أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حميد كشكولي - أسباب الفظائع وتجريد الإنسان من إنسانيته















المزيد.....

أسباب الفظائع وتجريد الإنسان من إنسانيته


حميد كشكولي
(Hamid Koorachi)


الحوار المتمدن-العدد: 8365 - 2025 / 6 / 6 - 16:14
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


بعد الكشف المروع عن الجثث وآثار التعذيب في سجون النظامين البعثيين في العراق وسوريا بعد سقوطهما، يطرح تساؤل مؤرق: كيف يمكن لهذه الفظائع أن تتجسد في مجتمعات طالما عرفت بتمسكها بالدين وتقاليدها العربية الأصيلة؟ هل تكمن الجذور في الفكر البعثي والاشتراكي، أم أن الأيديولوجيات "المستوردة"، مثل تلك القادمة من روسيا، هي المحرك الحقيقي لهذه الانتهاكات؟ وإذا كان الرد الشائع بأن هذه الفظائع لا تعكس جوهر مبادئ البعث، فالمشكلة تتجاوز حدود الأيديولوجيات والأنظمة لتشمل ظاهرة إنسانية عالمية أعمق.
إن إشكالية القمع والتعذيب ليست حكراً على حزب أو نظام معين، بل هي ظاهرة إنسانية متجذرة في التاريخ البشري. يعرض كتاب "حيونة الإنسان" لممدوح عدوان إجابة قوية على السؤال المؤلم: كيف يمكن لإنسان أن يتحول إلى أداة للتعذيب والقتل بدم بارد؟ يستند الكتاب إلى تجارب حقيقية وأبحاث علمية وسلوكية تكشف عن الانهيار التدريجي للضمير الإنساني، ليصبح الفرد أداة طيعة في يد الأنظمة والسلطات القمعية.
تكمن أحد الأسباب الرئيسية في شعور الفرد بأنه مجرد أداة تنفذ أوامر السلطة العليا. عندما يُطلب منه ارتكاب أفعال تتنافى مع الأخلاق والإنسانية، يجد تبريراً داخلياً يطمس صرخات الضمير، مفاده: "أنا مجرد منفذ للأوامر" أو "عبد مأمور". هنا تتآكل المعايير الأخلاقية، وتتحول المسؤولية الفردية إلى عبء يتم تجاهله. هذه "الحالة الوكيلة" حيث ينقل الفرد مسؤوليته إلى السلطة الآمرة، يمكن أن تحدث في أي نظام هرمي، سواء كان عسكريًا، سياسيًا، أو حتى دينيًا إذا تم استغلال السلطة بشكل خاطئ.
كما أن مكافأة العنف والقسوة بالترقية أو المال أو السلطة يعزز السلوك الإجرامي ويجعله يبدو "مشروعًا" في عيون الجلاد، مما ينشئ حلقة مفرغة من العنف والمكافأة. وحين يعلم الجلاد أنه لن يُحاسب على أفعاله، يتلاشى أي رادع أخلاقي أو قانوني لديه، مما يخلق بيئة خصبة لاشتداد الجرائم والفظائع.
تستخدم الأنظمة الشمولية والإعلام الموجه وسائل نفسية متعددة لتحويل الآخر إلى "عدو"، مصورين إياه على أنه "خائن وعميل"، "عالة على المجتمع"، أو حتى "كائن دون البشر". تلعب هذه التصنيفات دورًا محوريًا في تسهيل تبرير الجرائم بحق الآخر المراد إقصاؤه. ولهذا السبب، يسهل ارتكاب جرائم وحشية مثل القتل والتعذيب والإعدامات تحت راية الدين أو الوطن أو القضية القومية.

لا تنشأ القسوة فجأة، بل هي عملية تدريجية تبدأ من اللامبالاة تجاه معاناة الآخر، ثم تتطور عبر مراحل من الإهانة والاعتداء اللفظي وصولاً إلى التعذيب الجسدي والنفسي. مع استمرار هذه العملية، تترسخ حالة من التبلد الأخلاقي تجعل الشخص غير مدرك لمستوى الانحطاط الذي وصل إليه سلوكه.

