الشعري حين تتحول الكتابة إلى أداة لاختبار لحدود المعنى وحدود الذات. وفي هذا السياق، يعيد البزَاز إنتاج عُزلةٍ خلاقة، تمارس الكتابة -كفعل فرداني متوتر مع الأنساق - كفعل اختياري. أما أنا فأكشف كيف ينهار الشكل حين يصطدم بما لا يمكن تدويره كحياة مثل الغياب الذي يمثل عزوبية قسرية. ههنا، نتحرك من داخل قلق وجودي واحد: أن شيئًا ما سيبقى دومًا خارج اللغة، خارج النسق، وخارج التكرار. وبالتالي، ليست هذه الكتابة بهذا المعنى مجرد تلاعب بالأشكال، بل هي فعل فلسفي يتقاطع فيه الرمزي مع الوجودي، والهندسي مع الإبداعي. إذ يتحول الشكل إلى سؤال، والرمز إلى كودٍ عاطفيٍ- معرفيٍ وجوديٍ، يطرح أسئلة حول متى نحتمي؟ ومتى نقصي؟ وماذا نفعل حين تفشل الدائرة في احتواء ما فُقد؟ العازب كخطأ صالح وعلى نحو موازٍ، تلتقي هذه الكتابة أيضًا مع ما يمكن تسميته بـاللا-جدوى الخلّاقة عند كافكا أو الفراغ، فـ"العازب"، عند البزَاز، في عزلته، وعبوره، وانفصاله، لا يبدو حاملًا لأي مشروع واضح أو رسالة مكتملة أو حتى وعدًا بالجديد، بل للغربة، للانزياح عن المألوف، للوجود في العالم كوجود ثالث إلى جانب الذات والعالم.، كإعادة اكتشاف للأشياء المستعملة كما فعل عبد الكريم الخطابي في نبش مكونات الثقافة الشعبية المهمشة مثل الوشم والزريبة والأمثال الشعبية والجسد وغيرها، وهنا تجتمع المتضادات الأيديولوجية في سوق "السكند هاند" أو المستعمل حيث نشتغل على أشيائها "المهملة والمنبوذة" كوسائل للتلقي الجمالي، وكعتبة بين عالمين – كما يقول المعتزلة.. نكتب لأننا لا نستطيع إلّا أن نكتب لإعادة القيمة للمهمل، ولمواجهة المتَحْفيِّ، وإعادة الاعتبار إلى المنبوذ. والأنقاض والمتلاشيات، ما يؤدي إلى مساواة طبقية بين الفاعلين في نقطة الاستعمال للغة. ومن هنا تأتي سلطة العازب، تمامًا مثل شخصيات كافكا تعيش وسط أنظمة عبثية دون أمل في الفهم أو الخلاص، لكنها تستمر في الحفر داخل هذا اللاجدوى بحثًا عن شكل من أشكال المعنى - أو حتى لإثبات غياب المعنى بطريقة ذات طابع وجودي وجمالي فهو قادم من الوحدة، عائد إليها. وبهذا الشكل، تصبح الكتابة "منجم تعدين للعالم"، يتم من خلالها "الاستيعاب، والتمثُّل، ثم التشكيل"، فهناك حاجة إلى "الأسوار لكي نكملها/ نتودد إلى حُجَّابِها/ نلوم أقنعتها، ثم نحب أعمقها... فما نحن إلا "خطأ صالح". بهذا المعنى، تصبح الغربة "تقنية للبقاء". فالعازب عند البزَاز ليس "غريبًا" فقط، بل مأخوذٌ بنداء داخلي غامض، يحفر لغته الخاصة، ويخلق سردياته من العدم، دون مرجعية أو خارطة جاهزة. ولعلّ هذا ما يجعل من كتاب العازب وثيقة استثنائية لفهم الكتابة كتمرد وجودي ضد كل يقين معرفي أو انتماء ثقافي. لا يهم أن "نفهم" العازب، بقدر ما يجب أن نتبع أثره، وننصت إلى صمته، الذي تعبر عنه هيلين سيكو من خلال إدراكها أنه - وعلى الرغم - من حريتها فأنها لا تزال وحيدة في هذا العالم، وتقبلها عزلتها التي فرضتها على نفسها بملء إرادتها وليس بسبب العجز. وإذ ينتقد