حميد كشكولي
(Hamid Kashkoli)
الحوار المتمدن-العدد: 8335 - 2025 / 5 / 7 - 00:19
المحور:
العولمة وتطورات العالم المعاصر
تثير فكرة التحول التدريجي نحو نوع جديد من الاستبداد، الذي يُطلق عليه "الاستبداد الناعم"، اهتمامًا كبيرًا وتجعلنا نتوقف للتفكير بعمق. هناك بالفعل ظواهر وتوجهات متعددة في الولايات المتحدة ومعظم الدول الغربية يمكن تحليلها ضمن هذا الإطار. ولكن، في الوقت نفسه، توجد قوى ومؤسسات قوية تعمل على حماية الأسس الديمقراطية الليبرالية.
مع التطور الكبير الذي تشهده التكنولوجيا الرقمية، باتت الحكومات والشركات تمتلك قدرات غير مسبوقة لجمع وتحليل بيانات الأفراد الشخصية. هذا الأمر يفتح الباب أمام إمكانية مراقبة واسعة وتحكم غير مباشر في سلوك الأفراد بطرق خفية، مما يهدد الحريات الفردية دون الحاجة إلى اللجوء إلى القمع المباشر.
في الكثير من الدول الغربية، نلاحظ تراجعًا ملموسًا في ثقة الجمهور بالمؤسسات الديمقراطية التقليدية مثل الأحزاب السياسية، وسائل الإعلام، وحتى النظام القضائي. هذا التآكل المؤسسي يمكن أن يمنح القوى غير الديمقراطية فرصة للتأثير أو تولي السلطة. كذلك، فإن الانقسامات المتزايدة داخل المجتمعات الغربية تجعل تحقيق التوافق واتخاذ القرارات الجماعية أكثر صعوبة. هذه الحالة قد تؤدي إلى الجمود السياسي وعدم الكفاءة، مما يدفع البعض للبحث عن حلول أكثر حسمًا، والتي قد تكون أقل التزامًا بالقيم الديمقراطية.
ظهور الحركات الشعبوية والقومية في الغرب غالبًا ما يرافقه خطاب مناهض للمؤسسات الليبرالية والقيم العالمية. يتم في هذا السياق التركيز على تقوية سلطة الدولة وإعلاء القومية، أحيانًا على حساب الحقوق الفردية والمبادئ التعددية.
من الجانب الآخر، يقول الكثيرون إن الأنظمة السياسية أصبحت عرضة بشكل متزايد لنفوذ الشركات الكبرى والنخب الثرية، مما يقلل من المساواة السياسية ويؤدي إلى توجيه القرارات لصالح أقلية ضيقة على حساب الأغلبية.
رغم هذه التحذيرات، من المهم أن نُبرز وجود عوامل مضادة تحول دون تدهور الأنظمة الديمقراطية. لا تزال هناك مؤسسات قوية مثل البرلمانات المستقلة والسلطة القضائية الحرة ووسائل الإعلام – حتى وإن كانت تواجه تحديات – تلعب دورًا أساسيًا في محاسبة السلطة وحماية الحقوق الفردية. إلى جانب ذلك، يشهد العديد من الدول الغربية مجتمعًا مدنيًا نشطًا ومنظمات غير حكومية تؤدي دورًا حيويًا في مراقبة الحكومات والدفاع عن الحريات وحقوق الإنسان.
كما أن هناك شريحة واسعة من الجمهور ما زالت تؤمن بالقيم الديمقراطية وتدعمها عند الحاجة. التداول السلمي للسلطة عبر الانتخابات لا يزال القاعدة في معظم هذه الدول، وهو عامل رئيسي يعمل كخط دفاع فعّال ضد التحول نحو الاستبداد الصريح.
ومع ذلك، أرى أن هناك اتجاهات مقلقة تستحق التنبه واليقظة. فكرة "الاستبداد الناعم" ليست مجرد خيال أو مبالغة، بل هي سيناريو يستحق التفكير الجاد. ورغم ذلك، يبقى هناك العديد من العوامل التي تمنع تحقق هذا السيناريو بشكل كامل. المستقبل مرهون بقدرة المجتمعات الغربية على مواجهة التحديات التي تهدد ديمقراطياتها والمحافظة على المؤسسات والقيم التي تشكل دعائمها الأساسية.
إن تسييس القضاء وارتفاع وتيرة الهجمات على الصحافة وتعاظم نفوذ السلطة التنفيذية تعدّ عوامل أساسية تُضعف الضوابط والتوازنات التي تشكّل الحماية الرئيسية للديمقراطية الليبرالية. فعندما تفقد المؤسسات استقلاليتها وتصير عاجزة عن محاسبة السلطة، يتسارع تركيز السلطة في أيدي قلة قليلة.
الديمقراطيات تحتاج إلى حد أدنى من التفاهم المجتمعي المشترك، غير أن الاستقطاب الحاد لا يعطل فقط العملية التشريعية، بل يضعف الثقة بالنظام السياسي بأكمله ويجعل الحوار العقلاني ضربًا من المستحيل. هذه البيئة تُوفر مناخًا ملائمًا لانتشار التطرف وتعميق عدم التسامح تجاه التعددية في الآراء.
من جهة أخرى، فإن تبني الخطاب العاطفي وتبسيط القضايا المعقدة إلى ثنائيات مثل "نحن في مواجهة هم" هو أسلوب متكرر تتبناه القيادات الشعبوية. حيث يعتمد هذا النهج على إغراء الناس بوعود "الخلاص"، بالتوازي مع إضعاف المؤسسات والأنظمة التي تضع قيودًا على السلطات، وكل ذلك تحت مظلة الادعاء بالتحدث باسم "الشعب الحقيقي".
