عقيل الخضري
باحث، روائي، كاتب، ناشط في مجال حقوق الإنسان
(Aqeel Alkhudhari)
الحوار المتمدن-العدد: 8374 - 2025 / 6 / 15 - 04:19
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
أمير المؤمنين وخليفة المسلمين، أبو الفضل جعفر المتوكّل بن الخليفة المعتصم بن الخليفة هارون الرشيد بن الخليفة المهدي بن الخليفة المنصور القرشيَّ العبّاسيّ.
كتب في سيرته: أنّه نصر السنّة وحارب البدع..
يقول قاضي البصرة إبراهيم بن محمد التيمي:
الخلفاء ثلاثة: أبو بكر يوم الردّة، وعمر بن عبد العزيز في رد المظالم من بني أميّة، والمتوكّل في محو البدع، وإظهار السنّة. فلِّقبّ بمُحيي السُنَّة.
هدَّم الخليفة المُتوكِّل قبر ومشهد الحسَين بن عَلِيّ بن أبي طالِب في مدينة كَربلاء، كما هدَّم المنازل والدُور حوله، ووجَّه بأن يُبذر ويُسقى موضع القبر، وأن يُمنع النَّاس من زيارته، فنادى صاحبُ الشُرطة آنذاك قائلًا: من وجدناه عند القبر بعد ثلاثةً، حبسناهُ في المُطبِق! وكان ذلك كفيلًا بهروب النَّاس، بسبب سوء سُمعة سجن المُطبِق، ثم حُرث موضع المقام وزُرع، وذلك في سنة 236/ 851.
فقال البسامي أبياتا منها :
أسفوا على أن لا يكونوا شاركوا
في قتله فتتبعوه رميما
كما ضيَّق المتوكّل كثيرًا على أهل الذمة والنصارى تحديدًا! فميَّزهُم باللباس، والعمائم، والثياب، وأمرهم بلبس الطّيالسة العسليَّة اللَّون-الأوشحة- وشدّ الزنانير، وركُوب السرج بالركب الخشب، وعمل رُقعتين على لباس عبيدهم مُخالف للون الثُّوب، ومن خرج من نسائِهم فيلبسن إزارًا عسليًّا، وبهدم الكنائس التي بُنيت حديثًا في البِلاد، وبفرض ضريبة العشر من منازلهم، كما جعل على أبواب دُورهم صُور شياطين من خشب، ولم يكتفِ بذلك فحسب، بل نهى أن يُستعان بهم في أعمال السُّلطان، وبتسوية قُبورهم على الأرض، وحرَّم على المُسلمين أن يُعلموا أولاد النَّصارى أو اليَهُود، وكتب بذلك إلى سائر الأقاليم والآفاق كِتابًا مُطولًا يُوضح فيها رؤيته ومنهجُه.
ثمّ منع ركُوبهم الخَيْل، والبَراذِين- الخيول غير العربية- ليقتصر ركُوبهم على البِغال والحَمير.
وفي ثورة أهل حمص في العام 854، وجَّههُ بضرب ثلاثة من رُؤوس الثَّورة بالسّياط حتّى الموت، وأن يُصلبوا على أبواب حِمص، كما وجَّه بضرب عشرون شخصًا غيرهم، كُل واحد ستمائة جلدة وبإرسالهم لاحقًا إلى سامراء مُقيَّدين في الحديد، وقيل كانوا ثمانية من أعيان المدينة، وأمر بإخراج جميع النَّصارى من المدينة، وبهدم كنيستها العُظمى والتي كانت تقع بالقربِ من الجامِع وعلى أن يتم إلحاق أجزاء منها بالجامع.
كان ابن السِّكِّيت- من أئمة اللُّغة- في مجلس الخليفة المُتوكِّل يومًا، وكان في المجلس ولدا المُتوكِّل مُحَمَّد المُعْتَز، وإبراهيم المُؤيد، وكان ابن السِّكِّيت معرُوفًا بالتشيُّع، فقال لهُ المُتوكِّل حينما نظر إلى ولديه المُعْتَز والمُؤيَّد: من أحبُ إليك، هُما أو الحَسَن والحُسَيْن؟ فردَّ ابن السكِّيت: قُنبُر - يعني مولى عَلِيّ- خيرٌ مِنهُما! وقيل بل كان جوابهُ قاسيًا فقال: والله إن قُنبرًا خادم عَلِيّ خيرٌ مِنك ومن ابنيك! فغضِب المُتوكِّل من جوابه، وأمر الأتراك بقتله فورًا، فداسوا بطنهُ حتى مات، وقيل بل سُلَّ لسانُه من أسفله.
