|
أبنية الرقابة والعقاب والتحكم بنفاذية الخطاب الفلسطيني على مواقع التواصل الاجتماعي
نداء يونس
الحوار المتمدن-العدد: 8333 - 2025 / 5 / 5 - 10:04
المحور:
العولمة وتطورات العالم المعاصر
"ميتا" بوصفها تمثيلًا للسلطة السائلة: أبنية الرقابة والعقاب والتحكم بنفاذية الخطاب الفلسطيني على مواقع التواصل الاجتماعي
& ميتا& بوصفها تمثيلًا للسلطة السائلة: أبنية الرقابة والعقاب والتحكم بنفاذية الخطاب الفلسطيني على مواقع التواصل الاجتماعي كتبت نداء يونس: في عصر السياسات البيو-حيوية، وحيث تمارس السلطة هيمنتها على حياة الأفراد بشكل غير مرئي، لا تنفصل ممارسات "ميتا" كمنصات رقمية عن كونها أداة للهيمنة السائلة، تعمل على إيصال آثار السلطة إلى المستخدمين دون مواجهة مباشرة.
فمن جانبها، لم تعد الرقابة محصورة في الطرق التقليدية العنيفة، بل أصبحت تُدار عبر آليات معقدة توظِّف الخوارزميات التي تراقب سلوك الأفراد وتحولهم إلى بيانات ثنائية، تُؤثر في تفكيرهم وقراراتهم، وبطريقة لا تظهر فيها حدود السلطة بشكل واضح. لا تقتصر هذه الرقابة على التحكم في الأفعال الظاهرة، بل تمتد لتشكيل السلوك الرقمي وهندسة الوعي والتمثيل. يهدف هذا المقال الذي أقوم من خلاله بتلخيص وتطوير بحث محكم قدمته تحت "عنوان ولادة السجن الرقمي: تأثير حراسة البوابة الرقمية على نفاذية المؤثرين الفلسطينيين عبر فيسبوك" للمشاركة في الملتقى العلمي الدولي المعنون علوم الإعلام والاتصال زمن الذكاء الصناعي: الواقع والآفاق"، والذي نظمه معهد الصحافة وعلوم الإخبار في تونس يومي 28-29 إبريل 2023، إلى تحليل بنى الهيمنة السائلة عبر دراسة سياسات المحتوى في ميتا، والتي تم بموجبها تصميم مواقع التواصل الاجتماعي على هيئة السجن التقليدي، في استعارة للبانوبتيكون بمفهوم فوكو- مع التركيز على آلياتها التأديبية، وتتبع كيفية تأثير ها على حركة الجسد الرقمي داخل فضاء مراقب.
ميتا بوصفها سلطة تأديبية: الطاعة السائلة وإعادة تشكيل الذوات بينما تتداعى الحدود بين الواقعي والافتراضي، تتحول "ميتا" من خلال التحكم بإنتاج المواد الرقمية ضمن مقبولية أيديولوجية، إلى ما وصفه ميشيل فوكو بالشكل الحداثي للسلطة التأديبية، والذي لا يمارس السلطة عبر القمع المباشر أو المواجهة المعلنة، بل من خلال قوة ناعمة تراقب دون أن تُرى، توجه دون أن تأمر، وتصنع الانضباط الاجتماعي من خلال المحفزات والعقوبات. وضمن هذا النسق التأديبي، وعبر تهجين ثقافي طويل الأمد، تُعيد ميتا تشكيل الهويات الرقمية من خلال عملية دقيقة