أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - زهير سوكاح - بيير نورا: مؤرخ الذاكرة وأب -أماكن الذاكرة-















المزيد.....

بيير نورا: مؤرخ الذاكرة وأب -أماكن الذاكرة-


زهير سوكاح

الحوار المتمدن-العدد: 8367 - 2025 / 6 / 8 - 20:18
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


غادرنا مؤخرًا إلى دار البقاء المؤرخ الفرنسي البارز بيير نورا، عن عمر يناهز الثالثة والتسعين، تاركًا خلفه إرثًا فكريًا رصينًا، تتصدّره نظريته "أماكن الذاكرة" (Lieux de mémoire) والتي تُعد علامة فارقة في تطور دراسات الذاكرة، التي أضحت اليوم حقلًا أكاديميًا مزدهرًا ومتعدد التخصصات.
شغل نورا مقعدًا في الأكاديمية الفرنسية منذ عام 2001، وهو ما يعكس مكانته الرفيعة في المشهد الفكري والثقافي الفرنسي. ولم يقتصر تأثير أعماله على الأوساط الأكاديمية، بل امتد ليشمل فهمنا الجمعي والثقافي لكيفية تشكّل الماضي في الحاضر.
تقوم نظرية نورا على فكرة أن الذاكرة الجمعية لا تُحفظ في السرديات التاريخية وحدها، بل تتجسد أيضًا في أماكن مادية ورمزية محددة. ويمكن لهذه "الأماكن" أن تكون معالم تاريخية، أو نصوصًا، أو شعارات، أو طقوسًا، أو حتى شخصيات، تختزن فيها الذاكرة وتُعاد إنتاجها جمعيًا وثقافيًا. وفي هذا السياق، يتقاطع تصور نورا لوظيفة الذاكرة الجمعية مع ما طرحه عالم الاجتماع الفرنسي موريس هالبفاكس، حيث احتفى نورا بالمفهوم الهالبفاكسي للذاكرة الجمعية. إلا أنه، بخلاف هالبفاكس، ركّز في تحليله على البعد الحسي للذاكرة الجمعية، أي ما أسماه "أماكن الذاكرة". ولشرح فكرته بشكل أوضح، يتحدث نورا عن ثلاثة أبعاد رئيسية تجعل من المفهوم المجرد أو الشيء الحسي مكانًا للذاكرة: البعد المادي، والبعد الوظيفي، والبعد الرمزي. وهنا، لا ينبغي أن يُفهم البعد المادي على أنه يقتصر على ما هو ملموس فقط، كالمباني أو اللوحات أو الكتب؛ إذ إن أحداثًا تاريخية مفصلية أو لحظات صمت لإحياء ذكرى شخص راحل تكتسب أيضًا بعدًا ماديًا واضحًا، لأنها تمثل مقطعًا محددًا من الزمن. وتكتسب هذه التموضوعات بعدًا وظيفيًا، إذ تؤدي وظيفة محددة ضمن المنظومة الاجتماعية. ولكي ترقى إلى مصاف "أماكن الذاكرة"، يجب أن تحمل أيضًا معنى رمزيًا معينًا، يتجلى حين تتحول ممارسات أو أفعال معينة إلى طقوس تحيط بها هالة رمزية. فبهذا الارتقاء الرمزي، تكتسب هذه التموضوعات طبيعة جمعية وثقافية، كما هو حال أماكن الذاكرة في أي مجتمع. وقد جاء المشروع الضخم الذي أشرف عليه نورا، "أماكن الذاكرة" (الصادر في سبعة مجلدات بين عامي 1984 و1992)، كدراسة شاملة لكيفية بناء الأمة الفرنسية لذاكرتها الجمعية من خلال هذه الأماكن الذاكرية.
في ضوء ذلك، تمثل هذه الأماكن بالنسبة لنورا نقطة تبلور جمعي للذاكرة والهوية، سواء كانت مادية أو رمزية، وتستمر عبر الأجيال. لذا يتميز المكان الذاكري بتنوع أبعاده الرمزية والعاطفية من جهة، وبارتباطه بالعادات الاجتماعية والثقافية والسياسية من جهة أخرى. ويتغير مفهوم المكان تبعًا لتغير طريقة إدراكه واستيعابه واستخدامه ونقله.