يقول الشاعر علي بن الجهم، خليل ونديم الخليفة المتوكّل، والمشهور بعدائه للعلويين:
كان المتوكّل مشغوفًا بجاريته قبيحة لا يصبر عنها، فوقفت له وقد كتبت على خدها بالغالِية- أَخلاط من الطيب كالمسك والعنبر- "جعفر" فتأملها، ثم أنشأ يقول :
وكاتبة بالمسكِ في الخدِ جعفرا
بنفسي محط المسك من حيث أثرا
لئن أودعت سطرا من المسك خدها
لقد أودعت قلبي من الحب أسطرا
أراد المتوكّل أن يعزل من العهد ابنه المنتصر، ويقدم عليه المعتز لحبه أمه قبيحة(1)، فأبى المنتصر، فغضب المتوكّل وتهدّده..
حدَّث الشاعر البحتري "205- 284" والذي كان مقرَّبًا من المتوكّل فقال:
اجتمعنا في مجلس المتوكّل، فذكر له سيف هندي، فبعث إلى اليمن فاشتري له بعشرة آلاف، فأعجبه وقال للفتح بن خاقان "وزير المتوكّل": ابغني غلامًا أدفع إليه هذا السيف لا يفارقني به، فأقبل باغر، فقال الفتح:
هذا موصوف بالشجاعة والبسالة، فأعطاه السيف وزاد في أرزاقه، فما انتضى السَّيف إلا ليلة، ضربه به باغر.. لقد رأيت من المتوكّل في ليلته -الأخيرة- عجبا، رأيته يذم الكبر، ويتبرأ منه. ثم سجد وعفر وجهه، ونثر التراب على رأسه، وقال: إنما أنا عبد.. فتطيّرت له، ثم جلس، وعمل فيه النبيذ، وغنيَّ صوتا أعجبه، فبكى،(2) فتطيّرت من بكائه، فإنا في ذلك إذ بعثت له قبيحة خلعة استعملها دّرَّاعة حمراء من خز ومطرف خز، فلبسهما، ثم تحرّك في المطرف، فانشق، فلفه، وقال: اذهبوا به ليكون كفني.
فقلت: إنا لله، اِنقضت والله المدّة..
وسكر المتوكِّل سكرًا شديدَا، ومضى من الليل إذ أقبل باغر في عشرة متلثمين تبرق أسيافهم، فهجموا علينا، وقصدوا المتوكّل، وصعد باغر وآخر إلى السرير، فصاح الفتح: ويلكم مولاكم! وتهارب الغلمان والجلساء والندماء، وبقي الفتح، فما رأيت أحدا أقوى نفسا منه، بقي يمانعهم، فسمعت صيحة المتوكّل إذ ضربه باغر بالسيف المذكور-الهندي- على عاتقه فقده إلى خاصرته، وبعج آخر الفتح بسيفه، فأخرجه من ظهره، وهو صابر لا يزول، ثم طرح نفسه على المتوكّل، فماتا، فلفا في بساط ثم دفنا معا.
ويُروى أن رجُلًا يُدعى عبَّادة المُخنَّث كان من نُدمائه في مجلسه، وكان يضعُ مخدةً تحت ثيابه في بطنِه، ويكشفُ رأسه وهو أصلع، فيرقص بين يدي المُتوكِّل والمُغنُّون يُغنون: قد أقبل الأصلعُ البَطين، خليفةُ المُسلمين، يقصدُون بذلك صِفات الخليفة عَلِيًا، لعلمهم بكراهية المُتوكِّل له، وكان الأخير يشربُ ويضحك على الموقف، وحدث ذلك يومًا أمام ابنهِ المُنتَصِر، وحينما حاول عبَّادة تكرارها أو فعلُ موقفٍ شبيه بذلك، هدَّدهُ المُنْتَصِر وغمزهُ أمام والده، فسكت عبَّادة خوفًا منه، فسأل المُتوكِّل ابنه: ما حالُك؟ فقام المُنتصر وقال: يا أميرُ المُؤمِنين، إن الذي يحكيهُ هذا ويضحكُ منه الناسُ، هو ابن عمَّك، وشيخُ أهلُ بيتِك، وبهِ فخرُك، فكُل أنت لحمُه إذا شئت، ولا تُطعم هذا الكلبَ وأمثاله منه. فنظر المُتوكِّل إلى المُغنين وقال لهُم بأن يُغنوا جميعًا بما يستفزُّ المُنْتَصِر. وكان هذا الموقف من الأسباب التي استحلَّ بها المُنتصر قتل أبيه المُتوكِّل.