من النمذجة المعيارية أو الاخضاع لسلطة المعيار التي تحددها، ويُصنَّف الأفراد بموجيها بناءً على سلوكهم الرقمي الفعلي والمفترض. وحتى تغطي كل المخالفات لشروط الاستخدام التي يُراد حصرها ومنعها، قامت "ميتا" بعمل تصنيف متواز للجرائم والعقوبات بحيث ترتبط الجريمة عادة بفكرة عقوبة محددة - تقترن بمزعِجاتٍ أو تنبيهاتٍ واضحة، إلى جانب فردنةٍ العقوبات لتتلاءم مع الطباع الفردية عند كل مستخدم، ولتتواءم مع تكرار المخالفة أو الجريمة. فهناك رابط مباشر بين الجريمة والعقوبة لا يمكن نقضه أو العودة عنه. يختلف الأمر بالنسبة للعقوبات على خلفية النية كما في هذا الاقتباس من سياسات المحتوى" أو تصريحات طموحة"، أو "إلا عندما يتم مشاركتها في سياق الخلاص أو الدفاع عن النفس أو عندما يرتكبها أفراد إنفاذ القانون أو الجيش أو أمن الدولة"، حيث يتم تحرير هذه المخالفات من خلال الافراج الشرطي كما في الجرائم العادية، ما يولد المزيد من الخوف والرقابة الذاتية. لا تقتصر هذه النمذجة على توصيف الأفراد فقط، بل تُحوّلهم إلى كائنات بياناتية تتم مراقبتها وتصنيفها بدقة متناهية، ما يسمح بفرض عقوبات مصممة خصيصًا لكل فرد. ولهذه الغاية، يعتمد النظام على الخوارزميات والذكاء الصناعي لرسم خرائط معقدة للسلوكيات الجماعية، عبر رصد الأنماط وتحديد التوجهات وصياغة استراتيجيات ضبط استباقية. هنا لا تُمارَس الرقابة عبر حدود واضحة أو سلطات مرئية، بل تنتشر داخل فضاء شفاف، بحيث تغدو الأنماط السلوكية المرغوبة من قبل المنصات هي المعيار الذي سيعتمده المستخدمون لاتخاذ القرارات بالنشر والتفاعل. وبموجب ذلك، يتحول الأفراد إلى ذوات تمارس الضبط الذاتي استجابةً لتحفيزات مبرمجة مسبقًا، ليُعاد تشكيل خياراتها ورغباتها، ضمن منظومة تحفِّز الامتثال كحالة طبيعية، بل ومرغوبة، مقابل السماح بالتواجد على المنصات ونشر ما لا يخالف توجهات بعينها. بهذا، ينشأ نمط جديد من الطاعة لا يقوم على الإكراه، بل على الانخراط الطوعي في قواعد اللعبة الرقمية التي تحددها المؤسسة المسيطرة، وعبر مساحات مدروسة من الاختيار الخاضع للضبط. يعطي هذا النوع من "الضبط المخصص" رقابة ميتا طابعًا شخصيًا أو إنسانيًا ظاهريًا، حيث يُقدّم للمستخدمين على أنه تعديل لتجاربهم وطريقة لمعاقبتهم بناءً على خصوصيتهم الفردية، بينما يشكل ذلك في الواقع وسيلة لتكريس السلطة وتحقيق الانضباط الاجتماعي، في هذه البيئة، يصبح ما يبدو وهمًا بالحرية - كونه محدد سلفًا، فضاءً لتعزيز الرقابة الذاتية والاستجابة الطوعية لآليات الضبط.