البزَاز بكتابة العنعنة ساخرًا بقوله: "طوبى للنص الذي يجذب سلسلة أفواه"، فإن أحد أهم أوجه المقارنة الممكنة لتأطير كتابة "العازب" بوصفها تسلب الأصل مركزه، هي المقاربة مع مشروع عبد الكبير الخطيبي، لا سيما في كتابه "الاسم العربي الجريح"، فـهما لا يكتبان من داخل النسق، بل من خارجه، من منطقة تفكك وتخلخل الخطابات الكبرى: الدينية، القومية، والسياسية. يقول عليٌّ: "تعال يا صديقي لننتشل الماء من تعاليمنا"، كما يُعليان الهامشي ويقدمان الكتابة كامتداد للجسد الذي لا يتوقف عن التعبير، عن الفكر المرتحل أو "عكسنا الإيجابي، حفرتنا المقيِّدة لنا، رغبتنا رغبة، لا تستعر بالنيابة". كما يرفض كلاهما "الزمن العمودي، والمكان العمودي"، وهو اشتغال جوهري لمحمد بنيس في سؤال الحداثة والشعري، الذي ينتهجه البزَاز في شعره أيضًا، حيث الشاعر هو الذي يظل يسافر، لكن البزَاز لا يذهب الى أقصى منهج النقد المزدوج الذي يتطلب خلط التفكيك بالنقد. في هذا السياق، يمكن اعتبار "العازب" عند البزَاز صورة نصية موازية لـ "الاسم الجريح" عند الخطيبي. كلاهما يكتبان من جرح، لا باعتباره مأساة، بل باعتباره منبعًا للمعنى. العازب ليس منفيًا بالضرورة، لكنه يمارس النفي كخيار جمالي، كطريقة للوجود داخل اللغة وخارجها في آنٍ معًا. هو لا "يمثل" أحدًا، ولا يتكلم باسم جماعة، بل يحمل ذاته كهوية متصدعة، مفتوحة، لا تسعى إلى الانغلاق أو الاكتمال، حيث يتحول العازب إلى كائن كتابي يسكن المسافة بين الانتماء والانفصال، بين اللغة والتأمل، بين القول والصمت، وهي المسافة ذاتها التي جعلها الخطيبي شرطًا للكتابة الحرة، المتحررة من الاستيهامات الجماعية والانغلاق الهوياتي. العازب ككائن جمالي عابر بهذا المعنى، تُدرَك كتابة البزَاز، عبر تقاطعها مع أطياف بودلير وبلانشو وكافكا والخطيبي، كأفق نقدي وجمالي يتصل بأسئلة الكينونة واللغة والكتابة في زمن ما بعد الأنساق. إنها كتابة الذات التي لا تكتب ذاتها فحسب، بل تكتب ضد النموذج، ضد الاستعارة المستهلكة إلا كسوق للمستعمل، وضد التمثل المريح. كتابة العازب إذن، كتابة ضد الانخراط، ضد التماثل، وضد القطيع، ضد التاريخ الذي "ينشد في سيره الخطأ الملتوي والمنحنيات". بهذا، يتجلى "العازب" لا كفرد منقطع فقط، بل ككائن جماليّ متحرر، كالرمال والصحراء والصبار والجفاف، يكتب من الهامش لا ليُعاد دمجه في المركز، بل ليبقى عابراً، كثيف الدلالة، خارج أنظمة التصنيف. وتمامًا كما تفلت الغيوم من القبض عليها، تُفلت كتابة البزَاز من كل نسق مسبق، وتحتفي باللا-انتماء، كشرط للحرية الإبداعية فنحن "هامشيون ومعوِّضون". ومن هنا، يمكن أن تضيء كتابة العازب على أن الفرق في الشعر لا يكمن في شكله: عموديًا، تفعيلةً، نثرًا، إلخ، بل في منطلقات الكتابة وموقعك منها، أو ما أسميه المسافة بين الكاتب وجسده. لهذا أيضاً، الشعر "الجاهلي" - تسمية ظالمة، يمكن أن يكون أكثر حداثية، والعكس صحيح. يقول عبد الوهاب المسيري إن المثقف الذي لا يترجم فكره إلى فعل، لا يستحق لقب المثقف"، ويتساءل المترجم الإيطالي وأستاذ الأدب ألدو نيقوسيا" "ما هو نقيض الشّعر؟ أعتقد أنّه الشِّعار، خاصّة الشّعار بالقافية، حتى لو كانت النّوايا صادقة والشّعارات نبيلة، فإنّها تظلّ مجرّد أقوال ما لم تتحوّل إلى أفعال"، وفي شعر علي، يمكن تتبع كافة تجليات العازب، الذي يمكن بسهوله تحويله إلى منهج نقدي، ودراسة الشعر من خلاله، كونه قادراً على تتبع تحولات الكتابة في علاقتها بالجسد، والكشف ليس عن الذات، بل عن الفردانية أو الكتابة الوثنية التي أُريدَ لها أن تختفي طوال ألف وأربعمئة عام، وبتوافق كامل بين شكل الشعر الذي أًريدَ له أن يستمر، وبين إلغاء الفردانية والانتصار إلى الأنا الجمعية التي يتم نسجها دون وجوه.
#نداء_يونس (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
من القلب إلى القلب
-
ما لم تخرج منك
-
ما الجمال؟
-
تحت جلدي كل ما يحدث في الحرب
-
بلا سبب
-
مخرج طوارئ
-
علّمتني قارورة صغيرة
-
يعرج الرجل لأسباب كثيرة
-
كيف نكسر احتكار العالم لروايتنا؟
-
أبنية الرقابة والعقاب والتحكم بنفاذية الخطاب الفلسطيني على م
...
-
كيف تركناه يحترق؟
-
تعلم ما أقصد
-
ثمّ أفكّر
-
احتفاء بصدور أنطولوجيا شعر المرأة الفلسطينية بالفرنسية
-
حياة معلّقة على مفهوم البيت وخسارته
-
أُفكّرُ بهذا
-
احتفاء بصدور أنطولوجيا شعر المرأة الفلسطينية المعاصر بالفرنس
...
-
أحوّل الاحتراق إلى شفاء
-
يربكني الضّجيج
-
أتبه رغبتي
المزيد.....
-
السعودية تخطط لشراء 48 فدانا في مصر لإقامة مدينة ترفيهية
-
هل يشهد العالم -انحسار القوة الأميركية-؟ تحليل فالرشتاين يكش
...
-
التمثيل النقابي والبحث عن دور مفقود
-
الفنان التونسي محمد علي بالحارث.. صوت درامي امتد نصف قرن
-
تسمية مصارعة جديدة باسم نجمة أفلام إباحية عن طريق الخطأ يثير
...
-
سفارة روسيا في باكو تؤكد إجلاء المخرج بوندارتشوك وطاقمه السي
...
-
كتاب -رخصة بالقتل-.. الإبادة الجماعية والإنكار الغربي تحت مج
...
-
ضربة معلم من هواوي Huawei Pura 80 Pro.. موبايل أنيق بكاميرات
...
-
السينما لا تموت.. توم كروز يُنقذ الشاشة الكبيرة في ثامن أجزا
...
-
الرِّوائي الجزائري -واسيني الأعرج-: لا أفكر في جائزة نوبل لأ
...
المزيد.....
-
قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي.
/ رياض الشرايطي
-
خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية (
...
/ عبير خالد يحيي
-
البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق
...
/ عبير خالد يحيي
-
منتصر السعيد المنسي
/ بشير الحامدي
-
دفاتر خضراء
/ بشير الحامدي
-
طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11
...
/ ريم يحيى عبد العظيم حسانين
-
فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج
...
/ محمد نجيب السعد
-
أوراق عائلة عراقية
/ عقيل الخضري
-
إعدام عبد الله عاشور
/ عقيل الخضري
-
عشاء حمص الأخير
/ د. خالد زغريت
المزيد.....
|