كان المُتوكِّل قد استفز ابنِه المُنتصر كثيرًا، فقبل يومٍ من مِقتلِه، وفي أثناء جلسة شرابٍ له، كان مرةً يشتمه، ومرةً يأمُر بصفعِه، ومرةً يُهدّده بقتلِه، ثُم قال لوزيره الفتح: بُرئتُ من الله ومن قرابتي من رسُول الله صلَّ الله عليهِ وسلَّم إن لم تلطِمه!
فقام الفَتح ولطَم المُنْتَصِر مرَّتين، ثُم قال المُتوكِّل: اشهدوا عليّ جميعًا، أني قد خلعتُ المُستعجل.
ويقصد المُنْتَصِر، ثُم التفت إليه وقال: سميتُك المُنْتَصِر فسمَّاك الناس لحُمقك، ثم صُرت الآن المُسْتَعجِل.
فردَّ عليه المُنتصر: لو أمرتَ بضرب عُنُقي كان أسهلُ عليّ مما تفعلهُ بي. ثُم أمر المُتوكِّل بالعشاء في جوف الليل، وخرج المُنتصر من عنده غاضِبًا. كان بُغا الشَّرابي من المُتآمرين على الخليفة، مُتخفيًا في السَّتر، وكان مع جُل الأتراك، يبدون رُغبتهم في التخلُّص من المُتوكِّل، ولأنها فرصةٌ ثمينة بسبب غياب القائد التُّركي بُغا الكبير المُوالي للخليفة، وإقامته في سُمَيْساط بسبب حملاته ضد الرّوم، ومع أنّ الأخير ترك ابنهُ مُوسى بن بُغا "وهو ابن خالة المُتوكِّل" نائبًا عنه لحماية الخليفة، إلا أنه يجدي نفعًا.
وقال نديمُه الشَّاعر عليُّ بن الجَهْم بعد مقتل المتوكّل في بيت شعرٍ له:
عبيدُ أميرُ المُؤمِنين قَتَلنَهُ
وأعظمُ آفاتِ المُلوكِ عَبيدُها
بني هاشِمٌ صَبرًا، فكُلُّ مُصيبةٍ
سيَبلى على وجهِ الزَّمانِ جديدُها
أجمع الكثير من المُؤرِّخين أن الخليفة المُتوكِّل امتلك عددًا كبيرًا من الجواري والإماء في قُصوره، فوصل عددهُنَّ إلى أربعةِ آلاف سريَّة، مِنهنُ خُمسمائة لفراشه، وذُكر أنّه كان لديه مائتان رُوميَّات، ومائتان مُولِّدات وحَبَش، وأن عُبيد الله بن طاهِر قد أهدى إلى المُتوكِّل أربعمائة جارية مرّة واحدة!
ذكر أنّ أبا إسحاق الأهوازي عابر الرؤيا "مفسِّر الروى والأحلام"، حمل إلى أمير المؤمنين وخليفة المسلمين أبو الفضل جعفر المتوكّل، فلما أدخل عليه، قال المتوكِّل لنديمه ابن حمدون: اعبث به.
فقال له ابن حمدون:
متى تعلّمت العبارة ؟ "أي تفسير الرؤيا"
أجاب:
أنا معبّر قبل أن تكون أنت مضحكًا.
قال ابن حمدون:
فما تقول في رؤيا رأيتها؟
قال: وما هي؟
قال: رأيت كأن أمير المؤمنين حملني على فرس أشهب أخضر الذنب.
قال: إن صدقت رؤياك، فإنّ أمير المؤمنين يأمر بأن يدخل في أستك فجلة، فيغيب أصلها الأبيض وتبقى الخضرة بين فخذيك.
فضحك المتوكّل وقال:
صدقت رؤياك يا ابن حمدون، هاتوا فجلة..
فقال ابن حمدون: يا أمير المؤمنين أنت أمرتني!
قال المتوكّل: ولكنّك رأيت الرؤيا قبل أمري لك.
ثم أمر بأنّ تدسّ في دبر نديمه ابن حمدون، فجلة.
______
1- امرأة من أصلٍ رُوميّ فائقةُ الجمال، وأكثر النساء حُظوظًا لدى المُتوكِّل، وقد اسماها قبيحة خوفًا عليها من إصابة العين لشدة جمالِها، وقد ولدت لهُ مُحَمد المُعتز بالله، وإسماعيل.
2- كان في التاسعة والثلاثين من العمر عند مقتله.
#عقيل_الخضري (هاشتاغ)
Aqeel_Alkhudhari#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