لا غرابة إذًا أن تمكنت نظرية نورا في إحداث تحول جذري في الطرق المنهجية لدراسة التاريخ والذاكرة. فقد أبرزت أهمية العوامل غير المادية في تشكيل الهويات الوطنية والجمعية، وكيفيات تفاعل الذاكرة مع التاريخ الرسمي التي تتبنها الأنظمة السياسية. وقد حفّزت نظريته على ظهور العديد من المشاريع التطبيقية في مختلف أنحاء العالم التي سعت إلى تطبيق هذا الإطار التنظيري على سياقات ثقافية وتاريخية متنوعة، فقد ظهرت بعد ذلك مشاريع بحثية مماثلة داخل القارة الأوروبية وخارجها، مثل المشروع الألماني Deutsche Erinnerungsorte (2001)، الذي انفتح على الأفق الأوروبي، والمشروع الأمريكي المعروف بـ City of Memory (2003)، وغيرها من المشاريع التنظيرية والتطبيقية حول الأماكن الذاكرة في بلدان أخرى، مثل هولندا وإيطاليا وبلجيكا وسويسرا وروسيا ومنطقة الكيبك الكندية، إضافةً إلى إصدارات عدة حول أماكن ذاكرية مشتركة، مثل أماكن الذاكرة الألمانية-البولندية. ولم تقتصر هذه الكتابات على الدول، بل شملت أيضًا أديانًا، مثل أماكن الذاكرة المسيحية، وثقافات وحقب زمنية، مثل أماكن الذاكرة للعصر الكلاسيكي، وأماكن ذاكرة حرب التحرير الجزائرية من خلال عمل المؤرخ الفرنسي ستورا.
لا عجب إذًا أن أحدثت نظرية نورا تحولًا جذريًا في المناهج المعتمدة لدراسة التاريخ والذاكرة، إذ أبرزت أهمية العوامل غير المادية في تشكيل الهويات الوطنية والجمعية، وبيّنت كيف تتفاعل الذاكرة مع التاريخ الرسمي الذي تتبناه الأنظمة السياسية. وقد حفّزت هذه النظرية ظهور العديد من المشاريع التطبيقية حول العالم، التي سعت إلى تطبيق هذا الإطار النظري في سياقات ثقافية وتاريخية متنوعة. من أبرز هذه المشاريع: المشروع الألماني Deutsche Erinnerungsorte (2001)، الذي انفتح على الأفق الأوروبي، والمشروع الأمريكي المعروف بـ City of Memory (2003)، إلى جانب مشاريع أخرى في هولندا وإيطاليا وبلجيكا وسويسرا وروسيا ومنطقة الكيبك الكندية، بالإضافة إلى إصدارات حول أماكن ذاكرية مشتركة مثل أماكن الذاكرة الألمانية-البولندية. ولم تقتصر هذه الدراسات على الدول، بل شملت أيضًا أديانًا، مثل أماكن الذاكرة المسيحية، وثقافات وحقبًا زمنية، مثل أماكن الذاكرة للعصر الكلاسيكي، وأماكن ذاكرة حرب التحرير الجزائرية من خلال عمل المؤرخ الفرنسي بنجامين ستورا.
أما على الصعيد العربي، فلا نكاد نسمع عن مشاريع مماثلة، رغم ما تتعرض له أماكن الذاكرة في المنطقة من تدمير مادي ومعنوي، وعلى رأسها أماكن الذاكرة الفلسطينية.
برحيل بيير نورا، فقد العالم مؤرخًا ترك بصمة لا تُمحى في الفكر العالمي المعاصر، وأسهم بعمق في فهمنا لكيفية عمل الذاكرة في حياتنا الفردية والجمعية والثقافية.