السجن الرقمي وعودة حارس البوابة لا تقتصر هندسة الرقابة والضبط في "ميتا" على قائم واحد بالاتصال، بل تُبنى عبر شبكة معقدة متعددة الطبقات، تشمل: أولا: العنصر التقني، حيث تبدأ بالخوارزميات التي تتحكم في تدفق المعلومات وانتشارها بطريقة غير محسوسة، عبر تصنيف المحتوى وتصفية ما لا يتوافق مع المعايير المرسومة سلفًا، وبما يخلق واقعًا معلوماتيًا مصممًا وفق اعتبارات أيديولوجية. ثانيا: العنصر البشري، حيث يتم تدريب الفرق البشرية في فيسبوك على مراجعة المحتوى وإدارة التصنيفات الكلامية والبصرية – أي إعداد تصنيفات لغوية وسيميائية لما يمكن تفسيره ضمن ما تعتمده مينا كمخالفات، وتغذية الخوارزميات بها. يضفي هذا على الرقابة طابعًا بشريًا لكنه يخضع بدوره لقواعد أيديولوجية أكبر منه تحدد المسموح به والممنوع. ثالثا: الرقابة الذاتية، حيث يُحفَّز المستخدمون على تقييد أنفسهم بأنفسهم عبر أنظمة المكافآت والتنبيهات والعقوبات الرمزية بالحذف والإلغاء وتقليل الوصولية والحجب، واستخدام الحظر الخفي (Shadow banning)، ما يعمق السلوك الضبطي أو ما نسميه خلق الأفراد المنضبطين. تكتمل منظومة الضبط بالجماعات المرجعية، التي تمارس دور الرقيب الشعبي عبر جهات أو أفراد "يتطوعون" لملاحقة "المخالفين" والتبليغ عن المحتوى "المخالف".
هندسة الرقابة متعددة الطبقات
لا تخلق هذه الطبقات المتداخلة نظام رقابة فقط، بل تتيح المجال لإيقاع العقوبات دون إمكانية الإفلات، حيث تعمل ميتا كأي مؤسسة انضباطية، فهي تُقارن، تُفاضل، تُراتِب، تُنسِّق، تَستبعد، وتُسِّوي باستخدام سلطة المعيار La norme. لم يكن هذا الأمر ممكنًا دون توظيف الخوارزميات - التي تصبح هذا الشكل مناظرة لسلطة القانون والموروث. تستخدم المعرفة الرقابية المنتَجة لبناء نظام رقابة وعقوبات - لا يصنف فقط كوسيلة رقابية وعقابية ضبطية، بل يعد وسيلة لتصنيف المستخدمين ما بين منضبط وممارس لسلوك جرمي. وبالتالي، يتم وضع الذات الفردية ضمن حقل وثائقي مؤرشف يتم التحكم به بشكل دقيق من خلال التطبيع والتعوُّد عبر الخضوع إلى المعيار والقواعد على اعتبار أنها تنتج الحقائق، بينما هي في حقيقة الأمر تَدخُّل يحدد علاقة الفرد بالسلطة، ويعيد تشكيل الذوات لتلائم شروطًا محددةً ورؤيةً أحاديةً للعالم.
احتكار المعرفة وجمع السلطات تحتكر ميتا بالسلطات الثلاث: التشريعية من خلال وضع المعايير لما هو مقبول أو جرمي؛ والرقابية من خلال رصد سلوك الأفراد وتجميع البيانات ونمذجة الأفراد؛ والتأديبية العقابية من خلال ايقاع العقوبات على الأفراد. إضافة إلى ذلك، تعمل ميتا كسلطة معرفية epistemic authority، إذ تتمتع مثل جميع الأنظمة الأساسية بحق الوصول الكامل إلى التفاصيل المتعلقة بتصميمها ووظائفها بشكل حصري، بينما تشارك أقل القليل بما يتعلق بآليات عمل خوارزمياتها وممارساتها الرقابية، محتفظةً بموقع السلطة العليا. وبما أنها الجهة الوحيدة القادرة على تقييد وضبط وتحديد "الواقع الرقمي" الذي تتيحه، فإنها تصبح المرجعية الوحيدة لتفسير جميع النشاطات والتفاعلات التي تحدث ضمن منصاتها. يجعل هذا الاحتكار المعرفي من المستحيل مساءلة "ميتا" بشكل فعلي، كما يجعل من الصعب على أية جهة مستقلة رصد أو انتقاد آليات عملها بدقة. بالمقابل، تتسع الفجوة بين المستخدمين ومراكز اتخاذ القرار داخل المنصة بشكل متزايد، ما يؤدي إلى تطبيع الهيمنة الرقمية والتعامل معها كأمر مسلم به. يعمق هذا من استبداد الفضاء الرقمي وتغول ممارسات الرقابة.