أما الدور المتنامي لشركات التكنولوجيا فله تأثيرٌ يتجاوز الأرباح الاقتصادية. إذ تمكنها خوارزمياتها ومنصات التواصل الاجتماعي من تشكيل الرأي العام والتحكم به، علاوة على جمع كم هائل من البيانات الشخصية، مما يمنحها قدرة كبيرة على التأثير في الانتخابات والسياسات وحتى طريقة التفكير. غياب تنظيم صارم وفعال لهذه الشركات يجعل هذا التحدي خطرًا حقيقيًا على الديمقراطية.
وعندما يشعر المواطنون بالإرهاق أو يفقدون الإحساس بالجدوى بسبب ضغوط الحياة اليومية، تتضاءل لديهم الرغبة والقدرة على متابعة التآكل التدريجي للحقوق والحريات. في مثل هذه الأوضاع، تجد القوى غير الديمقراطية فرصة سانحة لتوسيع نفوذها والعبث بالأنظمة القائمة لصالحها.
لا يتعلق الأمر باستبداد تقليدي كما عرف في مسار التاريخ، وإنما بنمط جديد يتسم بالخداع والتدرج الخفي. القمع لم يعد يأتي عبر القوة العسكرية التقليدية، بل عبر أدوات قانونية وإدارية مُصممة بعناية. المراقبة تتم باستخدام الهواتف الذكية والإنترنت بدلًا من رقابة الشرطة السرية. السيطرة على الإعلام تُدار بتلاعب خوارزميات وتحريك حملات التضليل ونشر المعلومات المشوهة بدلاً من الرقابة المباشرة. الهدف النهائي هو إشغال الناس وإبقاؤهم في حالة من السلبية والخضوع، بعيدًا عن التفكير في محاسبة السلطات أو مساءلتها.
نحن غالبًا لا نلاحظ هذه التحولات نتيجة عوامل متعددة، أبرزها طبيعتها التدريجية والبطيئة، مما يجعل من الصعب إدراك الخطر في لحظته المباشرة. كل تغيير يبدو منفصلًا وضئيلًا، لكنه مع مرور الوقت يتراكم ليُحدث تغييرًا جذريًا، أشبه بما يُعرف بتجربة "الضفدع في الماء المغلي" حيث لا يشعر بالمخاطر إلا بعد فوات الأوان.
إضافة إلى ذلك، تُسهم انشغالات الحياة اليومية ووفرة وسائل الترفيه والمشتتات في ابتعاد الكثيرين عن التفكير الجاد أو مواجهة التحولات السياسية والاجتماعية. كما أن حالة الاستقرار الاقتصادي النسبي وتوفر الخدمات العامة يولدان شعورًا بالرضا الظاهري لدى العديد من المواطنين، مما يجعلهم يغضّون النظر أحيانًا عن تآكل الحريات، مقابل الشعور بالأمان أو الحفاظ على مستوى معين من الرفاه المعيشي.
الحل الأساسي يكمن في رفع مستوى الوعي العام وتوحيد الجهود للتصدي لهذه الاتجاهات قبل أن يصبح الوقت متأخرًا للتحرك. وهذا يتطلب التركيز على تعزيز التعليم المدني، ودعم دور الصحافة الحرة والمستقلة، وتشجيع المشاركة الفعّالة في الحياة السياسية، بالإضافة إلى فرض قيود واضحة على النفوذ المتزايد للشركات الكبرى.
مفهوم الشيخوخة كعملية طبيعية في دورة حياة المجتمعات يُوظَّف في مجالات علم الاجتماع والتاريخ للإشارة إلى مراحل النهوض والتراجع.
وفي الوقت ذاته، تواجه المجتمعات الغربية تحديات حقيقية تظهر في مجالات مثل البنية التحتية، والتعليم، والرعاية الصحية، والتطور التكنولوجي. ومع ازدياد حدة المنافسة العالمية، تزداد هذه التحديات بشكل واضح. من بين أبرز القضايا تعاني هذه المجتمعات من تراجع معدلات الولادات وتزايد متوسط العمر، مما يضع منظومات الرعاية الاجتماعية والاقتصادية تحت ضغط كبير ويؤدي إلى نقص في القوى العاملة على المدى البعيد.
ورغم اختلاف طبيعة التحديات بين الدول الغربية، إلا أن هناك توجّهًا متزايدًا نحو تعميق الفوارق الاقتصادية وظهور بطالة هيكلية في بعض القطاعات. وهذه الأوضاع كثيرًا ما تُفضي إلى حالة من السخط الاجتماعي، والتي بدورها تتصاحب مع أزمات سياسية. يرى البعض أن الإفراط في الميل نحو الاستهلاك والترفيه يضعف قيم العمل والمسؤولية الاجتماعية، مما يخلق نوعًا من التجاهل للقضايا المصيرية.
بالتالي، لا يمكن اختزال ما يحدث كمجرد ميل طارئ نحو نظم الحكم الأكثر انغلاقًا، بل هو انعكاس لتحولات أعمق تتسم بتراجع الحيوية والقدرة على الإبداع والتجديد التي شكلت لوقت طويل أساس نهضة الغرب وازدهاره.
لكن، من المهم التأكيد أن المجتمعات لا تبقى جامدة. فهناك دائمًا قوى فاعلة تسعى نحو التغيير والإصلاح. وبالرغم من التحديات الكبيرة، قد تظهر حركات اجتماعية وسياسية جديدة تعمل على معالجة هذه الأزمات وبناء مجتمعات أكثر عدالة واستدامة.
#حميد_كشكولي (هاشتاغ)
Hamid_Kashkoli#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