أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - تاج السر عثمان - كتاب لمحات من تاريخ مملكة الفونج الاجتماعي















المزيد.....



كتاب لمحات من تاريخ مملكة الفونج الاجتماعي


تاج السر عثمان

الحوار المتمدن-العدد: 8361 - 2025 / 6 / 2 - 18:35
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


تاج السر عثمان الحاج

لمحات من تاريخ


سلطنة الفونج الإجتماعي
1823 – 1504


الطبعة الثالثة

الخرطوم : يونيو 2025


الإهــــــــــــــــداء


إلى المرحوم والدي ...
الخليفة عثمان ...
ذلك الإنسان ...
له الرحمة والمغفرة





مقدمة الطبعة الثانية

صدرت الطبعة الأولي من هذا الكتاب عن مركز محمد عمر بشير للدراسات السودانية عام 2004م ، وجد الكتاب ترحبياً من القراء والمهتمين والمختصين ، ويتضح ذلك من المناقشات الشفهية والمكتوبة التي وصلتني ، وأهم الملاحظات هي التأمين على دراسة التاريخ الإجتماعي والذي يسهم في ترسيخ الفهم الأشمل والأوسع لتاريخنا بدلاً من حصره في تاريخ الملوك أو التاريخ السياسي للطبقات والفئات الحاكمة .
كما حدثت متغيرات كثيرة منذ صدور الطبعة الأولي ، جعلتني أقدم على إعادة طباعة هذا الكتاب مثل :
حدث أهتمام واسع بتاريخ سلطنة الفونج أو السلطنة الزرقاء وبتاريخ السودان عموماً كما يتجلى ذلك في ترجمة كتاب عالم الآثار الأمريكي وليم آدمز " النوبة رواق أفريقيا " والتي إنجزها د . محجوب التجاني وتم نشر الترجمة .
كما قابلت د. أسامه عبد الرحمن النور وعلمت منه أنه قام بترجمة كتاب كراوفورد " مملكة الفونج " كما علمت من الصديق مبارك المعتصم أن شقيقه الباحث الجاد د. أحمد المعتصم الشيخ قد قام بترجمة كتاب أسبولدنق " العصر البطولي في سنار " ونأمل أن ينشر هذين الكتابين قريباً ، لما يشكلانه من مصادر هامة للقراء باللغة العربية .
كما حضرت في هذه الفترة المؤتمر الذي إقامته جامعة النيل الأزرق بالدمازين بمناسبة الذكري ال 500 لقيام السلطنة الزرقاء وقدمت فيه أوراق القت الضوء على تاريخ السلطنة من الجوانب الآثارية ( حيث تمت كشوفات أثرية جديدة ) والتاريخية والفلكورية ، كما سلطت الأوراق الضوء على تاريخ السلطنة الزرقاء ، ونأمل أن تنشر أوراق ومناقشات هذه الندوة قريباً لما بها من إضافة حقيقية لتاريخ السلطنة .
هذا بالإضافة للروايات الشفهية التي ذكرها مكوك الفونج والهمج الذين حضروا الندوة والتي أشاروا فيها إلى أن تاريخ السلطنة يبدأ من قبل 350 سنة قبل العام 1504 ، والتي تحتاج إلى بحث وتحقيق ، وباعتبار أن منطقة النيل الأزرق كانت الموطن الأول للسلطنة الزرقاء ، كما أشار د. عبد الجليل الشيخ في ورقته .
كل ذلك يوضح أننا ما زلنا نعرف القليل عن السلطنة الزرقاء ، وحتى الوثائق التي بين أيدينا والتي تعتبر من المصادر الأولية مثل كتاب الطبقات وكتب الرحالة الذين زاروا السلطنة ودونوا ملاحظاتهم حول أحوالها ، ووثائق الأرض التي نشـرها د.محمد إبراهيم أبو سليم مع د. ج. ل . اسبولدنق ، قليلة بالنسبة لسلطنة استمرت لفترة أكثر من 300 عام ، وأن فترة السلطنة الزرقاء ما زالت مجالاً بكراً وخصباً للدراسة والبحث .
وأخيراً ، يأمل الكاتب أن يتعمق ويتطور منهج التحليل التاريخي النقدي في دراسة تاريخنا الاجتماعي ، والإنتقال من العام إلى الخاص في مختلف جوانب تاريخ السلطنة الزرقاء وغيرها ،وإستخلاص الدلالات المعرفية والحضارية لتاريحنا والتي تشكل أساساً متيناً للانطلاق نحو المستقبل ونحن أكثر وعياً بحضارتنا وتاريخنا بما يشكل دفعة قوية نحو النهضة والتنمية .


تاج السر عثمان
29/ مايو / 2006م









تقديم :
* ليس من أغراض هذا البحث إعادة إنتاج المعرفة السابقة بتاريخ سلطنة الفونج ، وإنما الغرض محاولة لإنتاج معرفة تحليلية ونقدية عن التاريخ الاقتصادي والاجتماعي لدولة الفونج .
وبكلمات أخرى الهدف تحليل التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية لسلطنة الفونج .
والمقصود بالتشكيلة الاقتصادية ،الاجتماعية هو مجموعة الظواهر والعمليات الاجتماعية والاقتصادية والايدلوجية والمعيشية والعائلية .. الخ التي تمكن في أساسها نوع العلائق الاقتصادية والإنتاجية والثقافية بين الناس ، والتشكيلة الاقتصادية – الاجتماعية هي مفهوم واسع محدد يحقق الشروط التالية :
أ‌. الصورة العامة لها(التشكيلة الاجتماعية) ،مع تحديد نمط الإنتاج السائد ، أنها متعددة الإنماط الإنتاجية ، وبالتالي متعددة البني التحتية ( مجموع قوى وعلاقات الإنتاج ) ،والفوقية ( مجمل آراء الناس السياسة والدينية ... الخ ) .
ب‌. في حالة سيادة أو هيمنة نمط إنتاج واحد على بقية الإنماط الأخرى ، في هذه الحالة تؤول التشكيلة إلى تشكيلة ذات نمط إنتاجي واحد ، وهذه حالة خاصة من الحالة العامة ، مثال : سيادة نمط الإنتاج الرأسمالي في المجتمعات الغربية الرأسمالية المتطورة ، وبالتالي آلت إلى تشكيلة ذات نمط واحد ،والتي نطلق عليها التشكيلة الرأسمالية .
ج‌. المجموع الكلي للبني التحتية (قوى وعلاقات الإنتاج) داخل التشكيلة المعينة تسمى البنية الإنتاجية – الطبقية .
د‌. المجموع الكلي للبني الفوقية داخل التشكيلة المعينة (مجمل آراء الناس السياسية والدينية والحقوقية والفنية ...... الخ) يسمى البنية الثقافية – الفكرية .
ه‌. البنية الثقافية – الفكرية تكمل البنية الإنتاجية – الطبقية وتتفاعل معها ، وتؤثر بشكل متبادل .
و‌. وحدة البنية الإنتاجية، الطبقية والبنية الثقافية ،الفكرية هي ما تطلق عليه التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية بالمعني الواسع والشامل .
* المنطلق في هذا البحث أن المجتمع خلال الفترة تحت الدراسة شهد تطور الزراعة والصناعة الحرفية والتجارة الداخلية والخارجية ، وعرف إقتصاد السلعة – النقد ، وظهرت طبقة تجارية ، وقامت المدن والأسواق ، وتطورت الحياة الاجتماعية في المدن ، وظهرت فيها أشكال متطورة من التنظيم الاجتماعي ، كما عرف المجتمع خلال تلك الفترة التفاوت الطبقي والاجتماعي أوالتفاوت في توزيع الثروة ، وعرف نظاماً خاصاً من الأقطاع له سماته وخصوصياته التي تختلف عن الأقطاع الأوربي وغيره ، كما عرف نظام الرق بخصوصيات وسمات معينة .
وحول القاعدة الاقتصادية (البنية الإنتاجية - الطبقية) نشأت بنية ثقافية – فكرية ، تميزت بسمات معينة وكنتاج لتفاعلها وتأثيرها المتبادل مع القاعدة الاقتصادية ، وتفاعل الموروث المحلي مع الوافد الأجنبي ، وكان نتاج ذلك التفاعل تلك السمات المتفردة التي تميز بها المجتمع السوداني خلال تلك الفترة .
والبحث يدور بشكل مكثف حول اكتشاف تلك الخصوصيات، فبالإضافة للسمات العامة للمجتمعات البشرية ، لتشكيلة الفونج هناك سمات خاصة نسعي للبحث عنها بذهن مفتوح ،وبدون مخطط عام مسبق ، (ماركسي أو غيره) مفروض من الخارج ، ولكننا نسعى بذهن مفتوح لدراسة خصوصية تشكليلة الفونج ، وإستخلاص نتائج حولها إنطلاقاً من تطورها الباطني .
* المقصود بثقافة الفونج بالمعني الواسع والشامل هو دراسة نشاط الإنسان المادي والفكري ، أي دراسة حضارة الفونج .
ولكن مفهوم التشكيلة الاقتصادية –الاجتماعية رغم أنه يتضمن دراسة حضارة الفونج ، إلا أنه مفهوم أوسع وأعمق لأنه يمتد ليشمل دراسة العلاقات الاجتماعية والطبقية .
تم تقسيم البحث إلى بابين :
الباب الأول: البنية الإنتاجية – الطبقية ويتكون من فصلين.
أ/ الفصل الأول : بعنوان الأوضاع الاقتصادية ويشمل – ملكية الأرض – الزراعة – الرعي – التجارة – الصناعة الحرفية – الضرائب .
ب/ الفصل الثاني :بعنوان الأوضاع الاجتماعية ويتكون من: التركيب الطبقي ،سمات نظام الرق والأقطاع ،الأوضاع المعيشية ، المدينة والحياة الاجتماعية ، المرأة .
* خاتمة بأهم النتائج التي توصلنا إليها .
* وأخيراً أوردنا ثبت المصادر والمراجع في نهاية البحث للراغبين في تطوير وإثراء الموضوع .
كما لا يفوتني إن أشكر البروفيسور: يوسف بدري (رحمه الله) الذي إطلع على مسودة البحث وأبدى ملاحظات قيمة ساعدت في تحسينه ، وكذلك الشكر لـ د. محمد سعيد القدال الذي ساعد في تنسيق وترتيب محتويات البحث وأهتمامه ومتابعته وتوفير بعض المراجع .
كما أشكر د. سيد أحمد محمود الذي ساعد في توفير بعض المراجع ، والشكر أيضاً لأسرة دار الوثائق المركزية بالخرطوم على المساعدات التي قدموها ، واهتمام د .علي صالح كرار مدير دار الوثائق بالموضوع ، والشكر لكل الذين ساعدوا في طباعة البحث على جهاز الكمبيوتر ، والشكر لمركز دراسات محمد عمر بشير ، وكل الذين شجعوا على إبراز هذا البحث إلى النور .
تاج السر عثمان
الخرطوم 19 / 1 / 2004 م






د. محمد سعيد القدال
تقرير عن كتاب :
تاج السر عثمان : لمحات من تاريخ سلطنة الفونج الاجتماعي : 1504- 1921
يشمل الكتاب بابين، الأول عن البنية الإنتاجية – الطبقية ، وينقسم إلي فصلين تناولتا الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية. ويضم الباب الثاني فصلين الأول عن الأوضاع الثقافية الثاني عن انتشار الثقافة الإسلامية، وينتهي بخاتمة ثم مصادر البحث.
والكتاب إضافة جديدة لأنه يتناول الجوانب الاقتصادية والاجتماعية التي لم تلق حظا وافيا في الدراسات الأخرى، لأنها اهتمت بالجوانب السياسية، بينما الجوانب الاقتصادية والاجتماعية ضرورية لتكمل الصورة التاريخية عن المجتمع، بل لعلها هي الأساس لتلك الصورة. كما يفتح الكتاب شهية الباحثين ليخوضوا في هذا المجال الذي لم يلق تناولا كافيا، بل لعله أهمل كثيرا.
ويكمل هذا الكتاب مع الكتابين السابقين لنفس المؤلف عن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية لمملكة الفور وبلاد النوبة صورة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية لبلاد السودان، لذلك أرى ضرورة نشره .
د. محمد سعيد القدال
كلية الآداب
جامعة الخرطوم
18 / 12 / 2003


مقدمة :
الإطار السياسي العام لسلطنة الفونج :

تقع سلطنة الفونج على حدود مملكتي المقرة وعلوة ، في الفترة (1504 – 1812م ) أمتدت من الشلال الثالث إلى أقصى جبال فازوغلى شمالاً وجنوباً ، ومن سواكن على البحر الأحمر إلى النيل الأبيض شرقاً وغرباً ، وكان الحد بين مملكة سنار ومشيخة قرى (الحلفايا) مدينة أربجي بقرب المسلمية ، والتنظيم الإداري من أربجي فصاعداً جنوباً كان تابعاً لملوك الفونج رأساً لا دخل لمشايخ قرى فيه ، ومنها شمالاً إلى الشلال الثالث ، كان تابعاً لإدارة مشيخة قرى تحت سيادة ملوك الفونج .
وكانت المملكة منقسمة إلى عدة ممالك ومشيخات من سود ونوبة وحضر وبادية ، وكان كل ملك أو شيخ بدفع الجزية لملك سنار ، إلا أن له نوعاً من الاستقلال والممالك هي :
مشيخة خشم البحر ، مملكة فازوغلي ، مشيخة الحمدة ، مملكة بني عامر ، مملكة الحلنقة ، أما الممالك والمشيخات التي خضعت للفونج بواسطة العبدلاب هي مشيخة الشنابلة ، مملكة الجموعية ، مملكة الجعلين ، مملكة الميرفاب ، مملكة الرباطاب ، مملكة الشايقية ، مملكة الدفار ، مملكة الخندق ، مملكة الخناق ، مملكة أرقو .
أما البلاد الواقعة بين الشلال الثالث والشلال الأول فقد كانت بيد الكشاف الأتراك .
طبيعة ودوافع تحالف الفونج والعبدلاب :-

كانت هنالك عوامل متشابكة أدت إلى قيام تحالف الفونج والعبدلاب تتكـون من : اقتصادية ودينية وسياسة واجتماعية وأمنية . وكان التحالف يمثل ميلاً إلى الوحدة ، فلأول مرة بعد عهد ممالك النوبة يتم اتحاد سودان وادي النيل (ما عدا الجنوب ودارفور) في دولة واحدة ، شملت تقريباً حدود مملكتي المقرة وعلوة .
ويمكن تلخيص أهم دوافع تحالف الفونج والعبدلاب في الأتي :-
1. برزت تشكيلة اقتصادية – اجتماعية ، كانت تتخلق في أحشاء النظام القديم ، كان أن لابد أن يتم التعبير عنها في شكل سياسي معين يتوافق معها .
2. أصبحت شوكة القبائل العربية قوية ، وأنتشر الإسلام والدعوة الإسلامية نتيجة لتراكمات كمية بطيئة أو بعد سبعة قرون من إتفاقية البقط ، وأصبحت الغلبة للديانة الإسلامية بعد اندثار المسيحية .
وكان لابد من وجود نظام سياسي وتشريعي جديد يعبر عن القوى الاجتماعية الجديدة ذات الديانة الجديدة وينظم حياتها الاجتماعية والدينية وفقاً لمعتقداتها .
3. وفي إطار النظام السياسي الجديد الذي عبرت عنه دولة الفونج تدخل العوامل والدوافع الاقتصادية : مثل حماية تجارة القوافل ، تنظيم ملكية الأرض إضافة إلى توفير الأمن.
سمات النظام السياسي :-

كان النظام السياسي لسلطنة الفونج تحالفاً بين الفونج والعبدلاب ، كان للفونج الدور القيادي وفيه كان يمثل اتحاداً بين مشيخات قبلية متعددة بينها وبين العبدلاب من جهة أو الفونج من جهة أخرى على مستوي أدني.
ولم يكن النظام السياسي يشمل مؤسسات إدارية متماثلة تنتشر في سائر أنحاء المملكة (عدا التنظيم القبلي).
كان تدخل السلاطين في الشئون الداخلية للتنظيمات الإدارية والإقليمية أو المشيخات لا يتعدى جباية الضرائب ، وتعين شيخ أو زعيم ، أو ما يعـرف بالمك (وجمعها مكوك أي الملك) مكان الزعيم المتوفي ، لكـن من أسرته الحاكمة ، وربما رفضت المشيخات تسديد ما عليها من ضرائب ، أو الإمتثال لاختيار السلطان لشخص معين ، ومن ثم ، فإن قوة القمع الجيش هي التي كان ينفذ بها قرارات السلاطين .
وعكس النظام السياسي التفاوت الحضاري والثقافي الذي كان ممتداً من الحضارات والثقافات القديمة ومن الوافد العربي الإسلامي الجديد ، فنجد مثلاً : أن مشيخة العبدلاب شكلت مركز ثقل القبائل العربية . ونلاحظ أنها ضمت ممالك قامت على انقاض لحضارات القديمة مثل: مملكة الشايقية التي قامت على اطلال مملكة نبتة ومملكة الجعليين التي قامت على إطلال مملكة مروى / كبوشية ، ومملكة دنقلا العجوز التي قامت على إنقاض مملكة المقرة ، هذا بالإضافة لمشيخة قرى (مركز العبدلاب) والتي قامت على انقاض مملكة سوبا .
ورغم إنتشار الإسلام واللغة العربية في المناطق التي كانت تابعة رأساً لملوك الفونج من زنوج وبجة إلا أنها مقارنة بمناطق الوسط والشمال التي كانت تابعة لمشيخة العبدلاب / كانت متخلفة ، هذا بالإضافة لعوامل أخرى لم تساعد على أنتشار الثقافة العربية الإسلامية مثل حاجز اللغة ، كما هو الحال في منطقة البجة والنوبيين في شمال السودان الذين حافظوا على لغتهم وثقافتهم .
وهكذا نرى أن التوزيع الإداري والسياسي لمملكة الفونج حمل بذور مركزية الثقافة العربية الإسلامية في وسط السودان وهامشية الثقافات غير العربية ( النوبة في أقصى الشمال ، البجة في الشرق ، والزنوج في الجنوب الشرقي ) ، وبالتالي حمل بذور التطور المتفاوت .
كان النظام السياسي في حالة حركة وتطور دائمين نتيجة لصراع القوى والمجموعات المتباينة التي شكلت تحالف الفونج والعبدلاب مثل صراع الفونج والعبدلاب ، كما حدث قي تمرد الشيخ عجيب شيخ العبدلاب على سلطان الفونج ، الذي أدى إلى مقتل الشيخ عجيب ، وهروب ذراري عجيب بعد مقتله إلى نواحي دنقلة خوفاً من بطش الفونج حتى تدخل الشيخ إدريس ود الأرباب (1580-1665م) وإعطاهم الأمان لملك الفونج عدلان ورجعوا إلى ديارهم مكرهين .
* كانت دولة الفونج تضم تكوينات اجتماعية وطبقية متباينة مثل: طبقـة الحكام ( ملوك ، شيوخ ، زعماء قبائل) ، طبقة التجار ، المزارعين ، الطبقة المتوسطة ، القيادات الدينية والصوفية ، الرقيق ، الرعاة .
وهذا التفاوت في الدخل والثروة أدي لصراع بين الأغنياء ، والفقراء ، أي أن النظام عرف الصراع الطبقي أو الاجتماعي والأمثلة على ذلك فيما يلي :
* الصراع بين طبقة التجار وسلاطين الفونج بسبب احتكار السلاطين لتجارة الرقيق والذهب في التجارة الخارجية . وكان هذا الصراع يزداد ويشتد كلما تمددت وتطورت الطبقة التجارية في مراكز المدن الرئيسية .
* الصراع بين فقراء المزارعين وملاك الأراضي والسلاطين ، والصراع بين فقراء المزارعين وتجار الشيل الذي كان يعبر عن نفسه بأشكال متباينة .
وقصيدة فرح ود تكتوك الشهيرة ربما عبرت عن ذلك التفاوت وذلك الصراع والتي جاء فيها :
يا واقفاً عند أبواب السلاطين أرفق بنفسك من هم وتحزين
تأتي بنفسك في ذلة ومسكنة وكسر نفس وتخفيض وتهوين
إن كنت تطلب عزاً لا فناء له فلا تقف عند أبواب السلاطين
ولا تصاحب غنياً تستعز به وكن عفيفاً وارعي حرمة الدين
* صراع القيادات الدينية والصوفية ضد حكام الفونج من أجل السلطة السياسية أحياناً في مناطقها (كما في مثال حركة حسن ود حسونة ، عائلة المجاذيب في الدامر ) .
وخلاصة القول ، إن الصراع القبلي ، والصراع الطبقي ، والصراع بين الشيوخ وملوك الفونج ، هو الذي شكل القوة الدافعة والمحركة للنظام السياسي .
* تأثر النظام السياسي أيضاً بالإنتفاضات الداخلية ضد الملوك ، وبحروب ملوك الفونج الداخلية والخارجية ومن أهم ذلك :-
أ/ خروج أهل الفونج على طاعة الملك بادي الأحمر (1689-1715م) ، ونصرهم الشيخ أرداب ود عجب شيخ قرى ولكنه قمعهم وأنتصر عليهم .
ب/ عزل المواطنين للملك أنسة الثالث (1715-1718م) نسبة لظلمه الشديد واستهتاره وإرتكاب الفحشاء يقول شقير" إن فونج الصعيد (جنود لولو) كانوا يعزلون ويولون ما يريدون ".
ج/ ثورة العساكر على ملك الفونج الذي هزمهم بكرامة الشيخ خوجلي .
ومن الأمثلة على الحروب الداخلية والخارجية ترد :-

أ/ حرب الملك بادي أبو دقن(1643-1678م) مع ملك تقلي.
ب/ حروب بادي أبو شلوخ (1724-1762م) في كردفان (المسبعات) وحروبه مع الحبشة التي هزمها في أحدى المعارك .
هذا بالإضافة للصراع داخل السلطنة في العائلة المالكة ومع الوافد عليها ، وكان بادى أبو شلوخ أخر ملوك الفونج ، وبعده أصبحت السلطة الحقيقية بيد الوزراء الهمج ، الذين كان أولهم محمد أبو لكيلك .
وكان هذا الصراع من العوامل التي اضعفت دولة الفونج .
* كانت دولة الفونج متشعبة ومتعددة الوظائف ، ولها جهاز دولة معقد وكانت تعبر عن مصالح القوى الحاكمة .
وكان الجيش من أجهزة القمع الهامة ، وكان له تنظيم ورتب عسكرية مثل سيد العدة (المسئول عن شئون الأسلحة) ، مقدم السلطية (السلطية تعني الحربة) أو القائد الذي يتقدم المسلحين بالحراب ، مقدم الخيل (رئيس سلاح الفرسان) ، مقدم القواويد (القائد العام) .
ولم يعرف الفونج السلاح الناري بشكل واسع في الجيش ، ولكن ترد إشارات إلى أسلحة نارية (البندق) في وصف الرحالة الفرنسي بونسيه ، وفي كتاب الطبقات ، ويبدو أن هذه الأسلحة كتقنية جديدة ، والتي ظهرت في أوربا أيام الفونج ، كانت محدودة ، وكان يمتلكها بشكل محدود السلاطين والملوك وكبار رجال الدولة والتجار .
يقول شقير " كان الفونج يجهزون في أيام عزهم جيشاً لا يقل عن 25 ألف مقاتل مسلح بالحراب والسيوف والدرق ، وفيهم أربعة الأف إلى خمسة ألف فارس من العبيد والفونج ، وكانوا يقيمون في بلاد البرون إلى الجنوب ، ولهم ثلث الغنائم التي يغنمونها من فازوغلي وجنوبيها .
يواصل شقير ويقول " كان من عادة ملوك سنار في حفظ الجيوش أن يخصصوا لكل رئيس من رؤساء الجيش أراضي أو قطاعات يكون منها معاش عسكره وفي حملات سلطان الفونج التي كان يجلب فيها الرقيق ، كان يحتفظ بنصف الكمية في جيشه الخاص .
كما أستخدم العبدلاب أيضاً الرقيق في الجيش ، حيث أن الرقيق كانوا جيشاً خاصاً (الدواقة) يتقدمون الخيل أثناء الحرب .
وكانت وظائف ومهام جيش دولة الفونج تتلخص في الأتي :-

- تأديب وقمع الممالك التي ترفض دفع الجزية .
- قمع الانتفاضات والثورات الداخلية .
- قمع تمرد القبائل الأخرى على سلطة الفونج .
هذا فضلاً عن حملات الفونج في حروبهم الداخلية مثل حروبهم ضد (المسبعات ، الشلك ، تقلي .... ) من أجل جلب الرقيق أو حروبهم الخارجية مع الحبشة .
إستنبط الفونج نظماً إدارية استمدوها من الواقع المحلي ، ومن تجربة الدولة الإسلامية ، وكانت لهم أختام معينة في حجج تمليك الأراضي مثلاً .
ومن ملوك الفونج الذين ارسوا قواعد الإدارة والتنظيم لسلطنة الفونج هو دكين ود نايل 1569م ، والذي قال عنه الشيخ أحمد (كاتب الشونة) - وهو من أفخر ملوك الفونج ، فرتب الدواوين أحسن ترتيب ، وجعل لها قوانين مربوطة لا يتعداها أحد من جميع أهل مملكته رئيساً معلوماً ، وقنن لمن عاد به الجلوس بحضرته رتباً الأعلى في جلوسهم أمامه ، ومازال شارعاً في تمهيد دولته إلى أن توفاه الله تعالى سـنة 985هـ .
من الألقاب الهامة التي كانت سائدة في البلاط السناري ، كان لقب (سيد القوم) وهو الذي ينفذ طقس أعدام السلطان .
كانت اللغة العربية هي لغة الدولة الرسمية في المكاتبات والإدارة ، إضافة كلغة تجارة ، ذلك أن أغلب النشاط والعلاقات التجارية ، كانت تتم مع أقاليم المسلمين والعرب وخاصة مصر ، هذا إضافة إلى أن معظم عملاء التجارة مع سنار كانوا مسلمين .
ومن وظائف الإدارة كذلك كانت تنظيم عملية التجارة ، وحماية القوافل ، وكان للسلطان خزانة مركزية ،ونقاط جمارك في دنقلة وقرى وتشلجة في الحدود الشرقية مع الحبشة .
كما نظم الفونج القضاء واداروا عمليات رعاية الشيوخ وتوفير مقومات عملهم مثل : أعطاءهم الأراضي ، وإعفائهم من الخراج ، هذا بالإضافة لقواعد المقابلات الدورية بين سلاطين سنار مع المشايخ والملوك ، وقواعد تقديم فروض الولاء والطاعة والتسليم الدوري للجزية المطلوبة ، وطريقة تعيين الملوك الجدد وممارسة طقوس الككر والطاقية أم قرنين .
هكذا نرى أن الفونج استنبطوا نظماً إدارية استمدوها من تعاليم الإسلام والإعراف المحلية .
ويمكن القول أن مبادئ الدولة السودانية الحديثة قد تم غرسها في سلطنة الفونج.
أسباب زوال دولة الفونج :-
يمكن أن نشير إلى مجموعة عوامل أسهمت تفكك وزوال دولة الفونج ، كانت مركبة من اقتصادية واجتماعية وسياسية وقبلية ودينية ، يمكن تلخيصها في الأتي :-
1. الصراع القبلي : وتجلي في تمرد بعض القبائل مثل الشايقية والهدندوة والعبدلاب على المركز في سنار أو الحلفايا وما ترتب على ذلك من رفض الجزية وبالتالي فقدت الدولة أحد مصادر الضرائب .
2. استقلال بعض الطرق الدينية أو العائلات الدينية عن المركز ، وفرض ممالك أو دويلات دينية مستقلة مثل : عائلة المجاذيب في الدامر ، عائلة حسن ود حسونة ، وما نتج عن ذلك من أن أغلب الوارد من الزكاة لم يعد كله إلى المركز في سنار ، بل أصبح التجار والأغنياء في تلك المناطق يؤدونها لقادة الطرق الدينية الذين كانوا حكاماً من الناحية العملية ، هذا إضافة إلى أن بعض مشايخ الطرق الصوفية كانوا يستلمون الزكاة من المريدين .
هذا إضافة لظهور طرق صوفية جديدة عبرت عن التحولات والنمو في الطبقة التجارية أيام الفونج الأخيرة وظهور مدارس فقهية ودينية جديدة في المدن تفردت عن الطرق الصوفية باهتمامها بالإفتاء التجاري ، وتوثيق المعاملات وحل النزاع بين التجار .
كل ذلك أدي إلى تقليل العائد من الزكاة الذي كان يذهب إلى حكام سنار ، وبالتالي قلل من تراكم الناتج الفائض لدى ملوك سنار .
3. تزايد حجم ووزن الطبقة التجارية ، والتي أصبحت تعتمد على التبادل النقدي أكثر من نظام المقايضة أو المبادلة الذي كان سائداً في كثير من أجزاء دولة الفونج ودخول هذه الطبقة في صراع مع السلطان من أجل كسر إحتكاره للتجارة الخارجية ، وظهور عملات جديدة كسرت سيطرة السلطان على التحكم في إصدار النقد ، وهذه الطبقة التجارية بذلت كل جهدها لتقليل عائد الدولة من الفائض الاقتصادي (العيني والنقدي) عن طريق التهرب من الضرائب والمكوس ، والزكاة ، ومحاسبة تجارة السلطان ، ووضع العراقيل في سبيل تطورها .
كل ذلك قلل من عائد الأسرة الحاكمة من التجارة الخارجية ، وبالتالي لم تعد تستطيع أن توفى التزاماتها السابقة ، التي كانت تقدمها ، بهدف إعادة إنتاج النظام .
4. عدم الاستقرار ، وعدم أمن الطرق التجارية ، أدى إلى فقدان الدولة للعائد من المكوس (الجمارك) .
5. باختلال هذه الآليات . كما إشار د . محمد إبراهيم أبو سليم في كتابة الفونج والأرض ، إضطرت الدولة للتعويض عن ذلك إلى زيادة العبء الضريبي على المزارعين ، مما زاد السخط على النظام .
وهذا أدى إلى تمرد القبائل وسخط المزارعين والتجار وغيرهم وبالتالي زادت أزمة النظام وتفاقمت ، وبدأ النظام يتفكك .
وعندما جاءت جيوش محمد علي باشا للسودان في عام 1821م ، لم تجد مقاومة تذكر عدا مقاومة الشايقية والجعليين ، وكانت سلطنة الفونج في حالة احتضار نتيجة لضعفها وتفككها الداخلي ، وعزلتها عن العالم ، أي أن الزوال تم بعامل خارجي أو نتيجة لضعف وتأكل داخلي .
وبإستيلاء الأتراك على السودان ، أرتبط السودان بالسوق الرأسمالي العالمي ، ودخل السودان في مرحلة جديدة من تطوره.
استناداً إلى هذه الخلفية التي عكست الإطار السياسي العام لسلطنة الفونج ننظر في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للسلطنة في الفصول القادمة .

هوامش المقدمة :-
1. نعوم شقير : تاريخ السودان ، تحقيق د . محمد إبراهيم أبو سليم (دار الجيل بيروت 1981م) ص ،139 -140 .
2. د. يوسف فضل : مقدمة في تاريخ الممالك السودانية في السودان الشرقي (دار جامعة الخرطوم 1989م) الصفحات ، 59-60 -74 .
3. أنظر القصة في كتاب الطبقات .
4. للمزيد من التفاصيل راجع هولت : الأولياء والصالحون في السودان ص ، 16.
5. شقير : المرجع السابق ، ص ، 106-107 .
6. نفسه ، ص ، 107 .
7. طبقات ود ضيف الله ، ص ، 203
8. محمد صالح محي الدين : مشيخة العبدلاب ، ص ، 400 .
9. شقير ، ص ، 127 .
* الإشارة هنا إلى عادة القتل الطقسى التي كانت سائدة في سلطنة الفونج .



الباب الأول

البنية الإنتاجية – الطبقية
الفصل الأول : الأوضاع الاقتصادية :
أولاً : ملكية الأرض – الزراعة – الرعي
ثأنياً : التجارة – الصناعة الحرفية
ثالثاً : الضرائب


الفصل الثاني : الأوضاع الاجتماعية
أولاً : التركيب الطبقي
ثانياً : سمات نظام الرق والاقطاع
ثالثاً : الأوضاع المعيشية
رابعاً : المدينة والحياة الاجتماعية
خامساً : المرأة

الباب الأول
الأوضاع الاقتصادية

أولاً : ملكية الأرض – الزراعة – الرعي :-
نبدأ بركيزة العمل الأساسية في الزراعة والرعي وهي الأرض وملكيتها .
1. في ممالك النوبة المسيحية كانت الأرض والرعايا من أملاك الحاكم ، ولم تكن هناك حقوق تنظم ملكية الأرض ، وكان الفلاحون يعتبرون عبيداً لملك النوبة أو من ينوب عنه في المناطق البعيدة عن السيطرة المباشرة للملك وبالتالي لم يكن للمزارع الحق في التصرف في الأراضي بالبيع والشراء .
وكان ملك النوبة أو من ينوب عنه يستحوذ على كل الإنتاج الزراعي الفائض بعد أن يحسم الجزء الضروري من المحصول الذي يكفي لمعيشة المزارع وأسرته ، وكان مجموع النتاج الزراعي الفائض يوزع على الطبقات المالكة (ملوك) موظفين (قادة الجيش) كهنة أو رجال دين ...) أي الطبقات التي تحكم ولكن لا تشارك في عملية الإنتاج .
وبالتالي فإن المزارع كان يعيش في فقر دائم ومستمر والواقع أن تعبير المزارع هنا ليس دقيقاً فنحن هنا لسنا أمام نظام أقطاعي كما هو الحال في أوربا القرون الوسطي حيث كان الفلاح يمتلك قطعة أرض يقسم العمل فيها على أساس عمل ثلاثة أيام في أرضه وثلاثة أيام في أرض الأقطاعي أو أرض الكنيسة أو الدير وكان عائد عمله يعود له وهو يشكل العمل الضروري لمعيشته ومعيشة أولاده ، أما نتاج عمله في أراضي الاقطاعي أو الكنيسة وهو ما يسمى بالنتاج الفائض الذي يستحوذ عليه الاقطاعي أو الكنيسة وهذا هو أساس حكم الطبقات الأقطاعية التي كانت تحكم في أوربا القرون الوسطي .
أما في مملكة النوبة المسيحية فقد كان الوضع يختلف ، فالفلاح نفسه كان عبداً لملك النوبة وكانت علاقة الإنتاج هي نفسها علاقة الإنتاج في المجتمع العبودي ، أي أن ملك النوبة أو الكنسية أو الدير كان يستحوذ على كل النتاج الفائض مقابل معيشة العبيد وأولادهم . وتلك كانت مرحلة متخلفة من النظام الاقطاعي الذي كان سائداً في سودان وادي النيل في بداية العصور الوسطي وحتى قيام دولة الفونج ، فماذا حدث بعد قيام دولة الفونج ؟
2. بعد قيام دولة الفونج حدثت تطورات جديدة فيما يختص بملكية الأرض وفيما يختص بالطبقات ، فقد ظهرت طبقة المزارعين بالشكل المعروف وبالمعني الدقيق ، أي المزارع الذي كان يعمل في أرضه أو أرض زعيم القبيلة أو الشيخ ، ويتم توزيع نتاج عمل المزارع (محصوله) بنسب معينة أو مقابل ضرائب أو خراج للسلطان أي أن عمل المزارع أنقسم إلى عمل ضروري يكفي لمعيشة أولاده ، وعمل فائض يوزع بنسب معينة على مالك الأرض أو شيخ الطريقة أو السلطان (زكاة ، فطرة) وبالتالي ظهر نوع جديد من الاستغلال أصبح يعاني منه المزارع كما ظهرت أيضاً طبقة التجار التي كانت نواتها من التجار العرب والمسلمين الأجانب الذين بدأوا يتكاثرون في أرض النوبة منذ إتفاقية البقط ، وظهور هذه الطبقة كان تعبيراً جديداً عن تطور الإنتاج الزراعي والصناعة الحرفية ، أي تقسيم جديد أرقى للعمل، والتجار أرتبطوا مع المزارع بعلاقة جديدة .
هذه هي أبرز التطورات التي شكلت طوراًُ أرقي من أطوار التقدم الاجتماعي الذي حدث مع ظهور دولة الفونج .
3. ملكية الأرض : بعد قيام دولة الفونج وعلى نسق الأقطاع الشرقي أصبح السلطان هو المالك الأساسي لكل الأراضي ، وكان من وظائف السلطان أنه كان يقطع الأرض ويحدد كيفية استغلالها وكانت هذه الاقطاعات تهب لأعيان الدولة أو السلطان نفسه أو شيوخ الطرق الصوفية وفي كل حالة يحدد الخراج أو الإعفاء منه ( ) , هذا فيما يختص بالأراضي التي تزرع بأساليب مختلفة سواء كانت بالرى الانسيابي أو الري المطري أو الرى بالسواقي ، أما أرض المرعى فهي لتربية الحيوان لا الفلاحة ( الفلاحة هنا معيشية فقط ليست حرفة أساسية ) فعلاقة الملكية هنا جماعية بحكم ظروف المرعي فالأرض مفتوحة للقبيلة كلها .
أي أن العلاقة القانونية هي أن الأرض ملك للجماعة أو القبيلة كلها مسئولة عن حمايتها من تغول القبائل الأخرى سواء كان بالنزوح الدائم إليها أو النزوح من أجل المرعي وعن تنظيم الرعي ودورته ويمثل سلطة القبيلة شيخها ويدفع شيوخ القبائل نسبة معلومة من الضرائب أو الخراج لشيوخ العبدلاب أو لسلطان الفونج .
ثم هناك الغابات وهي منطقة عامة للجماعة أو القبيلة كما أن استغلالها على الشيوع في حدود الجماعة أو القبيلة فإن ملكيتها على الشيوع أيضاً بنفس المقدار وتنظم كل قبيلة حسب أعرافها وتقاليدها حق كل بطن وكل أسرة وكل فرد من هذا ،الملك وشيخ القبيلة بمعاونه حفظة العرف وهو المنوط بتطبيق ما هو معقود بعرف القبيلة أو تقاليدها .
ويدفع شيخ القبيلة خراجاً معلوماً من نتاج عمل الغابة (خشب ، صمغ ...) لسلطان الفونج أو الفورنخلص من ذلك إلى أن دولة الفونج عرفت الملكية الخاصة للأراضي الزراعية بحجج معينة من السلطان والملكية على الشيوع أو ملكية القبيلة فيما يختص بأراضي المراعي والغابات وفي كل الأحوال كان خراج هذه الأراضي يصل للسلطان أي أن النتاج الزراعي والرعوي الفائض كان يصل جزء منه للسلطان في شكل محاصيل أو ماشية (جمال – بقر - ضأن) ، هذا هو الأساس الاقتصادي والمادي لسيطرة حكام الفونج السياسية .
4. بين أيدينا وثائق توضح كيفية تمليك الأرض في مملكة الفونج الوثائق عددها 44 وثيقة نشرها وحققها د. محمد إبراهيم أبوسليم ود.ح.ل. أسبولدنق . وصدرت عن دار النشر بجامعة الخرطوم 1992م بعنوان (وثائق من سلطنة سنار في القرن الثامن عشر).
ومن تلك الوثائق يمكن أن نستخلص الأتي حول ملكية الأرض في السلطنة الزرقاء :-
أ‌. هناك أراضي التي كان يمنحها سلاطين الفونج للشيوخ والفقهاء وهي معفية من الضرائب بأنواعها المختلفة الشرعية والعرفية .
ب‌. التمليك له صفة مستديمة تستمر طيلة حياة الشخص صاحب الملكية وتمتد إلى ورثته أو إلى ذرية المالك ، كما يرد في الوثائق (إلى أن يرث الله الأرض وما عليها).
ج‌. يجوز لصاحب الملكية أن يتصرف في الأرض بالبيع ومثال على ذلك ما جاء في الوثيقة (40) ( ) أن الفقيه الأمين بن الفقيه حمد بن محمد المجذوب أشتري من أمنة بنت محمود زوجة حمد ولد عون الله عود ونصف من السعدنابية بسبعة ثياب وفردة مما يشير إلى أن قيمة العود ونصف كان سبعة ثياب وفردة.
د‌. هناك ضرائب شرعية وعرفية كان يدفعها أصحاب الأراضي للسلاطين مثل : السبل ، علوق ،شرور ، تورات ، كليقة ، خدمة ، نزول ، جسارة ، خسارة ، ضيافة ، عادة ، عانة ، قل ، جل ، مخلا ، سنسنة ، كسرة ( سوف نعرف هذه الضرائب في مكان لأحق ) .
هـ. التمليك يتم في حجة تسمى سلطانية أو ملوكية عليها ختم السلطان والشهود وكاتب الوثيقة .
و‌. كان سلاطين الفونج أيضاً يمنحون أراضي لشيوخ القبائل لينتفع بها أفراد قبيلة الشيخ وآخرين ويكون خراجها لشيخ القبيلة ، مثال الأرض التي منحها السلطان بادي بن دكين للشيخ عوض الكريم أبو سن كما ورد في الوثيقة(28) ( ).
وفي هذه الحالة أيضاً يحق للشيخ أن يؤجرها وينتفع بخراجها .
ز‌. الوثائق أيضاً تفيدنا في معرفة أسماء بعض المناصب القيادية من الشهود الذين كانوا يشهدون على الوثائق التمليك مثل مقدم الخيل ، مقدم القواويد ، مقدم السلطية ، مقدم السواكرة ، سيد القوم ، العمال ، الجراي ..... الخ
ح‌. من الوثائق نفهم أن الشيوخ والمقاديم والجراي هم الذين كانوا يقومون بجمع الضرائب .
ط‌. كما تفيدنا الوثائق ببعض الألقاب التي كانت سائدة لأبناء الطبقات العليا في المجامع مثل الأرباب .
وتفيدنا أيضاً بأسماء كانت سائدة في تلك الفترة مثل شاور ، مسمار ، جيت ، دكام ، شمام ، الأسيد ، زقبير ، الشوش ، دقيس ، مكاوي ، مرناتي ، هينو ، هاكبت ، برقاوي .... الخ .
أساليب الإنتاج الزراعي :-