توظيف التلاعب العقلي (Gaslighting) لهندسة الوعي والسلوك إضافة إلى اشتغالها كسلطة معرفية، تعمل ميتا على تغيير سلوك المستخدمين من خلال الربط بين العقوبات والتلاعب العقلي gaslighting الذي تمارسه بشكل متكرر عبر إنكار العقوبات، أو الادعاء بأنها جزء من سياسات تحسين المحتوى، أو “الأخطاء الفنية" ضمن ما يمكن أن نسميه توحش الخوارزميات - حين تضطر للاعتراف بها بسبب الاحراج الذي تسببه تقارير المؤسسات التي تقوم بالرصد. وفي ظل سياسات الانكار والتبرير، يتحول التأثير الرقابي إلى شيء غير مرئي، ولكنه محسوس بطريقة تجعل من الصعب على المستخدم اثبات وقوع العقوبات، كما أنه لا يستطيع تحديد ما إذا كانت هذه العقوبات نتيجة لسلوكه أم لقرارات غير صحيحة من المنصة. يُفضي هذا النوع من الرقابة إلى تشويش إدراك المستخدمين لواقع العقوبة. وبذلك، لا تمارس ميتا السلطة فقط على السلوك الظاهر، بل تتغلغل في عمق الوعي ذاته، حيث يعاد تشكيل معايير الفهم والإدراك لدى المستخدمين وتدجينهم تدريجيًا للقبول بقيود سيرونها مبررة، إن لم تكن ضرورية، لـ "سلامة" الفضاء الرقمي. لا يقتصر هذا النوع من التلاعب على ممارسة رقابة طبيعية، بل يتحول إلى جزء من البنية الأخلاقية التي يُطلب من الجميع الخضوع لها، ضمن نظام رقابي معقد، يخلط بين ما هو خاضع للرقابة وما هو حقيقي، مع صعوبة التفريق بينهما. تنتج هذه المنظومة التأديبية المتشابكة عالماً تتحول فيه الرقابة إلى بيئة معيشية، وتغدو الطاعة الذاتية استحقاقًا مبنيًا على تقويض قدرة المستخدم على رؤية نفسه كمرجعية مستقلة للتفكير والحكم والعمل أو ما يمكن أن نسميه "تحديد الأجندة"، وحيث لا تعود الحرية وعدًا قابلًا للتحقق، بل واجهة زائفة تخفي خلفها تكنولوجيات ضبط معقدة تحكم أجسادنا الرقمية وتهيمن على وعينا الجمعي.
احتكار العقوبة ومرجعياتها كأداة لإنتاج الجسد الانضباطي تسعى ميتا إلى خلق "الجسد الانضباطي" باستخدام تقنيات تتراوح بين تقنين النشاط الرقمي ومراكمة الوقت الذي يسمح للآلة بالتعلم الذاتي، ومراكمة العقوبات عبر إحكام الرقابة على الأشخاص، واستغلال الإكراه والهندسة والمراقبين، وفرض مجموعة من العقوبات الضابطة فيما يتعلق بخرق الوقت من تأخر وغياب وإحداث انقطاع للمستخدمين عن النشر، أو النشاط، أو السلوك، أو الكلام، وتَدَرُّج العقوبة والمكافأة. يضاف إلى ذلك، إشاعة علامات العقاب المطابقة تماما في كل الجسم الاجتماعي، وتعميم المصطلحات التي لا اتفاقًا واضحًا على تعريفها مثل خطاب الكراهية والإرهاب والعنف كقانون، وتصنيف العقوبات كما في استخدام سياسات المحتوى مسميات مثل خطاب كراهية"، و"العنف" وتدرجاته: "العنف الخطر" و"العنف شديد الخطورة". من الجدير ذكره أن سياسات المحتوى تصنف ما لم يتم الاتفاق على تعريفه إلى جانب فئات ذات تصنيف واضح مثل" عمليات الختان إلى جانب مجموعات القناصة والقتلة والمرتزقة، والقُصَّر إلى جانب الأشخاص المعرضين لمخاطر عالية، كما أن هناك مساواة بين المحتوى غير المهم والمحتوى الاحتيالي، ويأتي ذلك في محاولة لشرعنه العقوبات بالتجاور أو ما نطلق عليه خطابيًا "تساوي الفاعلين". وفي هذه المواقع، يتم اعتماد صِيَغُ رسائل محددة