عقيل الخضري
باحث، روائي، كاتب، ناشط في مجال حقوق الإنسان
(Aqeel Alkhudhari)
الحوار المتمدن-العدد: 8335 - 2025 / 5 / 7 - 17:53
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
بعدما آل الحكم إلى معاوية بن أبي سفيان، انتهج الخليفة الجديد سياسة سلطان لتوسيع سلطنته، والحكم بقبضة حديدية ودموية بالتعاطي مع مخالفيه بالسياسة والرأي، جانبت الرسالة الإسلامية التي اتبعها الخلفاء قبله، ودون الإلتفات إلى الكتاب ولا السنة..
كان بُسر بن أبي أرطأة في الشام عندما قتل الخليفة عثمان أواخر عام 35هـ، فانضمَّ فورًا إلى جيش معاوية الذي رفع رايات الثأر لدمِ الخليفة المظلوم، وشهد موقعة صفين الكبرى 37هـ، مقاتلًا في صف معاوية ضد جيش العراق الذي قاده الإمام علي، وتعزَّزت مكانته بين أنصار معاوية لبلائه العنيف في تلك المعركة، وأصبح أهلًا للمهام الصعبة.
تنقل كتب التاريخ مواقف له في ساحات القتال اجتمع فيها الجرأة والشجاعة مع التهور والاندفاع، وقد لعبَ دورًا كبيرًا في حملة معاوية السياسية لفرض توريث العرش إلى ابنه يزيد، والتي استخدم فيها معاوية العصا والجزرة، فكان بُسر من أهم أوراق الترهيب في يد معاوية.
وجه معاوية بسر بن أبي أرطاة، بجيش جرار إلى البصرة، فدخلها وخطب على منبرها، بدأ خطبته بشتم الإمام علي والوعيد لأنصاره.. ثم راح يتتبّع كلّ مَن كان له بلاءٌ مع عليّ، أو كان مِن أصحابه، وكلّ مَن أبطأ عن بيعة معاوية، فأقبل يحرقُ دورَهم ويخرِّبها، وينهبُ أموالَهم ، فلمْ يرحم شيخًا ولا امرأةً ولا طفلًا، وارتكب مِنَ الفظائع والمنكرات ما تقشعرّ له الأبدان.
توّجه بسر بجيشه في "غزوة"- هل يحق للمسلمين غزو المسلمين أيضًا؟!- الحجاز واليمن عام 40هـ.
احتلَ جيشُ بُسرٍ المدينة من دون مقاومةٍ تُذكر.. ودخل بقواته الحرم النبوي، ثم أمرَ بسدّ أبوابه، وخطب في أهل المدينة متوعّدًا: "يا أهل المدينة! والله لولا ما عهد إلي أمير المؤمنين - معاوية- ما تركت بها محتلِمًا إلا قتلتُه"!
فبايع أهل المدينة لمعاوية، وأرسل إلى بني سلمة فقال: لا والله ما لكم عندي من أمان ولا مبايعة حتى تأتوني بجابر بن عبد الله - صاحب النبي-، فخرج جابر بن عبد الله الأنصاري و دخل على أم سلمة- من أمهات المؤمنين- خفيا وقال لها: يا أمه، إني خشيت على ديني وهذه بيعة ضلالة! فقالت له: أرى أن تبايع، فقد أمرت ابني عمر بن أبي سلمة أن يبايع فخرج جابر بن عبد الله فبايع بسر بن أبي أرطأة لمعاوية، وهدم بسر دورا كثيرا بالمدينة، ثم خرج حتى أتى مكة فخافه الصحابي أبو موسى الأشعري، وهو يومئذ بمكة فتنحى عنه فبلغ ذلك بسرا فقال ما كنت لأوذي أبا موسى ما أعرفني بحقه وفضله، يعني موقفعه من مسألة التحكيم.