المراجع
زهير سوكاح: دراسات الذاكرة في العلوم الإنسانية والاجتماعية: مقاربات وقضايا جديدة. دار خطوط وظلال للنشر – الأردن 2025
مجموعة مؤلفين/زهير سوكاح (المحرر الضيف): من الذاكرة إلى دراسات الذاكرة. مقاربات عربية بينتخصصية. مجلة تبين، العدد 33
زهير سوكاح: نظرية أماكن الذاكرة لبيير نورا: التاريخ الجديد والذاكرة، الحوار المتمدن، العدد: 6176 بتاريخ 2019 / 3 / 18
زهير سوكاح: الهوية بين الكتابة التاريخية والذاكرة الجمعية : نحو نموذج ذاكراتي فلسطيني، مجلة رؤى تربوية، العدد 27، رام الله ـ فلسطين 2008.
زهير سوكاح: أماكن الذاكرة، الحوار المتمدن، العدد: 1867 بتاريخ: 2007 / 3 / 27



#زهير_سوكاح (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كلّ كتب هذا العالم / هيرمان هيسه
- الجائزة العربية ويورغن هابرماس: من التواصل إلى اللاتواصل
- في وداع مصطفى ماهر: عرّاب الأدب الألماني
- صيادون على بحر البلطيق روبرت موزيل
- هاينرش هاينه: حينما أمُر بجانب بيتك
- أنت مثل زهرة/ هاينرش هاينه
- أقصوصات مغتربة جدًا- الجزء الثاني
- أقصوصات مغتربة جدًا-الجزء الأول
- الأندلس، المغرب والصحراء: هل تمت ذاكرة حضارية جامعة؟
- نظرية أماكن الذاكرة لبيير نورا: التاريخ الجديد والذاكرة
- نظرية الذاكرة الجمعية لموريس هالبفاكس: التذكر بوصفه ظاهرة مج ...
- قصيدة -توم المسكين- لشاعر البروليتاريا الألمانية غيورغ فيرت
- أقوال هاينية خالدة
- جرائم منسية: ألمانيا وماضيها الاستعماري في إفريقيا
- بنات الرياض في الصحافة الألمانية
- يواخيم كامبه..نضال من أجل -ألمنة- الألمانية!
- قراءة في إصدار ألماني حول الذاكرة والتاريخ في الإسلام
- توم المسكين للشاعر الألماني غيورغ فيرت
- إلى ديوتيما فريدريش هولدرلين
- أماكن الذاكرة


المزيد.....




- ترامب يأمر بنشر قوات الحرس الوطني في لوس أنجلوس.. شاهد ما رص ...
- الجيش الإسرائيلي يعلن العثور على جثة قيادي حماس محمد السنوار ...
- أهدرت عائلته دمه.. من هو ياسر أبو شباب قائد القوة الجديدة في ...
- طهران: وثائق إسرائيل تعزز قوتنا الهجومية
- العراق.. دعاية مبكرة للانتخابات المحلية
- موسكو: ننتظر رد كييف حول تسلم جثث جنودها
- مصر.. أكبر مستورد للقمح الروسي بإفريقيا
- زلزال بقوة 6.5 درجة على مقياس ريختر يضرب العاصمة الكولومبية ...
- عاجل | وسائل إعلام إسرائيلية: أنباء أولية عن حدث أمني في حي ...
- البرش: موت جماعي في مستشفيات غزة إذا لم يُدخل الوقود


المزيد.....

- كتاب لمحات من تاريخ مملكة الفونج الاجتماعي / تاج السر عثمان
- كتاب تاريخ سلطنة دارفور الاجتماعي / تاج السر عثمان
- برنارد شو بين الدعاية الإسلامية والحقائق التاريخية / رحيم فرحان صدام
- الانسان في فجر الحضارة / مالك ابوعليا
- مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات ... / مالك ابوعليا
- مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا ... / أبو الحسن سلام
- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - زهير سوكاح - بيير نورا: مؤرخ الذاكرة وأب -أماكن الذاكرة-