كانت المحاصيل الرئيسية التي كانت تنتجها المناطق النيلية في تلك الفترة تشمل الحبوب (ذرة ، دخن) في أراضي الزراعة المطرية والقطن والقمح واللوبيا والخضروات في أراضي الزراعة المروية (سواقي ، شادوف ، فيضانات ، جروف).
وفيما يختص بوسيلة الري الدائم في الأراضي النيلية فقد كانت الساقية أو الشادوف ، وظل الحال كما هو فيما يختص بالساقية ، لم يحدث فيها تطور تقني أساسي كما كان الحال في ممالك النوبة ) ( ).
وبالتالي لا نحتاج إلى إضافة هنا والساقية وردت في طبقات ود ضيف الله وفي أكثر من موضع ، أما عن أدوات الإنتاج الزراعي التي كانت مستخدمة أيام الفونج ، كما وردت في كتاب الطبقات هي : السلوكة ، المنجل ، النجامة ، الشبكة وهي مصنوعة من القش مستديرة وتصنع من السعف .
ومن مقاييس الأرض كان هناك مقياس محلي للأراضي الزراعية يسمي (الجدعة) كما ورد في الطبقات بهذا الأسم وتبلغ مساحة هذا المقاس الآن خمسة أفدنة (الفدان= 4200 متر2) وكان يستخدم في منطقة الجزيرة ومن المقاييس أيضاً كما ورد في الطبقات العود الذي يساوي ثلاثة حيطان والحيطة تساوي ما أول السبابة والمرفق .
ومن أشكال الزراعة كما ورد في الطبقات كان (الترس) وهو عبارة عن حاجز من التراب ليحجز مياه الأمطار في منطقة خاصة لتروي جيداً فتزرع ، ومنطقة الزراعة المروية تسمي (الترس).
وعن السواقي ذكر الرحالة بركهارد أن الأرض في بلاد النوبة وما والاها جنوباً على ضفاف النيل حتى سنار لا تقدر بالفدان كما يفعلون في مصر والشام وإنما يتم ذلك على أساس السواقي .
وحسبما يذكر أن بعض الأثرياء كانوا يمتلكون عدداً من السواقي بينما كل ستة أو ثمانية من المزارعين الفقراء في ساقية واحدة وتروى الساقية الواحدة من ثلاثة إلى خمسة أفدنة وتحتاج إلى ثمانية أو عشر دواب . ( )
كما يذكر نسيم مقار في بحثه عن أحوال السودان الاقتصادية قبل الفتح المصري " أن ثروة الفرد في النوبة السفلى كانت تقاس بما يملكه من السواقي وفي ذلك الدلالة على أهمية الساقية كمصدر للثروة وأساس للوجاهة الاجتماعية . ( )
ويذكر بركهارد في كتابه " رحلات في بلاد النوبة " : أن عدد السواقي في المنطقة الواقعة ما بين أسوان وحلفا كان يبلغ نحو ستة أو سبعة ألف ساقية ، وقد قدر السكان من بين أسوان وحدود المحس بنحو مائة ألف نسمة .
ويقدر إنتاج الساقية من ثمانين إلى مائة مرة (المقياس المستخدم عند النوبة) ( ) وعند الغزو التركي كان عدد السواقي 6051 ساقية( ) كما نشير أيضاً إلى خصوبة أرض القاش أيام الفونج حيث كان الأهالي يستخدمون أنواعاً من السدود يزرعون القطن والذرة واللوبيا . ( )
ويذكر بركهارد أن عرب الشايقية منذ أن كان لهم نصيب من الإيراد يأخذون عن الأرض التي ترويها السواقي أربعة (موريات) من الذرة عن كل ساقية ، ورأسين أو ثلاثة من الأغنام ، وثوباً من الكتان قيمته دولاران وكان الملوك الوطنيون يأخذون كذلك مثل المقدار ( ) ويوضح د. عبد المجيد عابدين الموريات التي هي جمع مورى وهو من المكاييل القديمة يساوى حوالى ثلاث كيلات . ( )
كما ذكرنا سابقاً أنه مع تطور الإنتاج الزراعي والإنتاج الصناعي الحرفي ، ظهرت التجارة كحرفة مستقلة ، وبالتالي ظهرت رأسمالية تجارية كدست الفائض الزراعي في شكل عينى أو نقدي ، ومع ظهور تلك الطبقة حدث تطور إجتماعي واقتصادي وظهر التملك الخاص للأراضي بما في ذلك حق الشراء والبيع والإيجار والوراثة ، ففي السابق ، كما ذكرنا كانت الأراضي تعتبر ملكية جماعية في الفترة التي سبقت قيام مملكة نبته ومروى والنوبة وبظهور هذه الممالك أصبحت ملكية الأرض الزراعية كلها من نصيب الملوك أو الكهنة والعاملون فيها عبيداً لهم . وبعد ظهور دولة الفونج وحسب ما ورد في وثائق تمليك الأرض كان السلطان يصدر الوثائق بتمليك وتخصيص بعض الأراضي الزراعية لبعض الأشخاص ومنهم مشايخ وقادة الطرق الصوفية ، وأصبح من الممكن أن يرث أبناء هؤلاء هذه الأراضي ، وأن يعاد توزيعها إلى مساحات زراعية متعددة ولكن دون التصرف فيها بالبيع في تلك الفترة .
وعندما بدأ التفكك وتحلل سلطنة الفونج أصبح من الممكن التصرف في تلك الأراضي بالبيع والشراء وغيره ، وفي بعض الممالك النيلية قام الأثرياء وأصحاب النفوذ الاجتماعي بالإستحواذ على مساحات واسعة من الأراضي ليقوموا بزراعتها بواسطة العبيد ، وفي المناطق الأخيرة قام ملاك الأراضي بتقسيمها إلى مساحات صغيرة وعرضها للأيجار عن طريق المشاركة في الإنتاج ، وهكذا تحولت حقوق استغلال الأراضي إلى ملكية خاصة حقيقية . ( )
وهكذا يمكن أن نستنتج أن الملكية الخاصة للأرض بدأت تظهر وتتطور بقيام دولة الفونج وفي كتاب الطبقات يرد مثال طريف للكيفية التي سيطر بها سلاطين الفونج على أراضي النوبة والذي ورد فيه ما يلي " رفض الشيخ إدريس نصف دار العسل والبصل التي منحها له الملك بادي بن رباط ملك سنار ، امتنع الشيخ وقال لهم : هذه الدار دار النوبة وأنتم غصبتوها منهم ، أنا ما بقبلها الرسول (ص) قال " من سرق شبراً من الأرض طوقه الله يوم القيامة من سبع أرضين " وقال لهم : أعطوني الحجز في كل شيء وأعطاه الملك الحجز في كل شيء كما طلبه . ( )
ويوضح د . يوسف فضل دار العسل والبصل بقوله :

ربما قصد بها المناطق التي تنتج تلك المحصولات فالعسل ينتج في منطقة كركوج وسنجة وهو الجزء الجنوبي من سلطنة الفونج ، بينما يزرع البصل في دار الشايقية (دنقلا) وهي الجزء الشمالي والحجز بمعني الوساطة وفض المنازعات والصلح بين المتشاجرين ومثال ذلك الشيخ إدريس هو تعبير مكثف لعلاقات الملكية الجديدة والتي بدأت باغتصاب ملوك الفونج عن طريق العنف والسلب والنهب لأراضي النوبة تمهيداً للسيطرة عليها ولقيام علاقات الملكية الجديدة ، التي تبدأ بتقسيم سلطان الفونج الأراضي بحجج معينة وبنسبة معينة من الخراج .
وجاء في الطبقات مثال لذلك عن زراعة أراضي حمد ودام مريوم ما يلي : " ومنها أن دار زراعته مسك للسلطنة عليها نصف الخراج بلقط الورق (ورق اللوبيا) والقرون (الباميا) والقنقر (الذرة الشامية) يقسم نصف سلطنة يديهم أياه . ( )
وهذا مثال لتوزيع خراج حمد ود أم مريوم الذي كان يأخذ نصفه ويذهب النصف الأخر للسلطان الذي أقطعه الأرض .
علاقات الإنتاج :

المقصود بعلاقات الإنتاج هي تلك العلاقة التي نشأت بين المزارع ومالك الأرض مباشرة أو بشكل غير مباشر (عن طريق مالك الأراضي) بين السلطان والمزارع وعلاقة المزارعين بطبقة التجار أي العلاقات التي نشأت من توزيع عائد عمل المزارع وكيفية توزيعه .
ويمكن إذا أردنا التبسط أن نقسم عمل المزارع إلى قسمين :-
الأول : عمل ضروري ، هو ما يكفي لمعيشة أولاده وناتج هذا العمل هو النتاج الضروري لحياته .
الثاني : عمل فائض وهو الذي يوزع بنسب معينة بين مالك الأرض والسلطان وشيخ الطريقة ، وناتج هذا العمل وهو ما يسمي بالنتاج الاجتماعي الفائض الذي تستحوذ عليه الطبقات الحاكمة في تسلسلها الهرمي .
والمجموع الكلي لهذا الفائض هو الذي يشكل الثروة والمعني لتلك الطبقات الحاكمة : طبقة ملاك الأراضي والتجار والسلاطين ، شيوخ الطرق الصوفية ، والذين كانوا يعيشون على نتاج المزارع الفائض في شكل خراج أو هبات أو زكاة أو ضرائب حسب الشريعة الإسلامية والعرف . فقد كان المزارعون يدفعون الزكاة والفطرة والعشور على نحو ما يفرضه الشرع الإسلامي أو أصحاب الأقطاعيات هذا إضافة إلى الضرائب الأخرى التي كانت تستند إلى الإعراف المحلية .
هذا شكل النظام الأقطاعي الذي كان سائداً أيام الفونج وكان المزارع مرهقاً بالضرائب (يدفع ضريبة مرتين – شريعة وعرف) بينما كان عمله هو أساس الغني والثروة للطبقات العليا في المجتمع إضافة لعمل المزارع كان هناك عمل العبيد فقد عرفت فترة الفونج نظام الرق أو علائق الإنتاج العبودية التي كان ملاك العبيد فيها يستحوذون على كل علمهم مقابل معيشتهم ومعيشة أسرهم .. أي أنه بالإضافة لعلاقات الإنتاج الاقطاعية كانت هناك علاقات الإنتاج العبودية التي كان فيها العبيد أو الرقيق يعملون في أراضي الأسياد الزراعية وفقاً لها وكان صاحب الأرض أو الإقطاعية بدفع نصيباً من الدخل للسلطان (خراج ، زكاة) .
وكانت العلاقة بين التجارة والمزارعين تقوم على الربا العينى (الشيل) ( ) ومعروف أنه مع تطور اقتصاد البضاعة والنقد في مملكة سنار تطورت التجارة وكدس التجار ثروات نقدية كبيرة أو عينية (محاصيل،مواشى) ،وبالتالي كما حدث في كل مجتمعات الاقتصاد البضاعي الصغير أنتشر الربا أيام الفونج والربا كما هو معلوم كان مدمراً للمزارعين ولكبار ملاك الأراضي ونتائجه السيئة معروفة ، فقد حرمته الأديان السماوية وحرمه الدين الإسلامي . ومع ذلك أستمر هذا النظام باعتباره نتيجة من نتائج التطور الاقتصادي في مجتمعات ما قبل الرأسمالية ، فقد أنتشر في الحضارات القديمة (الصينية ، الهندية ، اليونانية ، الرومانية ، أوربا القروسطية ، المجتمع التجاري في الجزيرة العربية ما قبل الإسلام وبعده ، والربا ينتج من ظهور الرأسمال التجاري في مجتمع ما زالت غالبيته تقوم على اقتصاد معيشي وهنا يظهر الربا كعلاقة حتمية لندرة النقد أو المحاصيل الزراعية ). ( )
وكانت العلاقة بين التجار والمزارعين أيام الفونج تقوم على الربا العيني (أو نظام الشيل) الذي كان يتم في تلك الفترة على النحو التالي :-
كان المزارع في العادة يواجه نقصاً في موارد الغذاء خلال الفترة التي تسبق موسم الحصاد في كل عام ولذلك يضطر لاقتراض كميات معينة من الحبوب ، ويكون المزارع في وضع يمكنه من سداد القرض ولكن أسعار الحبوب تتدهور في الأسواق وذلك فعلي المزارع تسليم التاجر كميات أكثر من تلك التي اقترضها منه لكي يتمكن من الوفاء بالتزامه والمزارعون الذين يفشلون في سداد ديونهم عليهم أن يتحملوا عقوبات رادعة من المحاكم المحلية وذلك لأن المسئولين عن تلك المحاكم كانوا يتمتعون بعلاقات طيبة مع التجار أو ربما كانوا يخضعون لسيطرتهم ونفوذهم والواقع أن بعض هؤلاء المسئولين كانوا يعملون في النشاط التجاري . ( )
بهذا الشكل كانت تتراكم ثروات التجار ويزداد ربح الرأسمال التجاي من الربا ، هذا إضافة لمصادرة أراضي المزارعين الذين يفشلون في سداد ديونهم أو بيعهم كعبيد أو رقيق ، وهكذا كانت تتركز الثروة في أيدي التجار وتزداد الفوارق الطبقية ويزداد الأغنياء غني والفقراء فقراً .

ثانياً :التجارة – الصناعة الحرفية :

معلوم أنه منذ فجر حضارة سودان وادي النيل كانت القبائل المجاورة لمصر (النوبة والبجة) كانت تجلب المواشي ، الخشب ، السنط ، الفحم ، الصمغ ، العبيد ، جلود الحيوانات ، الحجارة الكريمة ، كانت تجلبها إلى مصر ويقايضون المصريين بالأقوات والأنسجة .
ونعلم أنه منذ دولة مروي – بل قبلها بكثير – أن دولة مروى تمتعت بمركز تجاري ممتاز لأنها كانت تتحكم في الطرق التجارية المؤدية إلى مصر في الشمال عن طريق النيل وتجارة النيل وتجارة وسط أفريقيا المتجهة إلى البحر الأحمر ، وكان للرومان علاقات تجارية مع دولة مروى ومع وسط أفريقيا ، وكانت وارداتهم من وسط أفريقيا : الرقيق والعاج وريش النعام والأبنوس عن طريق النيل . ومعلوم أيضاً أن السلالة الحاكمة في مروى هي التي كانت تتحكم في التجارة والتي كانت أغلبيتها في تجارة السلع الكمالية التي كانت تهم السلالة الحاكمة والكهنة والموظفين .
وعندما قامت ممالك النوبة المسيحية كانت لها تجارة متطورة مع بلاد المسلمين ، وكانت تجارة العرب مع مملكتي المقرة وعلوة تتمثل في أن العرب يجلبون الحبوب والخرز والأمشاط ، مقابل الرقيق وريش النعام والعاج والذهب والمواشي ، وكانت تجارة الرقيق تمثل مركز الثقل في هذا النشاط التجارى كما عرف النوبة التجارة الصامتة أو التبادل الصامت مع قبائل الاستوائية حيث كانوا يحملون إليهم الملح وقطعاً من المنسوجات وبعض الحديد مقابل الذهب والبخور وسن الفيل والزرافات والطيور النادرة والقرود وبعض السموم القوية .
وكان الدافع التجاري – إضافة لدخول العرب السودان طلباً للكلأ والماء والفرار من الإضطهاد السياسي في عهد حكم السلالات غير العربية – من الأسباب التي عجلت بأنتشار الإسلام وأنتشار القبائل العربية قي السودان .. وبالتالي جاء التجار الأجانب (العرب) إلى بلاد النوبة وأنتشروا فيها بخبرتهم وعقليتهم التجارية السابقة وهكذا بدأت بذور وجذور رأس المال التجاري والطبقة التجارية في السودان الشرقي ، وبدأ اقتصاد السلعة – النقد يظهر جزئياً في بلاد النوبة (منطقة مريس) إضافة للمقايضة . وعندما قامت دولة الفونج كانت الديانة الإسلامية قد أنتشرت وأنتشر العرب في السودان وأندمجوا عن طريق المصاهرة بالسكان الأصليين وظهرت ظروف جديدة مهدت لإنطلاق التجارة وتراكم رأس المال التجاري .
ويمكن تحديد بعض مصادر – تراكم رأس المال التجاري في النقاط التالية :-
أ‌. الأرباح الكبيرة التي كان يحققها التجار العرب من مقايضة الذهب والمعادن الثمينة مع القبائل الأكثر تخلفاً بسلع مثل الملح والحديد والخرز وغير ذلك ما تحتاج إليه تلك القبائل ، أي عن طريق التبادل غير المتكافئ .
ب‌. الحملات والغزوات على القبائل المجاورة لقبائل النوبة والبجة بهدف البحث عن الرقيق ، إضافة لسلب ممتلكات تلك القبائل من مواشي وفوائض زراعية أي حملات النهب والسلب وصيد الرقيق
ج‌. الإستيلاء على أراضي النوبة الزراعية الخصبة بأشكال مختلفة منها النهب والسلب والمصاهرة حيث كانت الوراثة من جهة الأم.
د. الحملات على القوافل التجارية وعمليات الفوضي والسلب والنهب التي كانت تتم في الأيام الأخيرة لمملكتي المقرة وعلوة التي شهدت تفككاً شديداً والتي أتسمت بالفوضي والصراعات القبلية وسلب الممتلكات والغنائم كما هو معروف الحال الذي كان موجوداً قبل دولة الفونج . ومعلوم أن أصل رأس المال التجاري بدأ أساساً بالقرصنة وعمليات السلب والنهب ، كما تشير المصادر التاريخية في بلاد اليونان وفارس والمسلمين وحملات القراصنة والتجار الأوربيين على السكان الأصليين للأراضي الجديدة في أمريكا الشمالية والجنوبية وإبادتهم والإستيلاء على أراضيهم وعلى مناجم الذهب والفضة وعمليات صيد الرقيق الواسعة من أفريقيا ، وهكذا بدأ تحكم رأس المال التجاري في الحضارات السابقة . وهكذا أيضاً بشكل من الأشكال كانت بذور رأس المال التجاري في سودان وادي النيل وفي عشية قيام دولة الفونج .
تطور التجارة بعد قيام مملكة الفونج :-
عندما قامت دولة الفونج كانت الطبقة التجارية أو الرأسمالية قد غرست جذورها ، ولكنها لم تصبح قوية بعد ويتجلي ذلك في أن الحكام كانوا يقومون أكثر من الطبقة التجارية بتنظيم العمليات التجارية والسيطرة عليها وهذا أمتداد لهيمنة السلالات الحاكمة أو المالكة قبل سلالة الفونج على التجارة .
ولكن الجديد هنا أن سلاطين الفونج لم تكن هيمنتهم كاملة على النشاط التجاري الخارجي ، إنما كان في سلع أساسية مثل الرقيق والذهـب . ( )
هذا ربما يرجع إلى أن سلاطين الفونج تمركزت عندهم ثروات كثيرة بعد إستيلاءهم على أراضي النوبة الزراعية والرعوية الخصبة وبدأوا يقطعونها لشيوخ القبائل ومشايخ الطرق الصوفية وللاقطاعيين مقابل خراج معين هذا إضافة للمصادر الأخرى مثل الزكاة التي كانت تصلهم والضرائب التي كانت تصلهم من الممالك والمشيخات التابعة إضافة لعائد أراضيهم الخاصة .
وعندما قامت الشبكات التجارية في بداية حكم الفونج وارتبط السودان بالعالم الخارجي ونشأت الطبقة التجارية كان لحكام الفونج نصيب من الأسد من هذه العمليات التجارية والتي كانت تتطلب تجهيزات كبيرة : قوافل ، سفن شراعية ، جيوش لحملات صيد الرقيق .. الخ )ولم تكن للطبقة التجارية أمكانيات مثل هذه ولذلك كان للسلاطين الهيمنة في النشاط التجاري.
وكما هو الحال ، شأن كل النظم الأقطاعية السابقة ، كان أهداف الحكام في مثل هذا النظام يتمثل في الحصول على السلع والمواد الأجنبية من البلدان الأخرى ، وذلك للاستهلاك والاستعمال الشخصي أو لتقديمها كهدايا بغرض كسب التأييد وتوسيع النفوذ أو إعادة بيعها في الأسواق بهدف تحقيق الربح .
وشأن كل النظم الأقطاعية السابقة ، كانت القوافل التجارية تستورد السلع الكمالية ،(أي السلع التي كانت تهم السلاطين والطبقة التجارية والطبقات الغنية في المجتمع) من البلدان الأخرى ، هكذا كان الحال في القرن السادس والسابع عشر .
أي أن الطابع الأساسي للاستيراد كان في السلع الكمالية وكان السلطان يتحكم في الجزء الأساسي من المعروض من سلعتي(الذهب والرقيق)أي أهم سلعتين من صادرات دولة الفونج ، أي أنه كان للسلطان الدور المركزي في التجارة الخارجية لسلطنة الفونج .
وتشير دراسات أوفاهي وأسبولدنق إلى أن الكميات الكبيرة من الذهب المستخرج كانت تؤول تلقائياً إلى ملكية السلطان بينما تذهب الكميات الصغيرة إلى ملكية الدولة ، وبالنسبة للرقيق فالسلطان له الحق في إدارة ورعاية حملات الرقيق السنوية في مناطق جبال النوبة والنيل الأبيض وجنوب الفونج وبعد نهاية الحملة يستحوذ السلطان على نصف مجموعات الرقيق التي تم الحصول عليها أما النصف الثاني فيقسم على المشاركين في الحملة وبذلك يتضح أن السلطان كان يتحكم في سلع التصدير الرئيسية وعلى رأسها الذهب والرقيق .
وكان لسلاطين سنار الحق المطلق في رعاية وتنظيم القوافل التجارية وإرسالها للبلدان الأخرى وخاصة مصر وكان وكلاء السلطان في مصر وغيرها وهم غالباً من الأقرباء يرسلون إلى سنار العديد من الأفراد المحملين بالتحف النادرة والسلع الغالية وهؤلاء كانوا يلحقون بالقوافل التجارية السلطانية في رحلة عودتها للسودان وعندما تصل هذه القوافل إلى العاصمة سنار تعرض أولاً سلع السلطان قبل غيرها وتباع بأعلى الأسعار . ( )
وهكذا كانت هيمنة الدولة أو البلاط السناري على التجارة الخارجية وهذه الهيمنة كانت سمة من سمات النظم الشرقية الاستبداية القديمة في الصين ، مصر ، الهند ، دولة الخلافة الإسلامية وبأشكال متفاوتة ، ولكنها كانت من معوقات إنطلاق الطبقة التجارية أو الرأسمالية التجارية المستقل على سيطرة الطبقة الاقطاعية الحاكمة وسوف نرى لاحقاً أن هذا الصراع صراع الطبقة التجارية من أجل استقلالها كان من أسباب تفكك النظام الاقطاعي في دولة الفونج شأن كل النظم الاقطاعية السابقة .
يقول شقير : أشتهرت سنار بالغني والثروة وكان التجار يأتونها بالبضائع من مصر والحجاز والهند عن طريق النيل والبحر الأحمر ، وكان يرد إليها من دنقلا التمر ومن كردفان التير والحديد والعبيد ، ومن فازوغلي والصعيد الذهب والعسل والجلود والبغال والسياط والريش والسمسم ومن سوق رأس الفيل من بلاد الحبشة على أربعة من سنار الذهب والخيل والعيبد والبن والزبادي والعسل وأساور العاج وغيرها من حلي النساء ، وكان أهم صادراتها التجارية الذهب والعبيد وسن الفيل والخرتيت والزباد والعسل والسياط والجلود القصاع والإبل ( ). وكانت الصادرات أيضاً تشمل الصمغ العربي وريش النعام والروائح .
أما الواردات كانت تشمل : البهارات الصابون الروائح السكر والمنسوجات القطنية الفاخرة ،وكانت التجارة تتم عن طريق ميناء سواكن في البحر الأحمر إلى الجزيرة العربية والهند وشرق الهند ، وعن طريق القوافل التجارية عبر الصحراء إلى مصر وكانت هناك مراكز تجارية هامة مثل بربر ، شندي ، سواكن ، فازوغلي ... الخ
أسباب تطور وإنتعاش النشاط التجاري :-
بقيام دولة الفونج حدث إنتعاش في النشاط الاقتصادي التجاري الداخلي والخارجي ، وسنحاول هنا تحليل أسباب ذلك التطور والانتعاش والذي يمكن إرجاعه إلى الأتي :-
1. النظام السياسي اللامركزي الذي نشأ بعد قيام دولة الفونح والتي شملت مساحة واقعة واسعة ضمت حدود مملكتي المقرة وعلوة سابقاً ، وهذا أدي إلى إتساع التباين بين المناطق المختلفة التي كانت يضمها ذلك الاتحاد السياسي وتخصص كل منطقة في إنتاج سلعة معينة وهذا من الشروط الضرورية لانتعاش وإزدهار التجارة أي وجود مناطق متفاوتة في التطور وإنماط الإنتاج .
2. الشكل الجديد لملكية الأرض والذي كان متطورعلى الشكل السابق الذي كان سائداً أيام مملكة النوبة ، والذي كان فيه ملك النوبة المالك الوحيد لكل الأراضي الزراعية والعاملين فيها ويعملون كعبيد أوعمل السخرة وكل الفائض يذهب للملوك والبلاط والحاكم ، وهذا النظام كان من أسباب تدني الإنتاج .
وبقيام الشكل الجديد للتملك – ظهور الملكية الخاصة للأراضي أصبح لكل من مالك الأرض والفلاح مصلحة في زيادة الإنتاج الزراعي ، وبالتالي تطور الإنتاج الزراعي وظهرت فوائض كثيرة من إنتاج الحبوب والماشية وغير ذلك ، ومعلوم أن إتساع ذلك الفائض يؤدي إلى إنتعاش الصناعة الحرفية لا للاستعمال الشخصي بل للسوق وبالتالي أزدهرت الصناعة الحرفية .
ومعروف أيضاً أن تطور الإنتاج الزراعي والصناعة الحرفية يؤديان إلى تطور التجارة وانتعاشها .. هذا إضافة إلى ظهور طبقة احترفت التجارة أي طبقة تجارية ، والطبقة التجارية كما هو معروف تلعب دوراً كبيراً في تسويق الإنتاج الزراعي والحيواني والحرفي .
صحيح أيضاً أن التجار يشترون بأثمان أقل ليبيعون بأثمان أعلى والفرق هو مصدر الربح التجاري وبالتالي يتنازل المزارعون والحرفيون عن جزء من أرباحهم وجهدهم مقابل توفير وقت أكبر للمزيد من العمل في الإنتاج الزراعي والحرفي مما يؤدى إلى المزيد من إنتعاش التجارة والمزيد من تراكم رأس المال .
3. اتساع دائرة التعامل بالنقد معلوم أنه في مملكة النوبة المسيحية كان التعامل النقدي محدوداً ، ولكن مع قيام دولة الفونج أتسع التعامل بالنقد أو تم التوسع في اقتصاد السلعة –النقد . وهذا بدوره أدي إلى نمو وازدهار التجارة بعد ظهـور االنقد أو المعادل العام ( ذهب ، فضة ، دمور ... الخ ) .
4. أستقرار الأمن والحماية بالنسبة للقوافل التجارية الشيء الذي أدي إلى إزدهار وإنتعاش التجارة .
5. ظهور فئات وطبقات جديدة تمركزت في أيديها ثروات وفوائض إنتاج زراعي ورعوى مثل السلاطين والملوك ومشايخ القبائل وكبار ملاك الأراضي الزراعية والماشية والأغنياء من مشايخ الطرق الصوفية والتجار .... الخ .
وبالتالي أزداد استهلاكها للسلع الكمالية والسلع الفاخرة والمستوردة والداخلية واحتياجات السكن الفاخر والمعيشة الرغدة وبالتالي أيضاً أدى إلى المزيد من إنتعاش التجارة بتطور الاستهلاك من الضروري إلى الكمالي ...وهذا يفسر جزئياً طبيعة الواردات الكمالية التي كان لها النصيب الأكبر في وإردات دولة الفونج .
نماذج من تمركز رأس المال التجاري :-

في دولة الفونج تميزت الطبقة التجارية والطبقة الحاكمة وبعض مشايخ الصوفية بالثروة والغني والذي تمثل في إكتناز وتركيز الأموال في شكل نقد أو معادن ثمينة أو حلى أو مباني فاخرة أو في شـكل عيني ( عبيد ، ماشية ، حبوب ، أراضي ،سواقي ... الخ ) وكدليل على زعمنا هذا تقدم النماذج التالية كما وردت في طبقات ود ضيف الله .
1. جاء في الطبقات أن حامد اللين بن الفقيه سليمان بن الشيخ حامد ، كان له مع والدي (والد صاحب الطبقات) صحبة قال : قلت له الناس قالوا عند الفقيه أربعة ويبات ملحقات ، قال حقيقة المال عندي أولادى أخذوا النساء وشالوه مني .والويبة هي كيل والمراد أن ماله يكال ولا يعد من كثرته والملحقات عملة من الفضة كانت سائدة أيام الفونج .
2. ويرد في الطبقات أيضاً أن أحمد بن زيادة بن النور زاد على أبيه في الحظ والهيبة والغني فهو أكثر من الملوك والدنيا وعنده سفينة قدر سفاين الحجاز ( إشارة إلى سفن البحر الأحمر) من السنة إلى السنة يوديها للسافل ( ).
3. كما يرد في الطبقات عن عمار عبد الحفيظ (الخطيب) الذي من ورعه أنه تزوج فاطمة بنت سالم ، وكانت صاحبة دنيا عريضة : عيلتها تجار الهند والريف ومكث معها سبعة وعشرين سنة ما أكل طعاماً ولا أستصبح بمصباح وقال أصل مالها فيه حق الوراثة وأنا أخذت ذاتها فقط .
ويوضح د. يوسف فضل المقصود بالعيلة : أن عبيدها يتاجرون نيابة عنها في الهند ومصر وقد إعتاد كثير من التجار أن يعهدوا إلى مواليهم القيام برحلات نيابة عنهم،وكان هؤلاء الرقيق موضع ثقة كبيرة منهم .
4. كما يرد في الطبقات .أن الشيخ حسن ود حسونة كان صاحب غني وثروات ، كان يمتلك الذهب والفضة والماشية والعبيد والأراضي الزراعية الواسعة .. الخ .
5. ويرد في الطبقات مثال لبناء حجر ضخم وفخم يقول عنه صاحب الطبقات أن جاد الله حوار الفقيه حمد ولد أم مريوم ) كان مؤمناً قوياً ممتثلاً لأمر شيخه ، بني لشيخه بنياناً من الحجارة الموخابرة (الما عارفة) يقول هو من بناء الكفار ، بعض حجارته عشر أنفس ما بقدروا يحملوها إلى سقف البيت وقالوا يقع هو والحجر من السقف ما يحصل له ضرر ( ).
والمقصود بالكفار سكان السودان السابقين من النوبة المسيحية ومن سبقوهم من سكان مملكتي نبته ومروى ممن خلفوا آثاراً عظيمة .
6. ويرد في كتاب الطبقات أن الشيخ المضوي (محمد بن محمد أكداوي) دخل سنار ونزل عند الفقيه عمار وأدخلهم مع الفقيه أرباب والشيخ دفع الله على الملك اونسة بن ناصر وهو في الديوان لأجله فقام وعاتبه تقعد إلى أن تشيب حتى تجيني قالوا ما بيكرم العلماء أداه مايه محبوب (عمله ذهبية) ثم دخل عليه ثانية وثالثة ، كل يوم يعطيه مائة محبوب ودخل عليه مرة سابعة أعطاه جملين صهيب وفرختين وأوعده بالرجوع بسيره إلى الحج ويعطيه الوقف والجواهر الفي بيت الملك ( ) .
7. وذكر صاحب الطبقات أن حمد بن الشيخ عبد الله الطريفي ، جاءته أمرأه عاقر من ناس قرى فعزم له فولدت ولداً فجاءت تزينه عنده وجابت معه ماية أشرفي ( دينار من الذهب أو الفضة يزن درهم فضة) فلما أعطته أياها صاح وقال لها أسمعوا ياجاويد الله أنا سراق ، البلد براي ما فيه سراق ، أنا أكل مايه أشرفي ) .
هكذا نرى من هذه الأمثلة تركز الغني والثروة لدي الملوك والتجار وبعض مشايخ الطرق الصوفية . وهو يعبر بشكل من الأشكال عن تركز رأس المال التجاري لأن الملوك وبعض مشايخ الطرق الصوفية أنفسهم كانوا يعملون في التجارة .
ويمكن أن نقدم صورة عن نمط حياة الطبقات والفئات الغنية التجارية :
أ‌. من ناحية السكن وفي المراكز التجارية مثل (شندى واربجي) كانت طبقة التجار تسكن في منازل مستطيلة المباني مخروطية الشكل ، وكانت منازل الأغنياء التي تتميز بأسقفها الجميلة ووجود حمام خاص وفي بعض الحالات يوجد أكثر من طابق واحد كما أشار أوفاهي وأسبولدنق .( ) كما يذكر نعوم شقير أن قصر السلطان في سنار كان يتكون من خمسة طوابق .
ب‌. من حيث الملبس : الثياب الفاخرة من نسيج مصر مثل المنير والبصراوي الأخضر والصرموجة (نوع خاص من الأحذية) وعمم الشيشان الفاخرة والكوفية (المنديل المربع المصنوع من الفضة أو الحرير أو من الحرير المذهب) التي توضع على الرأس بطريقة تجعل جزءاً منا يسقط على الظهر – والثوب المنيرى للرجال والثوب الأبيض وثياب الدنقس والقرن للنساء .
ج‌. من السلع الاستهلاكية الكمالية التي كانت تستخدمها الفئات الغنية كما وردت في الطبقات : البندق (الأسلحة النارية)،البن ، التنباك ، التبغ ، التوابل (الفلفل ، الشمار ، الكزبرة) ، العطور (عطر الزباد ، المسك ، العنبر ، الصابون .... الخ) والطعام الفاخر لحوم الدجاج والطيور ، الفطائر ، اللحوم (ضأن) .
وإذا قارنا ذلك بأفراد عامة الشعب نجد أنهم كانوا يسكنون في منازل مبينية من القش والجالوص ، وملابس العامة من الرجال والنساء ، كانت قميص الدمور وفردة الدمور والفركة والرحط لغير المتزوجات ، وطعامهم الكسرة والملاح ، وفقراء الصوفية يلبسون الجبة المرقعة .... الخ

أزدياد نفوذ الطبقة التجارية :-

مع تطور الإنتاج الزراعي والإنتاج الحرفي أزدهرت التجارة وأزداد نفوذ الطبقة التجارية وأزداد تركز رأس المال التجاري بالأشكال التقليدية منها .
أ‌. الشراء بأثمان بخسة والتخزين بأثمان باهظة ، تحقيق أرباح طائلة من تلك العملية .
ب‌. انتشار الربا العيني والنقدي أيام الفونج وبالتالي شكل الربا أحد مصادر أرباح رأس المال التجاري والربا العيني (الشيل) كان منتشراً في تلك الفترة وكانت نتائجه مدمرة للمزارعين وملاك الأراضي ، وكان رأس المال التجاري يزداد ويتسع نفوذ الطبقة التجارية من جراء ذلك كما أوضحنا سابقاً .
ويشير صاحب الطبقات إلى أنتشار الربا بقوله (أن حمد ود أم مريوم كان يأمر كل من تاب على يديه لا يزوج أبنته أو وليته بالفاسق كالحلاف بالطلاق وآكل الربا أيضاً) ( ) .
وبالتالي ومع تطور الإنتاج البضاعي الصغير ومع بروز رأس المال التجاري وتركزه في يد بعض التجار والأفراد يظهر الربا كنتيجة من نتائج ذلك التطور البدائي ولرأس المال التجاري : ظهور اقتصاد النقد في مجتمع غالبيته يعيش على إقتصاد معيشي ، وتظهر حاجة الناس لنقد أو المخزون من السلع أيام الجفاف والأيام الأخيرة قبل الحصاد ، وبالتالي يستغل التجار هذه الحاجة ويفرضون شروطاً مجحفة على الناس وعلى الدائنين ويحققون أرباحاً فاحشة من هذه العملية .
ومع أزدياد نفوذ الطبقات التجارية وأزدياد تراكم رأس المال التجاري دخلت الطبقة التجارية في صراع لكسر إحتكار السلطان للتجارة مما أدي إلى إضعاف قبضته في السنوات الأخيرة من القرن الثامن عشر والسنوات الأولي من القرن التاسع عشر وزادت قوة التجار ووزن الباحثين عن زياة أرباحهم وزاد نفوذ التجار الأجانب (هنود ، إثيوبيين ، بريطانيين ، يونانيين ، أرمن ، عرب من الجزيرة العربية) .
وكان هذا نتاجاً لتوسع النشاط التجاري وما عاد النظام الاقطاعي يستوعب هذا الإتساع ، ودخل في تناقض معه مما أدي إلى خلخلته وإضعاف نظام الفونج الأقطاعي ( ).
هذا إضافة إلى ظهور عملات جديدة في نهاية القرن الثامن عشر داخل سلطنة سنار مثل الدولار الإسباني مما قوض نفوذ السلطان ولم يعد السلطان قادراً على التحكم في الأسعار عن طريق التحكم في كمية الذهب التي تصل الأسواق ( ) .
وفي نهاية القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر واجهت الحركة التجارية متاعب ومصاعب لخصها د. محمد سعيد القدال في الأتي :-
أ‌. إنعدام الأمن والحماية بالنسبة للقوافل التجارية مما يهزم الفكرة الأساسية لاتحاد ممالك الفونج .
ب‌. فرض الضرائب : عينية ونقدية على كل قافلة مقابل أعطاء حق المرور في أرض كل قبيلة .
ج‌. ملاحظة بركهارد من ميدان مضاربات التجار كان محصوراً في حدود سوق واحدة فتجار كردفان الذين يفدون دارفور غير أولئك الذين يذهبون إلى شندي والذين يفدون على شندي من مصر غير الذين يشقون طريقهم إلى سنار وهكذا .
د‌. أن استعمال النقود كان يواجه حواجز طبقية وجغرافية ، فالعملات المتداولة بين العامة كانت لها قيمة معينة وسط طبقة التجار والنبلاء مما حد من سيروتها كما أختلفت أنواع العملات ووسائل المقايضة الأخرى بين المنطقة والثانية فمثلاً بين بربر وشندي استعمال الدولار الأسباني والذرة والدمور بينما في كردفان الدخن ونجد الأبقار في المعاملات الكبيرة وأنتشرت الخواتم وقطع الصفيح في دارفور وفي كثير من الأحيان كان سعر تلك العملات غير مستقر وقيمتها حدسية ( ).
ومن مظاهر هذا الصراع وإزدياد نفوذ التجار أنهم استطعوا أن ينظموا أنفسهم في المراكز التجارية تحت قيادة (سر التجار) * للدفاع عن مصالح طبقة التجار( ).
وعموماً فإن هذا الصراع بين التجار وسلاطين الفونج كان من عوامل تحلل وتفكك دولة الفونج .
العملة :-

ذكرنا في الجزء الأول من هذه الدراسة أن التعامل النقدي بدأ أيام ممالك النوبة عندما كان يتم التعامل بالدينار في منطقة مريس ، أما خارجها فقد كان التبادل يتم بالمقايضة هكذا تعايش النظامان في مملكة المقرة ولكن الغلبة والهيمنة كانت للتبادل العيني أو المقايضة ، وتعتبر دولة الفونج خطوة كبيرة في إنتشار واتساع التعامل بالنقد أو المعادل العام (ذهب ، فضة ...) .
أشار أوفاهي وأسبولدنق إلى أن النظام التجاري في سلطنة الفونج كان يستند إلى أوقية الذهب كعملة لتسهيل التبادل ، وقيمة أوقية الذهب يمكن التحكم فيها بواسطة السلطان وذلك لأنه كان يسيطر على إنتاج الذهب في البلاد ولذلك فإن التحكم في تدفق كميات الذهب من الخزينة السلطانية حسب طلب السوق يمكن السلطان من التحكم بكفاءة في قيمة أوقية الذهب .
فقيمة الأوقية تظل مرتفعة بالمقارنة مع معظم السلع التجارية في سنار والمتداول الفعلي للذهب ينحصر في المبادلات الكبيرة نسبياً .
وبالنسبة للوضع الاقتصادي العام فإن الوظيفة الأكثر أهمية للذهب تتمثل تقريباً في إعتباره عملة وهمية أو كمقياس لتقييم السلع المختلفة أثناء عملية التبادل ( )إضافة إلى العملة الذهبية ورد في كتاب الطبقات أنواع أخرى من العملات (ذهبية ، فضية ....) كانت متداولة في سلطنة الفونج نذكر ( ) :-
1. محلقات الفضة وهي عملة كانت متداولة في السلطنة وما زالت تحمل معني نقود التيداوية(لغة البجة) وتنطق مهلقات.
2. الريال * ورد في أكثر من موضع في الطبقات .
3. الحدايد وهي نوع من العملة الرخيصة .
4. الأشرفي أو الاشرفية والاشرفي دينار من الذهب ضرب في مصر المملوكية في عهد السلطنة الملك الأشرف بارسياي (1422-1438م) وهو دينار من عيار مرتفع وزنه درهم وثمن درهم وهو من أجود الدنانير الملوكية الحركية .
5. المحبوب : وهو عملة ذهبية أشتهرت في العالم الإسلامي وعرفت بأسماء تختلف من مكان لأخر، فالمحبوب نقد تركي ضرب في عهد السلطان مصطفي الثاني (1694-1703) بوزن قدره أربعون جنيه ،وكان يعرف في البلاد العربية بزر محبوب وزر معناها الذهب بالفارسية ومحبوب اسم أحد المماليك (عاش حوالى 698/1299م) وقد قام بضربه في ذلك الحين ،وقد أنقص السلطان محمود (1808-1839) وزن الزر محبوب إلى 25 حبة واستعمل الزر محبوب في حلى النساء ( ).
6. الدينار وهو معروف ( ).
7. الدرهم .
8. القرش .
هكذا وردت هذه الأنواع المختلفة في كتاب الطبقات والتي كانت سائدة أيام الفونج ، هذا إضافة لأستخدام عملات محلية مثل الدمور في بعض المناطق .وفي أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر ظهرت عملات جديدة داخل السلطنة مثل الدولار الإسباني ، وكان هذا يعكس إرتباط السلطنة بمصر والعالم الإسلامي والعالم الأوربي ، عن طريق التجار الأجانب الذين بدأوا يفدون إلى مملكة الفونج بحثاً عن العلم والذهب والمغامرات والرقيق .
ويمكن تحليل أسباب هذا التنوع في العملة في النقاط التالية :-
1.الفترة الأولي :التي يتحكم فيها سلطان الفونج في الذهب وتجارة الذهب المستخرج من الذهب وبالتالي كان السلطان يصدر العملة الذهبية ، وهذه الفترة عكست ضيق وضعف الطبقة التجارية.
2.الفترة الثانية: التي أزدادت فيها العملات الوافدة من العالم الإسلامي والتي وردت في الطبقات (الدينار ، الدرهم ، المحبوب ، الأشرفي) .
وهذه الفترة عكست إتساع النشاط التجاري مع العالم الإسلامي وهذا الإتساع نتج من إزدياد وتوسع نفوذ الطبقة التجارية وبالتالى زيادة تركز رأس المال التجاري وظهور عملات أجنبية مرتفعة الثمن(ذهبية وفضية) ويمكن إكتنازها كما أوضحنا نماذج من ذلك الإكتناز في الطبقات .
3. الفترة الثالثة: وتعكس ارتباط العالم الإسلامي بالعالم الأوربي اقتصادياً وتجارياً ومالياً ، وبالتالي أرتباط دولة الفونج بالعالم الأوربي عن طريق التجار الأجانب الذين بدأوا يتغلغلون داخل دولة الفونج بحثاً عن الذهب والعاج وتجارة الرقيق .
وإشار الرحال بونسيه ( )الذي زار سنار إلى أن العملة التي كانت متداولة في سنار فرنسية وتركية وأسبانية . المراحل الثلاث أعلاه هي مراحل تطور، لكن لم تكن بذلك الترتيب بل كانت متداخلة ومترابطة ومتشابكة ، فالأمور لم تسر بذلك المخطط الهندسي ولكن قصدنا منه توضيح تلك المراحل ودلالاتها من حيث الأرتباط بالعالم الإسلامي والأوربي .
وسائل المواصلات :-
كانت وسائل المواصلات البرية هي : الدواب (جمع دابة) حمير، خيل،جمال ....الخ.
وكانت الجمال هي وسائل المواصلات الأساسية في تجارة القوافل البعيدة داخل السودان وإلى خارج السودان ، ومن وسائل المواصلات النهرية والبحرية كانت المراكب والسفن الشراعية ، وكانت صناعة المراكب منتشرة في عهد الفونج على طول نهر النيل وفروعه وفي مراكز إنتاج الخشب الأساسية .
وكان الأغنياء من التجار يمتلكون سفن تجارية تشق عباب البحر جاء في الطبقات (أن أحمد بن زياد بن النور زاد على ابيه في الحظ والهيبة والغني فهو أكثر من الملوك والدنيا وعنده سفينة قدر سفاين الحجاز (إشار إلى سفن البحر الأحمر) من السنة للسنة يوديها لسافل وكانت أهم الطرق التجارية للخارج هي :
أ‌. طريق سنار-الحلفايا ، شندي ، الدامر ، بربر ومنه إلى سواكن أو مصر .
ب‌. طريق الأبيض بمحاذاة النيل عبر صحراء بيوضة ومنه إلى الدبة ودنقلا إلى مصر .
هكذا ابتدع إنسان الفونج وسائل مواصلاته البرية من الحيوانات ، ومن أخشاب المنطقة صنع المراكب أو السفن الشراعية للمواصلات النهرية والبحرية .
كما أنه درس طبيعة وجغرافية المنطقة ونتيجة لخبرته الطويلة نوصل إلى أن المسافة بين بربر وسواكن هي أقصر الطرق ، وأن الطريق الذي يشق صحراء بويضة بمحاذاة النيل هو أقصر الطرق إلى الدبة ودنقلا .
الصناعة الحرفية :-
مع تطور الزراعة أزدهرت وتطورت الصناعة الحرفية التي يمكن تلخيصلها على النحو التالي :-
1. صناعة نسيج الدمور وغيره من المنسوجات القطنية .
2. المصنوعات الجلدية مثل الأحذية (الصرموجة والفونجاوي ) أباريق الجلود(الركوة) . الخرج والسعن (وعاء الماء) ، سوط العنج ،الرحط ، الحزام والشكال ، والمخلا ،الدرق ، وغماد السيوف والخناجر .
3. صناعة الصاغة : ومن أشهر الصياغة ، صياغة الشفتش الذي كان معروفاً في مصر بالسناري .
4. صناعة المراكب والسواقي وأدوات الإنتاج الزراعي (منجل ، سلوكة ، واسواق .... الخ ) .
5. النجارة : صناعة الأبواب والشبابيك .
6. صناعة الفخار : أزيار ، قلل ، أباريق ، أدوات منزلية ، قواديس .
7. صناعة الأدوات المنزلية من حديد ونحاس وخشب .
8. صناعة سك النقود من الذهب والفضة وصناعة التعدين (استخراج) الذهب والفضة والحديد والنحاس .
9. صناعة الأسلحة : سيوف حراب ، درق .
10. صناعة أدوات الطرب والموسيقي وتشمل :
أ‌. الربابة أو الطمبور (في كتاب الطبقات ورد ذكر إسماعيل صاحب الربابة) وهي آلة موسيقية تصنع من الخشب والقرع والجلد ولها أوتار من سبيب الخيل أو الزراف .
ب‌. النقارة . (ج) الدلوكة (د) النحاس وغير ذلك .
11. صناعة الخمور من الذرة والدخن والبلح وغير ذلك .
12. صناعة أدوات الزينة مثل أسورة الذهب والعاج والفدافيت وغيرها من أدوات الزينة النسائية .
13. صناعة السعف : بروش ، طباق ، سلال ، قفاف ، وهي أغلبها كانت صناعات نسوية ومع قيام هذه الصناعات وتطورها نشأت الحرف الصناعية المتخصصة مثل النجارة ، والخزف ، والغزل والنسيج ، والبناء ... الخ .
وتطور إنتاج هذه الحرف من الإنتاج للاستعمال الشخصي إلى الإنتاج للسوق ، وبالتالي تخصص بعض التجار في شراء هذه المنتوجات وعرضها في الأسواق وفي بعض المدن كان المنتجون أنفسهم يبيعون منتجاتهم في الأسواق الأسبوعية أو الموسمية التي كان تقام لذلك قبل تعميم التجارة (سوق الدامر ، سوق شندي ... الخ ) .
ونلاحظ أن أغلب مواد هذه الصناعات الخام كانت محلية مثل القطن ، الصوف ، الجلود ، الأخشاب ، الحديد ، الفضة ، وتراب البحر المخلوط بروث البهائم اللازمة لصناعة الفخار والطوب الأخضر وأغلب المصنوعات الأجنبية الواردة لدولة الفونج كانت واردات كمالية تهم البلاط السناري وكبار الأغنياء من تجار وملاك أراضي المنسوجات الفاخرة والروائح والعطور .