يلعب الخوف أيضًا دورًا جوهريًا؛ إذ يتحول الشخص من مجرد فرد خاضع للقمع إلى شخص يمارس القمع بنفسه لضمان أمانه الشخصي. في ظل الأنظمة الاستبدادية، يصبح البقاء في دائرة الناجين مرتبطًا بمدى إظهار الولاء للنظام، ولو كان ذلك عبر ارتكاب أفظع الجرائم بحق الآخرين.

تكمن الكارثة في استخدام شعارات مقدسة مثل "الدين"، "الوطن"، و"القضية" كغطاء لممارسة أبشع الجرائم. بهذه الطريقة، يتحول الجلاد إلى شخص يبرر أعماله بأيديولوجيات دينية أو قومية تغذي شعورًا زائفًا بالنبل والتفاني في خدمة الهدف السامي. هذا الأمر يُظهر الارتباط الواضح بين نزعة السلطة المطلقة وآلية تجريد الضحية من إنسانيتها.

المشكلة ليست في الدين أو العادات العربية بحد ذاتها، فكلاهما يحتويان على قيم ومبادئ تدعو إلى العدل والرحمة واحترام الإنسان. لكن المشكلة تكمن في تأويل وتوظيف هذه المفاهيم بشكل خاطئ لخدمة أجندات سياسية قمعية. عندما يتم استخدام الدين أو العادات لتبرير العنف أو القمع، فإنها تتحول من مصادر للقيم إلى أدوات للتحكم والسيطرة.

تتعدد العوامل التي تساهم في تجريد الإنسان من إنسانيته داخل الأنظمة القمعية. تعتمد هذه الأنظمة على زرع أيديولوجياتها منذ المراحل العمرية المبكرة عبر التعليم، الإعلام، والمؤسسات المختلفة، مع تكريس مفهوم الولاء المطلق وتبرير العنف كوسيلة للحفاظ على السيطرة. ويتم قمع دور الأسرة ومنظمات المجتمع المدني بهدف تقويض القيم المستقلة وتعزيز النفوذ المطلق للنظام.

تركز هذه الأنظمة على زعزعة الثقة بين الأفراد، مما يؤدي إلى تفكك الروابط الاجتماعية وانتشار الخوف والعزلة، حيث يصبح الجميع مشغولاً بضمان سلامته الشخصية بعيداً عن أي حس بالتضامن المجتمعي. وفي ظل هذه البيئة، يسود الطابع الفردي على حساب العمل الجماعي، الأمر الذي يسهل عملية التحكم والسيطرة.

تُفرض كذلك القيم العسكرية التي تعزز الطاعة المطلقة والتراتبية بدلاً من التفكير الحر والإبداع. في الوقت نفسه، يتم تطبيع العنف من خلال الاستخدام الممنهج للقوة وتبريره عبر وسائل الإعلام، مما يجعل الأفراد أقل تعاطفاً وأكثر تقبلاً لمشاهد الظلم. وتستخدم الأنظمة القمعية خطاباً يشيطن المعارضين عبر أوصاف مهينة وتحريضية مثل "الحشرات"، "الفئران"، أو "الإرهابيين"، مما يقلل من إنسانية الضحية في نظر عامة الناس والجلادين أنفسهم.

أما بالنسبة للجناة، فيخضعون لتدريب يعمل على خلق انقطاع نفسي عن التعاطف مع الضحايا، إذ يتم تشجيعهم على تجاهل الألم أو حتى الاستمتاع بمعاناة الآخرين. ومع تقسيم المهام إلى عمليات بيروقراطية صغيرة، يُسلب من الأفراد الإحساس بالمسؤولية الشخصية لأنهم يعتبرون أنفسهم مجرد منفذين لواجبات مفروضة أو أوامر عليا.