سابقا تحدد طبيعة ونوع العقوبات والتي تقوم على مبدأ إسناد الأدلة المشتركة للتثبت من الجريمة، والإيحاء بأن العقوبة نجمت عن تحقيقات عادلة. وفي الحقيقة، لا يتطلب الأمر أدلة قاطعة أو مخالفات صريحة. إذ تُعتمد قاعدة أن "أنصاف الأدلة تعطي أنصاف حقيقة وأنصاف مجرمين". ومن خلال هذه التقنية، يتم الحفاظ في أفكار الناس على الربط المطلق بين الجريمة والعقوبة، والتي غالبًا ما تتخذ طابعًا غير مرئي، كالحظر المؤقت، التقييد في نشر المحتوى، أو تقليص الوصولية، ويتم تطبيقها بشكل تدريجي، حيث يتم ربط العقوبة بخسارة أكبر ولوقت أطول، أو الايحاء للآخرين أنه قد عوقب، فالعزلة، العقوبات، وإقصاء المستخدم، تُؤمّن نوعًا من التنظيم الذاتي للعقوبة. وفي هذا السياق، ينبغي تصور مواقع التواصل الاجتماعي كما السّجون أي كمكان لتشكّل معرفة عياديّة Clinical Knowledge حول المحكومين. بذلك، تصبح العقوبات جزءً من عملية دفع المستخدم نحو الخضوع الطوعي، وتعزز من السلطة الشرعية للمنصة. يساهم هذا في تشكيل "ذاكرة رقمية قمعية تجعل من الصعب على المستخدمين استعادة توازنهم الرقمي. وبمرور الوقت، يصبح المستخدم جزءً من النظام الرقابي نفسه، حيث الامتثال والطاعة جزء طبيعي من التفاعل الرقمي. لا يقتصر هذا النظام الرقابي الذي على فرض القيود، بل يمتد إلى تشكيل الوعي، ويعيد تعريف سلوك المستخدمين في الفضاء الرقمي ضمن المعايير المفروضة. وهكذا، لا يتم فرض الطاعة بالقوة أو من خلال القمع المباشر؛ بل كاستجابة نفسية تنبع من خوف الأفراد من التعرض للعقوبة أو التصنيف الاجتماعي السلبي. إذن، من خلال هذه العقوبات الرمزية، يتم إعادة تشكيل سلوك الأفراد، وتشكيل "الفرد الانضباطي" عبر العقوبات المتكررة والتلاعب النفسي (Gaslighting)، ودون إمكانية الإفلات، حيث يصبح المستخدمون مراقِبون لأنفسهم، ويلتزمون بالقواعد ليس خوفًا من عقوبات جسدية، بل مما هو أخطر من ذلك؛ من الألم الذي يترافق مع تقييد التمثيل أو إلغائه عبر العقوبات المُلطَّفة البيو-حيوية، والتي تقوم على تعزيز الإحساس بالألم والندم اللذان يرافقان العقوبات بدلا من الألم الجسدي. وفي هذا السياق، تصبح الرقابة الذاتية جزءً لا يتجزأ من طريقة عمل الفضاء الرقمي. وبمرور الوقت، يُعاد تشكيل هذا الفضاء ليصبح بيئة تُنتج سلوكًا مضبطًا من خلال تحفيزات خفية. ليست هذه العقوبات الرقمية مجرد إجراءات عقابية، بل هي جزء من آليات ممارسة سلطوية غير مرئية تهيمن على سلوك الأفراد من خلال نمذجة المخالفين، وبناء نظام تقني للتصنيف المزدوج أو الأنظمة المزدوجة للعقوبات (أنظمة تصنيف العقوبات) وتنفيذها كأي نظام قضائي. تُطبّق هذه العقوبات بشكل فردي، مع الاحتفاظ بالطابع العام لها، وتكييفها مع كل حالة وفقًا لسلوك الفرد. وهكذا، يصبح كل مستخدم جزءً من النظام الرقابي، ويخضع لقيود تمارس عليه ضمن ما يسمى "فردنة العقوبات"، أي تخصيصها لتتلاءم مع الطباع الفردية عند كل مستخدم تتم إدانته ضمن متغيرات الظرف – أي تكرار المخالفة من خلال تكرار العقوبة، ومتغيرات القصد أي اعتقاد "ميتا" وطواقمها أو الجماعات المرجعية التابعة لها بوجود نية لدى المستخدم لمخالفة القواعد من خلال التنبيهات.