ثالثاً : الضرائب

لم يعرف السودانيون في عهد الفونج الضرائب التي كانت عليها في مصر آنذاك يقول د. شبيكة فبعضهم لا يدفع ضريبة مطلقاً وبعض عربان البادية يأخذ منهم الملوك ضريبة غير باهظة في فترات متقطعة غير منتظمة فالملوك أنفسهم سواء كانوا ملوك الفونج والعبدلاب أو ملوك أو مشايخ القبائل يطلبون المساهمة من رعيتهم بتجهيز حرب في بعض الأحيان ولكنهم يعتمدون في الغالب على ثروتهم الشخصية من مزارع ورقيق أومكوس وجمارك يجبونها من القوافل والأسواق ( ).
والنظام الإقطاعي الذي كان سائداً في عهد الفونج لم يكن نظاماً مركزياً بمعني أن الإقطاعات التي اقتطعهما ملوك سنار للقبائل أو لرجل الدين تتمتع باستقلالها النسبي وتدفع الضرائب والخراج لسلطان سنار أو مشايخ قرى أو حكام الإقاليم ( ) .
ويرى صدقي كبلو " إن ذلك النظام كان يسمح بحرية استثمار الأرض لمن اقتطعت له ولم يعرف أن الضرائب في تلك الفترة كانت مرهقة ، بل أن دفعها كان يحكمه في الغالب العرف القبلي أو الشعور الديني ، أي أنها كعلاقة أجتماعية كانت مبررة تماماً من ناحية دينية وعرفية ، أي أنها كانت مبرره أيديولوجياً ( ).
مصدر آخر لضرائب ملوك الفونج كانت نقطة جمارك دنقلا وسواكن يقول شبيكة " استفاد الفونج من سيطرتهم على الإقاليم الشمالية التي حاول الشيخ عجيب أن يحرمهم منها ، فقد أكدوا سيادتهم على نقطة الجمارك في دنقلا ونصيب الدولة من جمارك سواكن يصلها بانتظام ( ) ويواصل ويقول عن أهل السودان قبل الفتح التركي أهل السودان آنذاك أغلبيتهم تتعامل بالذرة والدمور كنقـد والريالات المتداولة بين الناس قليلة ( ).
أي أن أغلبية الضرائب كانت تؤدي لملوك الفونج وغيرهم بشكل عيني : ذرة ، عبيد ، خيول ، دمور،ماشية ....الخ وكانت أنواع الخراجات والضرائب التي كانت تحصل على الأرض في مملكة الفونج كما رصدها د. أبو سليم في كتابه الفونج والأرض كما يلي :-
1. الدم : وهو ما يذبحه مالك الأرض للحاكم وأعوانه إذا قدموا إليه.
2. الكليقة: عبارة عن حزمة من القش تعطى لدواب الحاكم وأعوانه.
3. قلة : عبارة عن عيش يؤخذ بالبرمة تسع ربعاً .
4. العادة : الإعانة المالية التي تقدم للحاكم في المناسبات السعيدة كالختان والأفراح .
5. نزول : أي ينزل الحاكم وأعوانه على مالك الأراضي ويستتبع ذلك دفع الضرائب والضيافة أحياناً تذكر الضيافة مع النزول أو بدله .
6. العانة : أي الإعانة – وهي مساعدة الحاكم ومعاونيه في الأعمال وتعرف بالخدمة أحياناً .
7. سنسنة : وتعرف أحياناً " بالكسرة " وهي حرف من الكسرة والمقصود بها الأطعام .
8. المخلا أو المخلة : مأخوذة من المخلان (المخلاية) وهي كيس من الشعر ويؤخذ به الزاد .
9. الجباية : العوائد التي تدفع عن الأرض .
10. تورات (هكذا وردت في الطبقات) ويرى د . عبد الله الطيب أنها ربما ترجع إلى ثلاثة احتمالات .
أ‌. جمع تورة من التتوير أي حرث الأرض أو حفرها أي بمعني ضريبة تدفع أول الحرث عند الإشارة للزرع .
ب‌. أنه التورات من التنوير أي نوع من القرعة والسخرة .
ج. أنه يعني تسمين وتربية البهائم وهو يرجع الاحتمال الأخير لكون
أهل الجزيرة يستعملون اللفظ بهذا المعني .
ويري د , يوسف فضل أنها ضريبة يدفعها سكان القرية أو القبيلة للجند الذين يحلون في ديارهم في شكل وجبات طعام أو تعيينات حتى يرحلوا عنهم .
جاء في الطبقات كان الفونج أول ملكهم فرضوا على قبائل العرب تورات العسكر،كل قبيلة عليها عمار لبن وناس معلومين ينفقوهم الفطيـر ( ).
واضح من ذلك أن مقدار التورات يساوي عمار لبن وناس معلومين ينفقوهم الفطير .والتورات بلغة الحيران ما حصر من القوت والأدام والتوراة جاءت من التتوير من النوم (المادة المنشطة للجند) .
11. حسب : غرامة معينة يؤديها الرجل كدية أو تأديب .
12. جله : ومعناها الكثير من أي رجل والوثائق أيضاً تذكر قل مقابلاً لها .
13. السبلة : الإعانة التي تقدم لدواب الحاكم وأعوانه .
14. علوق : العليقة التي تقدم لدواب الحاكم وأعوانه .
وكانت هذه الضرائب تجمع أما بإشراف الشيوخ أو عامل الخراج (الجراي).


الزكاة :
وكان يدفعها أصحاب المال والتجارة والماشية حسب الريعة الإسلامية وتنقسم إلى نوعين :-
أ‌. زكاة الفطر وهي تحصل بواقع خمسة وثلث أرطال، عن الشخص – حر أو رقيق طالما يعيش في كنف العائلة وتدفع هذه سنوياً في أول عيد رمضان الذي يعرف باسم شهر الفطرة .
ب‌. زكاة الأموال ،وهي أنواع منها النقود وزكاة النقود وزكاة العيش (الحبوب) وزكاة المال عن الحيوان ومنها الغنم والماعز والبقر والجمال وفق أنظمة وقواعد بينها الشرع الإسلامي .
أشار بركهارد إلى مثل هذه الزكاة التي كانت تؤدى لمشيخة العبدلاب ، وأن أسماها خراجاً ، نذكر أن ملوك الشايقية كانوا يأخذون من أقليم دنقلا الشاتين أو الثلاثة ، كما كانوا يأخذون ثوباً من الكتان تساوى قيمة ريالين ( ) .
المكوس (الجمارك):
كان من أهم مراكز تحصيل الجمارك .
1. مركز دنقلا : أشار الرحالة بونسيه إلى أن البضائع كان يؤخذ عليها مكوس أما المسافرون فلا يدفعون شيئاً .
2. مركز بربر : ذكر بركهارد " وعلى كل ما قاله نقد بربر أن تؤدي للملك ضريبة مرور يتطلب جمعها من كل فرد أياماً ويقاضي الملك كل قادم من مصر خمسة أثواب دمور دون مرأعاة لعدد أحماله أو حماله ويصرف النظر عن كونه سيداً أو قادماً وعلى المسافر أن يدفع ثوب دمور لموظفي الملك وأخر لعبيده وثالثاً لرؤساء البشاريين ويأخذ الملك ضريبته ريالات ودمور ( ).
3. مركز أمارة رأس الوادي .
4. مركز سواكن بشرق السودان .
5. مركز قرى(العاصمة السابقة للعبدلاب قبل الحلفايا).
6. مركز فازوغلي جنوب سنار .
ويوضح لنا محمد صالح محي الدين مثالاً لأوجه صرف هذه الضرائب في مشيخة العبدلاب التي كانت تتلخص في :
أ‌. كل ذي حاجة ويسمون ما يصرف في هذا الوجه (العيبة).
ب‌. الحرمان الشريفان في مكة والمدينة ولم يكن الصرف عليهما مطرداً بل كان من حين إلى آخر .
ج‌. الأسرة المالكة .
ويقال " لم يحترف العبدلاب الزراعة وتربية الأغنام إلإ بعد أن أنتزع الملك منهم وعندئذ صاروا يقيمون تروسهم ( ).
ونكمل الصورة بالجزية التي كانت تدفعها الممالك والمشيخات لملوك الفونج في سنار .
ذكر الرحالة كرمب وهو بسنار أنه شاهد حضور المانجل زعيم العبدلاب في ركب بسنار لتقديم فروض الولاء والطاعة والتشاور في شئون المملكة ومعه ضريبة مكونة من مئات العبيد والخيل والأبل ومقدار من النقود .
أي أن الجزية كانت تدفع أما في شكل عيني (ماشية ، عبيد ، خيل ، أبل ) أو في شكل نقدي .
وأشار الرحالة بركهارد أيضاً لهذه الجزية يقول : ليس لملك سنار سلطان على بربر أكثر من حق اختيار ملكها ، ولكنه في كل أربع سنين أو خمس يوفد إليها أحد رجاله ليجمع منها جزية من الذهب والجياد والأبل قوامها عشرون جواداً وثلاثون بعيراً على التقريب . وكان ملوك دنقلا يؤدون جزية كهذه لسنار كان يؤديها الشايقية لكنهم أمسكوا عنها بعد أن أشتد ساعدهم أخيراً ( ).
أي أن قيمة هذه الجزية حسب بركهارد كان قوامها عشرون جواداً وثلاثون بعيراً على التقريب سواء تم دفعها مباشرة لملوك سنار أو بطريقة غير مباشرة بواسطة شيوخ العبدلاب . والمرجح أنها كانت تجمع أولاً عند شيوخ العبدلاب ثم تدفع بواسطتهم كلها أو جزء منها لسلاطين الفونج ، حسب ما أورد كرمب أن المانجل زعيم العبدلاب عندما جاء إلى سنار كانت معه ضريبة (جزية) لملك سنار مكونة من مئات العبيد والخيل والإبل ومقدار من النقود .. وبهذا الشكل كانت الضرائب أحد مصادر تراكم ثروة سلاطين الفونج ، وتركزت الفوائض العينية والنقدية عند الملوك الذين تمتعوا بالثروة والغني ، ودخلت تلك الفوائض في دوران رأس المال التجاري ، حيث أن السلاطين أنفسهم يمارسون التجارة .
ومن المعلومات السابقة عن نظام الضرائب في مملكة الفونج ، يمكن تناول ذاك النظام الضريبي بالنقد والتحليل على النحو التالي :-
1. أنبثق ذلك النظام الضريبي من طبيعة النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي وجاء معبراً عن احتياجات ذلك النظام ، وبحكم أن المملكة كانت إسلامية فأنها أعتمدت الزكاة والفطرة حسب الشريعة الإسلامية ، ولكنها في الوقت نفسه أعتمدت على العرف والعادات السابقة لقيام دولة الفونج وبهذا المعني كان النظام الضريبي مزيجاً من الشريعة الإسلامية والإعراف المحلية .
2. تطور الرأسمالية التجارية فرض شكلاً جديداً ، من الضرائب على البضائع – المكوس – (حسب الشريعة الإسلامية) وكان ذلك النظام مبرراً لكونه جاء مقابل الخدمة التي كان يؤديها شيوخ القبائل وملوك وسلاطين المناطق في حماية أمن تلك القوافل ، أي حماية تجارة القوافل ولذلك نرى مثلاً أن لزعيم البشاريين في الشمال الشرقي نصيب معلوم من تلك المكوس – كان البشاريون من القبائل التي كانت تشكل خطورة على أمن القوافل الخارجة من بربر سواء لمصر أو سواكن .
3. يمكن تقسيم الضرائب المذكورة سابقاً إلى ثلاثة أقسام :-
أ‌. الضرائب على الأرض (خراج ، ضرائب) أو الضرائب على الإنتاج الزراعي .
ب‌. الضرائب على البضائع (المكوس) التي كانت تدفعها الطبقة التجارية .
ج. الزكاة كضريبة على الأموال عامة (نقد ، ماشية ، حبوب) أي على فوائض الإنتاج الزراعي والرعوي والتجاري (ما يكتنز في شكل نقدي أو عيني) . وهذه الأنواع الثلاثة من الضرائب هي التي مكنت النظام الأقطاعي في دولة الفونج من إعادة إنتاج نفسه لأكثر من ثلاثة قرون من الزمان ، وعندما نمت الطبقة التجارية ودخلت مع النظام الاقطاعي في صراع بهدف كسر إحتكار السلطان للتجارة لتمهيد الطريق لانطلاقها .
عندما حدثت هذه العملية كان النظام يلفظ أنفاسه ودخل في تناقض مع نفسه ولم يعد قادراً على إنتاج نفسه وفقد النظام في أيامه الأخيرة مصادر كثيرة من الدخل كانت تأتيه من المكوس نتيجة لانعدام الأمن ونتيجة لتمرد بعض القبائل والممالك ورفضها لدفع الجزية (مثل الشايقية والعبدلاب وغيرهما) ، وقد عبر د. عمر أبو سليم عن ذلك بقوله لقد وصلت مملكة الفونج في مشارف القرن التاسع عشر إلى مشارف السقوط نتيجة لتفشى الإضطرابات داخل البلاط السناري وبينه وبين الإقاليم أدت الاضطرابات إلى تدهور نظام التجارة الخارجية مما أفقد الدولة مورداً مالياً هاماً متمثلاً في المكوس التي تفرض على التجار أو عن طريق إحتكار الدولة لبعض السلع والقيام بتوزيعها وأما الخطر الاقتصادي الذي واجه الدولة كان لابد من العبء الضريبي على المزارعين فأصبح النظام السناري أكثر قهراً اجتماعياً واقتصادياً الأمر الذي ظهرت نتيجته عندما أعتمد الأتراك في المستقبل بعض جوانب النظام الضريبي السابق ومارسوا من خلال أداة مركزية كان له الأثر الفعال في ضعضعة أوصال البناء الاجتماعي والتمهيد للثورة المهدية ( ).
4. نلاحظ أن سلاطين الفونج أعتمدوا في الضريبة على أعراف وعادات كانت موجودة في المجتمع السوداني قبل قيام المملكة وهي نتاج المجتمعات القبلية السابقة التي كانت تقوم على العمل الجماعي والمشاركة فنجد أن ضريبة الدم التي أستندت أساساً على عادات القبائل في أكرام الضيوف يذبح ما تيسر من الماشية لها ، ومثل ضريبة العادة أو المساعدات المالية التي كانت ولا زال السودانيون يقدمونها لبعضهم في المناسبات السعيدة والأفراح ، وكذلك ضريبة (اسبلة) أو الإعانة التي يساهم بها الناس لأهل الميت لتغطية تكاليف المآتم ، وهناك ضريبة الدار التي تحصل من القرى التي تلجأ لأحراق الحشائش ويعتبر القش المحروق كنوع من السماد على الأرض ، وهناك أيضاً أتاوات من الأفراد إلى رجال الدين لتشملهم بركات الشيخ الروحية وكان زعيم القبيلة أو الشيخ أو غيره من رجال الحكم يدفع أتاوته عن نفسه وبيته ، وكذلك ضريبة السخرة وهي ضريبة عامة حسب ثروة السكان المحليين ( ). ولكن الجديد أن هذه الضرائب أصبحت إلزامية ولابد من دفعها للسلطان وكشكل من أشكال الضريبة على الأرض ، وبأعتبار أن السلطان هو المالك للأرض من الناحية النظرية .
وهناك ضريبة (العانة) أي المساعدة التي كانت تقدم للحاكم ومعاونته في الأعمال وتعرف بالخدمة أحياناً (وهذه العادة ترجع جذورها إلى المجتمع المشاعي البدائي الذي كان يعرف التعاون أو العمل الجماعي كضرورة يفرضها النظام الاجتماعي) ، وقد علمنا سابقاً أن النوبة عرفوا العمل التعاوني (الفزعة) أي البناء المشترك للسواقي وحفر الآبار التي ليست في مقدور فرد واحد في ذلك المجتمع البدائي أن يقوم بها ، كما عرفوا النفير في بداية العمليات الزراعية وفي الحصاد ، تلك العمليات الشاقة التي لم تكن في مقدور فرد واحد في المجتمع البدائي إذا أراد توفير مخزون عام أن يقوم بها ، وبالتالي كانت ضرورة العمل الجماعي والتعاوني .. الخ وعندما تفككت المشاعة البدائية نتيجة لظهور الفائض الاقتصادي عندها لتأدية وظائفها مثل مساعدة غير القادرين من الهبات والضرائب والزكاة التي يدفعها الأغنياء وهذا كان أساس تركز أجزاء من الفائض الاقتصادي عند الملوك الآلهة أو الكهنة أو شيوخ القبائل أو السلالات الحاكمة ومن مبررات قيام الدولة كان تأمين الاستقرار والمساعدة للعجزة والمساكين إضافة لهيمنة طبقة أو طبقات على المجتمع.
ولكن العمل التعاوني أستمر بشكل من الأشكال المتبادلة .. وأصبحت الأعمال المساعدة التي تقدم للأغنياء والملوك والكهنة ورجال الدين وهذا أصل عمل السخرة (غير المدفرع) الذي شهدناه في عهد الفونج . ونشهده في الأعمال غير المدفوعة لشيوخ الطرق الصوفية ولزعماء الطائفة (حتى يومنا هذا) بهذا التبرك وترجع جذور هذا العمل إلى المجتمع البدائي ، الذي كان قائماً على التعاون في العمل . وبهذا المعني هذه الضريبة العينية (في شكل قوة عمل غير مدفوعة الأجر) كانت تقدم لحكام الفونج وبالتالي كانت ضريبة مبررة اجتماعياً ، ولكن الجديد كما أشرنا سابقاً أنها أصبحت إلزامية ، أي عمل سخره الزامي للعمل في المباني أو مزارع أو مراعي أو سواقي حكام الفونج أو شيوخ الطرق الصوفية .
كما نلاحظ أن هذه الضرائب كانت تغطى أوجه صرف كثيرة لحكام الفونج مثل تكلفة إعاشة الحكام ودوابهم وربما جيوشهم عندما ينزلون عند الإقطاعي مالك الأرض ، هذا إضافة إلى أطعام دواب الأسرة المالكة وضريبة البرمة (العيش) وإعفائهم تماماً من تكاليف الأفراح والمآتم التي كانت باهظة. وتلك كانت بنود صرف كبيرة لجهاز الدولة في عهد الفونج يتم تغطيتها بهذا الشكل من الضرائب .
وإذا إضفنا الجزية والمكوس والزكاة نرى أن ملوك الفونج تركزت لديهم ثروات طائلة ، وتلك الثروات والفوائض العينية التي تم تحويلها إلى ذهب وفضة وحلى وإكتنازها هي التي شكلت الأساس لتطور تجارة السلطان ولإستيراد السلع الكمالية والأساس لتركز رأس المال التجاري ولبناء القصور الفخمة .
كما نلاحظ أن الزكاة تحولت إلى ضريبة تدفع إلى سلاطين الفونج ، ولاتحدثنا المصادر عما إذا كان سلاطين الفونج كانوا يصرفونها في أوجهها الشرعية التي بينها الشرع الإسلامي أم كانت تتحول لبند من بنود مصادر تراكم ثروتهم ويرد في المصادر أن العبدلاب كانوا يساعدون الفقراء والمحتاجين ولكن الغالب والواضح والمرجح أن الزكاة والأموال الناتجة عنها كانت تحول إلى جيوب السلاطين وإلى الإنفاق على السلالات الحاكمة (سلطان،وزراء ،ملوك ، أرباب ، مشايخ ، موظفين ) كالضرائب والعوائد الأخرى ولا تذهب للفقراء والمساكين وأبن السبيل والغارمين عليها وفي الرقاب كما بين الشرع الإسلامي .

هوامش الفصل الأول :-

1. للمزيد من التفاصيل راجع د. محمد إبراهيم أبو سليم "الفونج والأرض" – وثائق تمليك (1967م) ود. أبو سليم الفور والأرض - وثائق تمليك (1975م) ، راجع أيضاً أ . س بولتون " أضواء على الملكية الزراعية في السودان – ترجمة هنرى رياض (الخرطوم مكتبة خليفة عطية بدون تاريخ) .
2. أنظر الوثائق ، ص ، 66
3. أنظر الوثائق ، ص ، 52
4. للمزيد من التفاصيل أنظر بحث د . محمد إبراهيم أبو سليم الساقية .
5. أنظر د . أبو سليم ، الساقية ، ص ، 210 .
6. نسيم مقار أحوال السودان الاقتصادية قبل الفتح المصري ، ص ، 210
7. د. أبو سليم ، الساقية ، ص ، 210
8. نفسه ، ص ، 227
9. أتظر د . مكي شبيكة ، السودان عبر القرون (1965م) ص ، 136
10. Burkhard , J.L’’ Travels in Nubia ‘’( London 1819 )
11. أنظر و.نكولن الشايقية (مطبعة مصر الخرطوم 1956م) ترجمة د. عبد المجيد عابدين ، ص، 24
12. أوفاهي وأسبولدنق ، ممالك السودان – بالإنجليزية (لندن 1974م) ص ،81-82
13. الطبقات تحقيق د . يوسف فضل (دار جامعة الخرطوم للنشر ، ط 3،1985م) ، ص، 6
14. الطبقات ، ص ،176-177
15. أنظر أوفاهي وسبولدنق – مرجع سابق ، ص،82
16. أنظر أرنست ماندل ، النظرية الاقتصادية الماركسية – الجزء الأول – (دار الحقيقة – بيروت 1972م).
17. أوفاهي وسبولدنق ، المرجع السابق ، ص82-83
18. نفسه ، ص ، 55-56
19. المرجع السابق ، ص56 ، أنظر أيضاً بيركهارد ، مرجع سابق ، ص ، 282
20. شقير ، المرجع السابق ، ص، 127
21. الطبقات ، ص ، 217
22. نفسه ، ص، 132
23. نفسه ، ص ، 102
24. أوفاهي وأسبولدنق ، ممالك السودان ، ص ، 80
25. الطبقات ، ص ، 175
26. د. محمد سعيد القدال ، السياسة الاقتصادية للدولة المهدية (دار جامعة الخرطوم للنشر 1986م) ، ص ، 25-26
27. أوفاهي وأسبولدنق ، المرجع السابق ، ص ، 24
28. د. محمد سعيد القدال ، المرجع السابق ، ص ، 24 .
29. أوفاهي وسبولدنق ، المرجع السابق، ص ،24
• ربما يكون أول تنظيم حديث في سودان وادي النيل على أساس مهني .
30. أوفاهي وأسبولدندق ، المرجع السابق ، ص ، 55
31. أعتمدنا على نسخة الطبقات حققها د. يوسف فضل (الطبعة الثالثة 1985م) ، كما أعتمدنا على توضيحات د. يوسف فضل لتلك العملات التي وردت في الهوامش ، وتوضيحات د.عون الشريف قاسم في قاموس اللهجة العامية في السودان (1985م).
32. الطبقات هامش ص ، 102
33. للمزيد من المعلومات عن الدينار (أصله وتاريخه) راجع بحثنا السابق حول تاريخ النوبة الاقنصادي والاجتماعي .
34. الرحالة بونسيه (poncet) زار سنار في الفترة (1698م – 1699م) وهو طبيب فرنسي .
35. د. مكي شبيكة ، السودان في قرن ، ص ، 6
36. د. أبو سليم ، الفونج والأرض ، ص ،30-35
37. صدقي كبلو ، السياسية الاقتصادية للدولة المهدية مجلس الأبحاث الاقتصادية والاجتماعية 27/5/1984م .
38. د. شبيكة ، السودان في قرن ، المرجع السابق .
39. نقسه ، ص ، 118
40. د. أبو سليم ، الفونج والأرض ، ص ، 30-33
41. الطبقات ، ص ، 81
42. بركهارد ، المرجع السابق ، ص ، 57
43. نفسه ، ص ، 186-187
44. أنظر محمد صالح محي الدين ، مشيخة العيدلاب ص 400 ، وتاريخ العبدلاب من خلال رواياتهم السماعية ، ص ، 102
45. بركهارد ، المرجع السابق .
46. د. أبو سليم الفونج والأرض ، المرجع السابق .
47. راجع الشاطر بصيلى عبد الجليل ، تاريخ وحضارات السودان الشرقي والأوسط (القاهرة 1972م) ، ص، 266
الفصل الثاني
الأوضاع الاجتماعية

أولاً : التركيب الطبقي :-

أشار أسبولدنق في كتابه " عصر البطولة في سنار " إلى التركيب الطبقي لدولة الفونج ، وأوضح أن ذلك التركيب كان ناشئاً من التفاوت في الثروة والغني وأشار إلى التسلسل الهرمي للطبقات في دولة سنار الذي يتكون من العبيد والعامة والطبقة الوسطي والنبلاء .
وأشار أسبولدنق إلى ظاهرة أنتقاء الأسماء كمظهر من مظاهر التمايز والتفاوت الطبقي فالأسماء المتداولة بين النبلاء (الملوك ، والسلاطين ) كانت دوماً هي أسماء مثل عجيب ، عدلان ، عمار ، بادي ، أما الأسماء الشائعة بين الطبقة الوسطي (ممن يلقبون بالأرباب) فهي أسماء مثل أبي زيد وعلي وعبد الله وحمد .
وبين العامة أسماء مثل بله ، وبر ، وكمير ، أما العبيد فقد كانت أسماؤهم ، توحي جمعاً بأنهم فيء افاءه الله على النبلاء كاسماء الله جابو ، وفضل المولي ، ورزق الله ، أو توحي بأنهم عطاء من به النبلاء على صنائعهم في الطبقة الوسطي مثل : خير السيد ، وقسم السيد ، وعبد السيد .
ويرى د . منصور خالد أنه لا شك في أن ما يعانيه السودان اليوم من تمزق هو إنعكاس لرواسب مجتمعات الاسترقاق تلك والتي ما زالت تلقي بظلالها الكثيفة على العلاقات الاجتماعية وتمتد لسبب من هذه الأوضاع السياسية إلى فترة الفونج ( ).
ونكمل ما أورده د. خالد ونقول أن جذور الرق في سودان وادي النيل كما هو معلوم تمتد إلى أعمق من فترة الفونج ، فقد ورث الفونج الرق من الممالك السودانية القديمة (كرمه ، نبته ، مروي ، ممالك النوبة المسيحية ) ، أي منذ أن تفككت المشاعة البدائية الأولي بعد ظهور الثورة النيولوتية (أي اكتشاف الزراعة والرعي) ، وما نتج عن ذلك من فائض اقتصادي أدي إلى ظهور الرق كأول أنقسام طبقي في التاريخ أي أن السودان الشرقي كغيره من المجتمعات الأخرى عرف الرق والاقطاع بسمات معينة ونظام الرق كان من الآليات الاقتصادية الهامة لنظام الفونج ، وليس له علاقة بالإسلام أو الدين مثال لذلك حروب أحد ملوك الفونج (بادي أبو شلوخ 1724 -1762 م) ، مع ملك تقلي في جنوب كردفان بهدف استجلاب الرقيق منها ، رغم أن مملكة تقلي كانت إسلامية حسب علمنا ، وبالتالي لم تكن هناك مبرارات لنشر الإسلام ، بل الهدف الأساسي هو حملات الرقيق الذي كان يشكل المصدر الأساسي لتجارة الفونج الخارجية والعماد الأساسي لجيش دولة الفونج إضافة إلى وظائف الرق الأخرى .
تحدث سبولدنق أيضاً عن العهد الزاهر في مملكة الفونج الذي شهد تطوراً اقتصادياً وشهد نشؤ البورجوازية وإدخال السودان عبر التجارة في دوره الاقتصادي النقدي خاصة استيراد الذهب والفضة الذين كانت تحتاج الدولة الإسلامية لسك النقود ، ومضي المؤلف في تحليله لابراز التحالف بين الحكام والفقهاء في الكتابة (أداة التخاطب مع العالم الخارجي وتسجبل الحقوق) وفي تطبيق قوانين متطورة لإثبات هذه الحقوق هي الشريعة الإسلامية .
من المهم ونحن نتحدث عن تشكيلة الفونج كتشكيلة سابقة للرأسمالية ، شأن كل التشكيلات السابقة للرأسمالية التي عرفت الرق والاقطاع والإنتاج البضاعي الصغير واقتصاد السلعة – النقد وما يتبع ذلك من ظهور طبقة تجارية أو رأسمالية تجارية ربوية .
مهم أن تأخذ المحاذير الآتية بهدف ضبط المفاهيم والمصطلحات أو استخدام مصطلحات ومفاهيم تكون قريبة من واقع تشكيلة الفونج بسماتها التي تميزها عن التشكيلات الأخرى سواء كانت في أوربا أو الأقطار الشرقية والأفريقية الأخرى .
1. فعلي سبيل المثال تحدث أسبولدنق عن نشؤ الطبقة البورجوازية في عهد الفونج الزاهر ، وهنا لابد أن نشير إلى الفرق بين مصطلح البورجوازية كما نشأ في أوربا وبالمفهوم الذي تطور به في أوربا والذي يختلف عن الحالة التي كانت عليه في دولة الفونج .
فمعلوم أن تراكم الرأسمالية النقدي ،الرأسمال المرابي والبضاعي والتجاري في أوربا الغربية بين القرن العاشر والقرن الثامن عشر تم على يد طبقة برجوازية كانت تتحرر تدريجياً من وصاية الطبقات الاقطاعية والدولة واستطاعت في النهاية الانتصار في أن تخضع الدولة نفسها لسيطرتها وجعلت منها أداة للتحصيل بتراكم الرأسمال لصالحها .
وهذا هو المفهوم الواسع للبرجوازية كما نشأ في أوربا ومعلوم أيضاً أن الطبقة التجارية التي نشأت في أحشاء النظام الاقطاعي للفونج والتي كانت ضعيفة في البداية ثم تطورت واتسع نفوذها فيما بعد ، وبدأت تدخل في تناقض وصراع مع الطبقة الاقطاعية الحاكمة (السلاطين والملوك) لكسر احتكارها للتجارة . وهذه العملية لم تحقق فيها الطبقة التجارية انتصارها الكامل بحكم قوة واستبداد سلاطين الفونج ، ورغم أن نفوذها أتسع ودخلت عناصر من تجار أجانب لها خبرة أوسع في التجارة ( هنود ، مصريين ، سوريين ) أدخلو الوعي في صفوف الطبقة التجارية السودانية إلا أن هذه العملية لم تصل إلى مستوى الإستيلاء على السلطة كما حدث في أوربا واستحواذ فائض القيمة من العمال .
وبالتالي نشير إلى المحاذير في استخدام مصطلح البورجوازية الذي لا يعبر تعبيراً دقيقاً وشاملاً عما كان عليه الحال في أوربا ، ورغم أن الفرق في التطور التقني والثقافي والاجتماعي لم يكن كبيراً حتى بعد ظهور بدايات الثورة الصناعية .
وعليه أري أن مصطلح الطبقة التجارية أو الرأسمالية التجارية أو الربوية هو أقرب إلى الحالة التي نحن بصددها أيام الفونج .
ويمكن تقسيم هذه الطبقة إلى قسمين :-
أ. كبار التجار :-
ويطلق عليهم ود .ضيف الله في طبقاته مصطلح " الجلابة " والجلابة من جلب أي باع وأشتري وهم مجموعة التجار الذين يسافرون في قافلة الأبل التي تتاجر بما تحمل من مكان لآخر .
وباختصار فالجلابة كما يرى د. يوسف فضل تعني التجار والعير التي تحملهم سواء كانت هذه التجارة داخلية أو خارجية ، وفيما بعد تطور هذا المصطلح حتى صار يعني على وجه الخصوص من يعملون بالتجارة من الدناقلة أو العناصر النوبية المستعربة في مناطق كردفان ودارفور وجنوب السودان (بعد الفتح التركي) ، وبعض المناطق التي لم ينتشر الإسلام فيها بعد في السودان ( ) .

ب . صغار التجار :-
ويطلق عليهم ود . ضيف الله أسم " التشاشة " وهم الذين يعملون في عملية المقايضة في السلع الصغيرة ومنها جاءت كلمة ( التشاشة التي تعني البائع المتجول الصغير( ) أو تاجر القطاعي إذا جاز التعبير وبالتالي فإن مصطلح الجلابة " الجلابة " والتشاشة " هم الأقرب للحالة التي نحن بصددها ، أي أن مجموع الجلابة " والتشاشة " هم ما نطلق عليه الرأسمالية التجارية أو الطبقة التجارية في عهد الفونج ) .
2. من المحاذير أيضاً ونحن نتحدث عن التركيب الطبقي لمجتمع الفونج هو خطأ اقحام مفهوم الطبقة الاجتماعية على الطبقات والمراتب التي كانت موجودة في تشكيلة الفونج كتشكيلة سابقة للرأسمالية .
كان اكتشاف مفهوم الطبقة الاجتماعية الذي بلوره ماركس ( وطوره فيما بعد لينين وبوخارين ولوكاتش وغيرهم ) من المكتشفات الهامة في علم الاجتماع ، ذاك أن ماركس حدد مفهوم الطبقة الاجتماعية لا بالتفاوت أو المراتب الاجتماعية وغيرها من التكوينات الاجتماعية المتفاوتة التي كانت سائدة في مجتمعات الرق والاقطاع السابقة للرأسمالية ، ولكن ماركس حدد مفهوم الطبقة الاجتماعية بعنصرين هما الأول : الدور في الإنتاج والثاني : الوعي الطبقي (الامتداد أو الأثر الثقافي ) .
وأضاف علماء الاجتماع بعد ماركس سواء كانوا ماركسيين أو غير ماركسيين بتطوير وتعميق مفهوم الطبقة الاجتماعية والطبقات عموماً ... وأضاف علماء الاجتماع غير الماركسيين معايير أغنت وطورت هذا المفهوم مثل المهنة ، الدخل ، الثروة أرتفاع درجة الكفاءة الشخصية القيمة الذاتية ، الوظيفة ، نوع المعيشة ، القدرة على التزاوج ، تبادل الزيارة بين درجات أفراد الطبقة الواحدة .... الخ( ) .
وأحسب أن هذا المفهوم تطور وتبلور بعد انتصار الثورة الصناعية في أوربا وانتصار نمط الإنتاج الرأسمالي وظهور طبقتي البورجوازية والبرولتاريا وغيرهما .
وبالتالي يبدو لي من الخطأ والتعسف اقحامه على التركيب الطبقي الذي كان سائداً في عهد الفونج باعتبار أن تشكيلة الفونج كانت سابقة للرأسمالية .
إذن يمكن القول أن تشكيلة الفونج ضمت مراتب أو تكوينات اجتماعية متفاوتة شملت السلاطين ، والملوك وشيوخ القبائل ، التجار المزارعين ، فئات وسطي (فقهاء ، كتبة ، قضاء) شيوخ الطرق الصوفية ، قيادات الجيش ، الجنود ، العبيد .


1. السلاطين والملوك وشيوخ القبائل :-
كما أوضحنا سابقاً أن سلاطين وملوك الفونج كانوا يتمتعون بتراكم الغني والثروة وحددنا مصادر ذلك التراكم في إحتكار التجارة الخارجية ، الضرائب ، والمكوس والخراج والزكاة ، حملات النهب والسلب وما ينتج عنها من غنائم ورقيق .
وباختصار هذه الدخول مكنت لهم في الأرض ، وجعلتهم يعيشون في ترف وثروة وغني ، وسكنوا شواهق القصور .
2. التجار :
من الفئات التي كانت تتمتع بالثروة والغني وهي طبقة التجار التي نمت في المدن والمراكز الأساسية في المملكة نتيجة لتطور وإزدهار التجارة حتى أصبحوا قوة دخلت في تناقض مع السلطان الذي كان يحتكر سلعتي الذهب والرقيق .
3. القضاء ، الفقهاء ، الكتبة :
وهم الذين يعملون في جهاز الدولة مقابل أجر معين يتفاوت من إقطاعهم أراضي يصلهم نصيبهم منها بانتظام أو أجر محدد كما كان الحال لدى كتاب محاكم بربر .... هذا إضافة لدخول أخرى مثل الرشوة حيث كان بعضهم يحكمون لصالح التجار في المحاكم وخاصة في قضايا الأراضي مع المزارعين .

4. قيادات الجيش (الفوارس والمقاديم) :-
ويطلق عليهم شقير " الفوارس " عندما أشار إلى أن الفونج أيام عزهم كانوا يجهزون جيشاً لا يقل عن 35 ألف مقاتل مسلحين بالحراب والسيوف والدرق وفيهم الأف إلى الخمسة الأف فارس من العبيد والفونج.
وكانوا يقيمون في بلاد البرون إلى الجنوب ولهم ثلث الغنائم التي يغنمونها من فازوغلي وجنوبها( ) وبالتالي كانت لهم مصلحة في استمرار الحملات من أجل الرقيق على القبائل المجاورة ( جنوب كردفان ، جنوب النيل الأزرق) أو الحروب الخارجية مثل حروب الفونج مع الحبشة ، ويطلق عليهم أحياناً المقاديم (جمع مقدم) .
هذا إضافة للأراضي التي كانت تقطع لقيادات الجيش التي منها معاشهم ومعاش عساكرهم .
5. شيوخ الطرق الصوفية :-
ويتفاوت هؤلاء في الغني والثروة فمنهم من جمع ثروات ومنهم من زهد في الدنيا ونعيمها الزائل وعاشوا زهد وتقشف الصوفية الأوائل أمثال الحسن البصري .
ومن الأمثلة للشيوخ الذين كانوا أصحاب أراضي وجاه وغني وثروة كما ورد في الطبقات الشيخ حسن ود حسونة الذي كان يمتلك ثروة وتتكون من أراضي زراعية وماشية وذهب وعبيد ، وحامد اللين بن الفقيه سليمان بن الشيخ حامد الذي كان عنده من المال ما يعادل أربعة ويبات .
وما ورد في وثائق الأرض التي نشرها د. أبو سليم أن سلاطين الفونج أقطعوا الأراضي الواسعة لبعض الشيوخ مثل الشيخ خوجلي عبد الرحمن وحمد ود أم مريوم في الخرطوم بحرى ،الشيخ يعقوب بن مجلي في الجريف وأبو سعد والحلفايا ، كما أعطي سلاطين الفونج قطعة أرض في العيلفون للشيخ إدريس ود الأرباب ، كما أقطعوا أرضاً للشيخ حمد ولد زروق في الصبابي ثم وفد الدواليب وأقطعوا لهم الفونج والعبدلاب أراضي واسعة في الكدرو . ( )
هذا إضافة للزكاة ، الهبات ، التي تأتي من الإتباع والمريدون .
كما جاء في الطبقات أن من أفعال حمد ود أم مريوم أن بني جرار كل سنة يأتون بزكاة ماشيتهم وثمنها يشترى به الرقيق ويعتق نصفه ، هذا بالاضافة للثروات التي كانت تأتيه من كتابة الحجب وممارسة الطب الشعبي .
وكمثال أخر للغني والثروة أن الشيخ مدني بن محمد بن مدني كان صاحب غناء كثير يسوق نحو خمسة عشر سواقي ( ) كما ورد في الطبقات أيضاً أن الشيخ يعقوب بن الشيخ مجلي المشيخي ولد بالريف دخل الجزيرة في أول ملك الفونج وحصاه الملك وزوجته وأبنته وقطع له في الدار بنواحي الحلفا قدر ما يشور جواده شرقاً وغرباً ويميناً وشمالاً وجوها من جميع السبل فهي إلى الآن كذالك ، كما ورد أيضاً أن قاقم بن الحاج إبراهيم أوقد نار القرآن وعمرت حلقته عماراً كثيراً وكانت مناجله تسعين ، كل يوم يحشو بها ناس آخرين إلى السبوع وجميعهم نفقتهم عليه غداء وعشاء وابوه الحاج يملأ السبيل للفقراء ( ).
وهذا مثال جديد يوضح إمتلاك بعض الشيوخ لأدوات الإنتاج الزراعي (المناجل) وأعمال البر والأحسان التي يقدمها هؤلاء الشيوخ .
ومن الشيوخ الذين رفضوا الدنيا ونعيمها الزائل كان الشيخ حمد النحلان الذي جاء عنه في كتاب الطبقات أنه ، كان لا يقبل الهدية ولا له جاه ولا شفاعة عند السلطنة ولا له حرفة من زراعة وتجارة ولا يكتب الحجب كعادة الأولياء .
وكذلك الشيخ أحمد بن عبد الله الطريفي الذي جاء عنه في الطبقات أنه رفض أستلام المال أشرفي من أمرأة بعد أن عزم لها بحجة أنه ما سراق حتى يأكل مايه أشرفي .
وكذلك الشيخ إدريس الذي رفض استلام دار العسل والبصل التي منحها له الملك بادي بن رباط ملك سنار بحجة أنها دار النوبة التي غصبها منهم الفونج .
وأورد الحديث أن الرسول (ص) قال من سرق شبراً من الأ رض طوقه الله يوم القيامة به من سبع أرضين " وقال لهم أعطوني الحجز في كل شيء وأعطاه الملك الحجز في كل شيء كما طلبه " .
وهذا مثال لمسلك جميل من شيخ صوفي عظيم ... ومن الشيوخ من كان يعمل نفسه مثال الشيخ خليل بن بشارة الذي ورد عنه في الطبقات أنه كان مجذوباً صالحاً مشهوراً بالولاية عند أهل زمانه وأتخذ سبيلاً فوق طريق المسلمين ويحمل الماء إلى السبيل بنفسه وأعطته السلطة ساقية أعانوه بها على السبيل تعرف اليوم بساقية السبيل .
ورد عنه أيضاً أنه كان "عنده فندق ( )" يدق عشاه وغداه فيه ويطحنه بيده .
6. المزارعون :-
وهؤلاء هم الذين كانوا يعملون في أراضي ملاك الأراضي أو السلطان أو الشيوخ مقابل نصيب معلوم من أنتاجهم لملاك الأراضي (خراج) إضافة للضرائب التي كانت تدفع والتي أشرنا إليها سابقاً حسب الشريعة والعرف ... هذا أضافة للاستغلال البشع الذي كانوا يعانونه من تجار الشيل (الربا العيني) ... وفي النهاية نلاحظ أن الفائض الناتج من عمل المزارعين يتوزع بين تجار الشيل وملاك الأراضي والضرائب المقررة حسب الشريعة والأعراف المحلية .
والحصيلة النهائية فإن هذه الطبقة كانت تعيش في حالة فقر وعوز مطلقين .
7. الجنود :-
وهؤلاء كانوا يتكونون من أبناء الفونج والرقيق وكان السلاطين يكفلون عيشهم وأسرهم من الأراضي التي كان يقطعها السلاطين لقيادات الجيش وعساكرهم والتي كان منها معاشهم . هذا إضافة لنصيبهم من الغنائم التي كانوا يغنمونها .
8. العبيد :-
وهؤلاء في قاع الهرم الاجتماعي ، ويستحوذ اسيادهم على فائض عملهم في الزراعة والرعي مقابل معيشتهم وأسرهم إضافة إلى أنهم كانوا سلعة تباع وتشترى إضافة للوظائف الأخرى التي كانوا يقومون بها في النسيج الاقتصادي والاجتماعي لتشكيلة الفونج .
9. إضافة إلى ما ورد أعلاه نشير إلى فئات الحرفين من حدادين ونجارين وغيرهم . ( )
كما نشير إلى القبائل الرعوية التي كان وسطها يتمثل الجاه والغني والثروة في إمتلاك الإنسان لأكبر قدر من قطعان الماشية (بقر ، جمال ، ضان ، ماعز) ومن يملكون أكثر تكون لهم السيطرة في القبيلة من جاه ونفوذ اجتماعي والزواج بأكبر عدد من النساء .
هذا بالإضافة لثروات شيوخ القبائل التي كان مصدرها عمل السخرة من أفراد القبيلة والضرائب من خراج وزكاة ومكوس والهبات من السلاطين بهدف تدعيم النظام القائم ، وكان هناك المتوسطون من الرعاة وفقراء الرعاة الذين كانوا يعيشون في فقر وعوز ، باختصار اللوحة العامة للتكوينات والفئات الاجتماعية المتفاوتة التي شكلت مجتمع الفونج ، حسب نصيب كل منها من الثروة العامة التي كان يخلقها المزارعون والحرفيون والرقيق ، وبقدر ما كان يزداد تركز الغني والثروة عند فئات الحكام والتجار وبعض شيوخ الطرق والفقهاء ، بقدر ما كان يزداد الفقر والعوز الذي كان يعاني منه المزارعون وطبقة الارقاء .
وتركز الثروة والغني هو الوجه الآخر لتركز الفقر والعوز كما يقول الفيلسوف الالماني هيغل .