علاوة على ذلك، يتم استهداف هويات الأفراد داخل المؤسسات القمعية عبر إلغاء خصوصياتهم الشخصية باستخدام الملابس الموحدة، الحلاقة الموحدة، والتدريبات الجماعية الصارمة. هذا التكتيك يهدف إلى طمس فرديتهم وتعزيز شعور الانتماء للجماعة، مما يزيد من الضغط للامتثال للأوامر خوفاً من العقاب أو التهميش.

وتسعى الأنظمة أيضاً لتوظيف الدين أو الفكر القومي بطرق مشوهة لتبرير القمع ورسم صورة مقدسة للظلم تحت شعارات مثل "المصلحة الوطنية" أو "الدفاع عن القيم العليا". وعلى هذا النحو، يتحول القمع إلى فعل يبدو مشروعاً أو واجباً أخلاقياً، مما يمنح الجلادين الإحساس بالأحقية أو التفوق المعنوي.

إن هذه الممارسات المتشابكة تقود في النهاية إلى بيئة يتم فيها تجريد البشر – سواء كانوا ضحايا أو جلادين – من إنسانيتهم تدريجياً. فالضحايا يتحولون إلى عناصر دونية لا يُنظر لها باعتبار أخلاقي أو إنساني، بينما يتحول الجلادون أنفسهم إلى أدوات قمعية تعمل دون وعي، فاقدة للقيم والضمير الإنساني.



#حميد_كوره_جي (هاشتاغ)       Hamid_Koorachi#          



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كيف يحتفل القوميون بانتصار الحقبة السوفيتية التي يمقتونها؟
- هل المترجم إنسان؟
- لماذا لم تحقق الولايات المتحدة أهدافها في أوكرانيا؟
- الاتحاد الأوروبي على مفترق طرق: تحديات الرأسمالية العالمية و ...
- ثأثير ألف ليلة وليلة على الأدب والفن العالمي
- دمية أحمد: قصة أمل وحب متجدد
- فارس الروح
- الخليج الفارسي أم العربي، ليست تلك هي المسألة
- التنين الصيني قد يغمض لكن لا ينام
- عبقرية تشيخوف في قدرته الفذة على استكشاف أبعاد النفس البشرية
- الرأسمالية وتطبيع الاستغلال والكوارث الإنسانية
- علاقة الفكر والعمل
- الاستبداد الناعم
- العواقب الوخيمة لمقولة -كيفما تكونوا، يولّى عليكم-
- الساموراي الأخير عربيّا
- التسريبات لا تصدم أحدا قرأ التاريخ
- لم تكن لدى ماركس وصفات الطبخ للمستقبل
- قراءة رواية -الأمّ- في العصر الرقمي
- الحاكم الإله والقانون الإلهي في الشرق
- أسباب التوهم بقوة جيوش الأنظمة الديكتاتورية


المزيد.....




- ترامب مازحا عن إيلون ماسك: أمريكا تستطيع البقاء بدون أي شخص ...
- واشنطن تفرض عقوبات جديدة تستهدف إيران وتشمل كيانات في الإمار ...
- بضربة شاملة.. قصف روسي لمواقع بأوكرانيا
- ماكرون ولولا دا سيلفا يحضران فعالية ثقافية في باريس
- عروض نارية مبهرة تضيء سماء أبوظبي في أولى ليالي عيد الأضحى ا ...
- أولمرت: إسرائيل مسؤولة عن تلبية حاجة سكان غزة
- أمريكا.. تحويل الطائرة القطرية إلى -رئاسية- يثير انتقادات في ...
- استمرار التصعيد بين موسكو وكييف... وروسيا تعلن قتل شخص كان ي ...
- مقتل أربعة جنود إسرائيليين في غزة وسط نقص كبير في عديد الجيش ...
- حريق هائل يلتهم صهاريج في أوكلاهوما الأمريكية


المزيد.....

- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حميد كشكولي - أسباب الفظائع وتجريد الإنسان من إنسانيته