الشفافية المضللة والعقوبات الملطفة تقدم "ميتا" سياساتها "المعلنة" في إطار قيم إنسانية مثل المصداقية والأمان والسرية والكرامة"، والتي تعتبر معايير متفق عليها عالميا لاستبعاد أي وصف خبيث للسلطة، بل وباعتبارها وسيلة لإنتاج ما تدعيه سلطة المنصات على أنه حقائق واقعية. وفي هذا السياق، تستخدم ميتا خطاب الشفافية والمساءلة كغطاء لممارساتها الرقابية. تدعي المنصة أنها تسعى إلى حماية المستخدمين وضمان سلامتهم الرقمية، بينما تبني، في الواقع، هرمية قمعية تُعزز علاقات القوة بين المنصة كسلطة والمستخدمين. تُسهم هذه الشفافية المضللة في تعزيز السلطة دون مساءلة حقيقية، ما يعمق التفاوت بين السلطة الرقمية والمستخدمين العاديين الذين لا يملكون القدرة على فهم أو محاسبة تلك الآليات التي تؤثر في سلوكهم بشكل يومي من خلال بنية معقدة تدمج فيها آليات السيطرة بطرق غير مباشرة. بدورها، تعمل العقوبات الملطفة التي تفرضها المنصة على إعادة إنتاج علاقات القوة داخل الفضاء الرقمي، بحيث تُعزّز هيمنتها بينما تظل العلاقات القمعية غير مرئية ومعزولة عن النقاش العام. من خلال تحليل البنى الرقابية والعقابية وآليات التحكم بالدخول إلى الخطاب، يتضح أن "ميتا" لا تكتفي باحتكار السلطات الثلاث، وهندسة التلقي والوعي، بل تمارس نوعًا من التلاعب العقلي الممنهج الذي يهدف إلى تطويع سلوكيات المستخدمين بما يتماشى مع المعايير المفروضة. وبينما يتم إخفاء هذه السياسات خلف ستار من الشفافية الزائفة، فإن أثرها يمتد عميقًا في تشكيل وعي الأفراد وتحويلهم إلى جزء من أنظمة الضبط والضبط الاستباقي الذي يعيد تشكيل هوياتهم الرقمية وسلوكهم الرقمي ووعيهم، وفقًا لأيديولوجيات تتحكم في قواعد اللعبة، كما يلغي وكالتهم الذاتية. وبالتالي، يمكن القول أن هذه المنصات ليست فضاء حرًا، عكس الاعتقاد السائد، بل حقلٌ معقد من آليات الضبط والإخضاع وغياب العدالة الرقمية المغلف بلغة الحماية والشفافية والقيم، حيث تفرض ميتا نظامًا تأديبيًا جديدًا يعيد تشكيل الوعي والسلوك بطرق يصعب إدراكها أو مقاومتها. في قلب هذا الانتقال لبنى السلطة والهيمنة من الواقع إلى الفضاءات الرقمية، يتم تدمير أبنية الحقيقة الذي يترافق بشكل واضح وفقًا لتقارير الرقابة كما في تقرير BSR – شركة استأجرتها "ميتا" نفسها للتحقيق في سياسات الحذف بعد تصاعد الانتقادات ضدها- مع التمييز في سياسات الحذف بين المحتوى بالعربية والآخر بالعبرية، واستمرار التحكم بما يظهر وما لا يسمح بظهوره من سرديات، وغيرها من آليات. بالتالي، بات بناء استراتيجيات نقدية وتقنية ضرورة لخلق عدالة رقمية ومواجهة تسييح وإقصاء ومحو سردية الفلسطيني الرقمية والانحياز الأيديولوجي، الذي يتجلى - وبعيدًا عن المسألة السياسية ومفرداتها - في قضايا أخرى مثل حجب المحتوى الجنسي مقابل السماح بظهور المحتوى الكويري.