ثانياً : سمات نظام الرق والاقطاع
نظام الرق :-
ذكرنا سابقاً أنه بقيام دولة الفونج ظهرت علائق اجتماعية أرقي وتطور التقسيم الطبقي للمجتمع من الشكل البسيط إلى المعقد ، ولكن مع ذلك أستمر نظام الرق ولكنه دخل في طور جديد ، وذلك بحكم أن الديانة الإسلامية الجديدة كان تشجع على تحرير الرقيق ، سواء كان بالكفارة أو عمل الخير ، أو على الأقل بالمعاملة والمعاشرة الحسنة ، كما أن بعض شيوخ الصوفية لعبوا دوراً هاماً في تحرير الرقيق ، ورد في كتاب الطبقات عن حمد ود أم مريوم " من أفعاله أن بني جرار كل سنة يأتون بزكاة ماشيتهم وثمنها يشترى به الرقيق ويعتق نصفه ( ).
ويذكر الشاطر بصيلي أن معاملة الرقيق في مختلف مراكزه معاملة إنسانية إلى الحد الذي يعتبر فيه الرقيق أحد أفراد البيت يتمتع بحقوق كثيرة منها أنه كانت تخصص له قطعة أرض يتولى هوالقيام بفلاحتها وإستغلالها لجيبه الخاص وكان يمنح يوماً كل أسبوع لمزاولة أموره الخاصة ، دون أن تكون عليه رقابة مشددة ، ومنع من الخروج عن دائرة عمله دون أن بفرض عليه البقاء في مكان ضيق مع العشرات من أمثاله كما كان يعامل الرقيق في الغرب( ).
ويمكن تلخيص وظائف الرقيق في دولة الفونج في النقاط التالية :-
أ. كانوا يعملون في مزارع السلطان أو ملاك الأرض أو شيوخ الطرق الصوفية وفقاً لعلاقات الإنتاج العبودية : كل ناتج عملهم يستحوذ عليه الاسياد مقابل معيشتهم وأسرهم ، وتقول الروايات السماعية للعبدلاب أن الرقيق كانوا يخدمون ويقومون بزراعة اقطاعيات العشيرة العبدلابية ( العبيد يزرعون في الجزيرة والترس ويخدمون البحر والصخرة ويزرعون السواقي والجروف ) .
ب. كان الرقيق مصدراً أساسياً من مصادر أرباح التجار حيث كانت تجارة الرقيق من الأنشطة الاقتصادية الهامة في تشكيلة الفونج أشار كرمب إلى حجم المعروض من الرقيق في اليوم في سنار 200 يشتريهم الإتراك لبيعهم في مصر والهند .
وعندما زار بروس سنار في سنة 1772 كان جيش السلطان يضم 14 ألف من الرقيق والنصف الأخر يدخل في التجارة الخارجية .
كما أشار بركهارد إلى حجم تجارة الرقيق في سوق شندي التي كانت مركزاً كبيراً لتجارة الرقيق حيث ذكر أنه كان يمر خلال سوق شندي نحو خمسة الأف شخص من الرقيق كل سنة ويشير بركهارد إلى إثمان الرقيق ترتفع باضطراد كلما أقتربوا من البحر الأحمر ، كما أن أغلب المعروض كان دون الخامسة عشر من العمر وعن الأسعار قال : ثمن العبد الذكر نحو خمسة عشر ريالاً إذا كان أثر الجدري واضحاً في وجهه أما إذا لم يكن في وجهه أثر الجدري لا يزيد على ثلث هذا المبلغ (حوالى خمسة ريالات) أما ثمن الجارية فخمسة وعشرون ريالاً كما أن معظم تجار الرقيق يقومون بتأجير الجواري للبغاء وهذا شكل مصدراً أخر للأرباح .
ج. ومن أسوأ ما أنتجته تلك التجارة اللعينة هي عملية الخصي ، تلك العملية الوحشية التي تجعل الخصيان أشبه بالهياكل العظمية ، وهذه العملية ترفع من ثمن العبد .
د. الرقيق من الإناث (الجواري أو السراري) كن يعانين نوعين من الاضطهاد : اضطهادهن من خلال العمل المنزلي المرهق والمفسد للجسد والعقل معاً ومن أضطهادهن كجنس حيث يرغمن على المضاجعة القسرية .
هـ. من وظائف الرقيق يرد أيضاً أنهم كانوا يستخدمون كوسيلة تبادل أو دفع سواء أكان مقايضة أم تسديد الضرائب أم الجزية في شكل رقيق وكان من ضمن (الشيلة) التي كانت تقدم لأهل العروس جواري أو سراري (أو فرخات) ورد أسم (الفرخة) في الطبقات .
و. كان الرقيق موضع الثقة من أسيادهم يعملون في التجارة الخارجية نيابة عن أسيادهم ، جاء في الطبقات أن فاطمة بنت سالم" كانت صاحبة دنيا عريضة وعيلتها تجار الهند والريف ، ويوضح د. يوسف فضل العيلة " بقوله " لعل المقصود أن عبيدها يتأجرون نيابة عنها في الهند ومصر وقد إعتاد كثير من التجار أن يعهدوا إلى مواليهم القيام برحلات تجارية نيابة عنه ، وكان هؤلاء الرقيق موضع ثقة كبيرة منهم( ).
ز. كان العبيد يشكلون العماد الفقري لجيش الفونج ، يقول شقير كان ملوك الفونج يجهزون في أيام عزهم جيشاً لا يقل عن 25 ألف مقاتل مسلحين بالحراب والسيوف والدرق وفيهم أربعة الأف إلى خمسة الأف فارس من العبيد والفونج وكانوا يقيمون في بلاد البرون إلى الجنوب ولهم ثلث الغنائم التي يغنمونها من فازوغلي وجنوبها ( ).
كما كان للعبدلاب جيشاً خاصاً من الرقيق (الدواقة) يتقدمون الخيل أثناء الحرب ، وكانت وظيفة هذه القوات هي قمع وتأديب الممالك الداخلة في إطار مملكة الفونج والتي تشق عصا الطاعة (مثل عدم دفع الجزية) كما إضافة للحملات والغزوات الخارجية وحملات صيد الرقيق .
هكذا نرى أن الرقيق كان جزءاً هاماً من نسيج مجتمع الفونج وجزءاً هاماً من نشاطه الاقتصادي وبالوظائف المتنوعة التي كانوا يقومون بها في تشكيلة الفونج.
وهذا يوضح خصوصية وسمات نظام الرق في دولة الفونج ، وبالتالي من الخطأ مطابقة أو مماثلة نظام الرق ، الذي كان سائداً في أوربا (روما أو أثينا) مع نظام الرق عند الفونج ، رغم وجود تشابة وسمات عامة ولكن الثابت أن دولة الفونح عرفت نظام الرق بخصوصات وسمات محددة .
2. سمات الاقطاع :-
أشار كثير من الباحثين إلى أن نظام الفونج كان نظاماً إقطاعياً ، ولا خلاف حول طبيعة النظام الإقطاعي ولكن سوف نعالج هنا بتركيز خصوصيات وسمات ذلك الاقطاع .
ذكرنا سابقاً أن النظام الإقطاعي في ممالك النوبة المسيحية ( ) كان نظاماً إقطاعياً مركزياً كنظام القنانة الذي كان فيه المزارع مملوكاً لصاحب الأرض إذ كانت كل الأراضي ومن يعملون بها ملكاً لملوك النوبة وبالتالي فإن علاقات الإنتاج كانت عبودية .
وبعد قيام دولة الفونج تحرر الفلاحون من العبودية للملوك ونشأ نظام اقطاعي جديد أرقي على نمط قريب من الاقطاع الشرقي الذي كانت الأرض فيه من الناحية النظرية ملكاً للسلطان أو الخليفة يوزعها على أتباعه من نبلاء وقادة عسكريين ورجال الدين بشروط معينة في كل حالة يحدد الخراج أو الإعفاء منه .
كان الفلاحون وملاك الأراضي يدفعون ضرائب أو خراج معين للسلطان وفصلنا في الجزء الخاص بالضرائب أنواع الضرائب العرفية ، إضافة للزكاة التي كان يدفعها الملاك والمزارعون للسلطان .
أي أن الإنتاج الزراعي الفائض للمزارعين كان يتوزع بين تلك الأنواع من الضرائب وهذا الإنتاج الزراعي كان مصادر غني وثروات ملاك الأراضي والطبقات المالكة وبعض شيوخ الطرق الصوفية والتجار وهذه الضرائب المتعددة كانت تجعل الفلاح في حالة فقر وعوز دائمين ، هذا إضافة لاستقلال تجار الشيل للمزارع .
وبهذه الآليات كان النظام الاقطاعي في عهد الفونج يعيد إنتاج نفسه ، ويمكن تلخيص سمات نظام الفونج الاقطاعي في الأتي :-
أ‌. احتكار السلطان للأراضي ، أي أن كل الأراضي كانت ملكاً له، وكان يقطعها لأعيان الدولة أو لنفسه أو لشيوخ الصوفية وفي كل حالة يحدد الخراج أو الإعفاء منه .
ب‌. احتكار السلطان للتجارة الخارجية أو احتكار أهم سلعتين أساسيتين (الرقيق والذهب) والثروات العائدة من ذلك الاحتكار أو السلع الكمالية كانت توظف لتدعيم النظام الإقطاعي القائم ... وكان العائد من تلك التجارة إضافة للمكوس من المقومات الأساسية لمصادر دخل النظام .
ج. تطور نمط الإنتاج البضاعي الصغير (الإنتاج الحرفي) في إحشاء داخل النظام الإقطاعي ، وبالتالي تطور اقتصاد السلعة – النقد ، أي الإنتاج من أجل الاستهلاك إلى الإنتاج للسوق ، وترتب على ذلك تطور الطبقة التجارية الداخلية والخارجية وبهذا المعني وبتلك السمات والخصوصيات كان نظام الفونج أقطاعياً .
3. خصوصية تشكيلة الفونج :-
هكذا وبعد الفحص السابق يمكن تحديد سمات وخصوصية تشكيلة الفونج على النحو التالي :-
أ‌. نمط الإنتاج البدائي في الأجزاء الجنوبية الشرقية (فازوغلى مثلاً) والتي كان يتعامل معها الجلابة بالمقايضة وكان اقتصادهم يقوم على الصيد والتقاط الثمار .
ب‌. نمط الإنتاج العبودي أو نظام الرق وبالشكل الذي حددنا سماته ووظائفه في نسيج النظام الاقتصادي والاجتماعي للفونج .
ج. نمط الإنتاج الاقطاعي الذي كان سائداً وبالسمات والخصوصيات التي حددناها سابقاً .
د. نمط الإنتاج السلعي الصغير وما نتج عنه من اقتصاد النقد ، وتجارة داخلية وخارجية وطبقة تجارية أحترفت مهنة التجارة وأسهمت في زيادة سرعة دوران البضائع وزيادة الإنتاج الصناعي الحرفي والزراعي والرعوى ، كما حددنا الطرق المختلفة التي كان نظام الفونج الاقطاعي يعيد بها إنتاج نفسه مثل نظام التعليم ، الضرائب ، إحتكار التجارة الخارجية .
إذن يمكن القول أن تشكيلة الفونج كانت متعددة الإنماط الإنتاجية المتداخلة والمتشابكة وبنمط إنتاجها الاقطاعي السائد بسماته المعينة ، وبالتالي لا يجوز اختزالها في لوحة ماركس الخماسية أو نمط الإنتاج الأسيوي أو لوحة الاقتصادي روستو( ) ، رغم أن تشكليلة الفونج كانت تحمل السمات العامة لتطور المجتمعات الإنسانية في مراحل تطورها المختلفة إلا أن لها سمات وخصوصيات معينة تحتاج للمزيد من البحث وتسليط الضوء عليها .
وهذا هو المفتاح لفهم المزيد من خصوصية المجتمع السوداني في العصر الوسيط .

ثالثاً : الأوضاع المعيشية
المسكن والطعام والتقنية والمجاعات والأوبئة :-
نتناول في هذا الفصل بتفصيل أكثر أنواع الطعام وبناء المنازل بهدف التعرف على ثقافة إنسان الفونج في هذا الجانب .
لم يختلف الوضع في هذا الجانب كثيراً عما كان الحال عليه أيام ممالك النوبة سواء أكان في صناعة الطعام أم في بناء المساكن أم في التقنية مع الإضافات الجديدة والعادات الاستهلاكية والعادات الاستهلاكية الجديدة التي أدخلتها القبائل العربية والتجار أيام الفونج نتيجة لاكتشاف جزر الهند الشرقية بعد الكشوفات الجغرافية فأصبحت تصل عن طريق التجار إلى مختلف بقاع العالم ، وكذلك ظهرت عادات جديدة تتعلق بالمكيفات مثل تعاطي التبغ والتنباك .
1. صناعة الأطعمة :-
أ. الخبرة والكسرة : أستمرت صناعة الكسرة والتي ترجع أصلها إلى العهد المروي أو ربما قبله ، والكسرة هي الخبز المصنوع من عجين الذرة ، والكسرة نوعان : عصيدة غليظة أو لفاف رقيقة ويغلب انتشار الأولي جنوب الخرطوم والثانية شماله وتسمي هذه اللفائف الرقيقة " كسرة ورقاقة " وواحدتها " سنسنة " وهي مستديرة الشكل وجمعها " سناسن " والجزء منها حرف بلغة أهل السافل وحرف بلهجة أهل الصعيد والكسرة التخينة تسمي بالعصيدة أو اللقمة وهي الاسم الغالبب عليها في الشمال والكسرة المديدة عبارة عن العصيدة أو القمة المرققة بالماء وقد تشرب كالسائل الغليظ وتعرف أحياناً بالنشأ كما تصنع أنواع أخرى من الكسرة والعصيدة من دقيق الدخن أو القمح( ) .
وأدوات طحن الذرة أو الدخن أو القمح هي المرحاكة أو" الفندك " الكبير الذي كان يصنع من الخشب ... وأدوات صناعة الكسرة هي الخمارة والدوكة التي تصنع من الفخار أو الحديد إضافة للطاقة الحرارية التي تتكون من الوقود الخشبي .
ب. الفطير : وهي الخبز يصنع غالباً من دقيق القمح والذرة وهو غير مختمر (أي لم يخمر عجينه) ومن أنواعه الفطير المطبق ويصنع من دقيق القمح ويطبخ بالزيت ( ) .
ج. المطاطيل : ومفردها مطالة وهي قرص من الخبز يصنع من الدقيق المعجون غالباً باللبن أو الروب أو الماء وطريقة صنعه أن توضع العجينة أو القرص في موضع النار على الأرض بعد إزاحة الجمر وتدفن بالرماد الحامي والجمر إلى أن يكتمل نضجها ( ).
د. أم رصاد : أنها الكسرة بالماء ومعناها في شمال ووسط السودان عامة والمقصود أنه طعام بسيط يختلف إعداده من مكان لآخر ففي كردفان تسمي أم رصاع وهي الكسرة الفطيرة بالماء وهي اردأ أنواع الأكل والرصاع قد يعني " الروب المر " .
وفي النيل الأبيض تعني الكسرة الخميرة بملاح الروب الخالي من الزبد .
هـ. القراصة : وهي كسرة سميكة (أو تخينة) مستديرة وغالباً ما تكون فطيرة وتصنع من الذرة والقمح وتسمي في بعض الإحيان العصارة أو بسمبوسة .
و. البوسيب : نوع من الخبز الجاف تختلف هيئته من مكان لآخر وله معان ثلاث أولاً خبز فطير جاف ، ثانياً ، كسرة مخلوطة بالزريعة المجففة ، وثالثاً نوع من السورج يحفظ في برام كبيرة يقدم للضيوف في الساعات المتأخرة من الليل ويؤكل البوسيب باللبن أو الماء ( ) .
ز. الملاح : هو الاسم للسوداني للطبيخ الذي يؤتدم أو يؤكل به الكسرة واللقمة والعصيدة وبعد الطبخ من الخضروات واللحم واللبن منفردة أو مجتمعة ومن الأمثلة : ملاح الويكة ، الملوخية (أو الخدرة) ورق اللوبي ، السبروق ، ... الخ .
ح. البليلة : هي الذرة أو اللوبيا أو الكبكبي التي توضع في قدر حتى تنضج وتؤكل بعد أن يضاف لها قليل من الملح وأحياناً بعض البصل والتوابل .
ط . السورج : نوع من الخبز المجفف كالحلو مر في شكله إلا أن كمية البهارات فيه قليلة جداً ويصنع من عجين الذرة المخلوط بالزراع أو الزريعة ويخبز بطرق مختلفة أبسطها طريقة الكسرة وقد تصنع منه المريسة ويتخذ شراباً منعشاً بعد إضافة السكر إليه كالأبرى والحلو مر ويتخذ زاداً ويمكن أن يحفظ لعدة أشهر دون أن يتلف ( ).
ي . اللحوم : وهي أنواع : لحوم الماشية ( بقر ، ضأن ، جمال ، أغنام ، الدجاج ، الحمام ، الزرزور ... الخ ) .
وأغلب مصدر اللحم كان الكرامة وهي بهيمة تذبح بمناسبة شفاء مريض أو عودة حاج أو أوبة مسافر أو عند رفع فراش مآتم أو بسبب إكتمال بيت أو ما يذبح عند قدوم ضيف تكريماً له ، وفي الماضي في كثير من القرى من الأعمال المألوفة حتى إذا ذبحت بهيمة بقصد بيعها سميت كرامة ( ).
ك . المرارة : وهي معروفة (كرش الضأن ، الكبد ، الرئتين ، الكليتين ) وتسمي أيضاً أم فتفت .
ل . البرنور : وهو ملاح " اللوبيا " عفن أو الغسيل .
م . الكفاية : وهي الطعام في المناسبات كالعرس والمآتم للضيوف حتى يستكفوا أو يكتفوا وما زالت هذه الكلمة متداولة في المناطق الريفية ( ).
ن. الشطة : وهي شحم سنام الجمل ، وكان البعض يأكله غير مطبوخ ومنها ما جاء " الجمل كبدتو والسنام شطتو " .
س . البهارات : وتشمل الفلفل والشمار والكزبرة والمرسين ، وكانت تستورد من الهند إضافة للملح والشطة .
هذا إضافة للمنتجات مثل : الزيت ، العسل ، السكر ، اللبن ، الروب.
ع. الفواكه: فواكه إنسان الفونج كانت: الدوم ،اللالوب (ثمار الهجليج ) النبق (ثمار السدر) والبلح والحنبق البري ، والخريم والبطيخ والشمام .
ص. المشروبات: ومن المشروبات كان : الأبري ، الكركدي ، والعرديب ، والقنقليز (ثمار شجر التبلدي) والمريسة والعرقي .
و. المكيفات : ومن المكيفات كان البن والتبغ والتنباك وهي عادات إستهلاكية جديدة في ذلك العهد .
بناء المنازل :
كانت المنازل تبني من الحجر أو الجالوص أو القش والمباني من الجالوص تطلى خارجياً بالزبالة وداخلياً بالرمل الحمراء .
ومن معالم البناء الأساسي في سلطنة سنار هي القبب التي قامت على مدافن الأولياء الصالحين وما زالت هذه القبب منتشرة في وسط البلاد .
وربما يرجع شكل القبب إلى النوبة المسيحية فقد ورد في آثار المسيحية أن الياس مطران فرض إعادة بناء الكاتدرائيه بأسلوب جديد وميزته الرئيسية القبب بدل السقف المسطح وتم إفتتاح هذه الكاتدرائية حوالى 952 ( ).
ربما يرجع أيضاً إلى ما قبل النوبة المسيحية فقد ورد في آثار حضارة المجموعة (ب) أن مقابرهم كان سقفها على شكل نصف دائرة ومبنياً بالطوب الأخضر ( ).
وتتكون سقوف منازل الجالوص من المرق ( ) وهو العماد الأساسي الذي يحمل السقف وقد يكون من حطب السدر أو الدوم والرصاص ( جمع رصاصة) وهو ما رص من المواد على المرق ومن فوقها توضح البروش أو القش ، وتطلي بالزبالة ، وأغلب المنازل كانت تبني من طابق واحد .

وأهم أجزاء المنازل كانت :
- البرندات وغرف السكن وهي معروفة .
- البلوج أو البلوات وهي حجرة الضيوف (وتسمي خلوة الضيفان) وتشيد أمام غرف السكن أو في فسحة أو فناء الدار تبني خصيصاً لاستقبال الضيوف .
- القطيع أو القاطوع : وهي حجرة صغيرة مستطيلة الشكل مجاورة لغرفة أخرى ولا منفذ إلا عن طريق تلك الغرفة ويستعمل القطيع مخزناً ويوجد حتى يومنا هذا في ديار الجعليين ويعرف في جهات بربر بالمرقون (الطبقات ص 108) .
- المراح : وهو الزريبة المجاورة للمنزل الذي تأوى إليه الغنم أو الإبل أو البقر في الليل .
- الحوش : أي فناء ساحة المنزل وتحاط الساحة بسور من الطين أو الحجر أو القش أو الطوب .
- الكوديق : بمعني الزريبة أو الصريف أو الراكوبة الظليلة ( ).


أثاثات المنازل :
ولندخل منزلاً من منازل أحد سكان الفونج لنتعرف على اثاثات المنزل وأواني الطعام والشراب وأدوات الإنتاج الزراعي وأدوات الصيد والحرب والآت الطرب والموسيقي ، ونفترض أن هذا المنزل مثالياً يحتوي على هذه الأدوات التي تعطي صورة عامة عن الثقافة إنسان الفونج في هذا الجانب ، وبافتراض أن هذه المنتجات من أدوات محلية سهلة الحصول عليها بالنسبة لعامة الناس .
وتتكون أثاثات المنزل من العنقريب( ) الذي صنع من الخشب وينسج بالحبال تصنع من سعف الدوم والنخيل أو نبات الحلفا .
- البنبر : وهو مقعد صغير من أربعة أرجل يصنع من الخشب وينسج بالحبال ( ).
- البروش : وتصنع من سعف الدوم أو النخيل .
- التبروكة : برش صغير للصلاة .
- الفروة : مصلاة تصنع من جلد الماعز أو الضأن أو البقر .
- الكجرة : وهي الخباء للعروس أو النفساء ولمن مات زوجها والمريض وغير ذلك ، ويتكون هذا الستر من " السباية " (البروش) أو الفركة أو القماش مطلقاً وتنصب حول السرير وغيره كساتر لمن يستحم والكلمة ليست عربية وغالباً ما تكون من أصل نوبي ويقال معناها في اللغة النوبية البرش الكبير المزخرف .
- الركوة : وهي الإبريق من الجلد وهو أكبر قليلاً من أبريق الطين.
- المسبحة : وتصنع من حب اللالوب أو غيره ومنها سبحة القلادة أي المسبحة التي يتقلدها المرء أو يضعها حول عنقه وعادة ما تتكون من المسبحة من تسع وتسعين حبة مع الحرص الشديد على هذا العدد .
- الحزام : ما يربط من سرج الجمل أو الحمار أو الحصان ويصنع من الجلد أو الصوف .
- الشكال : حبل أو جلد ماين تربط به رجلا الدابة (رجل وأخرى خلفية دون خلاف) حتى لا تسرح بعيداً في رعيها عن موطنها الأصلي ( ).
- الإزيار والقلل : وتصنع من الفخار ومجموعة الإزيار في الخارج تسمي السبيل .
- السحارة : وتحفظ فيها الملابس والأشياء النادرة .
2- أواني الطعام والشراب :-

كانت تصنع من الفخار أو الخشب أو النحاس أو الحديد أو من مواد محلية وتقدم التفاصيل الآتية كما وردت في الطبقات .
أ/ العمار: ومفردها عمرة وهي أناء مصنوع من عروق الشجر أو عرجون النخيل أو السعف والحنقوق ويشابه السبت شكلاً وحجماً وتسمي عمرة سقاية والعمرة تغطي ويجلب فيها اللبن وقد تستعمل كمعيار( ). ب/ القداحة : جمع قدح وهي أواني خشبية أو صحائف للطعام ذات أحجام مختلفة وتصنع من خشب الطرفة أو الحراز أو الدبكر ثم تصقل وتدهن حتى لا تشقق ( ).
ج/ القرع : نبات برى له ثمر كالبطيخ في شكله مر المذاق سميك يتخذ ثمره بعد أن يجفف ويخرج ما بجوفه أواني للأكل والشرب أحياناً لحفظ السوائل كاللبن والمسلي وواحدة هذه الأواني قرعة وهي دائرة وتسمي الصغيرة في بعض الجهات كاس والمتوسطة دانة .
د/ الطبق : وعاء مصنوع من الخوص ذو أحجام يتخذ لحفظ الخبز أو لتغطية أواني الأكل .
هـ/ المخلا: جمعها مخالي وأصلها بالعربية الفصحي المخلاه وهي كيس مصنوع من الشعر والجلد .
و/ الغراير : وتصنع غرارة وهو وعاء أو شوال يصنع من الصوف( ).
ز/القربة: وتصنع من الجلد ويحفظ بها الماء أو السوائل الأخرى (عسل ، لبن ، سمن) وتسمى أيضاً بالسعن .
ح/ الكرباب : برمة كبيرة يطبخ فيها للإعداد الكبيرة .
ط/ المرحاكة والفندك والهاون : لطحن الغلال والبهارات الفندك الصغير لطحن البهارات ويصنع من الخشب أو الحديد .
ي/ الدوكة : وتصنع من الفخار أو الحديد .
ك/ الخمارة : عبارة عن قلة من تصنع من الفخار .
ل/ البخسة : ما جوف من القرع دون أن يشق نصفين وله فتحة صغيرة في أعلاه ، وقد تحمل أحياناً على سيور مضفورة من الجلد أو الشعر أو السعف أو القطن والبخسة ذات العنق تسمي قلدة وتستعمل البخسة لحفظ اللبن والمسلي ولأغراض أخرى .

3/ أدوات الحرب والصيد :

وتتكون من السيوف والحراب والعكاز الذي يصنع من فروع شجر السلم والدرق الذي يصنع من جلود الحيوانات أو الحديد .
4/ الازياء :

وعن أزياء أنسان الفونج فهي قميص الدمور وفردة الدمور والثوب الذي من أنواعه الثوب المنيري أو الثوب (للرجال) وثوب الدنقس للمرأة والقرن (نوع من القماش مزركش يمثل واحداً من ثياب الزفاف المهمة للفتاة) .
- ومن الأحذية الصرموجة والفونجاي ويصنع من الجلد والجبة المرقعة وهي من زي المتصوفة ومن علاماتهم المميزة ، والكوفية والطاقية أم قرنين (المشهورة) .
- ومن الثياب الفاخرة كانت البصراوي الأخضر والشيشان الفاخر (العمة) وثوب الدردبيس (كما ورد في الطبقات ووصفه غير معروف) .
- الفركة: ثوب مخطط يغلب عليه اللون الأحمر تستر به المرأة الجزء الأسفل من جسمها وجرت العادة إلا تلبس المرأة الفركة ألا بعد زواجها .
- الجلاد: نوع خاص من الجلد ذو رائحة زكية ،قيل من جلد الغزال أو القطط البرى تلبسه النساء في " الجرتق " والرجال أحياناً لنفس الغرض .
- الرحط أو الرهط : وهو إزار من سيور الجلد الرقيق وقد يرصع بالودع والخرز الملون وتشده الفتيات على خصورهن فإذا أدركن أو تزوجن أهملن استعماله .
- ثياب المنير : وهو من نسيج مصر ويلبسه الرجال .
- الفرش الرومي : وهو عبارة من سجادة أو ملاءة كبيرة تنسب إلى منطقة أسيا الصغري .
- القميص المتعالي : وهو نوع من القماش (ملقم) أو مخطط (مثل قماش البيجامات) ,أغلب ألوانه الأحمر والأسود وتسمى القطعة منه قرن العاج ( ) .
- الثوب المعصفر : أي المصبوغ وهو نبات ذو لون أصفر .
5/ العطور وأدوات الزينة والتجميل :

من العطور وأدوات التجميل والزينة يرد في الطبقات العنبر والكافور وعطر الزباد .
- المسوح :وهو عبارة عن زيت أو دهن أو ودك (أي شحم) والدهن هو الخليط المعد من الزيت والودك وبعض العطور ويعرف بالكركار يمسح به الشخص جسده ليزول ما به من تعب ، ومن مكملات الضيافة أيام الفونج أن يقدم المرء مسـوحاً لضيفه. ( )
- العنكش : وهي الحلي الذهبية " المعلقة " على رأس المرأة .
- أبكم : وهو السور المصنوع من العاج غالباً .
- الفدافيت : جمع فدا وهي أقراط من الذهب يلبس زينة في الإذن .
- العود الهندي : بخور ذو رائحة زكية .
- ورد في الطبقات أن الشيخ خوجلي عبد الرحمن كان يلبس البصراوي الأخضر وعلى رأسه الطربوش الأحمر ويتعمم الشيشان الفاخر وينتعل الصرموجة ويتبخر بالعود الهندي ويتعطر بجعل الزباد الحبشي في لحيته وثيابه .
- السوميت : وهي جمع سوميتة ، وعقد السوميت والسوميتة خرزة (جمعها خرز) طويلة أسطوانية الشكل يغلب على لونها الأبيض والأخضر الداكن أو الأسود وتتخذها النساء (أو الصبيان حتى البلوغ) مفرده أو في عقود الزينة .( )
- تمشيط الشعر : وهو معروف ، والمرأة التي تقوم بذلك تسمى المشاطة وهي عادة قديمة منذ العهد المروي والنوبي. ( )
- أبيق الذهب : اللبيق نوع من الحلي الذهبية تنظم معه السوميت كفواصل له وهي مستطيلة الشكل ومجوفة( )
6/ الآت الطرب والموسيقي :

من البيئة المحلية أستنبط إنسان الفونج أدواته التي استخدمها في الطرب والموسيقي والغناء ومن هذه الالآت .
أ/ الربابة أو الطنبور : وهي ألة موسيقية كانت تصنع من الخشب والقرع والجلد وتصنع أوتاره من سبيب الخيل أو الزراف أو ما شابه ذلك .
جاء في كتاب الطبقات عن الشيخ إسماعيل صاحب الربابة أنه في حالة الوجد كان " يحضر البنات والعرائس والعرسان للرقيص ، ويضرب الربابة كل ضربة لها نغمة يفيق فيها المجنون وتذهل منها العقول وتطرب لها الحيوانات والجمادات .
ب/ النقارة : وهي طبلة كبيرة تصنع من النحاس (وتسمى أحياناً النحاس ) أوالفخار وتجلد بجلد ثور وتقرع في المناسبات الهامة كالدعوة لحرب أو موت كبير ( شيخ طريقة أو شيخ قبيلة ..) .
وعند البقارة للطرب وفي بعض مناطق الجزيرة تشير إلى طبل صغير يضرب في حلقات الذكر ( الطار أو غيره ) .
ج/ الدلوكة : وهي طبلة كبيرة الحجم كانت تصنع من الفخار وتجلد بجلد الثور أو البقر وأحياناً يصحبها طبلان أصغر منها يسمى الواحــد منها " شتم " .
هذا إضافة للأدوات الأخرى التي أستنبطها إنسان الفونج من بيئته مثل المزمار الذي كان يصنع من القصب أو الخشب ولا زال يستخدمه بعض الرعاة في البادية السودانية .
7/ أدوات ألإنتاج الزراعي :-

ذكرنا سابقاً أن المزارع في فترة الفونج أستخدام أدوات الإنتاج نفسها التي تم أختراعها منذ الحضارات القديمة في سودان وادي النيل .
التعديلات التي حدثت هنا وهناك بما يتناسب وكل منطقة وبيئة ولكنها كانت تعديلات طفيفة وهي السلوكة ، المنجل ، النجامة ، الواسوق ، محراث الخشب أو الحديد الذي يجره الثور ، الطورية ، الجاروف ... الخ .
هذا إضافة إلى وظيفة الرى الدائم الساقية .
ولهذا نجد أن أغلب أسماء هذه الأدوات نوبية ، كما لاحظ مؤرخو النوبة وكذلك أغلب أسماء أجزاء الساقية نوبية ( ).
ولم توضح لنا المصادر مقدار التطور الذي أدخله انسان الفونج أو في مضمار التقدم التقني في هذا الجانب ، ولكن الاغلب والمرجح أنه لم يحدث تقدم تقني أدي الى تطور القوي المنتجة في مضمار الإنتاج الزراعي .
8/ المجاعات والأوبئة والأمراض :-

شهدت فترة الفونج أوبئة وأمراض ومجاعات كانت تجتاحها دورياً فعلي سبيل المثال :
أ‌. في أيام الملك أنسة الثاني (1678-1689) حصل غلاء شديد وأشتد الجوع حتى أكلت الناس الكلاب فسميت هذه السنة بسنة أم لحم وفيها تفشى مرض الجـدرى ومات منه ومن الجوع خلق كثير . ( )
ب‌. وفي أيام الملك ود عدلان علم 1810م أنتشرت الحمى الصفراء المعروفة بالكك فمات فيها خلق كثير ، وممن مات بها العالم الفاضل محمد نورين الفقيه ضيف الله بالحلفايا ، وهو صاحب كتاب طبقات الأولياء بالسودان . ( )
ج. وفي عام 1813 حدث غلاء شديد (فسميت سنة ام حيص ) ( )
ويتضح من الأمثلة السابقة أن الأمراض التي كانت متفشية أيام الفونج والتي كانت تفتك بالناس وتحصدهم حصداً هي الجدرى والحمى الصفراء ، وإبادة السكان الجماعية نتيجة لتلك الأمراض التي هي من علائم التخلف وتؤدى إلى فقدان العنصر البشري الذي يشكل حجر الزواية في القرى المنتجة ، هذا إضافة للمجاعات التي كانت تحدث نتيجة لشح الأمطار وقلة الفيضانات وهجوم إسراب الجراد وغيره من الأفات على الحقول والمزارع ، مما يشير على مستوي الحياة الاقتصادية المتخلف وعجز إنسان الفونج عن السيطرة على الكوارث والأمراض والأوبئة وبالتالي عجزه أمامها نتيجة لتخلف الطب ، للكرامات أو القوي الخارقة للخلاص منها .
ويشير د.ج فانتيني إلى أن هناك طبيب جاء إلى سنار في الفترة (1695-1703م) ،والذي كان من المبشرين المسيحيين أسمه باسكوالي الذي اختاره الملك بادي ليكون طبيباً في القصر الملكي وخصص له منزلاً أقام لمدة ثلاث سنوات يعمل طبيباً للملك وذويه .
وربما يكون ذلك من البذور الأولي لدخول الطب الحديث في السودان ، إذا صح ذلك تكون أول بذور الطب الحديث في السودان قد تم غرسها في دولة الفونج .


1- الطب عند الفونج (الطب التقليدي) :-
عرف السودانيون منذ عهد السلطنة الزرقاء الطب التقليدي ، وعرفوا التدواي بالإعشاب المحلية والمستوردة كما أستخدموا مستخرجات الحيوان وأفرازاته ، واستخدموا الطلح والدلكة والكي بالنار، وجبر الكسور ، كما عرفوا الختان للذكور والإناث ، كما استخدموا الحجر الصحي لمنع انتشار عدوى الجدري وفي مدائح الأولياء الصالحين مقطع شعري واحد يقول :
جابوك للكتـل لا كليت ولا مليت
يا جدرى الكروفة البرزو لك بيت
ومنه نعرف أن العامة عرفت المرض بأسمه وعرفت فتكه وطريقة العدوى به ، كما عرفت الوقاية منه ، ليس ذلك فحسب بل أنه يسجل معرفة الناس بنظام الحجر الصحي ، فالكرفة بيت من القش خارج العمران يعزل فيه المريض ، النفساء المخفوضة ( ) ، وخاط أهل السودان البطن المبقورة بسبيب الخيل بعد تغطية الأمعاء بالقرع دون قشرته فيلتئم الجرح دون التهاب أو تقيح ... ثقيوا الجماجم لعلاج حوادث الدماغ بالات تشهد براعتهم وحذقهم .
كما عرفوا المنومات والمسهلات والمجهضات والمراهم واللبخات والغرغرات والقطرات للعين والإذن ، وبأنواع الأمزجة وأمنوا بالأولياء الصالحين وكراماتهم فكان المسيد مؤسسة اجتماعية صحية متكاملة .
وفي كتاب الطبقات ثروة طيبة عظيمة وفيه نجد أقدم الإشارات لمعرفة السودانيين لنظرية الاخلاط الأربعة ، وما وضعته من أسس صارمة العلاج والتغذية زيادة على الإشارات العديدة هنا وهناك لمسببات المرض وطرق العلاج ولبعض المعالجين التقليديين ( ).
رابعاً : المدينة والحياة الاجتماعية :
مع تطور الإنتاج الزراعي والصناعة الحرفية ، ونمو التجارة أزدهرت المدن وتطورت الحياة الاجتماعية في تلك المدن حسب طبيعة كل مدينة ومركزها ، سواء كان تجارياً أو دينياً أو صناعياً أو ثقافياً ، كما تطور فن المعمار في تلك المدن وإزدهرت الحياة الاجتماعية والثقافية والتجارية والدينية فيها وعلى سبيل المثال لا الحصر يمكن الإشارة للمدن الأتية :
1/ مدينة سنار : كانت عاصمة دولة الفونج ومن المراكز التجارية الهامة ، وقد وصفها الرحالة : بونسيه وكرمب وجيمس بروس ( ): ومن وصف هؤلاء الرحالة يمكن أن نستخلص الأتي :-
- كانت سنار مركزاً تجارياً هاماً ولها صلة بسواكن ومصر ويشير بونسيه إلى سكان سنار بأنهم قوم دهاء وذو حيلة ، وإحتيال ، مريبون ، غشاشون ، ورغم أن التعميم هنا غير صحيح ، ولكن ذلك ربما كان يعكس أن سنار كانت مركزاً تجارياً كبيراً وأن مجتمع المدينة كان تجارياً ، ومن سمات التجار الدهاء ، والغش والاحتيال بهدف التقليل من قيمة البضاعة التي يودون شراءها ، ورفع قيمة البضاعة التي يريدون بيعها ، لتحقيق أكبر قدر من الربح وتلك من سمات المدن التجارية الاجتماعية (النفاق ، الغش ، الإحتيال ، الدهاء) .
- كانت معظم بيوت سنار من طبقة واحدة ذات سقف مستوى وقصر الملك معقل متين ذو برج من خمس طبقات وبوابات كبيرة من الخشب المنقوش .
- كانت المحكمة العليا التي يرأسها الملك توجد في سنار.
- عرفت مدينة سنار الأسلحة النارية (البنادق) التي كان يستخدمها الملوك (ربما التجار والأغنياء) شأن كل جديد وافد من الخارج .
ويذكر بونسيه أن النقود التي كانت متداولة في سوق سنار فرنسية وتركية واسبانية .
ويصف زي المرأة في سنار : فقد كانت النساء الثريات اللواتي كن يترددن على البلاط يرتدين ثياباً من الحرير ، وحول أذرعهن دمالح الفضة ، كواحلهن الخلاخيل الفضية ، ووجوهن مزينة بالكحل .
وفي المقابل نساء العامة اللائي كن عراة الصدور ، ولباسهن من أوسطهن وركبهن فقط .
- كما وصف بونسيه وكرمب عادة القتل الطقسي في سنار : وهي قتل الملك الجديد لأخوته ،وهي عادة وحشية لا علاقة لها بالإسلام وترجع جذورها للعهد المروي .
2/ فازوغلي :-

حسب وصف شقير لها أنها كانت من ممالك الفونج الهامة التي قامت في جنوبي مشيخة خشم البحر ، وأمتدت من الروصيرص إلى فداسي وعاصتها فازوغلي .
ويشير بونسيه إلى أهمية فازوغلي بالنسبة للفونج ، فجانب كبير من ثروة الفونج كان مصدره مناجم الذهب في فازوغلي ، ويصف جيمس بروس قرية بمبودي (Bambodi) ، الواقعة على الحدود من اثيوبيا واقع داخل مملكة فازوغلي ، وهي مثال جيد لوجود نمط إنتاج بدائي يمكن تلخيصه في الأتي :-
- كانت حياة المواطنين تقوم على صيد الحيوانات : غزال ، سمك ، قطط الزباد ، الفيل أو فرس البحر ، أي كان مجتمعاً بدائياً قائماً على الصيد ومن الصيد ما هو للغذاء مثل الغزال ، السمك ، ومنه للتجارة أو المقايضة مثل : قطط الزباد الذي يصنع من غددها عطر الزباد المشهور في سنار والذي كان يصدر للخارج ، وسن الفيل من صيد الأفيال ، وجلد فرس البحر الذي كان يصنع منه المصنوعات الجلدية مثل ( سوط العنج) .
هذا إضافة للتفتيش عن الذهب في مجرى النهر للتجارة أو المبادلة .
- التقسيم الاجتماعي للعمل بين الرجل والمرأة : المرأة تجلب الماء وتعد الطعام ، وتقوم بعمليات الزراعة (الذرة) بينما كان يذهب الرجال إلى الصيد .
- سمات المجتمع البدائي : ، لا ملابس ، النساء عاريات ، أدوات الزينة: زخرفة الجسد بالوشم على الاكتاف العارية والصدور والجزوع .
هذا مثال لنمط إنتاج بدائي في مملكة سنار، عرف الصيد والمقايضة والتقسيم الاجتماعي للعمل بين المرأة والرجل .. هذا إضافة لما أورده بروس حول هجوم تجار الرقيق العرب والاثيوبيين على هذه القبائل ، واستقرار بعض القبائل العربية في تلك المناطق .
3/ مدينة أربجي : من المدن التجارية الهامة التي وردت في كتاب الطبقات هي مدينة أربجي ، والتي كانت تقع على الشاطي الغربي للنيل الأزرق ، وتبعد نحو ميلين جنوب الحصاحصيا.
يقول د. يوسف فضل عن أربجي " المرجح أن العبدلاب جعلوا منها مركزاً إدارياً يهتم بالجزء الجنوبي (مشيخة العبدلاب).
أو أن الفونج حسنوا لها موقعها حتى يسهل لهم مراقبة العبدلاب والشكرية وضربها حاكمها العبدلابي سنة 1198م / 1784م فتفرق منها أهلها . ( )
كما وصفها كاتب الشونة بأنها قرية كاملة الحسن والبنيان ، مليحة العمارة والتجارة ، أديبة في المأكل والمشرب ، وفيها أناس صالحون ومدارس علم وقرآن ، وفيها عجائب من حضرها .
4/ الحلفايا :