بقى بسر وجيشه بالمدينة شهرًا كاملًا، يقتل فيه بالشُبهة كلُّ من يتهمه بأنه كان شريكًا في قتل عثمان، ويهدم منزله، وذُكر عن التابعي عامر الشعبي قوله، إن بُسرَ قد هدم الكثير من منازل المدينة المنورة في تلك "الغزوة"، وأخذ البيعة لمعاوية عنوة من أهل المدينة. ثم سار في طريقه جنوبًا، فقتل بعض أفراد قبيلة بني كعب وألقى جنوده جُثثهم في أحد الآبار.
توجَّه بُسر بعد ذلك إلى اليمن، حيث فتك بالعديد من أنصار الإمام علي وخصوم معاوية، ومنهم عمرو بن الديّان والذي كان له دورٌ كبير في ثبات قومِه على الإسلام بعد اندلاع موجات الردة إثر وفاة الرسول.. وكان عبيد الله بن العباس- ابن عم النبي ووالي اليمن- قد ترك ابنيه عبد الرحمن وقثم عند رجل من بني كنانة، وكانا صغيرين، فلما انتهى بسر إلى بني كنانة بعث إليهما ليقتلهما فلما رأى ذلك الكناني، خرج ينشد عليهم بسيفه حاسرا وهو يقول:
الليث من يمنع حافات الدار
ولا يزال مصانا دون الدار
ألا فتى أزوع غير غدار
فقال له بسر: ثكلتك أمك والله ما أردنا قتلك فلما عرضت نفسك للقتل؟
فقال أقتل دون جاري فعسى أعذر عند الله وعند الناس، فضرب بسيفه حتى قتل، وقدم بسر الغلامين فذبحهما ذبحا.. فطاش عقل أمّهما جويرية بنت قارظ الكنانية، وهامتْ على وجهها..
ونُسب إليه في تلك "الغزوة" سبيْ بعض نساء خصومه المسلمات وبيعهنَّ في سوق الرقيق، وهي سابقة في تاريخ الإسلام آنذاك، كما قتل أكثر من مائتيْن شخصٍ من الذي حاربوا في صف الإمام علي في موقعة صفين، ولمَّا بلغت أنباء غزوة بسر لليمن إلى الإمامَ علي، أرسل جيشًا بقيادة جارية بن قدامة، استعاد به السيطرة على الحجاز واليمن وقتلَ بعض أنصار بُسر الذي فرَّ إلى الشام، لكن لم تُمهل الأقدار الإمام علي، حيث اغتيل في نفس العام 40هـ على يد ابن ملجم.
يقول المسعوديّ عن بسر أنه: "قتَلَ بالمدينة وبينَ المسجدينِ خلقًا كثيرًا مِن خزاعة وغيرهم، وكذلك بالجُرف، قتل بها خلقًا كثيرًا من رجال هَمْدَان، وقتل بصنعاء خلقًا كثيرًا من الأبناء، ولمْ يبلغْه عن أحدٍ أنّه يُمالئ عليّا أو يهواه إلّا قتلَهُ"- كلهم مسلمون!