#نداء_يونس (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
كيف تركناه يحترق؟
-
تعلم ما أقصد
-
ثمّ أفكّر
-
احتفاء بصدور أنطولوجيا شعر المرأة الفلسطينية بالفرنسية
-
حياة معلّقة على مفهوم البيت وخسارته
-
أُفكّرُ بهذا
-
احتفاء بصدور أنطولوجيا شعر المرأة الفلسطينية المعاصر بالفرنس
...
-
أحوّل الاحتراق إلى شفاء
-
يربكني الضّجيج
-
أتبه رغبتي
-
أكتب كي أنسى الحرب
-
وجوه
-
نحن نهرب إلى تاريخ أسود
-
كلّهم طغاة يا صديقي
-
أَدرينَالِين- لخليل المزين...الشعر الذي ليس صنعة الشاعر
-
سجائر في منفضة
-
لا يحتاج إلى تبرير
-
عليّ أن أعترف
-
أخطر ممّا يمكنك تخيّله
-
الحب، الحرب، الحياة، سوء تفاهم، سيرة ناقصة تمامًا
المزيد.....
-
ترامب يتحدث عن إمكانية تخفيف الرسوم الجمركية على الصين.. هذا
...
-
مالطا تقترح إصلاح سفينة من -أسطول الحرية- استُهدفت بمسيرات ف
...
-
هذه كانت وصية البابا الأخيرة.. تحويل سيارته إلى عيادة متنقلة
...
-
مصدران لـCNN: إسرائيل تصادق على خطة موسعة لاحتلال أراضي غزة
...
-
زيلينسكي: بعض السياسيين الأوروبيين يسعون للحصول على مقعد أفض
...
-
مجلس الوزراء الأمني الإسرائيلي يوافق على توسيع الهجوم في غزة
...
-
الهباش: عباس يعتزم مناقشة الوضع في غزة والعلاقات الثنائية مع
...
-
إنجاز روسي جديد.. أول قمرة قيادة بدون نوافذ للطائرات فوق الص
...
-
الأمن الروسي يلقي القبض على مواطن تلقى تعليمات أوكرانية لتنف
...
-
إسبانيا تعبر عن قلقها إزاء الأوضاع في سوريا وتدعو إسرائيل إل
...
المزيد.....
-
Express To Impress عبر لتؤثر
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
التدريب الاستراتيجي مفاهيم وآفاق
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
Incoterms 2000 القواعد التجارية الدولية
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
النتائج الايتيقية والجمالية لما بعد الحداثة أو نزيف الخطاب ف
...
/ زهير الخويلدي
-
قضايا جيوستراتيجية
/ مرزوق الحلالي
-
ثلاثة صيغ للنظرية الجديدة ( مخطوطات ) ....تنتظر دار النشر ال
...
/ حسين عجيب
-
الكتاب السادس _ المخطوط الكامل ( جاهز للنشر )
/ حسين عجيب
-
التآكل الخفي لهيمنة الدولار: عوامل التنويع النشطة وصعود احتي
...
/ محمود الصباغ
-
هل الانسان الحالي ذكي أم غبي ؟ _ النص الكامل
/ حسين عجيب
-
الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر
/ أيمن زهري
المزيد.....
|