من وصف الرحالة كرمب والمسيو كايو يمكن أن نكون صورة عامة عن الحلفايا على النحو التالي :
- من الزاوية الاقتصادية : كانت الحلفايا مركزاً رئيسياً لصناعة الدمور الغليظ الذي كان يستخدم كعملة في الأجزاء السفلى من العطبرا ، وهذا راجع لخصوبة أراضيها وصلاحيتها للزراعة بالإضافة لسعتها ، مما يتيح زراعة القطن اللازم لصناعة الدمور . ومؤكد أن تطور تلك الصناعة الحرفية وما تتطلبه من مهارات يدوية وذهنية كان له الأثر في تطور سكان مدينة الحلفايا من ناحية التحضر والتعليم وفن المعمار .
- من ناحية المعمار والتخطيط : كانت منازل الحلفايا جميلة ومبنية من الجالوص ، ومغطاة من الخارج بطبقة رقيقة من الزبالة ، إضافة إلى أن المنازل تقع داخل أسوار عالية ، وسقوفها مسطحة " والسباليق " تم تجويفها من جذوع النخل الذي كانت أشجاره موجودة في الحلفايا ، كما نلاحظ أن منازل بعض المشايخ لها طابق أعلى وشوارع المدينة غير منظمة (المباني عشوائية) وأبواب المنازل تدور على أعمدة كما ذكر المسيو كايو .
- كانت الحلفايا مركزاً دينياً وروحياً ، وبعد انتقال حاضرة العبدلاب إليها إزداد هذا النفوذ ، وأنتشرت بها الخلاوى والمساجد ، ودور العلم ، حتى غدت الحلفايا من مراكز الثقافة الدينية الهامة في مملكة الفونج ، ويجدر بالذكر أن الحلفايا ، هي موطن المؤرخ ود ضيف الله صاحب كتاب الطبقات .
وخلاصة القول أن الحلفايا بالإضافة لاهميتها كموقع زراعي وصناعي ، كانت أيضاً مركز اشعاع ديني وثقافي وفكري بمقاييس ذلك العصر.
5/ شندي : كانت من أكبر المدن التجارية في سلطنة الفونج وأهميتها جاءت من موقعها الذي كان ملتقي " للقوافل التجارية ومن وصف الرحالة السويسرى بركهارد والفرنسي المسيو كايو يمكن رسم الصورة الأتية عن شندي .
- كان سوق شندي لا يقل عن أي مركز تجاري متمدن في العالم في ذلك الوقت ، ويتضح ذلك من حجم وأنواع البضائع التي كانت معروضة في ذلك السوق : بضائع واردة من الهند ومصر وجنوة والبندقية وأثيوبيا وإلمانيا (الشفرات الإلمانية) ،هذا إضافة للبضائع الواردة من المناطق الداخلية (دارفور ، سنار ، كردفان ، دنقلا ، وغيرها ) .
- كانت العملة الرئيسية المتداولة في سوق شندى هي الريالات الإسبانية ، وأن كانت سائر أنواع العملة مقبولة مما يشير إلى عالمية وشمولية ذلك السوق .
- كانت شندي من أكبر مراكز تجارة الرقيق في سلطنة الفونج ، حيث يعرض في سوقها حوالى خمسة ألف شخص من الرقيق كل سنة .
- تجسد في شندي ، كما في سنار كل سمات المجتمع التجاري ، أو الرأسمالية التجارية ، الذي يتسم بالغش السافر في المساومات والحياة الاجتماعية للمجتمع التجاري ،ومما فيه من ثراء وفوائض أموال نقدية عند الناس ، وصرف بعض من تلك الأموال على الحانات والمومسات وشراب الخمر والمباني الفاخرة وغير ذلك .
- يلاحظ التنوع السكاني في شندي الذي ضم العرب والوثنيين (العراة) والقادمين من قبائل شمالي شرقي أفريقيا والزنوج من المناطق الاستوائية .
- إضافة للربح التقليدي للرأسمال التجاري ، ذكر بركهارد مصدراً آخراً للربح هو أن معظم تجار الرقيق كانوا يقومون بتأجير الجواري للبغاء .
- نلاحظ أسلوب الحياة المتميز الذي كانت تعيشه طبقة أغنياء ، التجار التي كانت تسكن في منازل فخمة .
- في هذا المركز التجاري ، كان طبيعياً أن تكون ثروة المك نمر طائلة جداً كما ذكر بركهارد والتي من أهم مصادرها الرقيق ، إضافة للضرائب الواردة من التجار ، وعلى الأرض الزراعية .
- كانت شندي مركزاً هاماً لصناعة الدمور ، وساعد موقعها التجاري على تطور وإزدهار تلك الصناعة الحرفية التي كانت أغلبها يقوم بها النساء .
- دفن الأموال ، كما لاحظ بركهارد كان أحد أشكال اكتناز الثروات عند التجار .
6/ الدامر : من وصف الرحالة بركهارد للدامر ، نلاحظ أنها كانت مزدهرة أيام الفونج ، وكان بها نظام سياسي جمع فيه الفقه الكبير بين السلطة الزمنية والدينية ، وبسبب أزدهار المدينة يكمن في موقعها الوسيط في شمال السودان وعلى الطريق التجاري : سنار ، شندي ، الدامر ، بربر ، سواكن أو مصر .
وكما أشار بركهارد ، فإن قوة المجاذيب الدينية أفلحت في أرهاب القبائل الرعوية المتاخمة والتي أقواها البشاريين الذين كانوا يخافون أن يقطع عنهم الفقهاء المطر فتهلك أغنامهم ومواشيهم التي كانت تشكل عصب حياتهم المعيشية والاقتصادية .
والمجاذيب أيضاً كان لهم نفوذ اقتصادي (امتلاك الأراضي، رأسمال تجاري) والمنطقة بين ملتقي نهر عطبرة ونهر النيل والدامر كانت عامرة بالزراعة والسواقي ، إضافة للنشاط الزراعي والتجاري أزدهرت في الدامر صناعات حرفية مثل : صناعة الحصير ، والصحون الخشبية ، وصناعة الحبال والسلال وغيرها من منتجات سعف الدوم والنخيل ، هذا إضافة لصناعة المراكب ، وصناعة السواقي والصناعات الحرفية الأخرى مثل الحدادة والنجارة ، وصناعة الأحذية الجلدية والنسيج ، وكانت مواد هذه الصناعات المحلية من طبيعة تلك المنطقة التي كان يزرع فيها القطن (بكميات بسيطة) وتنتشر فيها أشجار الدوم والنخيل وأشجار السنط (السنط العربي) ، هذا إضافة لصناعة الفخار الذي كان يصنع من الصلصال الوارد من الجزائر والشواطئ . ( )
وكانت هذه المنتجات تنتج لا للاستهلاك فحسب ، بل للسوق ، أي تعرض في سوق الدامر الأسبوعي ، كما أشار بركهارد ، هذا إضافة لتجارة المواشي التي كانت رائجة في سوق الدامر ، والتي كانت مركز للقبائل الرعوية في مناطق البطانة وشرق السودان .
7/ بربر :

كانت من أهم المراكز التجارية أيام الفونج ، ويتفرع منها الطريق التجاري إلى سواكن ومصر .
ويصف بركهارد القافلة التي جاء معها إلى بربر بقوله :
كان معظم من بالقافلة من صغار التجار الذين يحملون من مصر إلى أسواق السودان سلعاً من قبيل السكر ، والصابون ، والخرز ، والقماش ، والمرايا ، والأسلحة النارية العتيقة ، على أمل أن يعودوا من هناك ومعهم حاصلات السودان المعروفة مثل الصمغ العربي ، وريش النعام والعاج ، والعبيد ، والذهب .
كما وصف بركهارد هجوم البدو على القافلة (كمثال للنهب وعدم أمان الطرق التجارية في السنوات الأخيرة لدولة الفونج).
كان يسكن بربر اخلاط من السكان : مصريون ، أحباش ، اتراك ، وعرب من الجزيرة العربية ، سكان من قبائل السودان المختلفة ، كما أشتهرت بربر بصناعة صياغة الذهب .
وكان التجار والأغنياء من بربر يسكنون في منازل وأسعة مبنية من الحجر .
من جانب أخر ، كانت بربر من المراكز الدينية والتعليمية الهامة أيام الفونج وكانت الخلاوي ومعاهد العلم منتشرة في أرجائها ، وكان يوجد بها المذهب الشافعي ، إضافة إلى للمذهب المالكي .
كما يشير بركهارد ، أن بربر كانت نقطة جمارك هامة تؤدى فيها ضريبة المرور لملك بربر .
8/ سواكن :

كانت الميناء ومنفذ الفونج إلى بلاد الهند واليمن والحجاز ، وبالتالي كانت مركزاً تجارياً هاماً في تلك الفترة ، وكانت سواكن تضم اخلاطاً من السكان : هنود ، يمنيون ، عرب ، أفارقة من شرق وغرب أفريقيا ، وبالتالي كانت منطقة تداخل ثقافي وسكاني هام ، شأن كل المواني والمنافذ الخارجية .
ذكر بركهارد أن المقيمين في مدينة سواكن عام 1841م كانوا نحو ثمانية ألف نسمة .
وكانت الصادرات عن طريق سواكن : التنباك ، العاج ، الصمغ ، الذهب ، الريش .
أما الواردات فكانت : الدبلان ، الشاش ، (على أنواعه) والبنوة وهي نوع من القماش يستورد من مدارس وسورات (الهند)، وهذه الثياب لا تلبسها إلا الطبقة الثرية في شندي ، وسنار ، وكردفان ، العطور الهندية والحرائر ، ويبيعونها في دارفور ودار صالح والبرقو ، لأن تجار هذه الجهات يفضلون هذه الأصناف على غيرها ، وقيمة الألف حبة من الكرهمان ، تباع في كردفان بست جوار (العملة) ، مع أن ثمنها في شندي نحو مائة وعشرين ريالاً أسبانياً وهو أروج تجارة لخفة حمله وعلو ثمنه .
وكانت الصناعة الحرفية مزدهرة في سواكن ، فقد أعتمد سكان سواكن على صناعتهم المحلية ، فكان منهم الحدادون ، والنجارون ، والصائعون ، والبناؤن ، والنحاتون ، وهذا بخلاف صناعة الحصير (البروش) والشمل ، والبطاطين من أصواف البهائم ، ومن جلودها السروج والنعال والجرابات .
وكانت الارتيقة يشكلون أركان التجارة في سواكن وعن الاوزان المستعملة في سواكن كان : الدرهم يساوي 16 قيراطاً ، المثقال يساوي درهم ونصف ، الأوقية وتساوي 12 درهماً ( ) .
كما أتخذ حكام الفونج مدينة سواكن منفي لهم لا يريدون بقاءهم معهم في سنار من ملوك دولتهم ووزرائهم ( تم نفي الملك بادي أبو شلوخ ، الملك إسماعيل) ( ) .
وكانت تجارة الرقيق تحتل مركز الثقل في الصادرات ، وإشار بركهارد أن سفن التجار كانت من هناك ما بين ألفين وثلاثة الأف عبد وجارية كل سنة .
كما يذكر محمد صالح ضرار أن عدد الرقيق الذي كان يصدر سنوياً من ميناء سواكن نحو 2500 شخص( ) .
مما يشير إلى الحجم الكبير لتجارة الرقيق والإعداد الضخمة التي كانت تصدر إلى بلاد الهند وفارس والحجاز ومنها إلى تجـارة الرقيق في أوربا ومنها إلى الأراضي الجديـدة (في أمريكا الشمالية والجنوبيـة).
وأخيراً ، نشير إلى أن سواكن كانت نقطة جمارك هامة تصل منها عوائد كبيرة بانتظام لملوك الفونج .

خامساً المرأة :

بقيام دولة الفونج حدث تطور في وضع العائلة ووضع المرأة نتيجة لسيادة الدين الإسلامي وانتقلت الوراثة من جهة الأم إلى جهة الأب حسب ما تنص الشريعة الإسلامية ( ) وكانت تلك الخطوة متطورة في حقوق المرأة ومقارنة عما كان عليها الحال سابقاً ، وبحكم أن دولة الفونج كانت مرحلة أنتقالية فقد استمر الوضع السابق عند بعض القبائل التي تحرم النساء من الإرث رغم إثبات الشريعة الإسلامية لحق المرأة في الإرث ( ) كما تم تحديد الزوجات بأربع بعد أن كان الزواج مفتوحاً في النظام السابق ، ولكن هذا الوضع الانتقالي أستمر في داخل نظام الفونج الاجتماعي كما رأينا أن بعض الصوفية مثل الشيخ الهميم خّمس وسّدس وجمع يين الأختين وكان هذا أمتداداً للتقاليد السابقة .
وعندما تتناول وضع المرأة في تشكيلة الفونج نأخذ في الأعتبار أن تشكيلة الفونج كانت متعددة الأنماط الإنتاجية نمط الإنتاج البدائي ، العبودي ، الأقطاعي ،السلعي الصغير ، قوة وضعفاً وتبعاً لتلك الإنماط الإنتاجية المتعددة والمتنوعة ومانتج عنها من تركيب طبقي ، وبالتالي من الصعب معالجة وضع المرأة كما كان عليه الحال في مجتمعات العبودية في روما أو مجتمعات الإقطاع في أوربا القروسطية ،بل نأخذ خصوصية تشكيلة الفونج في الاعتبار ،ونلاحظ تطور أو تخلف المرأة في المستويات المختلفة لتلك الإنماط .
في نمط الإنتاج البدائي كان دور المرأة كبيراً في المجتمع ولها مساهمات ملموسة في النشاط الاقتصادى ، زراعة ، أعداد الطعام ، أعمال النسيج ، بناء المنازل ، تربية الأطفال ... الخ حسب التقسيم الاجتماعي للعمل بين النساء والرجال .
والمرأة عند الفونج كانت على جانب من السلطان الروحي والاجتماعي فمن ما يرويه مؤلف الطبقات من أن فاطمة بنت سالم كانت صاحبة دنيا عريضة عبيدها تجار الهند والريف .
ومن أولاد جابر فاطمة أم الشيخ صغيرون من سرحان التي كانت نظيرة أخوانها في العلم والدين ، وهذا مثال يوضح أن المرأة كانت مشتركة في النشاط التجاري الذي تطـور أيام الفونج (وأن كان بدرجة أقل) كما أن المرأة لها نصيبها من النشاط العلمي والديني الذي أزدهر أيام الفونج .
وفي قبيلة الرباطاب تشارك المرأة في جميع شئون الحياة ويسمح لها بأن تسافر مع الرجال أن كان عملها يقتضى ذلك ، وقد تنوب عن زوجها في التعزية ( ) .
كما أنعكست تقاليد القبائل العربية التي وفدت إلى السودان في تعاملها مع المرأة على عهد الفونج حيث كان الرجال يحترمون المرأة وكان حرصهم على عقوبة الزنا أشد اللهم إلا ما جرت به العادة والتقاليد عند بعض البدو .
ويقول شقير " وعرب السودان كعرب مصر والشام يحترمون العرض فوق كل احترام " وليس للزانية عندهم من قصاص سوى القتل ، ولكن عند عرب البقارة في غرب السودان عادة تعرف " بالحضن " وهي المرأة تسمح لمن أعجبها من الرجال أن يحضنها ، أي ينام معها على طهارة حتى يتزوجها أو تتزوج بغيره ، وأهل المرأة لا يعترضونها أما إذا وطئها فترزل هي ومعشوقها . ( )
وفي مجال العلم يبدو أن النساء كن يحضرن تلك المجالس فمثلاً ورد في الطبقات : كان للشيخ حمد ولد أم مريوم تلميذات أكثر من الرجال أضعافاً مضاعفاً ( ) .
وذاع في توتي حيث الشيخ خوجلي عبد الرحمن الذي تلقي تعليمه على يد عائشة الفقيرة بنت ود قدال تلك المرأة المتفقهة في الدين ( ) .
أما الختان الفرعوني فقد ظل سائداً أيام الفونج ، ويرد في الطبقات خبر عن الشيخ حمد ود أم مريوم الذي " أمر بترك بكارة النساء وقال هو السنة : ويعلق د. يوسف فضل على ذلك بقوله : يعتقد عامة السودانيين أن إزالة بكارة الفتاة أو الطهور أو الخفاض الفرعوني من السنة وهو خطأ ، ولعل دعوة الشيخ حمد ود أم مريوم أول دعوة من نوعها فقد تنبه الناس إلى مضارها ودعوا إلى نبذها في السودان في الربع الثاني من القرن الحالي .
وتشكيلة الفونج عرفت نظام الرق أو نمط الإنتاج العبودي وبالتالي كان الرجال يمتلكون السراري ، والسراري هي جمع سرية أي الأمة أو الخادم التي يمتلكها الرجال ويحل له معاشرتها كزوجته .
وبالرغم من أن عرب السودان كانوا يعاملون الأرقاء معاملة حسنة ، وكانت المرأة الحرة ترضع أبناء خدمها وكذلك تفعل الجارية بأبناء سيدتها فيقوم الأبناء أخواناً بالرضاع إلا أن الحرائر كن لا ينظرن إلى السرارى اللائي يتسراهن أزواجهن من الرقيقات بعين الرضا أحياناً ،ومن ذلك ما يرويه نعوم شقير من أن بنت الشيخ إدريس الهميم تزوجت من (حوش بانقا) ثم اقتني السراري حسب عادة الأعيان في السودان فأنكرت عليه ذلك وسألته أن يترك جميع سراريه ولما لم يفعل أقتنت من العبيد المرد وقالت لزوجها : أن طلقت سراريك طلقت عبيدي ، وإلا نحن في الحق سواء فطلق سراريه ( ) .
والمرأة السرية في مجتمع الفونج كانت تعاني من اضطهاد مزدوج وهو أضطهادها كرقيق وإضطهادها كجنس .
حول الأحوال الشخصية ومشاكلها ما ورد في مقدمة الطبقات : أنه في أرض النوبة كان يطلق الرجل منهم المرأة ويتزوجها غيره في نهاره من غير عدة حتى قدم محمود العركي فعلم الناس العدة ، وبالتالي تم تنظيم الزواج والطلاق والعدة بعد الطلاق ، والميراث حسب الشريعة الإسلامية .
ومن عادات النساء عند العبدلاب ما أورده شقير قائلاً " أن النساء إذا التقين بأحد مشايخ العبدلاب في الطريق كشفن عن روؤسهن وخلعن نعالهن في الطريق إلى أن ينصرف ( ) .
ودور المرأة في الشجاعة والحماس كان معروفاً عند الفونج في حروبهم حسب ما أوردت الروايات الشعبية ، ونذكر مثال دور المرأة عند الشايقية مثل مهيرة بنت الشيخ عبود شيخ السواراب التي صاحت في الرجال لمقاومة الغزو التركي وركبت حصانها وصاحت هيا بنا للدفاع عن استقلالنا ، مما آثار حماس الشايقية لمقاومة العدو .
وكذلك شغبة شاعرة البطانة المشهورة وغيرهم من نساء الفونج الباسلات .

التقسيم الاجتماعي للعمل بين المرأة والرجل :

كان الطابع الغالب لمجتمع الفونج أنه كان مجتمعاً زراعياً رعوياً ، ورغم ظهور اقتصاد السلعة – النقد ، إلا أنه كان محدوداً ، ولذلك ظل اقتصاد الفونج في أغلبه الأعم اقتصاداً معيشياً أو تقليدياً ، وبالتالي أتسم بالتقسيم الاجتماعي المعروف للعمل بين المرأة والرجل في العمليات الزراعية والرعوية ( ) فكانت تشارك في العمليات الزراعية (نظافة ، وتجهيز الأرض ، قلب التربة ، البذر ، الحش ، الحصاد) هذا إضافة للأعمال المنزلية الأخرى مثل إعداد الطعام وطحن الحبوب (بالمرحاكة) ، ورعاية الأطفال وصناعة الأدوات المنزلية ، وبناء المنازل ، والغزل والنسيج ، وفي المجتمعات الرعوية كانت تساهم في رعى الإغنام أو الجمال أو الماشية وتربي الدواجن ، هذا إضافة لأعمال النسيج .... الخ وبالتالي فإن المرأة كانت عاملة ومنتجة حقيقية في مجتمع الفونج ، وكانت لها مساهمة كبيرة في النشاط الاقتصادي .
ومن حيث العادات والتقاليد ومقاييس الزينة والجمال فقد أستمرت بعض العادات السابقة التي كانت موجودة في تشكيلة النوبة مثل : المشاط ، الشلوخ ، الوشم على الشفتين ، واللثة ، هذا إضافة لأدوات الزينة التي عددناها في الباب الثاني من هذه الدراسة ، هذا إضافة للعادات الأخرى الممتدة من تشكيلة النوبة مثل أربعين الولادة ( ) ... الخ .
هذا إضافة للوافد من تقاليد وعادات القبائل العربية ، وعن زي المرأة أشار بركهارد في زيارته لبربر وشندي عام (1813-1814) أن البنات صغار السن كن يلبسن غطاءاً صغيراً يسمى (الرحط) يتدلى من الخصر وحتى منتصف الفخذين أما نساء الطبقات العليا فكن يلبسن غطاءاً أحمر بخطوط بيضاء فوق التنورة .
كما أشار شقير إلى أنه بين عرب السودان أن البنت من نحو سن الخامسة تستتر (بالرحط) وعرفه على أنه سير من جلد يعقد حول الخصر تتدلي منه قدد دقيقة إلى ما فوق الركبتين وقد يلبس فوقه (شقة) من الدمور أو تبقي عارية لا يسترها إلا الرحط إلى أن تتزوج فتخلعه وتلبس بدلاً عنه فوطه كفوطة الحمام تعرف (بالقرقاب) وفوقها شقة أكبر منها قليلاً بحواشي من الحرير تعرف (بالقرن) وفوقها ثوب من الدمور أو الدبلان أو الشاش يشتملن به اشتمال الصماء ، وتستر رأسها على إلا يظهر إلا عيناها والمقتدرات منهن يلبسن فوطه أو يرصه من الحرير الملة . ( )
هذا وقد فصلنا في الباب الثاني حول أزياء الرجال والنساء (راجع الفصل الثاتي من هذه الدراسة) ولا نريد أن نكرر .
نظام الأمومة :

عرفت القبائل السودانية أيام الفونج أشكالاً مختلفة من حق الأمومة حيث كان كثير من قبائل السودان تسير على نظام الإنتساب إلى الأم أو نظام الخؤولة (Avancate) ولهذا النظام مظاهر منها أن تعيش المرأة مع زوجها في عشيرته فإذا طلقت عادات إلى أهلها وحملت معها أولادها أو يعيش الرجل في عشيرته على أن يزورها متي شاء ، فإذا طلقت أحتفظت هي بالأولاد ، فلدينا هنا ثلاثة حالات في الزواج ينتسب فيها الأولاد إلى عشيرة الأم ويستطيع الرجل أن ينتسب إلى أمرأته ويتسمى بأسمها في حالة ما إذا هجر عشيرته وراح يعيش مع زوجته في عشيرتها إليها كما ينتسب الأولاد ( ) .
ولا يزال نظام الأمومة يمارس بين مصر والسودان إلى وقت الحاضر عند قبائل العبابدة والبشاريين فيذهب الرجل عقب زواجه فيعيش بين عشيرة زوجته ، ويبقي هناك إلى أن يولد ولده الأول على الأقل ، وفي السودان نجد أن المرأة المطلقة من البقارة تذهب إلى خالها ، لا إلى والديها وكثير من القبائل والأفراد ينتسبون الى أمهاتهم وجداتهم كما هو الحال عن الهدندوة والمناصير ( ) .
وعرفت القبائل العربية قبل الإسلام في الجاهلية نظام الأمومة وإن أقدم الأخبار التي وصلت إلينا من عرب الجاهلية هي ما نقلها السائح اليوناني الشهير سترابو في معجمه الجغرافي المشهور حيث جاء عن أمر الزواج الأملاك عندهم مشتركة أي تخص جميع أعضاء العائلة التي يرأسها شيخ وهو أكبرها سناً ولهم جميعاً امرأة مشتركة يختلفون إليها فمن جاء منهم قبلاً دخل عليها وترك في الباب الخلا عصاه ليشير بذلك إلى اختلائه بها ، لكنها في الليل لا تجامع إلا أكبرهم سناً .
ويواصل سترابو يقول " وهم يجامعون أمهاتهم ويعاقبون الزاني بالموت والزاني عندهم من جامع أمرأة من غير عشيرته . ( )
أي أنه مباحاً لرجال القبيلة الواحدة أن يجامعوا نسائها بدون تقييد ولا حصر بمعني أن الامرأة عندهم لم تكن تخص رجلاً معيناً أو جماعة معلومة بقطع النظر إلى صلة الرحم التي كانت تربطها معهم كما يظهر جلياً من الحديث الذي رواه سترابو بعد ذلك وهو أن خمسة أخوة تعشقوا أختاً لهم وهي بنت أحد الآمراء العرب فكانوا يختلفون إليها الواحد بعد الآخر حتى سئمت ذلك وتوصلت بحيلة إلى التخلص منهم ، وهذا يشير إلى زواج الاشتراك عند العرب أكثر مما يشير إلى تعدد الأزواج( ) وصفوة القول ، نخلص إلى أن القبائل العربية قبل الإسلام في الجزيرة العربية عرفت نظام الأمومة .
وأستمر ذلك النظام بشكل من الأشكال بعد الإسلام وسط القبائل العربية التي دخلت السودان .














هوامش الفصل الثاني :
1. د. منصور خالد ، الفجر الكاذب ، (دار الهلال 1986م) ، ص ،230 -331
2. الطبقات ، ص ، 58
3. نفسه .
4. للمزيد من التفاصيل راجع د. جورج جورفتش ، الطبقات الاجتماعية (القاهرة 1972م).
5. شقير ، المرجع السابق ، ص ، 27
6. للمزيد من التفاصيل راجع د .أبو سليم الفونج والأرض (1967م).
7. الطبقات ، ص ، 353
8. نفسه ، ص ، 373
9. نفسه ، ص ، 313
10. الفندق ، وينطق " فندك " وهو كالهاون وعاء من خشب الحراز وغيره ، تطحن فيه الحبوب ، إذا كان كبيراً أو البهارات إذا صفر
راجع الطبقات ، ص204 ، هامش فندق
11. الطبقات ، ص ،180
12. الشاطر بصيلي عبد الجليل ، تاريخ وحضارات السودان الشرقي والأوسط ، (القاهرة 1972) ، ص ، 226
13. الطبقات ، هامش العيلة .
14. شقير ، المرجع السابق ، ص ،127
15. تاج السر عثمان ، تاريخ النوبة الاقتصادي الاجتماعي ، ص ،141
16. لوحة ماركس الخماسية ، شيوعية بدائية ، رق ، اقطاع ، رأسمالية ، استراكية وهي ملامح عامة وصفها لتطور التاريخ الأوربي ، أما لوحة روستو لبخماسية لمراحل النمو فهي ، مرحلة المجتمع التقليدي ، مرحلة التهيؤ والإنطلاق ، مرحلة الانطلاق ، مرحلة النضوج ، مرحلة الاستهلاك الشعبي العالي .
17. راجع الطبقات ، هامش الكسرة ، ص ، 56 راجع أيضاً د. عون الشريف قاسم ، قاموس اللهجة العامية في السودان (القاهرة ، 1985م) .
18. نفسه (الطبقات) ، هامش الفطير ، ص ، 81
19. نفسه .
20. نفسه .
21. نفسه .
22. نفسه ،هامش الكرامة ، أنظر أيضاً مقال د. عبد الله الطيب (مجلة السودان في رسائل ومدونات ، الجزء 45 ، صفحات ، 13، 17، 23، 24 ) .
23. الطبقات ، هامش الكفاية .
24. راجع الأب فانتيني تاريخ المسيحية في ممالك النوبة القديمة (الخرطوم 1978) ، ص ،120
25. بحث غير منشور ، للؤلف بعنوان " المدخل لدراسة تشكيلة السودان القديم .
26. المرق " كلمة نوبية (راجع قاموس د. عون الشريف قاسم ، ود . أبو سليم الساقية ) .
27. راجع الطبقات وقاموس " أرمبرستور " وعند الشايقية تعني الحفرة التي تحفر ملاصقة للشاطئ وتملأ ماء بواسطة قناة تربط بينها ، ومنه تملأ قواديس أو جرار الساقية ماء عند دورانها .
28. العنقريب أصل الكلمة نوبية ، (راجع قاموس د. عون الشريف قاسم ، ود. أبو سليم ) .
29. أصل الكلمة من نبراي ، جلس في اللغة الاثيوبية السامية وعلها انتقلت إلى السودان من الحبشة أو اليمن مباشرة الطبقات ، ص86 ، وعبد المجيد عابدين " أصول اللهجات العربية في السودان ، ص ،122
30. راجع الطبقات ، هامش الشكال .
31. الطبقات ، ص ،81
32. نفسه ، هامش القداحة .
33. نفسه ، هامش الفراير .
34. الطبقات ، هامش ، ص ، 108
35. نفسه .
36. الطبقات ، هامش السوميت ، ص ، 203
37. تاج السر عثمان ، تاريخ النوبة الاقتصادي – الاجتماعي ، ص ، 217
38. الطبقات ، هامش أبيق الذهب .
39. نشير إلى أن القبائل التي هاجرت إلى السودان من الجزيرة العربية ،وخاصة الأجزاء الزراعية منها عرفت الساقية والشادوف (الناعورة) وأدوات الإنتاج الزراعي مثل : الطورية ، النجامة ، الملود .... الخ ، وأن اختلفت الأسماء باختلاف البيئات .
40. شقير ، المرجع السابق ، ص ، 122
41. نفسه ، ص ، 123
42. نفسه .
43. للمزيد من التفاصيل راجع أحمد الصافي : مدخل لدراسة الطب التقليدي في السودان ، مجلة الدراسات السودانية ، العدد الثاني ، المجلد السادس ، ديسمبر ، 1982م ، ص ،30
44. الطبقات .
45. كرمب ، هو المبشر البافاري ثيودور كرمب(Theodor Krump) جيمس بروس هو الرحالة الإنجليزي المشهور (1730-1794) ومن أهم مؤلفاته "رحلات لاكتشاف منابع النيل (1768-1773) بالإنجليزية .
46. الرحالة بونسيه ، (Poncet) زار سنار في (1698-1699م) وهو طبيب فرنسي .
47. البنادق (وردت في الطبقات باسم البندق) ، وهو السلاح الناري الذي تم اكتشافه في أوربا في القرن السادس عشر ، إضافة للتقنية الأخرى : مثل البوصلة ، صناعة الورق ، وتطور الملاحة ، كل ذلك ساعد على انطلاق أوربا للخارج (الكشوفات الجغرافية) .
ونستنتج من ذلك أن تاريخ دخول السلاح الناري للسودان يرجع إلى فترة الفونج ، مما يعكس ارتباط الفونج بالعالم الخارجي .
48. هذه العادة أيضاً عرفت بالامبراطورية العثمانية ، فكان السلطان الجديد الذي يتولى الحكم يأمر بقتل جميع أخوته .
49. د. يوسف فضل ، الطبقات ، هامش اربجي .
50. للمزيد من التفاصيل ، أنظر حسب الله محمد أحمد ، قصة الحضارة في السودان (القاهرة 1966م) .
51. محمد صالح ضرار ، تاريخ سواكن والبحر الأحمر (الدار السودانية للكتب ، 1981م) ص ، 76 – 77
52. أنظر سورة النساء ، الآية 11
53. لا زالت بعض القبائل في السودان حتى يومنا هذا تحرم النساء من الأرث .
54. د. عبد المجيد عابدين ، المرجع السابق ، ص ، 83-84
55. شقير ، المرجع السابق .
56. الطبقات ، ص ، 76
57. د. محمد عمر بشير ، تطور التعليم في السودان .
58. شقير المرجع السابق .
59. نفسه ، ص ، 131
60. هذا التقسيم لا زال سائداً حتى اليوم في القطاع التقليدي .
61. تاج السر عثمان ، تاريخ النوبة الاقتصادي الاجتماعي .
62. شقير : المرجع السابق ، من التفاصيل حول زي المرأة راجع سامية الهادي النقر" زي المرأة السودانية والتغير الاجتماعي" مجلة الدراسات السودانية ، المجلد (11) أكتوبر 1991م.
63. أنظر د. عبد المجيد عابدين ، المرجع السابق ، ص ، 81
64. نفسه ، ص ، 82
65. Strabo, XVI, 7 ، راجع بندلي الجوزي ، نظام الأمومة عند العرب ، في دراسات في تاريخ العرب الاجتماعي ، ص ، 132-133
66. نفسه ، ص ، 133




الباب الثاني

البنية الثقافية – الفكرية

الفصل الثالث: الأوضاع الثقافية
أولاً : ثقافة الفونج – مصادرها وجوهرها .
ثأنياً : التعليم
الفصل الرابع : أنتشار الثقافة الإسلامية
أولاً : الإسلام السوداني
ثانياً : الكرامات – الصراع بين المتصوفة والفقهاء
ثالثاً : نظام القضاء

الفصل الثالث

الأوضاع الثقافية

أولاً : ثقافة الفونج – مصادرها وجوهرها :

نقصد بثقافة الفونج إمتزاج الثقافة العربية الإسلامية بالثقافة الأفريقية (نوبية ، بجاوية ، زنجية) وما نتج عن ذلك من ثقافة متميزة في ميدان الإنتاج الفكرى والروحي .
وكتاب ود ضيف الله " الطبقات " فيه نموذج حي للنثر خلال حقبة الفونج ، ذلك النثر الذي إمتزج فيه العربي الفصيح مع اللهجة العربية المحلية ، وكان ود ضيف الله رائعاً عندما عكس ذلك النوع من الكتابة ، هذا إضافة للشعر والغناء الديني والشعبي الذي نجده في كتاب ود ضيف الله والذي يعكس حالة الشعر في تلك الفترة ولا نريد أن نستفيض هنا ، فقد تحدث عن ذلك بتفصيل د. عبد المجيد عابدين في كتابه تاريخ الثقافة العربية في السودان .
في بحث سابق عن تاريخ النوبة الاقتصادى الاجتماعى ذكرنا أن النوبة عرفوا المديح أو الأغنية أو الإنشاد الديني مثل نشيد الصليب بخصوصية محلية ، وبعد تأسيس دولة الفونج الإسلامية عرف الفونج أيضاً الأغنية الدينية بشقيها الصوفي والمدحي وأصبح للأغنية خصائصها التي تكونت في ثلاثة مصادر فنية ، يقول د. عباس سليمان السباعي " عرفت الإيقاعات الدينية الأولي للطرق الصوفية بدخول تاج الدين البهاري مؤسس الطريقة القادرية بوسط السودان بعد تأسيس دولة الفونج 1504م ، فأدخل معه الإيقاعات الصوتية المصحوبة بالحركة والتصفيق التي بنيت على التهليل " لا إله الا الله " وكان يرددها الذاكرون في حلقات بأصواتهم العالية التي عرفت عندهم " بالكرير" وهو ذكر أهل الطرق القادرية بالأصوات العالية ، وقد هذا تطور هذا الإيقاع فيما بعد حتى وصل إلى مرحلة استخدام الآلات الإيقاعية والصوتية عند فروع الطرق الصوفية في السودان ( ).
وفي أواخر دولة الفونج دخلت الطريقة السمانية مع مؤسسها أحمد الطيب البشير وأدخل معه في بلاد الحجاز إيقاع الذكر المبني على المفـرد من أسـم الجلالة " الله " الذي كان يردده المحبون والمريدون في حلقات الذكر وهم يحملون عصياً على أكتافهم ويتوسطهم أحمد الطيب البشير ( )، كما دخلت في أخر أيام الفونج الطريقة الختمية التي جاءت من بلاد الحجاز عن طريق مصر مع مؤسسها محمد عثمان الميرغني بأذكارها الحلقية المبنية على أسماء الله الحسني وكانت عبارة حي قيوم هي أساس الذكر الحلقي عندهم كما أستلقت الطريق الإسماعلية من الطريقة الختمية واستخدمت من الإيقاع : النوبة والطبل والكاس مصاحبة للأغنية الدينية في أذكارهم الحلقية .
كما أستخدمت الطريقة الأحمدية إيقاعاتها المصحوبة بالة الرق في ذكر الصفوف المتقابلة ، وجاءت كلمة الذكر عندهم من المفرد من أسم الجلالة الله وأحياناً "حي " و "قيوم " كما استخدمت الآلآت الإيقاعية " النوبة " و "الطبل" و " الكاس" في مصاحبة الأنشاد الديني لمسيرة الجماعة وظهرت إيقاعات الآلات عندهم مبنية على التهليل وأسماء الله الحسني " حي قيوم " .
وكذلك الطريقة البرهانية استخدمت ألة النوبة والطبل والكاس أستخدمت الإيقاعات السابقة نفسها ( ) ، وعن الشعر يقول الباحث " ويلاحظ أن المجتمع في بداية دولة الفونج " كان ضعيفاً من حيث البنية الاجتماعية والثقافة العربية الإسلامية فكانت المقطوعات الشعرية تصدر عن العاطفة التماساً للتبرك في نفوس كان لها إيمان خالص بعقيدة الشيوخ من إتباع الطرق الصوفية بالإضافة إلى تناول الشعر لصفات الكرم والشجاعة العربية ( )، ومثال على ذلك ما أورده غناى الشيخ حمد النحلان .
الدنيا أم قدوم طلقاً
في سابع السموات علقها
فيها ما يدور أبره ولا محلقا
العقد العقدا مع ربه ما فككها ( ).
كما كان للأغنية الدينية خصوصياتها الناتجة من تفاعل الوافد من الخارج مع الموروث الغنائي والإيقاعي المحلي ، وفي ذلك يقول د. منصور خالد :
تأثرت أساليب الذكر الجماعي تأثراً كبيراً بالمؤثرات الأفريقية ، وكان أبرز ما يكون في الاراحيز والاهازيج فبالرغم من أن بعض الطرق الصوفية كالشاذلية مثلاً ظلت تحافظ على سماتها الموروث ، فإن أغلب الطرق الأخرى قد تأثرت في ذكرها الجماعي بالطابع السوداني بكل خصائصه ، فلم تعد إيقاعات كما جاء بها الشيخ السماني وأورثها للشيخ الطيب الجموعي ، كما لم تعد نبرات التواشيح الدينية التي تعلمها الأقدمون من أستاذ الطريقة الأولي .
إلا أن أكثر الطرق الصوفية التي تأثرت بالسمت الأفريقي السوداني هي القادرية فالطبول الداوية والدفوف التي تصم الإذان هي أبعد عن الرجز والهزج العربي الذي جاء به البهاري القادري من بغداد وهذه الطبول الداوية والدفوف الصارخة هي أدوات الطرق التي كان يعرفها وما زال أهل السودان الزنجي في ترحهم ومرحهم على السواء ( ).
وهذا مثال لتفاعل الإيقاعات الوافدة من الخارج مع الإيقاعات المحلية وما نتج عن ذلك من أغنية دينية صوفية ذات نكهة وإيقاعات سودانية متميزة .
إنتشار العلوم الدينية :

ذكرنا سابقاً أن إنتشار الثقافة الإسلامية أو العلوم الإسلامية في السودان قد وافقت فترة الركود التي عمت العالم الإسلامي ، إذ حضر العلماء بجهدهم على العلوم النقلية دون اجتهاد مهتمين بالإيجاز والاختصار وكتابة الشروح والحواشي لها ، كما صادفت تلك الفترة غلبة الطرق الصوفية وهيمنتها على كثير من مظاهر الفكر الإسلامي ( ).
وكان أول من ساهم في نشر التعاليم الإسلامية الصحيحة من العلماء السودانيين أمثال : محمود العركي ، إبراهيم البولاد بن جابر الذين درسوا على أجله علماء المذهب المالكى في الأزهر ، وقد أدخل الأخير تدريس كتابين هامين من كتب المالكية في السودان هما (رسالة ابن أبي زيد القيرواني) و(مختصر خليل بن اسحاق) بالإضافة إلى تقاطر العلماء المغاربة وكلهم من إتباع المذهب المالكي .
يقول : د. يوسف فضل " أنه " لعل في طبيعة المذهب المالكي الذي لم يأخذ بتفتح الحضارة ، كما وقع في غيره من المذهب " (ابن خلدون مقدمة) ما يتفق مع حياة البداوة الغالية على السودان ، وإذا أخذنا الحالة الفكرية في مصر العثمانية (1517-1805) ، والتي كان لها أنعكاس على السودان أيام الفونج فيمكن أن تقسم تلك الفترة إلى فترتين :
• الفترة الأولي : التي شهدت هبوطاً للحياة الثقافية المبدعة مع كثرة الشروح والاهتمام الزائد بالمسائل النحوية والمنقولات والبعد عن التزليف وهي الفترة التي أشرنا إليها سابقاً .
• الفترة الثانية : في القرن الثامن عشر بدأت تنمو حركة تجديد فكري وتلمع أسماء حسن الجبرتي الرياضي والفلكي ، والشعراء محمد الشبراوي وحسن العطار (أستاذ الطهطاوي) وإسماعيل الخشاب وعبد الرحمن الجبرتي المؤرخ ومحمد مرتضي الزبيدي الذي وضع شرحاً للقاموس سماه " تاج العروس " في عشرة مجلدات وأشتراه محمد أبو الذهب بمائة ألف درهم فضة ، وكان بعض الولاة العثمانيين والأمراء المماليك ممن كتبوا المؤلفات مثل راغب باشا الذي وضع موسوعة في الأدب واللغة والعلم والطبيعة والطب الحديث والرياضيات والمنطق بعنوان (سفينة الراغب ودفينة الطالب) ، وكذلك رضوان الذي كانت مجالس الأدب والعلم تعقد في داره .
يري أحمد صادق أن ظهور تيارات التجديد الدينية والثقافية في مصر كانت قبل الحملة الفرنسية ( )، ويميل د. توفيق الطويل أيضاً إلى هذا الرأى ( ).
وبالتالي فإن حركات التجديد الثقافي في الفترة الأخيرة كما أشرنا سابقاً كان لها صداها بهذا القدر أو ذاك على السودان في السنوات الأخيرة لحكم الفونج .
وعدد ود ضيف الله كتباً أخرى ، كانت متداولة في عهد الفونج مثل :
- المدونة لأسد بن الفرات وسحنون وشرحها لأبي عمران الفجومي .
- فتح الخليل على مختصر الخليل محمد بن إبراهيم الثنائي .
- شرح عبد الباقي الزرقاني على مختصر الخليل .
- حاشية على شرح الثنائي في الرسالة لعلي بن محمد الاجهوري .
- مختصر الأخضر في العبادات .
- حاشية على مختصر الخليل .
يقول د. يوسف فضل " ولما أزداد الوعي الثقافي أخذ بعض الفقهاء يقلدون رصفائهم في العالم الإسلامي في كتابه الشروح والحواش مثل (شرح مختصر الخليل) ، لكل من مختار بن جودة الله وضيف الله بن على ( ).
وكما دخلت تعاليم المذهب الشافعي السوداني نحو عام 1563 ، على يد الشيخ محمد بن على بن قرم الفقيه ولكن ساد المذهب المالكي إلا أن منطقتي سواكن وطوكر ظلتا على هدى الشافعية حتى يومنا هذا .
ومن كتب الشافعية التي راجت في مملكة الفونج :
- منهاج الطالبين لمحي الدين النووي ، منهج الطلاب لزكريا بن محمد الانصاري .
- ومن العلوم الإسلامية التي نالت بعض العناية : علم الكلام أو العقائد ، كما تسمي في الطبقات ، وكانت دراسة علم العقائد تدور حول " متن السنوسية" وهي مقدمة في التوحيد من ثلاث مقالات كبرى وأعرف بعقيدة أخل التوحيد " ووسطي ولعلها ما يسمي بالمرشدة "وصغرى وهي " أم البراهين" لأبي عبد الله محمد السنوسي التلمساني المتوفي سنة 895هـ - 1480 م ، وقد كتب المؤلف شروحاً مختلفة لهذا المقدمات ووجد بعضها طريقه إلى السودان ( ) ، ولكن كما أشرنا سابقاً أن الطابع الغالب للثقافة الإسلامية أيام الفونج كان الأنخراط في سلك المريدين من إتباع الطرق الصوفية وأن الثقافة الدينية العلمية أستهوت قلة من السودانيين .
كما أن الكثيرين من الفقهاء ، جمعوا بين علم الظاهر والباطن أي صاروا من مؤيدى الطرق الصوفية ، وبهذا الشكل أنتشرت الثقافة العربية الإسلامية في السودان.
كما أعتمد طلائع الصوفية على التبسيط في نشر وتعميق مبادئ العقيدة الدينية ، إضافة لاستعمال الطبول والترانيم في الإذكار الصوفية فحببوا كثيراً من العامة إلى طرقهم ، ويرى ترمنجهام أن عراقة السودان الحضارية جعلت الإسلام يتطبع بصفة محلية ( ). وبهذا الشكل أنتشرت الثقافة العربية الإسلامية في السودان .
الكتب :

أهتم بعض علماء الفونج بجمع الكتب الدينية وغيرها خاصة على أيدى الطلبة المستقرين طلباً للعلم مثل عمار عبد الحفيظ الذي أتي بنحو رجلين أو ثلاثة من الكتب ، وكان لإبراهيم بن نصير خزانة كتب ، وجمع محمد ولد دوليب كتباً منها (شرح الاجهورى) ، (والخراشي) ، كما أهتم الفقيه حامد اللين بجمع الكتب وهو أول من أحضر(شرح عبد الباقي على خليل) في السودان والشبراخيتي على العشماوية) وأشتغل عبد الرحمن بن الشيخ صالح ولد بان النقا وهو ممن جمع بين طريق القوم وعلم الظاهر بتحصيل أنماط مختلفة من الكتب وأستأجر النساخ لنسخوا له كل ما يعثرون عليه من مؤلفات داخل البلاد ، فلما فرغ من ذلك أرسل إلى مصر والحجاز في طلب غيرها فملأ من ذلك ست خزانات من كل عزيز عجيب وغريب نادر" وظلت هذه المكتبة عند أبنه الشيخ إلى أن تبعثرت أبان قتله الملك في أول العهد التركي المصري .
يقول د. يوسف كان لهذه الكتب على قلتها في بلد مترامي الأطراف كسلطنة الفونج شأن كبير في تبديد من العزلة الفكرية التي فرضتها صعوبة المواصلات من الخارج وقلة الأتصال بين الأجزاء المختلفة في الداخل .
ومن أعتماد الدارسين على قدر ضئيل من المؤلفات الخطية لتتبين لنا الصعوبات التي كانت تحول دون نشر الثقافة العربية بشكل أشمل وأعمق كما يتضح لنا الدور الذي بذله الفقهاء مهما كانت درجة حصيلتهم العلمية في إرساء تعاليم الإسلام على قواعد سليمة .