عن واهب بن عبد الله المعافري قال: قدمت المدينة فأتيت منزل زينب بنت فاطمة بنت علي، لأسلم عليها فدخلت عليها الدار فإذا عندها جماعة عظيمة وإذا هي جالسة مسفرة، وإذا امرأة ليست بالجليلة ولم تطعن في السن، فاحتملتني الحمية والعفّة لها فقلت: سبحان الله قدرك قدرك وموضعك موضعك وأنت تجليسن للناس كما أرى مسفرة؟! فقالت إن لي قصة قلت: وما تلك القصة؟ فقالت: لما كان أيام الحرة وفد أهل الشام المدينة وفعلوا فيها ما فعلوا، وكان لي يومئذ ابن قد ناهز الاحتلام، فلم أشعر به يومًا وأنا جالسة في منزلي إلا وهو يسعى، وبسر بن أبي أرطأة يسعى خلفه حتى دخل عليّ، فألقى الصبي نفسه عليَّ وهو يبكي، يكاد البكاء أن يفلق كبده.. فقال لي بسر ادفعيه إلي فأنا خير له، قالت: فقلت له اذهب مع عمك، فقال لا والله لا أذهب معه يا أمه هو والله قاتلي.. فقلت أترى عمك يقتلك! فقال لا والله يا أمه لا أذهب معه هو والله قاتلي! قالت: فلم أزل أرفق به وأسكنه حتى سكن.. ثم قال لي بسر ادفعيه إلي فأنا خير له، فقلت اذهب مع عمك فقام وذهب معه، فلما خرج من باب الدار وإذا بسر قد اشتمل على السيف فيما بينه وبين ثيابه، فلما ظهر إلى السكة رفع بسر ثيابه على عاتقه وشهر السيف عليه من خلفه، ثم علا به من خلفه، فلم يزل يضرب به حتى برد.. فجاءتني الصيحة: أدركي ابنك قد قطّع .. فخرجت أتعثر في ثيابي ما معي عقلي، فإذا جماعة قد أطافوا به فإذا هو قتيل قد قطّع، فألقيت نفسي عليه، وأمرت به يحمل.. فجعلت على نفسي من يومئذ لله أن لا أستتر من أحد، لأن بسرا هو أوّل من هتك ستري وأخرجني للناس، فالله حسيبه.
من المواقف المشهورة لبسر بن أبي أرطأة في عهد معاوية، الاشتباك الذي حدث في مجلس معاوية بينه وبين زيد بن عمر بن الخطاب، وكان لزيدٍ مكانة خاصة في المجتمع الإسلامي في ذلك الوقت، فقد كانت من نسل خليفتيْن راشديْن، فوالده الخليفة عمر، وجده لأمِّه أم كلثوم، هو الإمام علي ، كما كان يتمتع بجمال الخلُق والخِلقة معًا بشهادة معاصريه، فكان يجتذب الأعين والعقول في كل مجلس يحضره، وكان معاوية يخشاه لمكانته.
في ذلك اليوم، فوجئ الحاضرون في مجلس الخليفة في دمشق، بتصاعد لغة النقاش بين زيدٍ و بسر، وقد تطاول الأخير باللفظ على زيد، فما كان من زيد إلا أن اشتبك معه بالأيدي، وخنقه، و صرعه أرضًا، ثم تركه وانصرف غاضبًا من المجلس، وهو ينظر إلى معاوية بغضبٍ متهمًا إياه بأنه قد دبّر تطاول بُسر عليه، ومُهددًا الخليفة من طرفٍ خفي بمنزلته الاجتماعية والسياسية قائلًا له:
إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّ هَذَا عَنْ رَأْيِكَ، وَأَنَا ابْنُ الْخَلِيفَتَيْنِ
فشعر معاوية بالحرج، واعتذر لزيدٍ، وحاول استرضاءَه بمنحه تعويضًا ماليًا.
اختفى بُسر فجأةً عن الأضواء لسنواتٍ عديدة في آخر حياته، ويُقال إنَّ هذا الاختفاء كان لأسبابٍ مرضية، فقد أصيب بالخَرَف والوساوس مع شيخوخته، فكان يتكلّم مع نفسه ويكلِّم أشباح معارضيه ومن قتلهم، وشاهده البعض كما ينقل ابن عساكر، يصيح في الشارع أين عثمان؟ أين شيخي، ويُشهر سيفَه في الفراغ، فصُنِع له سيفٌ من الخشب مخافةً أن يقتل أحدًا.
وصف بسر بأنه صحابي، و قال الواقدي: ولد بسر قبل وفاة النبي بسنتين.
عنونَ الحاكم النيسابوري فصلًا تحدّث فيه عن بُسر القرشي العامري، في كتابه "المُستَدرَك على الصحيحيْن" بقوله: بسر بن أبي أرطأة، رضي الله عنه.
#عقيل_الخضري (هاشتاغ)
Aqeel_Alkhudhari#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