الفلسفة والحكمة والعلوم :

من العرض السابق والذي قدمه د. يوسف فضل ، لحالة العلوم والثقافة الدينية ، يمكن أن نصل لبعض النقاط التالية في الحالة العقلية والفلسفية لإنسان وعلماء الفونج :
1. معلوم أن دولة الفونج الإسلامية عاصرت الشق الأكبر من الفترة الركود الفكري التي عمت العالم الإسلامي والتي أعقبت فترة أزدهار الحضارة العربية الإسلامية التي بدأ إزدهارها في العصر العباسي وشمل ذلك الأزدهار والتطور الحالة الفلسفية والعقلية والعلوم والرياضيات والموسيقي والترجمة .... الخ
وأهتم العلماء في فترة الركود بالنقل الأعمى دون الاجتهاد والاهتمام بالإيجاز والإختصار وكتابة الشروح والحواشي لها ، كما صادفت تلك الفترة غلبة الطرق الصوفية في فترتها التي غلب عليها الإنحطاط وهيمنتها على كثير من مظاهر الفكر الإسلامي ، بعد أن تحول أغلبها إلى شكليات وطقوس وأبتعدت عن الفلسفة التصوف التي صاغها قادة الصوفية الأوائل أمثال : الحسن البصرى (الزهد) ،الحلاج والسهروردي المقتول ، محي الدين بن عربي ،ذو النون المصرى وغيرهم ، وبالتالي كرست الغاء العقل والتفكير والإيمان الأعمى بالشيخ أو الولي والذي جسـدته المقولة " كن بين شيخك كالجنازة أمام غاسلها " .
وفي جو كهذا لم تنمو وتتطور الحياة الفلسفية والعقلية في العالم الإسلامي يومئذ ، وكان لهذا أمتداده وأنعكاسه على السودان في دولة الفونج .
يضاف إلى ذلك من الكتب التي كانت متداولة أيام الفونج والتي كانت تعبيراً عن ذلك الجمود والركود مثل " مختصر الخليل " و " رسالة ابن زيد القيرواني " في فقه المذهب المالكي والشروح والحواشي لهما التي تعكس الإتباع لا الإبداع ، هذا إضافة لضعف القاعدة العلمية الدينية وغلبة الطرق الصوفية التي أخذ عنها أغلب السودانيين .
يضاف إلى ذلك مؤشرات التخلف التي أوضحناها سابقاً مثل تخلف القوى المنتجة والطب وخضوع الإنسان لسيطرة الطبيعة ، وكل ذلك شكل الأرض الخصبة لضعف وتخلف الحياة العقلية والفلسفية ، مهما يكن من شيء فإن الجانب الإيجابي كان إنتشار التعليم والثقافة العربية الإسلامية في تلك الظروف والتي شكلت القاعدة الأولية التي أنطلق منها التعليم في السودان بشكل واسع فيما بعد .
على أن بلاد الفونج شأنها شأن البلاد الأخرى لم تخلو من حكمة وفلسفة لخصتها الأمثال وللحكم الشعبية التي تعبر تعبيراً مكثفاً عن تجاربها في الحياة ، فنجد من حكماء ذلك العصر الشيخ فرح ود تكتوك الذي وردت ترجمته في الطبقات وألف عنه الباحث في الأدب الشعبي الطيب محمد الطيب كتاباً بعنوان " فرح ود تكتوك حلال المشبوك " وأشتهر بحكمه وأمثاله ، وربما نسبت إليه أمثال وحكم لم تكن له ، ولكن جسد الحكمة والتجربة الشعبية مثل قوله :
أن كنت تطلب عزاً لا فناء له فلا تقف عند أبواب السلاطين
ولا تصاحب غنياً تستعز بـه وكن عفيفاً وأرعي حرمة الدين
وأمثاله الساخرة وحكمه معروفة مثل قصته المشهورة " كل يا كمي قبل فمي " والتي تسخر من الذين ينظرون إلى مظهر الإنسان لا إلى جوهره ، وللمزيد من التفصيل عن الحكم والأمثال السودانية الممتدة من تلك الفترة ، يمكن الرجوع إلى بابكر بدري الأمثال السودانية (أغسطس 1963م) ، وقاموس اللهجة العامية في السودان لـ د. عون الشريف قاسم (القاهرة 1985م) .
هذا إضافة لعزلة دولة الفونج عن منجزات عصر النهضة التي بدأت في أوربا منذ القرن الرابع عشر والثامن عشر على يد علماء وفلاسفة من أمثال نيوتن وديكارت وجاليلو وهيغل ، ولا بينتر وغيرهم ، كما تمت اختراعات تقنية مثل المطبعة ، صناعة الورق ، الطاقة المائية ، السلاح الناري ، البوصلة وغيرها من المنجزات التي أدت الى الكشوفات الجغرافية والثورة التجارية (الميركنتالية) والتي أدت إلى قيام الثورة الصناعية التي عاصرتها دولة الفونج في أيامها الأخيرة .

ثانياً : التعليم

نظام التعليم :

بدأت التعليم في عهد الفونج كما هو معلوم بالخلوة باعتبارها الوحدة التعليمية الأساسية أو الخلية التعليمة الأولية التي تطورت منها نظام التعليم فيما بعد .
وكانت الخلوة تلبي حاجة مجتمع الفونج في بداية تكوينه والذي كان بسيطاً (اقتصادياً وسياسياً) فاقتصاد الفونج كان أغلبه اقتصاداً معيشياً ، ولم يكن ذلك الاقتصاد يتطلب أكثر من المعلومات الأولية في القراءة والكتابة ، ولكن بتطور النظام الاقتصادي والسياسي فيما بعد بفضل اتصال الفونج بالعالم الخارجي بشكل أوسع من البداية وتطور اقتصاد السلعة – النقد وازدياد حاجة النظام إلى كتبة وموظفين وعمال وقضاة لمواجهة احتياجات الجديدة التي نشأت بفضل تطور التجارة وتمليك الأرض وتوثيق العقود وقياس الأرض والفصل في قضايا الميراث وجمع الضرائب ، تحديد مقدارها (زكاة ، مكوس) ، وإزدياد هذه الحاجات أدت إلى تطور نظام التعليم عند الفونج ... حيث نلاحظ في الفترات اللاحقة تطور نظام التعليم من الخلوة إلى تعليم أوسط يتم فيه تدريس التصوف كما كان عليه الحال عند المجاذيب في الدامر ( ).
ولتلبية هذا الغرض ازدادت البعثات التعليمية إلى الأزهر والحجاز ولتأهيل الكادر من الفقهاء والقضاء والمعلمين والشيوخ الذين بدورهم فتحوا مراكز لنيل العلم في مواقع السودان المختلفة : سنار ، الحلفايا ، شندي ، الدامر ، بلاد الشايقية (نورى) ، كترانج ، بربر ، .... الخ لتلبية هذه الحاجات .
ولم تكن فرص التعليم متساوية لكل أبناء وبنات الناس في عهد الفونج فقد كان تعليماً طبقياً وغير طبقي بمعني أن الإباء الذين كانوا يملكون الرقيق ويستخدمونهم في الزراعة أو الرعي كانوا لا يحتاجون لأبناءهم في هذه الأعمال ، وبالتالي كانوا يستغنون عن خدمات أبناءهم في هذا الجانب طوال فترة الدراسة في الخلوة (حوالى سبع أو خمس عشر سنة) وبالتالي كانت فرص هؤلاء في التعليم أكبر .
والحديث هنا عن الفرص الأكبر ذلك أن الموضوع معقد ولا يجوز التبسيط فيه ، فنظام التكافل الاجتماعي الذي كان في عهد الفونج كان يسمح أيضاً لأبناء الفقراء الراغبين في مواصلة تعليمهم .
ونحن نتأمل النظام الفريد الذي أبتدعه الفونج نحاول أن نستلخص أهم سمات هذا النظام في الأتي :
أ/ أن نظام التعليم عند الفونج لم يكن مركزياً أي لم يكن تابعاً للدولة ولم يكن للدولة سلطة على الشيوخ بهدف فرض أيديولوجية معينة أو طريقة معينة أو فكر معين ، وهذا إذ جاز الاستنتاج – نوع من استقلال العلم والعلماء عن حكام الفونج ونوع من التعليم الأهلى البعيد عن سيطرة الدولة وهذا نلمسه في أن سلاطين الفونج لم يكن يدفعوا لمعلمي الخلاوي مرتبات ، وكان الشيوخ ومعلمو الخلاوي يكتفون بما يقدمه الطلاب أو أباؤهم من هدايا وهبات ، كما كان لشيوخ الخلاوى أراضيهم الخاصة التي كانوا يزرعونها في المواسم لمساعدة طلابهم كما كانوا يعفون من دفع الضرائب والعشور .
وبهذا المعني استطاع الفقهاء والشيوخ والعلماء في عهد الفونج أن يقدموا إلى السودان نوعاً من التعليم ملائماً لظروف البلاد الاقتصادية والاجتماعية والسياسية واحتياجاتها وقتئذ ، ومهم هنا التركيز على هذه النقطة ، صحيح أن المعلمين الأوائل الذين تلقوا تعليمهم في الحجاز ومصر استفادوا من النظم التعليمية هذه أو درسوا وفقاً لتلك النظم التي كانت قائمة على التعليم في الخلاوي أو المساجد أو المراكز التعليمية الدينية المشهورة مثل الأزهر وغيره .
ولكن نظام التعليم عند الفونج رغم أنه استفاد من النظم التعليمية التي كانت سائدة في العالم الإسلامي وقتئذ إلا أنه جاء أصيلاً وبخصوصية معينة ولم يكن نقلاً أعمى لتلك النظم ، وإنما أخذ خصوصية السودان في الاعتبار ، وبالتالي . إذا جاز التعبير كان نظاماً سودانياً فريداً تفاعل فيه الوافد مع المحلي .
نأخذ على سبيل المثال أن ود ضيف الله عندما كتب الطبقات استفاد من كتابة التاريخ على نحو الذي كان سائداً في العالم الإسلامي من ناحية الشكل مثل : الطبقات الكبرى ، طبقات الشعراني في الأولياء والصالحين ، ولكن ود ضيف الله عندما كتب الطبقات أخذ خصوصية السودان في الاعتبار .
ولم يكرر ما هو معروف ومشار إليه في طبقات الشعراني مثلاً أو الطبقات الكبرى ، ولكنه أشار إلى طبقات أو تاريخ الأولياء والصالحين والعلماء والشعراء في السودان وبالتالي جاء المؤلف بتلك الخصوصية السودانية التي قدم فيها معرفة جليلة وقيمة بالتاريخ السوداني الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والفني والأدبي والعلمي والديني ، بل حتى استخدم اللهجة السودانية التي كانت سائدة .
فود ضيف الله كان محلياً ، ولكنه هذه المحلية هي التي اضفت على هذا الكتاب أن يكون مصدراً هاماً من مصادر دراسة التاريخ السوداني في تلك الفترة .
ود ضيف الله إذن هو نتاج ذلك التعليم الذي أبتدعه أهل الفونج والذي جاء أصيلاً ونابعاً من احتياجات الواقع السوداني .
وهذه نقطة هامة في تقديرى بالتوسع فيها يمكن أن تشكل المفتاح أو المنهج السليم لفهم نظام التعليم عند الفونج بالنسبة للباحثين والدراسين في نظام التعليم في السودان .
ب. النقطة الثانية في نظام التعليم عند الفونج أنه كان مرتبطاً بالإنتاج ، أي أنه لم يكن يعرف الفصل بين التعليم الذهني والتعليم اليدوي (إذا جاز استخدام مصطلحات علماء التربية المعاصرة) فنظام التعليم عند الفونج لم يقتصر على الدراسة فقط بل كان الطلاب يساهمون في زراعة أراضي الشيوخ وغيرها من هبات الخلاوي من الأراضي التي كان يدفعها الأغنياء والملوك وكان الطالب يملك حق العمل في أراضي أخرى أو الاحتطاب لتوفير بعض المال الذي كان يحتاج إليه رغم مجانية الإعاشة والسكن في الخلاوى ، وكان هذا النظام سائداً عند المجاذيب في الدامر( ) .
كما عرف الفونج نوعاً من التعليم الشامل ويدل على ذلك ما ورد في كتاب الطبقات (الذيل والتكملة) أن "عبد الله ولد صابون كان شاعراً وصايغاً وخياطاً وخطاطاً وجميع ما يفعله احتساباً لله ولم يتزوج وإعطاه شيخه أبنته فامتنع وقال: لا يليق بالعبد أن يأخذ أبنه سيده ( ).
ج/ كان نظام التعليم عند الفونج مفتوحاً بمعني أنه لم يكن يعرف الدرجة أو الشهادة النهائية من شيخ معين أو فكي معين فكان طلاب العلم الباحثون عن المزيد من العلم والمعرفة يتنقلون من شيخ لآخر ويسعون للمزيد من المعرفة إلى شيوخ عملهم أوسع واغرز من الشيوخ السابقين الذين تعلموا على أيديهم وبالتالي كان نظاماً فريداً متعدد المعارف ومتعدد المستويات ومتفاوت الخبرات ، كل بحسب جهده .
وكل بما تيسر له وينطبق عليه مقولة " طلب العلم من المهد الى اللحد " وكان يرسخ قيم التواضع واحترام العلماء والشيوخ لا لشيء إلا أنهم أكثر علماً ومعرفة .
وهذا الشكل هو الذي ساعد على أنتشار التعليم في السودان وفي بقاعة المختلفة بتلك السرعة في فترة الفونج ، كما ساعد على أنتشار اللغة العربية والديانة الإسلامية بشكل من الكثير من التسامح وهذا الشكل كما لاحظ بروفيسور محمد عمر بشير أنتج علماء في دولة الفونج كانوا لا يقلون درجة عن رصفائهم في العالم الإسلامي يؤمئذ .
د/ أهداف ونظم التعليم : كانت أهداف التعليم هي التفقه في الدين والتصوف الذي تطور في العالم الإسلامي (مصر ، الحجاز ، شمال أفريقيا) ، وقام التعليم على أساس تعليم القرآن وحفظه .
وكانت وحدات التعليم الإساسية الخلاوى والمساجد وأغلب الشيوخ لم يكن يستخدمون كتباً أو محفوطات بل كانوا يملون دروسهم على تلاميذهم من ذاكرتهم (كانوا يقولون العلم في الرأس لا في الكراس) .
وكان القرآن يقسم إلى سور ليحفظها الطالب عن ظهر قلب وكانت السور تكتب على لوح من الخشب وتمسح بالماء بعد حفظها لتكتب عليها سورة جديدة ونتوقف قليلاً هنا عند ثقافة إنسان الفونج في أدوات الكتابة .
- كانت الكتابة على ألواح تصنع من الخشب بعد نجارته على شكل ألواح مستوية شبة مستطيلة ولها مقبض من أعلى .
- أما الأقلام فكانت من البوص أو الخشب بعد نجارته على أسنان مدببة كالريشة .
- كان الحبر يصنع من أدوات محلية ، الدواية تصنع من الفخار والحبر يصنع من خليط بسكن الدوكة والصمغ وسبيب البقر أو الخيل حتى يصبح متماسكاً .
- كانت المحاية تتكون من الماء والجير (وهذه بمثابة المساحة التي يمسح بها الألواح) ، والمحاية كانت تنحت من الخشب أو الحجر على شكل إناء كبير يوضع فيه الماء .
بهذا الشكل استنبط انسان الفونج أدوات الكتابة من البيئة المحلية .
وفي تلك الفترة عرفت أروبا صناعة الورق واختراع المطبعة ،وبدأ الفونج يستوردون الورق من أوربا ولكن استخدامه كان محدوداً للحكام وفي المحاكم ولم يتم تصنيعه بشكل واسع .
هـ/ المناهج : في مناهج التدريس بعد القرآن ترد الفقه في المرتبة الثانية ، وكانت الرسالة ومختصر الخيل المالكي تشكلان المصدر الرئيسي للتدريس(أغلب السودانيين أخذو المذهب المالكي).
وكان مما يلي ذلك أهمية علوم التوحيد والكلام وكانت أكثر الكتب المستخدمة هي مقدمة السنوسية والطالب الذي يرغب في زيادة حصيلته العلمية بعد أن يكون قد أتم دراسة تلك العلوم ، يدرس تجويد القرآن أو الحديث أو التفسير أو التصوف الإسلامي بشكل موسع وفي كتاب الطبقات وردت إشارة عن بعض الطلاب الذين تفوقوا في علوم النحو والبلاغة .
و/ تدريب المعلمين : كان الشيخ أو الفكي أوالمعلم أما يكون قد تخرج في أو تدرب في السودان ، أو تخرج في الأزهر الشريف أو معاهد مكة .
ز/ نظم الأمتحانات : لم تكن تعقد اختبارات أو أمتحانات كما لم تكن الدراسة محددة بزمن معين ، وعندما كان الطالب يفرغ من دراسته كان يمنح شهادة تسمى الإجازة حيث كان يستطيع بمقتضاها فتح مدرسة ليعلم فيها سالكاً نفس المنهج الذي سلكه مع إضافة الجديد من تجربته ومحصول علمه الإضافي بعد ذلك .
ومن وسائل التربية هناك العقوبة البدنية التي كانت تسمى " الفلقة " والفلقة هي عقوبة يعاقب بها الفكي أو الشيخ المذنبين أو المهرجين من الطلاب حيث كان الفكي يجلس على عنقريب صغير ويلقى بالطالب على الأرض ويرفع راحة قدميه مع ضمهما إلى أعلى وينهال الفكي ضرباً بالعكاز أو العصا التي تصنع من فروع السلم وغيرها ، أي الضرب على أخمص القدمين ، وهي عقوبة غير مبرحة ولكنها مؤلمة وفي بعض المناطق مثل الدامر أرتبط التعليم بالتجارة والسلطة حيث جمع فقهاء المجاذيب بين العلم والتجارة الشيء الذي مكن لهم في الأرض وأستطاعوا أن يستولوا على السلطة السياسية في مجتمع الدامر في سنوات الفونج الأخيرة عندما ضعف النظام المركزي ، وكما لاحظ بركهارد أن الفقيه الكبير لم تكن سلطته دينية فقط بل كان يمارس السلطة السياسية ويفصل في قضايا الناس ، وأشار بركهارد إلى ما يفهم منه أن في الدامر نظام جمع السلطة الزمنية والدينية أي الدولة دينية مصغرة إقامها المجاذيب في الدامر .
بهذا المعني كان التعليم إضافة لوظائفه الاقتصادية في الزراعة والرعي والحرف والتجارة مصدراً من مصادر الجاه والسلطة السياسية .
وكما لاحظ هولت أنه عند لحظات ضعف السلطة السياسية المركزية ، كان الفقهاء والشيوخ يقبضون على زمام السلطة السياسية في مناطقهم ( ).
أشرنا في مكان سابق إلى ضعف العلوم الطبيعية والرياضيات في مناهج الفونج ، أما عن العلوم الاقتصادية والاجتماعية فقد كانت متضمنة داخل مذاهب الفقه (الفقه المالكي أو الشافعي) الذي ساد في السودان .
وكما هو الحال في أوربا في القرون الوسطي لم تستقل العلوم الاقتصادية والاجتماعية عن الدين إلا بظهور المجتمع الرأسمالي في أوربا وقيام الثـورة الصناعية .
ونلاحظ أن نظام التعليم كان متفاوتاً في مناطق دولة الفونج المجتلفة ، وهذا التفاوت ناشئ من التفاوت في التطور الاقتصادي والاجتماعي والعلمي في تلك المناطق .
فهناك مناطق متقدمة في التعليم مثل منطقة الشايقية التي زارها الرحالة بركهارد في عام 1813م ، وكما ذكر أن عدداً كبيراً من الشايقية كانوا يعرفون القراءة والكتابة ، كما لاحظ أن العلماء منهم كانوا يحظون بالإحترام الزائد والتجلة من المواطنين وكانت تدرس كل العلوم الدينية والرياضيات والفلك ، وكما ذكر الرحالتان وادنجتون وهانزى أن الطلبة كانوا يدرسون أيضاً الجمع والطرح والقسمة والضرب (مبادئ الحساب).
وكذلك مناطق الدامر وبربر والحلفايا وشندي وسنار والتي كان يدرس فيها القرآن والتفسير والتوحيد والتصوف الإسلامي .
وكما لاحظ محمد عمر بشير أن المناطق التي تقع على ضفاف النيلين الأزرق والأبيض بين الخرطوم وسنار هي التي أصابت نوعاً من التطور في التعليم في القرون السادس والسابع والثامن .
أما مناطق الشرق فقد كان حظها قليلاً من التعليم مقارنـة بمناطق الشمال والوسط .
وفي غرب السودان كانت هناك مملكة الفور الإسلامية التي كانت مستقلة عن الفونج ، كان نظام التعليم فيها أقل حظاً من الفونج وأن كان لها أتصال بمراكز التعليم في الأزهر والحجاز ، ولكن المجال هنا في ميدان المقارنة مع الفونج ، أما في جنوب السودان فقد كان مجهولاً في عهد الفونج ، ولم يتم التعرف عليه بشكل كامل إلا بعد الفتح التركي .
وعليه يمكن القول أن جذور التطور غير المتساوي في التعليم ترجع إلى عهد الفونج حبث نلاحظ أن مناطق التقدم والاستنارة والوعى كانت في شمال ووسط السودان .
ونلاحظ أن التعليم في دولة الفونج أعتمد بشكل أساسي على الحفظ والاستظهار وهذا يرجع بعوامل عدة أهمها .
أ‌. أن التعليم وحجمه كان بسيطاً ويسهل حفظه إضافة لبساطة الحياة نفسها وعدم تعقدها وبالتالي يسهل فيها الحفظ والاستظهار.
ب‌. عدم انتشار أدوات الكتابة (الكتب الورق) .... الخ ، ولذلك كان للذاكرة دوراً كبيراً في التعويض عن ذلك .
ج‌. طبيعة المجتمع الزراعي الرعوى السكوني الذي لا يعرف النقد وطرح الأسئلة والذي يكرس الجمود والرتابة وعدم البحث النقدي المتواصل يساعد على الحفظ والقبول بما يرد عن الشيوخ دون مناقشة ... إضافة لتخلف الحياة الفكرية والثقافية .
ولذلك كان للشيوخ هيمنة مطلقة على الحياة الفكرية وكان في بعض الأحيان ولأسباب ومعتقدات دينية أو غيرها فإن حديثهم لا يرد وطلباته يجب الاستجابة لها بدون مناقشة أو نقد إلا في الحالات النادرة .
وهذا المجتمع يكرس الحفظ والاستظهار والرتابة هذا إضاقة إلى أن نظام التعليم ورغم استقلاله كجزء من البنية الفوقية للمجتمع ، كان يسهم في إعادة انتاج النظام الاجتماعي الذي كان قائماً ، فالسلاطين رغم أنهم لم يكن يتدخلون في شئون التعليم والمعلمين إلا أنهم باقطاعهم الأراضي والهبات وإعفائهم من الخراج بهدف المساعدة على دعم النظام القائم .
نخلص من ذلك إلى أن التعليم النظامي الذي بدأ في السودان بشكل واسع في فترة الفونج كان يعبر عن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية القائمة ، وكما لاحظ مؤرخو التعليم في السودان مثل محمد عمر بشير وعبد المجيد عابدين ، وعبد العزيز أمين عبد المجيد ، أن التعليم الذي تم استنباطه في دولة الفونج هو الذي شكل النواة لتطور التعليم في السودان فيما بعد وساعد على أنتشار الثقافة العربية الإسـلامية بشكل واسع.

هوامش الفصل الثالث :

1. د .عباس سليمان السباعي ، " خصائص ومصادر الأغنية السودانية في وسط السودان "، في مجلة الثقافة الوطنية ، العدد (5) مارس 1989م ، ص ، 86-87
2. نفسه .
3. نفسه .
4. نفسه .
5. الطبقات .
6. د. منصور خالد ، الفجر الكاذب ، المرجع السابق ، ص ،334-335
7. أنظر د. يوسف فضل ، مقدمة الطبقات ، ص ، 4
8. أنظر أحمد صادق سعد ، تاريخ العرب الاجتماعي (دار الحداثة 1981م)، ص ،161
9. د. توفيق الطويل ، التصوف في مصر أبان العصر العثماني ، (القاهرة ، مكتبة الأدب 1946م) ، ص ،29
10. د. يوسف فضل ، مقدمة الطبقات .
11. نفسه ، ص ، 4-5
12. ترمنجهام ، الإسلام في السودان (إكسفورد 1949)
13. للمزيد من التفاصيل أنظر (أ) بروفسيور محمد عمر بشير ، تطور التعليم في السودان ، ترجمة هنرى رياض وآخرون (دار الثقافة ، 1970م) .
(ب) رسالة بروفسير يوسف بدري .
Asurvey of IsIamic Learning in the Fung state
“ 910-1236 AH/1505- 1820 AD ، مجلة جامعة الخرطوم 1970م
(ج) د. عوض السيد كرسني ، نظام التعليم عند المجاذيب ، مجلة الثقافة السودانية ، عدد 17 ، فبراير 1981م.
14. أنظر د. كرسني ، المرجع السابق .
15. الطبقات (الذيل والتكملة) ، المرجع السابق ، ص ، 95
16. هولت ، الأولياء والصالحون والإسلام في السودان ، ترجمة هنرى رياض والجنيد على عمر (دار الجيل بيروت ، ط3 ، 1986م) .







الفصل الرابع

إنتشار الثقافة الإسلامية

أولاً : الإسلام السوداني

المقصود بالإسلام السوداني هوإمتزاج تعاليم الإسلام مع الأعراف والموروثات والعادات والتقاليد ، وما نتج عن هذا التفاعل هو ما نسميه بالإسلام السوداني والذي سوف نبحث سماته وخصوصياته حسب ما تشكل ونشأ في دولة الفونج .
معلوم أنه منذ إتفاقية البقط بدأت أفواج العرب المسلمين تتدفق على السودان طلباً للتجارة أو الرعى أو فراراً من الاضطهاد السياسي بعد سقوط دولة بنى أمية أو لنشر الدعوة الإسلامية ، وبدأ الإسلام ينتشر تدريجياً في بلاد النوبة وبدأت تظهر مراكز إشعاع إسلامي في ممالك النوبة في عيذاب وبعدها سواكن وفي الجزيرة كترانج واربجي ودنقلا وخاصة بعد تنصيب أول ملك مسلم (عبد الله برشيمو عام 1317م) ، هذا إضافة لتفاعل أبناء النوبة مع العالم الإسلامي في الخارج حيث كانوا يهاجرون طلباً للعمل أو التجارة وعند عودتهم كانوا ينشرون الإسلام في مناطقهم ، هذا فضلاً عن عمليات المصاهرة الواسعة التي تمت بين المسلمين وأبناء النوبة والبجة والزنوج .
الجانب الآخر الذي أسهم في انتشار الإسلام في السودان هو دخول الطرق الصوفية ومما أورده صاحب الطبقات يتضح لنا أن الطرق الصوفية بدأت تدخل قبل وبعد سقوط مملكة علوة المسيحية وفي ظل مملكة الفونج تسارعت وتأثر نموها وتطورها بسبب تشجيع شيوخ وسلاطين الفونج لها وتقديرهم للعلماء والشيوخ حتى تمكنت من السيطرة على الحياة الدينية في عموم البلاد ، وكان تأسيسها قد تم على أيدى المريدين الذين جاءوا للسودان من بلاد الجزيرة العربية ومصر وشمال أفريقيا .
تتفاوت الطرق الصوفية من حيث دخولها للسودان في عهد الفونج ، فهناك طرق صوفية دخلت السودان في القرنين الخامس (قبل قيام دولة الفونج) وفي القرن السادس عشر الميلادي مثل الطرق القادرية التي أسسها الشيخ عبد القادر الجيلاني (1077-1166م) ، ودخلت السودان عام 1545م والطريقة الشاذلية التي أسسها الشاذلي المتوفي (1258م) والتي أدخلها حمد أبي دنانة سنة 1445م ، قبل قيام دولة الفونج .
وهناك الطرق الصوفية التي نشأت في السنوات الأخيرة لدولة الفونج مثل الطريقة الختمية التي أسسها محمد عثمان الميرغني سنة 1793م ، والطريقة الإسماعيلية التي أسسها إسماعيل الولي في كردفان (1793-1863م) ، والطريقة التجانية والتي أدخلها محمد المختار عبد الرحمن الشنقيطي (المتوفي عام 1882م) ، والطريقة السمانية التي أسسها الطيب البشير عام (1800م) .
وهناك الطرق الصوفية التي أنشأت بأثر خارجي مثل الشاذلية والقادرية والسمانية وأستمرت ظاهرياً على الأقل تعمل كفروع للطرق الأم في الخارج ، وهناك الطرق الأخرى التي تم تأسيسها داخل السودان مثل الطريقة المجذوبية التي أسسها أحمد بن المجذوب (1693-1776م) الولي الجعلى في النصف الأول من القرن الثامن عشر ، وللمزيد من التفاصيل يمكن مراجعة كتاب الطبقات لود ضيف الله الذي صنف فيه من الروايات الشفهية عن الذين كان لهم أثر فكري في حياة السودانيين الدينية والثقافية ما بين أعوام (1500-1800م) ، وترجم فيه لحوالى 260 شخصية مرتبة ترتيباً هجائياً ذاكراً لكل منهم نسبه ومولده ووفاته وتعليمه والمتصوفة الذين أخذ عنهم .
والصوفية كما هو معلوم في العالم الإسلامي كانت رد فعل للاتجاهات السنية المتزمته للحكام والملوك الذين كانوا يقهرون الناس باسم الشريعة بدأت بالزهد ثم تطورت إلى علم التصوف ، وبدأت تظهر بوادرها منذ الفتنة الكبرى ، وقيام دولة بني أمية وأتخذت أشكالاً مختلفة في المعارضة ( ).
ومع ضعف وانحطاط وذبول التعليم والثقافة الدينية منذ القرن الخامس عشر نتيجة لتراجع العلوم الفلسفية والاقتصار على العلوم النقلية والركود والجمود السياسي الذي ران على العالم الإسلامي نتيجة للحروب الداخلية التي نشبت هنا وهناك في ربوعه هذا إضافة للاستبداد السياسي وفساد الحكام (*) .
كان ذلك وغيره دفع بعض الناس ليلتمسوا الخلاص في الطرق الصوفية التي أنتشرت كانتشار النار في الهشيم في العالم الإسلامي بل أصبح التعليم فيه يعني أساساً دراسة القرآن والتصوف الإسلامي طوال القرن السابع عشر ومن العالم الإسلامي (الحجاز ، مصر ، شمال أفريقيا) .
جاءت الطرق الصوفية للسودان بحكم تفاعل السودان في تلك الفترة مع العالم الإسلامي والعالم الخارجي ونتيجة لهجرات القبائل العربية للسودان .
ومعلوم أنه كان للسودانيين صلات بالعالم الإسلامي قبل وبعد قيام دولة الفونج وخاصة بلاد الحجاز ومصر ومركزها الديني الأزهر الشريف ، وكان في مكة منازل معروفة برواق السناريين ويقال أن الشيخ عجيب (الملقب بالمانجلك) شيخ العبدلاب كان رجلاً صالحاً متديناً وهو الذي بني بالمدينة المنازل المعروفة برواق السناريين ، بناها بإذن السلطنة العثمانية فجعلها وقفاً للحجاج من أهل سنار ( ).
ونتيجة لهذا التفاعل مع العالم الإسلامي وحركاته الفكرية الإسلامية والصوفية المتنوعة دخلت الطرق الصوفية السودان يتنوعها وألوان طيفها المختلفة ، ولعبت دوراً كبيراً في نشر التعليم والثقافة الإسلامية (أنتشار الخلاوي) ،كما تفاعلت هذه الطرق مع الواقع والموروثات المحلية الأفريقية ، ونتج ما يسمى بالإسلام السوداني الذي من أهم خصوصياته التسامح وسعة الآفق ورحابة الصدر وعدم التزمت والتنوع ،والجمع بين الفقه والتصوف ، تعدد المذاهب (وجود المذهب المالكي والشافعي) وغير ذلك .
نفوذ وتأثير شيوخ الطرق الصوفية :

كانت كلمة الشيوخ نافذة لدى الحكام والجماهير وكان لهؤلاء الصالحين نفوذ كبير في زمن الفونج فما كان يرد لهم طلب إذا ما توسطوا في أمر ومن إستجار بهم فهو أمن من غضب السلطان ( ).
ورد في الطبقات عن حمد بن المجذوب أنه كان كثير الشفاعة عند الملاك والسلاطين ولا ترد له الشفاعة ومن رده ينكب سريعاً ( ).
وجاء عن خوجلي عبد الرحمن أنه كان مهاباً وبلغ من الهيبة حتى قيل أن أكابر العلماء والسلاطين إذا جلسوا بحضرته يكونون كالأطفال هيبة له ( ) .
وكما أشرنا سابقاً أن بعض شيوخ الطرق الصوفية جمعوا بين الغني والثروة (تجارة ، أراضي زراعية) وبين التأثير الديني والروحي مما مكنهم من الإستيلاء على السلطة السياسية في مناطقهم مثل ود حسونة والفقيه الكبير عند المجاذيب .

وكان الشيخ ود عجيب المانجلك (1570 – 1611م) خليفة عبد الله جماع علي مشيخة العبدلاب ، كان يقطع الإقطاعات الواسعة للعلماء والصالحين ويشوقهم إلى الإقامة في مملكته بكل الطرق لينشروا الدين والثقافة الإسلامية ( ).
ومن الطرق الصوفية التي كان لكل منها فروع ونفوذ طريقتان :
الأولي : الطريقة القادرية ولعلها من أوسع الجماعات الدينية في البلاد الإسلامية والتي قامت أصلاً على يد عبد القادر الجيلاني في القرن الثاني عشر ، ثم دخلت أفريقيا الغربية (السودان الغربي) في القرن الخامس عشر ، وفي حوالى 1545م قدم تاج الدين البهاري وأدخل القادرية في السودان ، فوفد عليه أربعة من رجال ذلك العهد هم محمد الأمين عبد الصادق جد الصادقاب ، وبان النقا الضرير جد اليعقوباب ، وكان اسم أكبر أبنائه يعقوب (أو آبا يعقوب) فانتسبوا إليه والشيخ عجيب المانجلك جد العبدلاب ولد دفع الله العركي جد العركيين ، وكان قد أخذ أيضاً على محمد سوار الذهب ، وهؤلاء الأربعة كانت في يدهم السلطة الزمنية والروحية في أيام الفونج( ) .
الثانية : الطريقة الشاذلية وهي منسوبة إلى أبى الحسن الشاذلي (1196-1258م) ، الذي ولد في شاذلة في تونس وأنتشرت طريقته في مراكش في القرن الخامس عشر على يد أبي عبد الله بن سليمان الجزولي مؤلف دلائل الخيرات (*)، ويقال أن أحدى بناته تزوجت من الشريف حمد أبي دنانة الذي نزح إلى السودان ومعه أبنه السيد بن الحسن ، وسكنا في البقعة التي تسمى الآن المحمية ، وذلك في سنة 1445م ، أي قبل عصر الفونج وحينئذ عرف الناس بالطريقة الشاذلية ثم رسخت دعائمها في أيام الفونج على يد الشيخ خوجلي عبد الرحمن المحسي المتوفي 1743م ، وكان أول أمره قادرياً ثم التحق بالشاذلية وتابع السادة الشاذلية في أقوالهم وأفعالهم وتعد طريقتهم إلى حد ما شاذلية متدثرة بالقادرية ومن بعده أشتهر الشيخ حمد بن محمد المجذوب (1693- 1776م) ، إذ أسس بعد عودته من مكة فرعاً للشاذلية في الدامر وسميت طريقته بالمجاذيب ( ).
ومن رجال الصوفية أصحاب النفوذ الشيخ حسن ود حسونة الذي ذكره شقير بأنه أشتهر صلاحه وسكن كركوج وأكثر فيها من المواشي والخيل والعبيد ، وكان مع كثرة غناه يتقشف في أكله ولبسه ويطعم الناس لذيد الأطمعة ( ).
وكان من العلماء أصحاب النفوذ والتأثير إدريس الإرباب في العيلفون الذي كان من رجال الدين الذين اشتهروا بالصلاح والتقوى ، وكان له ولذريته مكانة رفيعة عند ملوك سنار ، وكان إذا طارد ملك أحـد الرعية فلجـأ إلى حماهم راجع الملك عنه ( ).
ومن أصحاب النفوذ أيضاً كان هناك الشيخ أحمد الطيب البشير خليفة الفرع السوداني لطريقة السمانية والذي كان على علاقة قوية مع محمد أبو كليلك الوزير الفونجي مكنته من إمتلاك مساحات واسعة من أراضي الجزيرة ( ).
وكما ذكرنا سابقاً كان سلطان الفونج يقطع رجال الدين والطرق الصوفية الأراضي أو يعفيهم من خراجها ، ففي دولة الفونج أحتفظ الزعيم بمساحة من الأراضي لاستغلالها لمصلحته الخاصة وعرفت هذه بأسم " العمارة " وكان الزعيم أو السلطان السناري فيما بعد يتصرف في جزء من أراضي العمارة عن طريق الهبة الخاصة للفقهاء الروحيين وصارت هذه الهبات نواة للملكيات التي سمح للفقهاء ووارثيهم بالإحتفاظ بها واستغلالها لمصلحتهم( ) .
وهذه الأراضي كما يقول هولت منحت كهدايا وهبات ( )ومثال على ذلك تصدق الشيخ عجيب ود العجيل بأرض كانت للفقيه حمد ود أم مريوم وأعفاه من الخراج الذي كان مفروضاً عليه.
وكان سلاطين الفونج " يعتقدون " كما يعتقد الناس العاديون في صلاح أولياء الله ويهرعون إليهم للمشاورة وقامت العلاقة بين الفقهاء والمتصوفة وملوك الفونج على دعامتين :
الأولي : النفوذ الروحي الذي كان يمارسه المتصوفة على الملوك ، كما كانوا يمارسونه على الرجل العادي .
الثاني: القيام بمصالح المسلمين حيث جعلوا (مسايدهم) ملاذاً للمقتضي والمرقوب (*) والمريض والمظلوم والحائر ومن نفوذهم على أهل السلطان وسيلة لدرء الظلم والحاجة عند المسلمين وجعلوا من التفاف المسلمين حولهم الناجم عن برهم لهم والقيام بأمرهم قوة تضفى على نفوذهم الروحي على أهل السلطان قوة سياسية ( ).
علاقة الدين بالدولة :

من المعلومات السابقة يمكن استخلاص بعض النتائج عن علاقة الدين بالدولة في عهد الفونج :
1. في عهد الفونج نلحظ أن الدين لم يكن مكوناً عضوياً من جهاز الدولة ، كما كان الحال في عهد النوبة المسيحية حيث كان ملكهم قساً في الوقت نفسه ، بمعني أن الدين لم يكن خالصاً في يد الحكام ، وكان للعلماء والمتصوفة استقلالهم النسبي عن الحكام رغم الوشائج المختلفة التي تربطهم بهذا القدر أو ذاك بالسلاطين والشيوخ .
2. لم تتبلور طبقة من رجال الدين مرتبطة نهائياً بجهاز الدولة وتمارس تأثيرها الروحي الذي يخدم مصالح الحكام والدولة ، هذا الدور كان يمارسه الحكام بشكل محدود عبر الفقهاء والأولياء وكسب ودهم عن طريق إقطاع الأراضي لهم أو غير ذلك عن طريقهم يمارسون تأثيرهم على الجماهير .
3. من الجانب الآخر كانت الجماهير تؤثرعلى السلاطين والملوك بواسطة العلماء والمتصوفة بأشكال مختلفة ومتفاوتة لدرء الظلم عنها (الشفاعة) ، وكان هذا منطلقاً من أن السلاطين أنفسهم كانوا يعتقدون في الأولياء .
ونكمل هذه الإستنتاجات بإستعراض التطور التاريخي لعلاقة الدين بالدولة في ممالك السودان القديمة لتوضيح موقع مملكة الفونج في هذا التطور التاريخي .
عرفت مملكة نبته ومروي حكم الملوك الألهة ، أي حكم الكهنة ، حيث كان الكهنة هم الذين يعينون أو يعزلون الملوك ، أي أن الحكم كان دينياً مطلقاً .
- في ممالك النوبة المسيحية ( نوباطيا ، المقرة ، علوة ) حدث تطور عن النظام السابق حيث جمع ملوك النوبة بين وظيفة رجال الدين والملك ، فقد كان ملوك النوبة قساوسة وحكام في الوقت نفسه .
- في دولة الفونج حدث إنفصال بين الدين والدولة بحكم تكوين وطبيعة دولة الفونج نفسها , ورأينا أن ملوك الفونج على مستوي المركز في سنار أو ما ينوب عنهم في قرى والحلفايا لم يكونوا رجال دين أو شيوخ فقد كان الشيوخ مستقلين عن ملوك الفونج .
أي نرى أنه حدث فصل بين السلطة الدينية والزمنية في مملكة الفونج فوظيفة التأثير الديني أصبح يمارسها الشيوخ ، وتحررت الجماهير من عبادة الملوك الآلهة بل كان لهم الحق في عزلهم والانتفاضات والثورات ضدهم في بعض الأحيان .
وهذا هو التطور في علاقة الدين بالدولة أيام الفونج , هذا إضافة إلى أن الفونج أنفسهم ابتدعوا نظاماً تشريعياً أعتمد على الشريعة الإسلامية والعرف ، ولكن الأمور لم تسر بهذا الشكل بطريقة صافية ومطلقة ، فنجد بعض الحالات التي كان يجمع فيها شيوخ الطرق الدينية بين السلطتين الدينية والزمنية في مناطقهم في حالة ضعف قبضة السلطة المركزية مثل بعض شيوخ العبدلاب والمجاذيب في الدامر وحالة حسن ود حسونة .
وهذه حالات خاصة من الحالة العامة التي كانت سائدة أيام الفونج وهي أن دولة الفونج لم تكن دولة دينية مطلقة كان الملوك يحكمون فيها باسم الحق الألهي ، وكان النفوذ الديني والروحي عند رجال وشيوخ الطرق الصوفية .
وهذا هو التطور التاريخي لعلاقة الدين بالدولة كما حدث في سودان وادي النيل نتيجة لتطور التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية ، وهذه هي بذور الحكم المدني في السودان التي تم غرسها أيام الفونج .
حدث هذا في عهد الفونج في اللحظة نفسها التي تحررت فيها أوربا من ظلام العصور الوسطى ودخلت عصر النهضة والثورة الفرنسية والثورة الصناعية التي أدت إلى قيام نظام حكم عثماني تم فيه فصل الدين عن الدولة ، ولكن في كل بلد أخذت العلمانية شكلها الخاص المستمد من تعاليم المسيحية والتقاليد الوطنية لكل بلد ، والعلمانية في أوربا لم تكن تعني إستبعاد الدين ، بل كانت تعني أن كل شئون الحكم هي شئون بشرية يستنبطها الناس من واقعهم وظروفهم ومن معتقداتهم الدينية والفكرية والأخلاقية ، وبالتالي تم إستبعاد فكر الملوك الآلهة أو الدولة الدينية (الثيوقراطية) التي تدعى أنها تحكم نيابة عن الله في الارض .
وإذا جاز إستخدام المصطلح المعاصر , الأفضل استخدام المدنية السودانية بهذا المعني يمكن أن نقول أن سودان وادي النيل عرف بذور الحكم المدني في عهد الفونج أو المرحلة الانتقالية إلى الحكم المدني المستند إلى معتقدات وأعراف الناس .
الطرق الصوفية : النظرية والتنظيم :
الفكرة الرئيسية في قيام الطرق " الأعتقاد بأن الشخص العادى يحتاج إلى هداية شخص لديه قدر خاص من الفضائل الروحية ليكون واسطة بين الله وبينه" ( ).
والطريقة الدينية نظام يجمع قدراً كبيراً من الناس حول سلك واحد ولهذا السلك رئيس يسمى شيخ الطريقة ، ولشيخ الطريقة الهيمنة المطلقة في التنظيم جاء في كتاب الطبقات ، كمثال ، عن حمد ود أم مريوم كان يأمر فيتمثل أمره بغير سلطان ، ويقول فلا يسأل عن دليل ويأتي بالجواب فلا يجسر أحد على مراجعته" ( ).
ويرد في كتاب النفحات الألهية في كيفية سلوك الطريقة المحمدية لمحمد بن عبد الكريم السمان إرشادات لطريقة البيعة ودخول الخلوات ونظافة النفس وفضائل الزهد وأخلاق الصوفي والتمسك بالكتاب والسنة وعن طاعة الشيخ يقول المؤلف عن المريد " ويلتزم على نفسه حرمة الشيخ وجوباً وطاعة أمره فيما أمر به ، وترك ما نهاه عنه مطلقاً وما أمره لا يفعل غيره وأن يدله وعرض أمره عليه فما أقره عليه أقر وما نفره منه نفر ويسأل الشيخ أن يقبله على ذلك بفضله ولا يرى له حقاً ويرى حقاً للشيخ عليه واجباً لأنه إذا كانت كذلك لتقضية هذه المقاصد وأثمرت له هذه التيارات أعمالاً صالحة لله تعالى .
هكذا نرى الهيمنة المطلقة لشيخ الطريقة ووجوب طاعته المطلقة ، والتجمع الصوفي نواته شيخ الطريقة الذي يفد إليه الناس عند سماعهم عن بركاته فيمتلئ بهم محل إقامته ومكان عبادته ويصبح المكان ملاذهم جميعاً .
وكما ذكرنا سابقاً ، من أهم الطرق الصوفية التي كانت ذات نفوذ وأثر أيام الفونج : هما الطريقة القادرية والطريقة الشاذلية ، وكان التنظيم الداخلي لهاتين الطريقتين متشابهاً في قمة الهرم كان يقف الشيخ الذي يحمل بركة وصلاح مؤسس الطريقة ثم الخلفاء المسئولين عن قيادة وجماعة الإتباع والمريدين في مختلف أنحاء الإقاليم وكان هؤلاء الخلفاء يقومون في الغالب ببناء قاعدتهم الخاصة من الإتباع أستناداً إلى سمعتهم ودورهم في أقاليمهم المختلفة ، وقد ينجح بعضهم أحياناً في إنشاء طريقة جديدة تحمل أسماءهم ومع أن شيخ الطريقة هو الذي كان يقوم بتعيين الخلفاء المذكورين إلا أن الوقائع تكشف لنا أن بعض الأسر كانت تحتكر تلك المواقع جيلاً بعد جيل ، وبعد هؤلاء تأتي القيادات الدنيا المسئولة عن إدارة شئون الطريقة في المناطق المختلفة ويطلق عليهم في العادة لقب الشيخ المماثل للقب المقدم في شمال أفريقيا ( ).
أما تنظيم المجاذيب منذ تأسيسه فكان يقوم على أساس تنظيم مركزي قوى ومتماسك فالشيخ حمد بن محمد المجذوب كان يمثل السلطة هذا ، وكان هناك أرتباط قوى بين أسرة المجذوب والطريقة المجذوبية ، والإتباع يسمون أنفسهم بالمجاذيب ، إضافة لإندماج الإتباع من خارج الأسرة من القبيلة وليندمجون في هذا التركيب بسهولة ( ).
بهذا التنظيم المركزي قاوم المجاذيب الغزو التركي عام 1821م ، وشاركوا بنشاط في الثورة المهدية ، من الناحية التنظيمية تختلف الطرق الصوفية مع المؤسسة السنية في تركيزها على إمكانية الوصول المباشر للحق عز وجل ، وفي الطقوس الدينية وفي المصطلحات واللغة التي تمارسها ، ومن خلال المشاركة الجماعية في أداء هذه الطقوس وقراءة الراتب الذي قام بإعداده مؤسس الطريقة وحلقات الذكر الجماعية ، أستطاعت هذه الطرق ضمان تماسكها واستقلال شخصيتها ، وفي البداية كان الإتباع والمريدون يتكونون من مجموعات الدراويش ( ).
الذين وهبوا حياتهم لخدمة الطريقة ومع مرور الزمن أصبح من الممكن قبول أعداد كبيرة من الأفراد العاديين الذين أصبحوا فيما بعد يشكلون الجزء الرئيسي من الأنفار والإتباع ، ومع تطور الرأسمالية التجارية الأساسية بدأت البذور الأولي للأنصهار القبلي في تلك المدن ، وبالتالي أصبحت للطرق الصوفية تنظيمات أوسع تضم أفراداً من قبائل مختلفة ؟ وبهذا المعني لعبت الطرق الصوفية دوراً تقدمياً في مسار التطور الاجتماعي لسودان وادي النيل .
كما أصبح لكل طريقة شلوخها( ) ورموزها وراياتها التي تميزها عن الطرق الأخرى .
ومنذ دولة الفونج كما في العديد من الأقطار الإسلامية أصبحت الطرق الصوفية تشكل محور الحياة الدينية لغالبية السكان .
وإذا أخذنا مثالاً للطرق الصوفية في مصر العثمانية (1517-1805م) ، نلاحظ أن السيادة العثمانية شجعت الارتباط بالطرق الصوفية ومعلوم أن السلطة العثمانية أظهرت كثيراً من العطف على الطرق واغدقت عليها وأن كبار الأمراء المماليك في هذا العصر (مثل على الكبير) أتبعوا أيضاً نفس السياسة فكان إتباع الطرق في مأمن نوعاً من أعتداء العساكر . فأقبل الناس على دخولها وبلغ عددها نحو الثمانين طريقة وكان لكل منها معسكرات قائمة في القرى والإقاليم وقوى نفوذها لدى الوف من الإتباع والمريدين ، أصبح لكل طريقة تنظيمها الهرمي الشبيه بالإداري ، وقد كف مشايخها تقريباً عن التعليم المباشر وفوضوا السلطة لخلفائهم مع إحاطة الوالي بهالة شخصية تجعله وسيطاً بين الإنسان والسماء والمعالم للطرق وقوانينها التي تحكمها وتحدد العقوبة للمذنب وترسم الحدود والمعالم في الحياة الدنيا ولا دخل للدولة في أمرها ، وللفقراء التقاضى أمام شيوخهم بقوانينها الخاصة سائرين في ذلك على ما جرى العرف ( ).
كما تحرر الأولياء من نظم الدولة ، لا يدفعون ضرائب ولا أجر لمن يخدمهم ، بل كانت الدولة تصرف على زواياهم إلى جانب إيرادهم من الأوقاف والنذور .
وكان لمشايخ الصوفية صراعهم من مشايخ الأزهر كما كانت هناك حوادث كثيرة لبعض الشيوخ كانت تعتبر مخالفة للفقه والشرع مثل حوادث الفقراء مع الغلمان والنساء وسائر تمردهم على الدين والعرف والناس يقابلون هذا الاستهتار بالرضا والاغتباط لأن الأولياء في عرف الكثيرين منهم قد سقطت عنهم التكاليف الشرعية ويصف الشيخ الشعراني المرحلة الأخيرة التي أنحـط فيها التصوف الإسلامي بقوله " كان التصوف حالاً فصار كاراً ، وكان إحتساباً فصار إكتساباً ، وكان إستناراً فصار استهتاراً ، وكان إتباعاً للسلف فصار اتباعاً للكلف ، وكان عماره للصدور فصار عماره للغرور ، وكان تعففاً فصار علفاً ، وكان تجريداً فصار تريداً .
وهكذا كانت الطرق الصوفية في العصر العثماني مؤسسه من مؤسسات التكوين المصري ، وقد كثرت من أرباب الطرق إلى احترام التصوف والتحذير من الانكار على أهله ( ).
وعندما دخلت الطرق الصوفية السودان حملت تلك السمات العامة التي كانت موجودة في الامبراطورية العثمانية مع الاختلاف في التفاصيل والخصوصيات التي فرضها الواقع السوداني ، فمثلاً في علاقة القبيلة بالطرق الصوفية نلحظ أن كل شيخ أو مدع للولاية في قبيلة يختلف طريقة أو ينتدع فرعاً مظهراً تميزه ويدعو أهله عصبيته لتأييده ، ومثال لذلك الطريقة القادرية كطريقة لا مركزية أنقسمت إلى عدة فروع بلا زعيم واحد لجميعها ، وكانت فروعها الأساسية في السودان هي : طريقة الشيخ الجعلي (بربر ، شندي) الكباشية (بحري ، أم درمان ، دار الكبابيش) فرع ود حسونة (أبو دليق) ،فرع الشيخ عبيد وأتباعه في منطقة رفاعة ،الشيخ إدريس ودالأرباب في العيلفون،العركيين في الجزيرة ،الشيخ المكاشفي(مدني ، كردفان) ( ).
نخلص من ذلك إلى الأتي :
1. الطرق الصوفية مثلت تنظيماً اجتماعياً متطوراً أرقي وأوسع من تنظيم القبيلة ، مما يعكس بذور تطور التنظيم الاجتماعي والديني في السودان التي بدأت في فترة الفونج ، فالطرق الصوفية لم تكن تنظيمات دينية فحسب ، بل كانت تنظيمات وعلاقات ومصالح اقتصادية وغير ذلك .
2. تفاوتت الطرق الصوفية في السودان وتنوعت من زواية الشكل التنظيمي : فمنها التنظيم الهرمي المركزي ، ومنها التنظيم اللامركزي ، أي أن ظروف السودان وتنوع الحياة فيه تركت بصماتها على تطور التنظيمات الصوفية في السودان .
3. الدور المركزي أو الهيمنة للشيخ في الطريقة من السمات الهامة للتنظيم الصوفي ، وبالتالي فإن التنظيم لا تحكمه قواعد ونظم بل شكل الشيخ محوره الرئيسي .
دور الخلوة (المسيد) في البنية الفوقية لمجتمع الفونج :

كانت مؤسسة الخلوة (المسيد) تلعب دوراً هاماً في البنية الفوقية لمجتمع الفونج ، ويشير ، الطيب محمد الطيب أن حفظ المعرفة وأسبابها تلتقط من مجالات البركة المسيد والخلوة ، فأكثر الأهالى يستودعون كثيراً من أشياءهم الثمينة ، والمهمة في خزانة المسيد ثقة منهم في هذه الأماكن الطاهرة التي يضمخ ساحاتها أريج التلاوة ويظللها الأمن وبالفعل وجدت عند المشايخ وثائق نادرة أهمها وثائق تمليك الأراضي والهبة والصدقة ، والميراث والمهر والبيع والشراء وسير الحرب ووثائق النسب التي يحرصون على حفظها كثيراً ، وهي مخطوطات بها معلومات كثيرة عن حياة أهل السودان وتاريخهم ( ).
وكان شيوخ الخلاوي يلعبون دوراً هاماً في حفظ التوازن الاجتماعي في مجتمع القرية ، حيث تتجمع عندهم فوائض من الإنتاج الزراعي والحيواني والنقدي ، (ذرة ، ماشية ، ملابس ، نقود) ويقومون بتوزيعها على الفقراء والمحتاجين ، وتوفير الطعام والكساء والمأوى للسائلين والمحرومين .
ومعلوم أن الأديرة في القرون الوسطي كانت تلعب وظيفة البنوك ، وكذلك الكعبة في مكة قبل الإسلام كان الناس يحفظون فيها ممتلكاتهم النادرة وأموالهم ، وكذلك كانت الخلوة في مجتمع الفونج .
ويمكن أن نلخص الوظائف التي كانت الخلاوي تقوم بها في مجتمع الفونج في الأتي :
1. مكان لتدريس القرآن والفقه والتصوف .
2. مكان لاستقبال الضيوف في القرى والمنازل .
3. مكان لعلاج المرضى وخاصة المرضى النفسانيين .
4. تعالج فيها قضايا الأحوال الشخصية ، عقود الزواج توثيق ملكية الأرض .
5. مكان لحفظ الأموال والبضائع والوثائق النادرة .
6. مكان يلجأ إليه المظلوم والمرقوب وطالب الحاجة .
7. منتدى للأنس ونشر الوعي وممارسة التعبير عن مجمل الإدارة والرأي العام الشعبي لسكان المنطقة في ما يواجهه المجتمع في نشاطه كمجتمع حى متحـرك ( ) .
وكانت لها أراضي معفية من الضرائب .
وكما يقوم مجموع السكان في المقابل بتغطية التزاماتها المادية والتزامات القائمين بأمرها .
ويفصل لنا أحمد المعتصم الشيخ الموارد المتاحة للخلوة في المجتمع التقليدي على النحو التالي :-
- كل ساقية مزروعة تفرد نصيباً من ناتجها للخلوة .
- نصيب الخلوة من الزراعة النهائية (نخيل) نخلة أو نخلتين في كل حوش من النخل ، ويذهب محصولها للخلوة (الحوش عدد من النخيل) محصول نقدي .
- عمل غير مدفوع الأجر من البصير والحداد والنجار .
- هدايا من صانعي البروش والاباريق وصاحب المركب ، هدايا معروفة القدر أو خدمات مطلوبة .
- الهبات ، الصدقات ، الزكوات .
- البدو ، حيوانات ، دهن ، سمن ، لبن .
وهي مواد تأتيها طوعاً دون أي قدر من الإكراه سوى العرف الاجتماعي وضوابطه ( ).

ثانياً : 1- الكرامات :
2- الصراع بين المتصوفة والفقهاء :
1- الكرامات :

الكرامات والبركات هي القدرة على أداء أعمال خارقة عن المألوف ومستمدة من العناية الآلهية المقدسة لتحقيق الرخاء في الحياة المادية والسعادة بالنسبة للحياة الروحية والكرامات أو البركة قابلة لأن تورث جيلاً بعد جيل وادعاؤها يتصل اتصالاً وثيقاً بادعاء أن يكون المرء شريفاً ، أي ينحدر من سلالة النبي (ص) ومن ثم يستقي على الاتيان بالكرامات .
وعلى هذا ليس أمراً حكيماً أو أمراً يمكن للمرء أن يضيفه على نفسه أو مظهره قسراً ، بل يتصل اتصالاً وثيقاً بأداء رسالة معينة ، بل هي في واقع الأمر ركن من أركان الهيكل الاجتماعي لتبرير وفهم دور معين في المجتمع الإسلامي التقليدي( ) .
أورد صاحب الطبقات كرامات كثيرة لبعض الأولياء الصالحين والكرامات هنا تعالج في سياقها التاريخي وحسب البيئة التي نبتت فيها ، التي كانت تتسم بتخلف قوى الإنتاج وتخلف الخدمات الصحية والتعليم وبساطة الحياة العقلية والفلسفية والعلمية ، هذا إضافة إلى عجز الإنسان أمام الكوارث الكثيرة التي كانت تلم به ، وخاصة ظروف شح الأمطار وعدم فيضان النيل وإنعكاس ذلك على الزراعة والرعى الذين كانا يشكلان المصدرين الأساسين لمعيشة إنسان الفونج .
هذا إضافة للأمراض والأوبئة التي كانت تجتاح المجتمع في تلك الظروف مثل الجدرى والحمي الصفراء وعدم قدرة الإنسان على مواجهة تلك الكوارث .
وفي مثل هذه الظروف وتلك البيئة تنبت الخرافات والأساطير كما تنبت الإعشاب البرية والفطريات بعد الأمطار ومن الأمثلة لتلك الكرامات التي أوردها صاحب الطبقات .
أ‌. أن الشيخ إدريس بن الأرباب " ينزل عليه الفيض الألهي والعلم الرباني فيتكلم في علوم الأولين والآخرين والأمم الماضية من غير النظر في كتاب فكثر محبوه وتلاميذه من الشرق ومن غرب كسلا وقبائل جهينة الذين كانوا يأتونه ومعهم هدايا من القماش والعسل والرقيق " أبل " .
ب‌. جاء أيضاً عن الشيخ النور الرياش أن شيخه إسماعيل صاحب الربابة ابن الشيخ مكي الدقلاش " أول ما تقوم عليه الحالة يمشي في حوشه ويحضر البنات والعرائس والعرسان للرقص ويضرب الربابة كل ضربة لها نغمة يفيق منها المجنون ، وتذهل منها العقول ، وتطرب لها الحيوانات والجمادات حتى أن الربابة يضعونها في الشمس أول ما تسمع صوته تضرب على نغمته من غير أن يضربها أحد .
ج‌. جاء أيضاً في الطبقات " أن الشيخ دفع الله كان يقرأ في مجلس الظهر فلما سأل الجالسين عما فهموا قال أحمد بن الشيخ الطريفي " لم نفهم فسأل الشيخ من هذا لم يفهم فخرج نور من قدم الشيخ إلى عرش المسجد ووقع فوق أحمد فوقع مغشياً عليه فرقد أياماً فلما أيقظه الشيخ قال له أن عليك يا أحمد أن تسلك طريق الصالحين .
د‌. جاء أيضاً في الطبقات " أنه كان من كرامات بأن النقا ولد الشيخ عبد الرازق الأغر المحجل أنه الرضاع لم يرضع في رمضان إلا ليلاً ومنها أنه لما بلغ تسع سنين أرادت أمه أن تمسح رجليه ليلاً بدهن فوجدت في أحدى رجليه طيناً وماءاً والأخرى يابسة وهو مضجع على عنقريب فسألته عن ذلك فقال لها : خالي غرفت به المركب في الجزيرة أم سـعد فأنقذته برجلي حين طلب الإغاثة .
ه‌. ورد ايضاً انه كان الشيخ جاد الله في أم مريوم مؤمناً قوياً بني لشيخه بيتاً بالحجارة الثقيلة لا يقدر على حملها عشرة وكان العاملون معه يحملون إلى سقف البيت ، وقالوا : كان يقع هو والحجر من السقف ما يحصل له ضرر " .
و‌. أما الشيخ حسن ود حسونة بن الحاج موسي القادم من الاندلس فقد قيل أنه اختلي للعبادة في بلده (باعوضة) وجاءه الرسول وهو يحى الذكر وحده وكان معه على ابن ابي طالب فلقنه الرسول الذكر ثم ذكر أنه بينما كان في الخلوة راقداً رأي نجمة كبيرة في السماء فتعلقت بها روحه وخرجت من جسمه وطارت فخرقت السموات السبع فسمع صرير الأقلام ثم قال الرسول له " لو كان يا كوفي بعد محمد نبي لتنبأت " .
ز‌. ما تردد عن الشيخ حسن ود حسونة أنه كان يشفى المرضى ويحي الموتي ، وإذا رفع يده في الهواء أمتلات بالدنانير .
ح‌. ويذكر صاحب الطبقات ان الشيخ ولد زروق وهو من الصالحين كان قد طبخت له زوجته دجاجة دون أن تزيل ريشها فبعد طبخها أمرها الشيخ بقوله " قومي بإذن الله فقامت واحياها الله " .
ط‌. ويذكر أيضاً أن الشيخ حمد بن حسن أبو حليمة ، قد رمى أخته بحفنة من التراب فأخذها منه وانتفع الناس بترابه حياً وميتاً .
ي‌. جاء أيضاً أن الشيخ حسن ود بليل الركابي (دنقلا العفاط) كان مجذوباً غرقاناً فإذا قامت عليه الحالة يغطس في النهر أياماً وأنه عندما أصبح ماء النهر في دنقلا في أحد الأيام دافياً (دافئاً) فسأله الناس عن سبب دفئه الشيخ عووضة شكال القادح فبلغهم بأن ولد بليل قامت عليه الحالة فغطس في البحر ( النهر) كالأرض .
أ‌. أما الشيخ خوجلي بن عبد الرحمن بن إبراهيم من قبائل المحس فقد قيل أنه ضاق الناس في منطقة سواقي المحس في توتي بسبب قلة الماء وضيق العيش جاء الشيخ خوجلي فوضع عصاه في البحر وقرأ حزب البحر " فبوقته هاج البحر وذهبت تلك الجزيرة وملأ البحر السواقي " .
من الأمثلة اعلاه لتلك الكرامات يمكن أن نخلص للتحليل الأتي :
1. تساءل الكثيرون من المتعلمين عندما حقق د. يوسف فضل كتاب الطبقات وتم نشره لماذا نشر ذلك الكتاب الذي يحتوى الكثير من الخرافات والأساطير ؟!.
ولكن في تقديري أن السؤال كان خاطئاً لأنه جاء من مقارنة الحياة المعاصرة مع الحياة التي كانت سائدة أيام الفونج . حيث أنه مع تطور القوى المنتجة والتعليم الحديث والطب والصحة وتطور العلوم الطبيعية والبيولوجية والدينية الصحيحة قلت الخرافات والكرامات وأصبح نطاقها محدوداً بعد أن كانت سمة أساسية من سمات البنية الفوقية لمجتمع الفونج .
وفي تقديرنا أن ود ضيف الله كان مؤرخاً صادقاً لأنه عكس لنا بصدق صورة الحياة الفكرية والعقلية لإنسان الفونج كما هي ، وبالتالي أعطانا صورة صادقة ودقيقة عن حياة إنسان الفونج المادية والروحية .
وبالتالي عندما نعالج الكرامات نأخذها في سياقها التاريخي وكجزء من البنية الفوقية لتشكيلة الفونج التي أنبثق وتطورت من تشكيلة النوبة السابقة ... وبالتالي حملت سمات وموروثات تلك التشكيلة من تقاليد وعادات وبني فوقية ، هذا إضافة للوافد الذي كان سائداً في العالم الإسلامي خلال فترة الجمود والانحطاط في المجتمعات الإسلامية مما أدي إلى قيام حركات كثيرة حاولت تجديد الإسلام والفكر الإسلامي ( طرق صوفية جديدة ، مدارس فكرية جديدة ) بهدف كسر وتجاوز ذلك الجمود .
إذن الحياة الفكرية والعقلية لإنسان الفونج لا نعزلها عن الموروثات المحلية ، كما لا نعزلها عن الحالة العامة التي كانت سائدة في العالم الإسلامي يؤمئذ ، والتي وفدت منه المدارس الفكرية والدينية والصوفية منذ القرن الخامس عشر .
2. إذا تأملنا في الأمثلة السابقة لتلك الكرامات نجد أن أغلبها كان مستمداً بشكل من الأشكال من حياة إنسان الفونج نفسها وتعكس الأمثلة الجوانب التالية :
أ‌. انتشار ورسوخ الاعتقادات في الشيوخ والأولياء الصالحين وبالتالي جاءت بعض الأمثلة لترسيخ ذلك الاعتقاد كمثال الشيخ إدريس ود الارباب ، وإسماعيل صاحب الربابة ، ومثال الشيخ دفع الله مع أحمد بن الشيخ عبد الله الطريفي ، الذي رد على سؤال الشيخ دفع الله بعدم الفهم ويوضح ذلك كيف تمت معالجة سؤال الطريفي بدلاً من التوضيح والشرح ، مما يشير إلى خطورة معارضة ونقد المريد للشيخ الذي يجب الاعتقاد المطلق فيما يقول بدون نقد أو سؤال أو جدل ، وهذا يعكس خمول الحياة العقلية في مجتمع الفونج .
ب‌. رغبة إنسان الفونج في تخطى الأخطار والكوارث الطبيعية في مجتمع نيلي يستخدم المراكب في النقل النهري وما يمكن أن ينتج عن ذلك ومن مخاطر غرق المراكب وهلاك ما في تلك الفلك من ناس وحيوانات وبضائع ، كما يتضح من كرامة الشيخ بان النقا ولد الشيخ عبد الرازق .
ج‌. رغبة الإنسان في الشفاء من الأمراض الفتاكة التي كانت تعصف بإنسان الفونج وكذلك نجد من بعض كرامات الشيوخ مثل الشيخ حسن ود حسونة أنه كان يشفى المرضي ويحي الموتي .
د‌. كما كانت تعكس رغبة إنسان الفونج القاطن على شؤاطي النيل في استمرارية فيضان النيل ، الذي يشكل ينبوع حياته واستمرار زراعته ومعيشته ومثال ذلك الشيخ خوجلي بن عبد الرحمن الذي هاج البحر (النهر) وملأ البحر بعد أن كانت المياه شحيحة في السواقي بتوتي .
هكذا نجد أن تلك الكرامات هي نتاج حياة وبيئة أنسان الفونج وتعكس رغبة الإنسان في تجاوز تلك البيئة التي كانت محفوفة بالمخاطر عن طريق قدرات الشيوخ الخارقة . ليس ذلك فحسب ، بل الرغبة في التأثير عليها وتخطيها نحو الأفضل والأحسن ، فالأفكار والخرافات ليست نتاج البيئة فقط ، بل هي رغبات الإنسان وأحلامه في تغيير وتبديل تلك البيئة وتلك الحياة ، أنها تعبر عن جدل الفكر مع الواقع ، الأفكار والأحلام هي نتاج الواقع ولكنها أيضاً تؤثر في الواقع وتعمل على تغييره ، وهكذا بهذا المنهج نفهم الكرامات كجزء من البنية الفوقية لمجتمع الفونج ، هذا فضلاً عن أننا لسنا بصدد مناقشة نظرية المعرفة في علم التصوف الإسلامي التي أسهم في صياغتها أقطاب السادة الصوفية من أمثال الحلاج ، السهروردي المقتول ، وابو يزيد البسطامي ، ومحي الدين بن عربي ، وذو النون المصري وغيرهم ، الذين طرحوا نظرية معرفية قلبية حدسية تقول بامكانية المشاهدة والمكاشفة المباشرة بعد سلوك طريق طويل ومعقد في الممارسة والزهد والمجاهدة وتنظيف النفس ، وأن أولياء الله الصالحين تتحقق لهم كرامات ، وغير ذلك من الطرق والمناهج والمسالك التي تفضى إلى ذلك ، ولسنا هنا بصدد تأكيد أو نفي أو مناقشة نظرية المعرفة عند السادة الصوفية ، ولكننا كنا بصدد مناقشة الكرامات وعلاقتها بمستوى تطور المجتمع أيام الفونج .

2- الصراع بين المتصوفة والفقهاء :

معلوم أن العلم عند الصوفية انقسم إلى ظاهر وباطن ، وأن الصوفية هم أهل الباطن والحقائق وأن الفقهاء هم أهل ظواهر وأرباب ورسوم وكان بين الفريقين خصومة مستمرة ، فقد قال الصوفية بالمعرفة الباطنة الحاصلة عن طريق القلب في حين نقول النصوص الدينية بالمعرفة الأتية عن طريق الاستبصار ، وأحتكم الصوفية إلى الضمير وما يوجبه من حكم على هذا الفعل بأنه شرح حين أن شريعة القرآن تقوم الناس وأفعالهم بحسب الظاهر وتعاقب المسئ على إساءته وتثيب المحسن على إحسانه ( ).
أما في السودان فقد تمثل ذلك أو بعضه في تاريخ الطرق الصوفية ورجالها ، فنلاحظ أولاً تلك الخصومة بين الفقهاء والصوفية ولكنها كانت أخف على الأقل في أيام الفونج ، مما كان واقعاً في الأقطار الأخرى ، وذلك لأسباب كثيرة منها الدخول علوم التصوف والفقه في وقت واحد في بداية أنتشار الإسلام ، هذا إضافة إلى أن الكثير من قيادات الطرق الصوفية جمع بين علم التصوف والفقه وهذه واحدة من خصوصيات دخول الإسلام في السودان .
هذا إضافة لأنتشار المذهبين المالكي والشافعي في السودان ، ورغم أن المذهب المالكي كان موجوداً في شرق السودان (سواكن) وفي بربر ، مما يعكس تعدد المذاهب وتعدد الطرق الصوفية والدينية ويعكس الجمع بين التصوف والفقه أيضاً في بعض الأحيان هذا فضلاً عن أن موروثات وتقاليد السودان تركت أثرها وبصماتها على التصوف في السودان ، وبهذا الشكل المتنوع والمتباين والمتفاوت أنتشر الإسلام في السودان .
وكان النزاع بين الصوفية والفقهاء ، في ذلك العهد قليل الوقوع لأن سلطة رجال الطرق كانت كما رأينا قوية ومسيطرة ، ولأن الصوفي كان في أكثر الأحيان فقيهاً بمعني أن معظم ذلك العهد كانوا يجمعون بين الثقافتين الصوفية والعلمية لذلك قلما نجد في كتاب الطبقات أمثلة لهذا النزاع حتى إذا حدث نزاع يتم الانتصار في النهاية للصوفي على الفقيه ، كما حدث في قضية النزاع بين القاضي دشين الشافعي وبين الصوفي الشيخ محمد الهميم المشهور فيروى أن الهميم في ساعة من ساعات الجذب الألهي زاد في نكاحه من النساء على المقدار الشرعي وهو أربع وجمع بين الأختين ، فتزوج بنتي أبي ندودة في رفاعة وجمع بين بنتي الشيخ بان النقا الضريـر ( كلتوم وخادم الله ) فأنكر عليه القاضي دشين ، وقال له خمست وسدست وسبعت ! أما أفسخ نكاحك لأنك خالفت كتاب الله وسنة الرسول (ص) قال له " الرسول إذن لي والشيخ إدريس يعلم " وكان الشيخ حاضراً فقال لدشين أترك أمره وخل ما بينه وبين ربه فقال دشين : لا أترك أمره وقد فسخت نكاحه " فقال الشيخ الهميم لدشين : فسخ الله جلدك ، فقال أن الشيخ دشين مرض مرضاً شديداً حتى أفسخ جلده وهكذا أنتصر الصوفي على الفقيه.
ويلاحظ د. عبد المجيد عابدين " الانحياز الظاهر إلى جانب العلمي من الصوفية ، فكانت الثقافة الصوفية أو الجانب النظري منها قليلة محدوة كان انتشار الصوفية بين أفراد هذه الطرق محدوداً في ذلك ( ).
نود هنا أن نعالج هذا الموضوع من زواية الأخرى وفي سياق التطور التاريخي لتشكيلة الفونج الاجتماعي .
في بحث سابق عن تشكيلة النوبة أشرنا إلى أن تشكيلة النوبة عرفت نظام الأمومة الناتج عن الفوضي في العلاقات الجنسية بين الرجل والمرأة ، وكما أشار صاحب الطبقات ، كان الرجل يطلق المرأة ليتزوجها غيره في نفس النهار ، ولما أنتشر الإسلام في بلاد النوبة حدث تطور اجتماعي في علاقة الرجل بالمرأة ، وتم تنظيم العلاقات بين الرجل والمرأة حسب الشريعة الإسلامية : زواج الرجل بأربع ، تحريم الجمع بين الأختين ، تحريم العلاقة مع الأمهات والأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت والأمهات من الرضاع وأمهات الزوجات والربائب ( ).
تلك العلائق التي كانت سائدة في المجتمع العربي قبل ظهور الإسلام والتي عرفت تلك الفوضي في العلاقات الجنسية ، ذلك أن القبائل العربية قبل الإسلام نفسها عرفت نظام الأمومة . وبالتالي أن الإسلام شكل خطوة اجتماعية تقديمية في تطور علاقة الرجل بالمرأة عما كان عليه الحال أيام تشكيلة النوبة .
ومن المعلوم أن هذا التطور في كل المجتمعات البشرية شق طريقه بأشكال متفاوتة في أتجاه تنظيم الزواج الذي شكل خطوة راقية في تطور علاقة الرجل بالمرأة .
وعندما كان الفقهاء الأوائل من المسلمين أيام الفونج وفي ذلك الخضم المتلاطم من فوضي العلائق الجنسية بين المرأة والرجل يصارعون من أجل بسط قيم الإسلام الجديدة ، كانت تشكيلة الفونج تعيش في مرحلة أنتقالية طويلة تتعايش فيها المزيج من العلائق القديمة الممتدة من القرون على وادي النيل وشأنها شأن كل بنية فوقية لا تزول بين يوم وليلة وإنما تظل مستمرة كجزء من بنية فوقية لتشكيلة سابقة داخل التشكيلة الجديدة لفترة طويلة .
وصراع القاضي دشين كان يمثل القيم الجديدة التي جاءت بها الشريعة الإسلامية (تحريم الزواج بأكثر من أربع وتحريم الجمع بين الأختين) والشيخ الهميم مثل القيم القديمة ووجودها وعدم استنكار الناس لها لأنها كانت جزءاً من تقاليدهم وعاداتهم هذا إضافة لإعتقاد الناس في الأولياء الصالحين الذين ترفع عنهم التكاليف الشرعية .
فانتصار الهميم كان انتصاراً للقيم القديمة التي رغم ظهور الإسلام كانت ما زالت راسخة وهزيمة للقيم الجديدة التي رغم أنها كانت تقدمية ومتطورة إلا أنها كانت ضعيفة ولم تكتسب الهيمنة الكاملة بعد ، وهذه سمة من سمات الصراع بين القديم والجديد في المجتمعات والتشكيلات الاقتصادية الاجتماعية .
دور الشيخ ( أو الفكي ) في الحياة الاجتماعية :
إن أفضل وصف لدور الفكي في الحياة الاجتماعية أيام الفونج قدمه دلتور (Delauture) في القرن التاسع عشر والذي جاء فيه " أن طبقة الفقراء تنتشر في قرى السودان وهم فقراء الحال ، متواضعون يستمدون قوتهم من ثقة الناس فيهم ، كثير منهم أدي فريضة الحج ، وكلهم يعرفون القراءة ويقرأون القرآن ومنهم من يحفظه عن ظهر قلب ، وكل قرية لها فكي يعلم الصبيان القراءة والكتابة ويتصدر حفلات الزواج والمآتم ويقوم بمهمة القاضى في فض المنازعات اليسيرة ، وهو فوق ذلك صاحب عزائم يصرف الأرواح الشريرة منهم وهو يكتسب بهذه الصفة ، وهذه الصفة لا تلحق أذى بالغير وكثيراً ما تؤثر في نفسية المرء تأثيراً حسناً ، والفكي لا يغش أحداً إذ يعتقد مخلصاً أن هذه الخمائل " التعاويذ " لها تأثيرها كما يعتقد الآخرون تماماً ، وهو بعد لا يقصر في عمله على ذلك بل يعالج أحياناً باستخدام الأعشاب العقاقير التي عرقت فائدتها بالتجربة الطويلة وبما تلقاه من روايات القدامي ( ).
من ذلك الوصف الدقيق يتضح لنا الدور الذي كان الفكي يقوم به في الحياة الاجتماعية أيام الفونج فهو :
أ‌. يعالج المرضى بالأعشاب والعقاقير ويطرد الأرواح الشريرة ( أي يمارس الطب النفسي أيضاً ) .
ب‌. يقوم بدور القاضى إذ يفصل في المنازعات الصغيرة .
ج‌. يتصدر حفلات الزواج والمآتم .
أ‌. يعلم الصبيان القراءة والكتابة .
أي أن الفكي كما لاحظ كثير من الباحثين كان يقوم بدور القاضى أو المحامي أحياناً (الشفاعة لدى الحكام والدفاع عن المظلومين) والطبيب ، والمعلم والطبيب النفسي ودور المأذون .
أي أن هذه الشريحة الاجتماعية كانت تمثل مثقفي فترة الفونج ، أستمر هذا الدور خلال فترة الحكم التركي وبدأ يقل مع تطور وظهور التعليم والمجتمع المدني الحديث .
وصفوة القول ، أن الفكي كان يمثل المثقف في مجتمع الفونج ، ولكن لم يكن بالمعني المهني الضيق ، بل بالمعني الواسع ، إذ نجد أن الفكي في مجتمع الفونج كان متنوع المهارات ، أي مثقف متعدد القدرات والمواهب والوظائف الاجتماعية .












ثالثاً : نظام القضاء :

في كتاب الطبقات رأينا كيف أن أحكام القضاء والتشريعات كانت تستند إلى الشريعة الإسلامية والأعراف المحلية .
وفي كتابه " تطور نظام القضاء في السودان 1959م " أشار الشيخ حسين سيد أحمد المفتي إلى أن أحكام القضاء في السودان أيام السلطنة الزرقاء كانت تشريعات مستمدة من الشريعة الإسلامية والأعراف المحلية السائدة ، وأجتهد فقهاء تلك الحقبة في معالجة القضايا الجديدة التي برزت أيام الفونج لإستنباط أحكام لها من الشريعة والأعراف المحلية .
وقد سعى ملوك الفونج جهدهم في تطبيق تعاليم الشريعة الإسلامية في جمع الزكاة والفطرة والعشور .
يقول شقير " كان ملوك الفونج يجمعون الزكاة والفطرة والعشور على نحو ما يفرضه الشرع الإسلامي وكثير من أهالي الجزيرة يملكون الأرض بحجج من أيام الفونج ( ).
وكان لعلماء وشيوخ الفونج أحياناً حق التنفيذ الحدود الشرعية على الناس مثل ذلك ما أورده صاحب الطبقات عن الشيخ حمد المشيخي الذي جاءته أمرأة تشكوى أمرأة أخرى قالت لها يا فاجرة فأمر الشيخ حمد بإقامة حد القذف عليها ثمانين جلدة وكذلك كان يفعل في أهل بيته .
أي أن بعض الشيوخ جمعوا بين وظيفة القضاء ووظيفتهم الدينية الأخرى ، أي جاز التعبير ينطبق عليه وصف الشيخ القاضى في أن واحد .
وتشدد الشيخ إدريس حين تولى مشيخة العبدلاب في معاقبة السارق فكان يعاقب بالقتل ( وهذا مخالف للشريعة فعقوبة السرقة في الشريعة هو معروف حد السرقة ) .
كما استطاع حكام الفونج مع الفقهاء إستنباط قوانين متطورة لإثبات حقوق ملكية الأرض مثلاً من الشريعة الإسلامية والأعراف المحلية .
كما أستنبط حكام وفقهاء الفونج قوانين للضرائب مستمدة من الشريعة والأعراف المحلية ، كما وضحها د. أبو سليم في كتابه الفونج والأرض .
كما تم تنظيم الأحوال الشخصية وفقاً للشريعة الإسلامية مثال تعليم الناس العدة بعد الطلاق ، قبل أن يتزوج المرأة المطلقة آخر ، كما تم تنظيم الوراثة من جهة الأباء حسب الشريعة الإسلامية عكس ما كان سائداً في تشكيلة النوبة .
ومن عادات وأعراف الجعليين كما ذكر شقير " أنه كان من عادة الجعليين أيام الفونج أنه إذا وقع قتل في بلده أجتمع سبع قبائل منهم بمشايخهم ومعهم القاتل وأهل المقتول ووقف أهل القاتل في صف وأهل المقتول في صف تجاههم على بعد مائة متر عنهم ووقف القاتل وحده بين الصفين ثم ينظر المشايخ والفقهاء في أسباب القتل ويحكمون على القاتل بالعفو أو القصاص ، فإن كان العفو حكموا عليه بالرحيل من البلدة حتى لا يراه أهل المقتول وحكموا على أهله بدفع الدية وهي ألف ثوب من الدمور أو 300 إلى 400 ريال " أبو نقطة " يدفعها لأهـل المقتول أقسـاطاً وربما دامت سنين ( ).
من العادات والتقاليد والأعراف داخل البلاط السناري كان قتل السلطان الجديد لأخوته حسب طقوس محددة ، وكذلك الطقوس الخاصة باختيار الشيوخ والملوك ، كما كان الحال عند العبدلاب والفونج ، وتلك الأعراف والتقاليد أصبحت من أحكام وقوانين تعيين الشيوخ والملوك .
كما عالج فقهاء الفونج قضايا جديدة وأستنبطوا لها أحكاماً مثل تعاطي التنباك وتدخين التبغ وعما إذا كان تعاطيها حلالاً أم حراماً .
وعن نظام القضاء والأحكام والاستئناف يقول د. أبو سليم " كان القضاء في أغلبه قضاءاً تطوعياً يجلس فيه الرجل للقضاء متطوعاً في سبيل خدمة المجتمع برضاء الناس لا بتقليد سلطان أو حاكم وبتسليمهم بعلمه ، كان ذلك عرفاً أو شريعة ولكل منهما كان قاضيه وبقبولهم لعدالته وقوة ما يصدر عن قاضى من القضاء كان في قبول المتقاضين بما يقضى به واقتناعهم بحكمه لأن محكمته لا يسندها سلطان أو حاكم ، ولأن المتقاضى كان حقه أن يعرض دعواه على قاضى آخر أو لدى قضاء السلطنة وكان القضاة لوجه هذا الإقتناع يعرضون ما يقضون به في الحالات المعقدة على غيرهم من القضاة . ويواصل د. أبو سليم ويقول :
وبين أيدينا الآن وثائق كثيرة من وثائق التقاضى في هذا العهد عرضها القضاء على غيرهم من القضاة وحصلوا منهم على توقيعات تسنده ما أصدروه من أحكام .
وإذا شذ شخص أو أمتنع طرف وآبي الخضوع لما أتي به الطرف فإن المجتمع يملك الردع المعنوي والمادي والذي يتيح له أن ينفذ إرادته فيه كان يسقط حق المشاركة له في الأفراح والأتراح أو تقديم العون عندما تقع كوارث الطبيعة كالحرائق أو سحب مظلة الحماية ضد اللصوص أو عدم المشاركة في مال الدية ، عرف السودانيون إذن العرف والشريعة ففي عهد الفونج مثلاً تعهد ثلاثة أنماط من الحكم هي حكم الشرع الذي يصدره قضاة الشريعة حسب أحكام الشريعة وهي سميت الوثيقة التي تتضمن هذا الحكم بالوثيقة الشرعية ،كما سمى نفسه بالحكم الشرعي ، ثم حكم العرف الذي يصدر حسبما يرى كبار الزراع والرعاة وأهل الجبرة وأهل المعرفة والدراية حسب العرف السائد في البلد وغالباً ما كان ذلك في حقوق الدروب والمشاريع وحدود الأرض وما يؤخذ منها .
والوثيقة التي تسجل مثل هذا الحكم تسمى وثيقة عرفية والحكم نفسه يسمى حكم العرف أو حكم العامة ، وهناك حكم السلاطين وهو إرادة منه في عطاء أو أخذ أو إجراء يجريه وهذه الإرادة وقد تستند إلى العرف أو الشريعة ،والوثيقة لهذه الإرادة تسمى وثيقة سلطانية .
وإذا ما أرتبط الوجهان الشرعي والعرفي في أمر أو حالة إستعان القاضى أو الحكم لبيان الوجه الشرعي بأهل الدراية والمعرفة لبيان الوجه العرفي ووجه العدالة يصدر الحكم ( ).
ويقول حسين سيد أحمد المفتي أن الفونج "عرفوا ما تسمى بالشريعة البيضاء " وتنحصر في القرى والبوادى فإذا حدث نزاع بين المواطنين يمكن أن يذهبوا باختيارهم إلى أحد العلماء المقيمين معهم بالقرية أو المسافرين معهم في البادية فيقتضى هذا العالم بينهم بالشريعة الإسلامية ، فإذا عارض معارض في الحكم ، ففي هذه الحالة يكتب العالم حكمه في ورقة يرسلها مع المعارض إلى قاضى المملكة أو المشيخة للنظر ، وإذا وجد القاضى الحكم ، مطابقاً لأحكام الشريعة فإنه يجيزه ( ).
ويواصل شيخ المفتي ويقول " وسمى هذا القضاء بالشريعة البيضاء لسهولة المخاصمة في مجلسها إذ يجد الخصم المجال واسعاً للكلام في جوهر القضية أو غيره ، كما له أن يقف أو يجلس أثناء المقاضاة كذلك أن يرفع صوته في الكلام وأن يحلف بالطلاق مراراً وتكراراً وأن يحلف بوالده وبأبنائه وبكل عزيز عنده وأن يحلف بالأولياء والأحياء والأضرحة أو الأموات مؤيداً حجته ( ).
ومن الأمثلة للأحكام العرفية التي أشار إليها مولانا شيخ المفتي في القرى والبوادي بشمال وغرب السودان هي :
- كل من يزني بمتزوجة يحاكم بغرامة قدرها ست بقرات وبغير المتزوجة بقرة واحدة .
- حرمان النساء من الأرث .
- جزاء القاتل الدية وهي مائة من البقر أو مائة من البعير .
- الغرامة في حالة الإعتداء الجسيم أو الشتيمة الفظيعة هي ثوب من الدمور .
وعن نظام القضاء عند العبدلاب يقول محمد صالح محي الدين أن مشيخة العبدلاب وضعت أساس استقلال القضاة في السودان التي كان القضاء فيها يقوم على الشريعة الإسلامية ، وكان القضاء يضطلع بعبء الفصل في القضايا المدنية والجنائية والشخصية ومن ثم وجب أن يتوفر فيه الدراية والفطنة والإحاطة بالشريعة الإسلامية وعن مؤهلات القاضى ومذهبه في الحكم يقول محي الدين " أن يكون حافظاً للقرآن الكريم ، عارضاً لأحكامه ، مجوداً له ، أن يكون قد ألم بطرف غير كثير من علم الكلام ، أي التوحيد ، أن يكون على دراية بعلوم العربية وفي مقدمتها النحو ، وأن يسلك طريقاً صوفياً وهو في الأغلب الطريقة القادرية ومشتقاتها ، وأن يكون متبحراً في علوم الفقه ويطلب أن تكون دراسته قائمة على مذهب الأمام مالك إذ هو السائد في السودان منذئذ وإلى اليوم ، ومن الكتب التي كان يتردد أسمها كثيراً في تراجم رسالة القضاء ابن أبي يزيد القيرواني ، ومختصر الشيخ خليل بن إسحاق وكلاهما في مذهب الأمام مالك ، كما ترد في أثناء نظـر القضايا إشـارات واضحـة إلى كتاب " المدونة " للأمام مالك وفي هذا دلالة جلية على أن مذهب الحكم في قضاء العبدلاب ، كان مذهب الامام مالك رضي الله عنه .
ومن أشهر قضاة العبدلاب الشيخ عبد الله بن دفع الله العركي ، دشين قاضي العدالة ، عبد الرحمن بن مشيخ النويرى ، بقدوش سرور ، يعقوب بان النقا القاضى ضيف الله بن محمد ضيف الله ( ).
وعن الشكل التنظيمي للمحاكم يقول د. مكي شبيكة " عرفت دولة الفونج المحكمة العليا في عاصمتها سنار ، والمحاكم الصغرى في عواصم المشايخ والملوك الآخرين المرتبطين بها ، وعرفت هذه المحاكم الإستئناف يرد إليها من محاكم علماء الشريعة البيضاء في القرى والبوادي وعرفت قضاء الأجاويد (*) ، ولكنها لم ينشيء فيها نظام الأفتاء ومن شاء أن يستغنى فرجوعه إلى علماء البلاد ، ولم تدفع رواتب معلومة للقضاء ، وإنما وهبتهم من بيت المال ما يسد حاجتهم حتى لا يمد القاضى يده إلى أموال الناس ( )..
نخلص مما سبق إلى أن الفونج أستبطوا نظاماً قضائياً أستمد أحكامه من الشريعة الإسلامية والأعراف المحلية ، ومن مقتضيات تبدل الأحوال الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ، أي أن الواقع الجديد كان يعبر عن نفسه في قوانين وأحكام وتشريعات جديدة كما تميز نظام القضاء بالمرونة والتشاور والتدقيق في الأحكام ، وهكذا أستنبط فقهاء وحكام الفونج نظاماً قضائياً أستند إلى قوة وقهر السلطة وقوة والأعراف المحلية ، وبهذا الشكل القضائي كان نظام الفونج الإقطاعي يعيد إنتاج نفسه .

هوامش الفصل الرابع : -

1. للمزيد من التفاصيل راجع د. حسين مروة " النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية " الجزء الثاني ، الفصل الثالث (حول التصوف) ، ط3 ، دار الفارابي ، بيروت ، 1980م ، راجع أيضاً د. توفيق الطويل " التصوف الإسلامي – في تراثنا العربي الإسلامي ، الكويت ، 1985م .
* للمزيد من التفاصيل حول فساد المماليك مثلاً راجع " المختار من بدائع الزهور " لمحمد بن أياس الحنفي : مطابع الشعب 1960م ، أنظر أيضاً خليل عبد الكريم ، لتطبيق الشريعة لا للحكم ، كتاب الأهالى رقم 14 ، مايو 1987م .
2. شقير ، المرجع السابق ، ص ، 129-130
3. د. عبد المجيد عابدين ، تاريخ الثقافة العربية في السودان ، ط3 ، 1967م ، ص ،60-61
4. الطبقات ، ص ، 188
5. نفسه ، ص ، 192
6. د. عبد المجيد عابدين ، المرجع السابق ، ص ، 60
7. نفسه، ص ، 66-67
* دلائل الخيرات ، هو كتاب في الصلاة على النبي (ص) ، وقد داوم على قراءته كثير من المتصوفة وسائر المسلمين .
8. عبد المجيد عابدين ، المرجع السابق ، ص ، 67
9. شقير ، المرجع السابق ، ص ، 103
10. نفسه ، ص،102
11. تيم نبلوك ، صراع السلطة والثروة في السودان ، ص ، 105-111
12. عبد الله على إبراهيم ، الصراع بين المهدي والعلماء ، ص ، 64
13. هولت ، الأولياء والصالحون ، ص ، 13
* المرقوب : من أرتكب جريمة قتل أو عليه رقبة (راجع الطبقات).
14. عبد الله على إبراهيم ، الصراع بين المهدي والعلماء ، ص ، 2
15. محمد عمر بشير ، جنوب السودان ، ص ، 26-27
16. الطبقات ، ص ،176
17. تيم نبلوك ، المرجع السابق ، ص ،105-111
18. نفسه .
19. دراويش (جمع درويش) ، ودرويش كلمة فارسية تعني الفقير أو المكتفي بالقليل .
20. للمزيد من التفاصيل راجع د. يوسف فضل ، الشلوخ ، دار جامعة الخرطوم للنشر 1976م .
21. أحمد صادق سعد ، تاريخ مصر الاجتماعي ( تحول التكوين المصري من النمط الأسيوي إلى الرأسمالي ) ص، 165
22. نفسه ، ص ، 165
23. للمزيد من التفاصيل ، أنظر عبد القادر محمود ، الطرق الدينية في السودان : ( مطبعة مصر ليمتد الخرطوم 1971م ) أنظر أيضاً د. زكي بحيرى ، التطور الاقتصادي والاجتماعي في السودان دار النهضة ، مصر ، 1987 م .
24. الطيب محمد الطيب ، المسيد ، دار جامعة الخرطوم للنشر 1991م ، ص ، 23
25. للمزيد من التفاصيل راجع أحمد المعتصم الشيخ ، المؤسسة الدينية التقليدية دورها ووظائفها : في مجتمع الرباطاب ، رسالة ماجستير 1985م ، ص ،47-48
26. نفسه ، ص ، 65 – 67
27. هولت ، الأولياء والصالحين ، ص ، 6-7
28. د. عبد المجيد عابدين ، المرجع السابق ، ص69 ، للمزيد من التفاصيل أيضاً راجع د. حسين مروة ، النزاعات المادية ( فصل التصوف ) المرجع السابق .
29. د. عبد المجيد عابدين ، المرجع السابق، ص ،70
30. راجع الآية 33 من سورة النساء ، التي جاء فيها النص الصريح لتحريم تلك العلاقات ، راجع أيضاً الآية (3) من سورة النساء التي حددت النكاح بأربع.
31. راجع مجلة هنا أم درمان العدد (17) ، ص ، 16 ، من مقال للأستاذ أحمد البيلي .راجع أيضاً رسالة يوسف بدري Asurvey of Islamic Learning in the Fung State 1970 مكتبة جامعة الخرطوم .
32. شقير ، المرجع السابق ، ص ، 137
33. شقير ، المرجع السابق ، ص ، 138
34. د. محمد إبراهيم أبو سليم في الشخصية السودانية ، ص ، 135-136
35. حسين سيد أحمد المفتي ، تطور نظام القضاء في السودان ، الجزء الأول ، الخرطوم 1959 ،ص ، 18-20
36. نفسه ، ص ،10
37. محمد صالح محي الدين ، المرجع السابق ، ص ،412-428
* الأجاويد ، هم الرجال الذين يسعون بين المتنازعين للفصل بينهم أو الصلح ويرى د. محمد إبراهيم أبو سليم أصل الكلمة نوبية (د. أبو سليم ، في الشخصية السودانية ، ص ، 131) .
38. د. مكي شبيكة ، السودان عبر القرون ، ص ،22

خاتمة

يمكن أن نلخص استنتاجاتنا على النحو التالي :
1.عند النظر في تكوين ونشأة دولة الفونج نجد أنها نشأت بفعل عوامل متداخلة ومتشابكة ومترابطة من سياسة واقتصادية ودينية وأمنية واجتماعية .
2.تناولنا البنية الأنتاجية – الطبقية باعتبارها ذات أنماط إنتاجية متعددة وفحصنا خصوصية كل من تلك الأنماط التي كونت عناصر التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية ، كما عالجنا تطور قوى الإنتاج وعلائق الإنتاج التي شملتها البنية الإنتاجية الطبقية التي شكلت مجموع البني التحتية لتشكيلة الفونج والتي أبرز سماتها :
أ/ في المناطق الأكثر تخلفاً أو المناطق التي تقع على تخوم أو هامش دولة الفونج مثل فازوعلي لاحظنا نمط الإنتاج البدائي الذي كان قائماً على الصيد والتبادل التجاري القائم على المقايضة ، كما شكل التطور غير المتكافئ بين هذه المناطق والمناطق الأخرى التي كان يصل منها التجار (الجلابة) أحد الشروط الهامة لتطور التجارة ، فنلاحظ أن هؤلاء التجار القادمون من مناطق متطورة يحققون أرباحاً عالية من عمليات التبادل التجارى والصفقات غير المتكافئة ( ملح مقابل ذهب أو حديد مقابل ذهب ... ) هذا إضافة إلى أن هذه المناطق تعرضت لحملات تجارة الرقيق .
ب/ ضمت تشكيلة الفونج نمط الإنتاج العبودي بالسمات والخصائص التي حددناها وفصلناها والتي كان يقوم بها الرقيق في النسيج الاقتصادي الاجتماعي لدولة الفونج .
ج/ عالجنا نمط الإنتاج العبودي الذي كان سائداً والذي حمل بعض سمات الإقطاع الشرقي من زواية ملكية السلطان للأرض وتوزيعها على الزعماء والشيوخ بحجج معينة ، وفي كل حالة يحدد الخراج أو الإعفاء منه ، كما عالجنا خصوصيات علاقة الإنتاج الإقطاعية في دولة الفونج وخصوصية النظام الإقطاعي عموماً في تشكيلة الفونج .
د/ تناولنا نمط الإنتاج السلعي – الصغير وما نتج عنه في تطور اقتصاد السلعة – النقد والصناعة الحرفية ، وظهور الطبقة التجارية ، أي ظهور طبقة أحترفت التجارة بعد أن كانت التجارة عمليات عارضة تتم بين منتجات لقيم تبادلية مختلفة ، وبالتالي ساعد ذلك على سرعة دوران البضائع ، وعلى إزدياد الإنتاج الزراعي وتطور الصناعة الحرفية .
هـ/ كما عالجنا تطور الحياة الاجتماعية في المدن والحياة الاجتماعية وتعقدها في تلك المراكز التجارية التي وجدت في مملكة سنار .
ز/ تناولنا الضرائب التي أستنبطها نظام الفونج من الشريعة الإسلامية والعرف ، ولاحظنا أن تلك الضرائب كانت تسهم في إعادة إنتاج النظام الإقطاعي القائم وحددنا مصادر تلك الضرائب : الزكاة ، الخراج والضرائب على الأرض ، المكوس ، هذا إضافة لعائد الدولة من التجارة الخارجية التي كانت تحتكرها (الذهب والرقيق) .
ح/ عند تحليل التركيب الطبقي لدولة الفونج ، رأينا كيف أن ذلك التركيب تطور من الشكل البسيط الذي كان قائماً في الممالك السابقة ، إلى الشكل المعقد والذي يعكس التطور الاجتماعي وتطور تشكيلة الفونج وأصبح لدينا ألوان طيف طبقي مثل طبقة السلاطين والملوك وزعماء القبائل ، طبقة التجار الطبقة المتوسطة (قضاء ، فقهاء ، كتبة ، مقاديم ، وقادة الجيش ... الخ ) شيوخ الطرق الصوفية ، طبقة المزارعين ، الرعاة ، طبقة العبيد .
ط/ كما تناولنا مؤشرين من مؤشرات التخلف اللتين أتسمت بهما تشكيلة الفونج وهما المجاعات التي كانت تنتج من نقص الأغذية بسبب الجفاف أو " قلة الأمطار والنقص في الفائض أو المخزون من الحبوب أو الأغذية وخضوع إنسان الفونج لسيطرة قوى الطبيعة في هذا الجانب وتخلفه عن تطور القوى المنتجة في الزراعة لمواجهة تلك الكوارث .
والمؤشر الثاني كان الأوبئة والأمراض التي كانت تحصد البشر أيام الفونج وأهمها الجدري والحمي الصفراء وأثر ذلك في إعادة إنتاج التخلف بسبب موت الأف القوى البشرية المنتجة .
ي/ كما حللنا التعليم من زاوية وظائفه الاقتصادية ورأينا كيف أن أهل الفونج أستنبطوا نظاماً للتعليم كان ملائماً لاحتياجات النظام الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ، كما رأينا أن ذلك النظام جاء أصيلاً وليس تقليداً أعمي لنظم التعليم التي كانت سائدة في العالم الإسلامي يؤمئذ ، بل أخذ واقع وخصوصية السودان ونظامه السياسي الاجتماعي الاقتصادي في الاعتبار ، كما رأينا كيف كان ذلك النوع من التعليم يسهم في إعادة إنتاج النظام الاجتماعي .
ك/ عند تناولنا بعض جوانب ثقافة إنسان الفونج في إعداد الطعام وبناء المساكن ، لاحظنا أن إنسان الفونج أستنبط صناعة حرفية من بيئته المحلية .
ل/ وأخيراً حددنا خصوصية تشكيلة الفونج والتي تعايشت فيها الإنماط التالية :
نمط الإنتاج البدائي، نمط الإنتاج العبودي ،نمط الإنتاج الاقطاعي ، ونمط الإنتاج السلعي – الصغير وما نتج عنه من تطور اقتصاد السلعة – النقد ، وتطور التجارة الداخلية والخارجية ، وتطور الإنتاج الزراعي والصناعة الحرفية ، وظهور الطبقة التجارية وقيام المدن والموانئ .
توصلنا في النهاية إلى أن تشكيلة الفونج كانت متعددة الإنماط الإنتاجية ، وحددنا خصوصية نمط الإنتاج الإقطاعي السائد ، كما لاحظنا من الدراسة الملموسة أنه لا يجوز إقحام اللوحة الخماسية لماركس حول التاريخ الأوربي أو مراحل الاقتصادي روستو للنمو الاقتصادي أو مراحل التطور التقني والاجتماعي والثقافي للبشرية ... مثل لوحات مورغان وغوردون تشايلد وغيرهم أو مقولة نمط الإنتاج الآسيوي التي أبتدعها ماركس لبعض النظم الشرقية والآسيوية .
الدراسة الملموسة أوضحت لنا أن تشكيلة الفونج كانت معقدة ولها خصوصيات ولم تسر في خط مستقيم صاعد وفق المخطط الهندسي للمفهوم المادي للتاريخ الذي حدده ماركس للتاريخ الأوربي ، ولكنها كانت تشكيلة سابقة للرأسمالية متعددة الإنماط الإنتاجية صحيح أنها حملت السمات العامة لتطور المجتمعات البشرية الأخرى ، ولكن الدراسة الملموسة ساعدتنا في اكتشاف خصوصية تلك التشكيلة والتي تحتاج إلى المزيد من الدراسات العميقة ، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون وبما يساعد على المزيد من الفهم النظري الأفضل لتطور المجتمع السوداني في العصر الوسيط وفي مراحله اللاحقة وباعتبار أن تشكيلة الفونج أو مجتمع الفونج شكل الأساس لتطور السودان السياسي والثقافي والفكري والاقتصادي فيما بعد .
3. تناولنا البنية الاجتماعية والثقافية – الفكرية وخلصنا إلى الأتي :
أ/ أستنبط الفونج نظاماً سياسياً واجتماعياً أعتمد على الشريعة والأعراف المحلية والذي حمل بعض السمات والتقاليد السابقة لملوك النوبة وإضافة الجديد الذي أتسمت به تشكيلة الفونج .
ب/ دولة الفونج شهدت البذور الأولي لنظم الإدارة والتنظيم في الدولة السودانية .
ج/ تفاعلت تعاليم الإسلام مع الموروث المحلي وكانت الحصيلة الإسلام السوداني المتميز ، الذي أتسم بتنوع الطرق الصوفية ووحدة الفقه مع التصوف ، وتعدد المذاهب (مذهب الأمام مالك والشافعي) وظهور التنظيم الاجتماعي الصوفي كشكل أرقي من التنظيم القبلي والذي يتميز بالقدرات الكلية والمطلقة لشيخ الطريقة ، هذا إضافة للتسامح الذي تميز به الإسلام في السودان .
د/ شهدت دولة الفونج أنماطاً مختلفة من علاقة الدين بالدولة ، فعلى مستوى المركز في سنار كان رجال الدين أو المشايخ في انفصال عن الدولة ، أي أن الدولة على مستوى المركز كانت دولة مدنية أعتمدت في قيامها على الشريعة الإسلامية والأعراف المحلية ، وفي لحظات ضعف الدولة المركزية ظهرت دويلات دينية مصغرة داخل دولة الفونج مثل دولة العبدلاب في عهد الشيخ عجيب ، ودولة المجاذيب في الدامر والتي كان يجمع فيها شيوخ الطرق مباشرة بين السياسة والدين ،أي أن دولة الفونج كانت مرحلة انتقالية لفك الارتباط بين الدين والدولة في سيرورة تطور الدولة السودانية .
عالجنا انتشار الكرامات كجزء من البنية الفوقية لمجتمع ، وعزيناها إلى ظروف إنسان الفونج الحياتية التي أتسمت بالمجاعات والأوبئة والأمراض وتخلف القوى المنتجة والطب ، وبالتالي وجدت الكرامات التربة الخصبة للانتشار في تلك الظروف ، فضلاً عن الخرافات الأخرى والتي بدات تقل مع أنتشار العلوم المدنية والدينية الصحيحة .
ز/ كما تناولنا الصراع بين المتصوفة والفقهاء ولاحظنا أنه في دولة الفونج لم يكن هناك صراعاً كالذي كان دائراً في العالم الإسلامي ، وذلك بحكم أنتشار الإسلام في السودان تم جنباً إلى جنب دخول الطرق الصوفية وعلوم الفقة وجمع بعض الشيوخ لعلوم الفقه والتصوف ، أي أن علوم الفقه لن تكن سابقة للتصوف كما حدث في بلدان العالم الإسلامي الأخرى ، حيث ظهرت الصوفية كحركة زهد وعلم تصوف في مرحلة لأحقة ( في فترة الدولة الأموية والعباسية) بعد تمكن الفقه السني المعروف وبالتالي فإن الصراع بين الفقهاء والمتصوفة كان نادر الحدوث ، كما لاحظ الباحثون والدارسون ، كما عالجنا صراع القاضي دشين مع الشيخ الهميم كصراع بين القيم الجديدة التي أرادت أن ترسخها الشريعة الإسلامية في الزواج وبين القيم القديمة الممتدة من عصر الأمومة الذي كان سائداً في ممالك النوبة ( الزواج غير المحدد والجمع بين الأختين ... الخ) وعزينا أنتصار الشيخ الهميم إلى أنتصار التقاليد باعتبارها جزء من البنية الفوقية ، والتي اتزول بين يوم وليلة بل تستمر لفترة طويلة قبل تمكن تعاليم الإسلام والشريعة الإسلامية ، وبحكم أن دولة الفونج نفسها كانت مرحلة أنتقالية عبرت عن الصراع بين القديم والجديد في هذا الجانب .
ح/ كما لاحظنا دور الفكي أو الشيخ في الحياة الاجتماعي أيام الفونج والذي كان يقوم بوظيفة القاضى والمحامى والمعلم والمآذون والطبيب النفسي ، وتوصلنا إلى أن الفكي كان يمثل مثقف مجتمع الفونج بالمعني الواسع .
ط/ كما تناولنا نظام القضاء عند الفونج ورأينا كيف أن الفونج أستنبطوا نظاماً قضائياً أستند في أحكامه على الشريعة الإسلامية والعرف .
ي/ من سمات نشأة دولة الفونج ، لأحظنا أنها جاءت كحلقة أرقي في مسار تطور الدولة السودانية منذ نشوئها من خلال التخصص في الوظائف المختلفة ( جهاز دولة ، قضاء ، جيش ، نظام سياسي ... الخ ) كما حددنا الطبقات وتحالف الطبقات التي مثلتها دولة الفونج ، كما تناولنا الجيش كجهاز للقمع ودرسنا مصادر تمويله وتنظيمه ووظائفه الأخرى وتطوره التقني وتركيبته الاجتماعية .
ك/ كما تناولنا تطور المرأة ودورها الاقتصادي والاجتماعي في مجتمع الفونج واشتراكها في النشاط التجاري والعلمي والديني ، وتطور الأحوال الشخصية بعد أنتشار الإسلام والذي كفل للمرأة حق الميراث ونظام الزواج والعائلة المستمد من الشريعة الإسلامية .
ل/ تناولنا ثقافة الفونج كحصيلة تفاعل بين الثقافة الإسلامية والموروث المحلي في مضمار اللغة العربية والشعر الغنائي والأغنية الدينية (المديح) وتفاعل الوافد من إيقاعات الطرق الصوفية (قادرية ، سمانية ، ختمية ) مع الإيقاعات والالأت المحلية (طبل ، طار ، كاس ، نوبة ، ... الخ) مما أدي إلى إيقاعات جديدة عبرت عن تفاعل الوافد مع المحلي .
كما نظرنا في خصوصية تطور الثقافة الإسلامية ولاحظنا طابعها الصوفي الغالب ، والذي أستمده الفونج من حالة العالم الإسلامي الفكرية التي كانت سائدة فيه والتي كانت تقوم على النقل والجمود .
كما نظرنا في الحالة العقلية والفلسفية ، وكان من البديهي أن نلاحظ تخلفها نتيجة لعزلة الفونج عن العالم في السنوات الأخيرة ، وعدم مواكبتهم للتطورات التي كانت سائدة في أوربا منذ عصر النهضة ، رغم أن الفونج كانت لهم روابط تجارية مع العالم الأوربي عن طريق التجارة الخارجية ، فنلاحظ أنه كانت تصل واردات من أوربا للسلطنة مثل الورق والإسلحة النارية (بكميات محدودة ) والشفرة الألمانية والشاي والبن والبهارات والروائح والعطور ... أي أن الفونج وفي مستوي الطبقات العليا والغنية كانوا مستهلكين لتلك المنتجات الكمالية ولكنهم لم يتفاعلوا مع التطورات العلمية والفلسفية ، وذلك بحكم أن العالم الإسلامي الذي كانت روابطه مع الفونج ، كان نفسه متخلفاً في هذا الجانب ، رغم حركات التجديد التي كانت تحدث في مصر قبل حملة نابليون .
وأخيراً زالت دولة الفونج بفعل عوامل اقتصادية وقبلية ودينية وأمنية بحيث كانت في حالة ضعف وتآكل داخلي عند الغزو التركي الذي قضى على السلطنة الزرقاء .

المصادر والمراجع

اولاً : المصادر العربية :

1. أبن خلدون : المقدمة (دار الجيل - بيروت) .
2. أحمد بن الحاج (كاتب الشونة) : تاريخ ملوك السودان ، تحقيق د. مكي شبيكة 1947م ، طبع ماكور كوديل الخرطوم
3. أحمد المعتصم الشيخ : المؤسسة الدينية التقلدية : دورها ووظائفها في مجتمع الرباطاب (معهد الدراسات الآسيوبة والأفريقية جامعة الخرطوم ، شعبه الفلكور ، رسالة ماجستير 1985م) .
4. أحمد صادق سعد ، تاريخ العرب الاجتماعي (تحول التكوين المصري النمط الآسيوى إلى النمط الرأسمالي) – دار الحداثة 1981م .
5. أحمد عبد الرحيم نصر : (إعداد) : تاريخ العبدلاب من خلال رواياتهم السماعية (شعبة أبحاث السودان ، كلية الآداب ، جامعة الخرطوم ، يوليو 1969م).
6. أ . س. بولتون " أضواء على الملكية الزراعية في السودان – ترجمة هنرى رياض (مكتبة عطية : السجانة - بدون تاريخ) .
7. أرنست ماندل : النظرية الاقتصادية الماركسية – الجزء الأول – دار الحقيقة ، بيروت 1972 .
8. الشاطر بصيلي عبد الجليل ، تاريخ وحضارات السودان الشرقي والأوسط (الهيئة المصرية العامة للكتاب 1972م) .
9. الطيب محمد الطيب : المسيد ، دار جامعة الخرطوم للنشر ، 1991م .
10. الطيب محمد الطيب : الأنداية ، دار جامعة الخرطوم للنشر ، 1974م .
11. الفاتح الطاهر : أنا أم درمان ( تاريخ الموسيقي في السودان – ماستر التجارية ، الخرطوم 1992م ).
12. الان مورهيد :النيل الأزرق ،ترجمة د. نظمي لوقا (دار المعارف بمصر ، 1966م) .
13. الان مورهيد : النيل الأبيض ، ترجمة محمد بدر خليل (بدون تاريخ).
14. بابكر بدري : الأمثال السودانية (1963م).
15. بول يروك : مازق العالم الثالث (دار الحقيقة بيروت 1973م).
16. ب . م . هولت ، الأولياء والصالحون والإسلام في السودان ، ترجمة هنرى رياض والجنيد على عمر (دار الجيل بيروت ، ط3 ، 1986م) .
17. بندلى صليبا الجوزي:دراسات في اللغة والتاريخ الاقتصادي والاجتماعي عند العرب (دار الطليعة بيروت 1977م) .
18. تاج السر عثمان ، تاريخ النوبة الاقتصادي الاجتماعي ، (دار عزة للنشر 2003م ) .
19. تاج السر عثمان ،(مخطوط غير منشور) تاريخ مدخل لدراسة التاريخ الاقتصادي – الاجتماعي للسودان .
20. تاج السر عثمان تاريخ سلطنة دار فور الاجتماعي، ( مكتبة الشريف 2005م ) .
21. توفيق الطويل ، التصوف في مصر أبان العصر العثماني ، (القاهرة ، مكتبة الأدب 1946م) ، ص29
22. تيم نبلوك : صراع السلطة والثروة في السودان – ترجمة الفاتح التجاني . ومحمد على جادين ( دار جامعة الخرطوم للنشر 1990م ) .
23. جورج جور فتش ، الطبقات الاجتماعية ، ترجمة أحمد رضا محمد رضا ومراجعة د. عز الدين فودة ( المؤسسة العربية القاهرة 1972م).
24. ح .فانتين: تاريخ المسيحية في ممالك النوبة القديمة والسودان الحديث ( الخرطوم 1978م ) .
25. جان شينبو ، يوجين فارغا ، موريس غودوليه وآخرون ، حول نمط الإنتاج الآسيوي (دار الحقيقة بيروت 1972م) .
26. حسن محمد الفاتح قريب الله ، التصوف في السودان إلى نهاية عصر الفونج " رسالة ماجستير ، جامعة الخرطوم 1965م ) .
27. حسن مكي : الثقافة السنارية (جامعة أفريقيا العالمية أغسطس ،1990م)
28. حسين مروة : النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية (الجزء الثاني) ، ط3 ، دار الفارابي بيروت 1980م .
29. حسين سيد أحمد المفتي : تطور نظام القضاء في السودان (الخرطوم 1959م ) – الجزء الاول .
30. حيدر إبراهيم علي : إزمة الإسلام السياسي ( مركز البحوث العربية ، 1991م ).
31. سمير أمين : التبادل اللامتكافئ ( ط4 دار الطليعة بيروت 1985م ).
32. صدقي عوض كبلو : السياسة الاقتصادية للدولة المهدية مجلس الإبحاث الاقتصادية والاجتماعية ، 27/5/1984م .
33. عبد الله علي إبراهيم : الصراع بين المهدي والعلماء (شعبة أبحاث السودان ، جامعة الخرطوم ، كراس رقم (3) 1968م)
34. عبد الله علي إبراهيم ( إعداد وتقديم ): هذا جامع نسب الجعليين " السور الحصين .." – معهد الدراسات الافريقية والاسيوية شعبة " الفلكور الدار العلمية للطباعة ، بدون تاريخ
35. عبد المجيد عابدين : تاريخ الثقافة العربية في السودان( طبعة ثانية 1967م ) .
36. عبد القادر محمود : الطوائف الدينة في السودان مطبعة مصر ( سودان ليمتد 1971م ، 1391هـ) .
37. عبد القادر محمود : الفكر الصوفي في السودان ( دار الفكر العربي 86-1969م ) .
38. عبد المجيد العبادي : محمد مصطفي زيادة ، إبراهيم أحمد الهدوي: الدولة الإسلامية ( تاريخها وحضارتها ) (دار نهضة مصر،بدون تاريخ ).
39. عبد الهادي صديق : أصول الشعر السوداني " دار جامعة الخرطوم 1989م) .
40. عبد العزيز أمين عبد المجيد : التربية في السودان – ثلاثة أجزاء – القاهرة وزارة المعارف 1949م ) .
41. عصام الخفاجي (ترجمة وتقديم): الانتقال من الاقطاع إلى الرأسمالية – مناظرة أشترك فيها مجموعة من الكتاب-( دار ابن خلدون بيروت ،ط2 ،1989م) .
42. عون الشريف قاسم : حلفاية الملوك – التاريخ والبشر – (1988م).
43. عون الشريف قاسم :قامـوس اللهجة العامية في السودان (القاهرة 1985م ) .
44. علي عثمان محمد صالح : الثقافة السودانية ، الماضي والحاضر في كتاب الثقافة السودانية ، دراسات ومقالات (دار جامعة الخرطوم للنشر فيراير 1991م) .
45. فردريك انجلس : أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة ( دار التقدم موسكو ، بدون تاريخ ) .
46. قرشي محمد حسن : مع شعراء المدائح ،الجزء الأول والثاني ،( المطبعة الحكومية 1967م-1986م) .
47. و.نكولز : الشايقية – ترجمة د. عبد المجيد عابدين–(الخرطوم 1956م).
48. كامل الباقر: تجربة في التعليم الديني ( 1956م-1965م) دار جامعة أم درمان للطباعة والنشر 1991م ) .
49. محمد إبراهيم أبو سليم :الفونج والأرض (وثائق تمليك) مطبعة التمدن 1967م .
50. محمد إبراهيم أبو سليم : د.ح.ل أسبولدنق : وثاثق من السلطة سنار في القرن الثامن عشر " ، دار جامعة الخرطوم للنشر 1992م .
51. محمد إبراهيم أبو سليم : الفور والأرض (معهد الدراسات الافرو آسيوية ، جامعة الخرطوم 1975م ) .
52. محمد إبراهيم أبو سليم: الأرض في المهدية ، مطبعة التمدن 1970م.
53. محمد إبراهيم أبو سليم : تاريخ الخرطوم (دار الثقافة بيروت ،ط3 ، 1979م).
54. محمد إبراهيم أبو سليم: الحركة الفكرية في المهدية (دار جامعة الخرطوم 1970م) .
55. محمد إبراهيم أبو سليم : في الشخصية السودانية ( معهد الدراسات الافرو أسيوية ، جامعة الخرطوم 1980م) .
56. محمد إبراهيم أبو سليم:الساقية (دار جامعة الخرطوم للنشر 1970م).
57. محمد صالح محي الدين : مشيخة العبدلاب (دار الفكر بيروت 1972م).
58. محمد عمر بشير : تاريخ الحركة الوطنية في السودان ، ترجمة هنري رياض وآخرون ط2 ، 1987) .
59. محمد عمر بشير ، مشكلة جنوب السودان ، ترجمة هنرى رياض وآخرون ( دار الثقافة بيروت 1970م ) .
60. محمد عمر بشير : تطور التعليم في السودان ، ترجمة هنرى رياض وآخرون ( دار الثقافة بيروت 1970م ) .
61. محمد أدروب أوهاج : من تاريخ البجا (الكتاب الأول) دار جامعة الخرطوم للنشر ، 1986م .
62. محمد سعيد القدال : السياسية الاقتصادية للدولة المهدية ( دار جامعة الخرطوم للنشر 1986م ) .
63. محمد صالح ضرار: تاريخ سواكن والبحر الأحمر ( الدار السودانية للكتب 1981م ) .
64. محمد إبراهيم نقد : علاقات الأرض في السودان ( هوامش على وثائق الأرض – دار الثقافة الجديدة 1993م ) .
65. محمد المكي إبراهيم : أصول الفكر السوداني .
66. محمد عثمان عبده البرهاني : تبرئة الذمة في نصح الأمة ( مطبوعات الطريقة البرهانية ، بدون تاريخ ) .
67. محجوب زيادة : الإسلام في السودان ( دار المعارف مصر 1960م) .
68. مصطفي محمد مسعد : الإسلام والنوبة في العصور الوسطي (القاهرة 1960م) .
69. مكي شبيكة : السودان في قرن ( القاهرة 1947م) .
70. مكي شبيكة : السودان عبر القرون ( دار الثقافة بيروت ط2 ، 1965م)
71. منصور خالد : الفجر الكاذب (دار الهلال 1986م).
72. نعوم شقير : تاريخ السودان : تحقيق محمد إبراهيم أبو سليم ( دار الجيل بيروت 1981م) .
73. نسيم مقار : اقتصاد السودان في العصر الفونجي (جامعة الخرطوم).
74. هنرى رياض : موجز تاريخ السلطة التشريعية في السودان ( دار الثقافة بيروت – مكتبة النهضة الخرطوم 1967م ) .
75. هيغل : المختارات (الجزء الثالث) ترجمة الياس مرقص (دار الطليعة بيروت يونيو 1978).
76. هيغل : المدخل إلى علم الجمال ، ترجمة جورج طرابيشي (دار الجيل ، بيروت ، لبنان 1987م) .
77. يحيى محمد إبراهيم : تاريخ التعليم الديني في السودان (دار الجيل بيروت لبنان 1987) .
78. يوسف فضل (تحقيق) :كتاب الطبقات في خصوص الأولياء والصالحين والعلماء والشعراء في السودان ،تأليف محمد النور بن ضيف الله (ط3،دار جامعة الخرطوم للنشر ، 1985م).
79. يوسف فضل ، ومحمد إبراهيم أبو سليم (تحقيق وتقديم) : طبقات ود ضيف الله : التكملة والتذييل (معهد الدراسات الآسيوية والأفريقية ، جامعة الخرطوم ، 1982م).
80. يوسف فضل : مقدمة في تاريخ الممالك الإسلامية في السودان الشرقي (1450-1821) ، دار جامعة الخرطوم للنشر ، ط2 ، 1989) .
81. يوسف فضل حسن : دراسات في تاريخ السودان – الجزء الأول – (دار جامعة الخرطوم للنشر ، 1975) .
82. يوسف فضل : الشلوخ (دار جامعة الخرطوم للنشر 1976م).
ثانياً : مجلات ودوريات :

1. أحمد الطيب زين العابدين " في الخلفية الاجتماعية للجمالية العرقية – الظاهرة والمنهج – مجلة الثقافة السودانية عدد (8) نوفمبر 1987م .
2. أحمد الصافي " مدخل لدراسة الطب التقليدي في السودان ، مجلة الدراسات السودانية ، العدد الثاني المجلد السادس ديسمبر 1982م(تصويب في الغلاف موجود المجلد السابع العدد الأول ) 3. جعفر طه حمزة : الاتحاد السناري : التكوين والتطور السياسي في سلطنة سنار ، مجلة الثقافة السودانية عدد (8) نوفمبر 1978م .
4. عباس سليمان السباعي "خصائص ومصادر الأغنية في وسط السودان ، مجلة الثقافة الوطنية العدد(5) مارس 1989م)
5. عوض السيد كرسني : نظام التعليم عند المجاذيب ، مجلة الثقافة السودانية عدد أكتوبر 1983م .
6. عوض السيد كرسني : نظام التعليم عند المجاذيب ، مجلة الثقافة السودانية العدد السابع عشر فبراير 1981م .
7. علي عثمان محمد صالح : خواطر حول أصول الثقافة السودانية ، مجلة الثقافة السودانية السنة الرابعة العدد السادس ، ديسمبر 1980م .
8. علي عبد الرحمن الأمين: كتاب الطبقات وقيمته التاريخية ،مجلة النهضة السودانية العدد (20) 14 فبراير 1932م .
9. محمد عمر البشري : أصل الفونج ، مجلة الدراسات السودانية ، العدد الأول المجلد (7) 1982م .
10. مصطفي أحمد علي ، اندريس بيركلو : نسخة مجتزاه من طبقات ود ضيف الله ضمن مجموعة أوراق عبده بك حمزة ، مجلة حروف العدد (4) يوليو 1993م (تصدر عن جامعة الخرطوم للنشر) .
11. يوسف بابكر بدري :الملك والفكي في السلطنة الزرقاء ،مجلة المجتمع السوداني ، كلية الاقتصاد ، جامعة الخرطوم ، المجلد (5) العدد (5) .
12. يوسف فضل حسن : المصادر السودانية الأولية قبل المهدية ، مجلة الدراسات السودانية الخرطوم المجلد السادس ، العدد الأول ،أكتوبر 1972م.
13. يوسف إبراهيم النور: صحيفة من تاريخ السودان القديم (القضاء) مجلة الفجر عدد (1) ، المجلد (13) صادر بتاريخ 1/مارس 1937م .
14. طبقات ود ضيف الله قراءة بقلم يوسف بدري ، مجلة كلية الآداب (1972م) ، أعيد نشرها في صحيفة ظلال بتاريخ 29ديسمبر 1994م .

ثالثاًً : المصادر الانجليزية :

1- Arkell, A.J: Ahistory of the Sudan to A, D,1821 (1961)
2- Bruce, J: Travels to discover of the Nile (Edinburgh 1804) iv, vi, viii.
3- Burkard, J, L: Travels in Nubia (London 1891).
4- Crawford: The Fung Kingdoms of Sinnar (Gloucester 1951).
5- O” Fahey and Spaulding: Kingdoms of Sudan (London 1974).
6- Trmingham J –S: Islam in Sudan (London 1949).
7- Sudan in Africa (Edition and introduced by Yusif Fadal Hassan U of K Press 1985.
8- Dr. yusuf Fadl: The Arab and the Sudan (U of K Press 1973).
9- Spaulding, J, The Heroic Age in Sinnar , ( Michigan State University , U . S. A, 1985).










المحتويات


الموضوع الصفحة

- مقدمة الطبعة الثانية ................................... 1
- تقديم ................................................. 4
- مقدمة ................................................ 8
- الباب الأول : البنية الإنتاجية – الطبقية


- الفصل الأول :الأوضاع الاقتصادية .................... 23
- أولاً :ملكية الأرض – الزراعة – الرعي .............. 25
- ثانياً : التجارة – الصناعية ............................ 39
- ثالثاً : الضرائب ...................................... 65
- الفصل الثاني :الأوضاع الاجتماعية..................... 83
- أولاً :التركيب الطبقي ................................. 83
- ثانياً : سمات نظام الرق والاقطاع ...................... 97
- ثالثاً : الأوضاع المعيشية .............................. 83
- رابعاً :المدينة والحياة الاجتماعية ....................... 105
- خامساً : المرأة ........................................ 137


الموضوع الصفحة


- الباب الثاني : البنية الثقافية - الفكرية

- الفصل الثالث : الأوضاع الثقافية.................... 153
- أولاً : ثقافة الفونج : مصادرها وجوهرها............. 154
- ثانياً :التعليم ........................................... 167
- الفصل الرابع : انتشار الثقافة الإسلامية ................ 182
- أولاً : الإسلام السوداني ............................... 182
- ثانياً : الكرامات – الصراع بين المتصوفة والفقهاء...... 204
- ثالثاً : نظام القضاء .................................... 219
- خاتمــــــــة ................................. 231
- المصادر والمراجع .................................... 241
- ملحق (خريطة سلطنة الفونج)









* تاج السر عثمان الحاج :

• من أبناء أمبكول بمحافظة مروى – الولاية الشمالية
• من مواليد عطبرة 1952م .
• تخرج في جامعة الخرطوم – ابريل 1978 م.
• باحث في تاريخ السودان الاجتماعي.
• صدر له :
 تاريخ النوبة الاقتصادي الاجتماعي (دار عزة للنشر 2003م)
 تاريخ سلطنة دارفور الاجتماعي (مكتبة الشريف 2005م)
 الجذور التاريخية للتهميش في السودان(مكتبة الشريف 2006م).
 نشأة وتطور الطبقة العاملة السودانية (الدار العالمية 2006م)
 النفط والصراع السياسي في السودان بالاشتراك مع عادل أحمد إبراهيم .
 الدولة السودانية: النشأة والخصائص، الدار العالمية، 2007 م
 التاريخ الاجتماعي لفترة الحكم التركي، مركز محمد عمر بشير، 2006 م .
 تطور المرأة السودانية وخصوصيتها، دار عزة ، 2007 م.
 تقويم نقدي لتجربة الحزب الشيوعي السوداني، دار عزة، 2007 م .
 اوراق في تجديد الماركسية، الشركة العالمية ،2010.
 دراسة في برنامج الحزب الشيوعي السوداني، الشركة العالمية،2010.
 قضايا المناطق المهمشة في السودان، الشركة العالمية، 2014.
 اسحار الجمال في استمرارية الثقافة السودانية، دار مدارات، 2021.
 الهوية والصراع الاجتماعي في السودان، دار المصورات، 2021.
 دراسات ومواقف في تاريخ الحزب الشيوعي السوداني ، دار عزة 2023
 الأرض والصراع الطبقي والاجتماعي في السودان ، دار المصورات ، 2025.
 في ذكراها المئوية : دورثورة 1924 في تطور الحركة السياسية والثقافية ، الشركة العالمية 2025
 ج وأب.



#تاج_السر_عثمان (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- في ذكراها السادسة كيف أدت مجزرة فض الاعتصام للحرب؟
- كتاب تاريخ سلطنة دارفور الاجتماعي
- هل يمكن إعادة الإعمار بدون وقف الحرب؟
- كتاب تطور المرأة السودانية وخصوصيتها
- كتاب نهب الذهب الدموي في السودان
- منهج الماركسية متجدد مع تغير الواقع
- الحرب وتفشي الكوليرا ومصادرةحقوق الإنسان
- كتاب طمى الاتبراوى محطات في دروب الحياة
- في ذكرى انقلاب مايو ما هي حقيقة التأميمات والمصادرة عام 1970 ...
- في ذكراه ال ٥٦ كيف حدث انقلاب ٢٥ مايو &# ...
- العقوبات الأمريكية والمزيد من العزلة والمعاناة
- كتاب التعليم في السودان : الحصاد والاصلاح
- تعيين د. كامل إدريس حلقة في المخطط لتصفية الثورة
- الذكرى ال ٥٦ لانقلاب ٢٥ مايو ١¤ ...
- لا جدوى لتعيين رئيس وزراء من انقلاب غير شرعي
- في ذكرى رحيله ٨٤ كيف كان معاوية نور شعلة من الإبدا ...
- في ذكرى رحيله ٨٤ كيف كان معاوية نور شعلة من الإبدا ...
- لا بديل غير وقف الحرب ومنع تكرارها
- استمرار فساد ونهب الطفيلية الاسلاموية بعد الحرب
- أوقفوا التصفيات على أساس عرقى وعنصري


المزيد.....




- فيديو رد فعل مدير FBI لحظة سماع -قنبلة- ماسك عن اسم ترامب -م ...
- إيلون ماسك يحذف تدويناته التي شن فيها هجوما لاذعا على ترامب ...
- زائر غير مرحّب به.. تمساح ضخم يتجوّل في قلب مدينة سياحية بتك ...
- شاهد كيف ردت ناشطة تبحر الى غزة على تغريدة ساخرة لسيناتور أم ...
- عشرات القتلى في غزة في ثاني أيام العيد، بينهم 5 أثناء محاولت ...
- البنتاغون يحقق في حذف محادثات هيغسيث على منصة سيغنال حول الض ...
- المبعوث الأمريكي إلى سوريا: موقف ترامب تجاه دمشق مفعم بالأمل ...
- الجيش الإسرائيلي يعترف بنقص حاد في عدد جنوده
- مصر.. طالب أزهري ينهي حياته خوفا من عقاب والده
- طهران تندد بمنع الولايات المتحدة دخول الإيرانيين


المزيد.....

- كتاب لمحات من تاريخ مملكة الفونج الاجتماعي / تاج السر عثمان
- كتاب تاريخ سلطنة دارفور الاجتماعي / تاج السر عثمان
- برنارد شو بين الدعاية الإسلامية والحقائق التاريخية / رحيم فرحان صدام
- الانسان في فجر الحضارة / مالك ابوعليا
- مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات ... / مالك ابوعليا
- مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا ... / أبو الحسن سلام
- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - تاج السر عثمان - كتاب لمحات من تاريخ مملكة الفونج الاجتماعي