أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - مصطفى حقي - ثلاثة وعشرون عاماً في الممارسة النبوية-بشرية محمّد















المزيد.....



ثلاثة وعشرون عاماً في الممارسة النبوية-بشرية محمّد


مصطفى حقي

الحوار المتمدن-العدد: 1763 - 2006 / 12 / 13 - 11:23
المحور: قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
    


الأنبياء من عامة الناس. لكنك ، بواســـــــــــع
كرمك ، صببت الأكسير على نحاس كينوناتهم

مولانا جلال الدين الرومي
من كتاب : 23 عاماً دراسة في الممارسة النبوية المحمدية
الكاتب : على الدشتي وترجمة ثائر ديب , وإصدار رابطة العقلانيين العرب
( لمحة عن الكاتب وأعماله في مطلع مقالنا –معجزة القرآن – الحوار المتمدن_ تاريخ 10/12/2006)
يقر جميع الدارسين الأوائل للإسلام بأن النبي محمداً كان بشرياً عادياً ماخلا تميّزه الروحي. وهذا ماتؤكد عليه الآية 110من سورة الكهف: قل إنما أنا بشرٌ مثلكم يوحي إلي إنّما إلهكم إله واحد .
حتآ علماء أهل السنّة لايرون أنّ العلم المطلق والعصمة صفتان جوهريتان من صفات النبي محمد. فقد رأوا إلى نبوته على أنها هبة خاصة من عند الله بمعنى أن ربّه قد اصطفى للنبوّة رجلاً محبوّاً بصفات بشرية كالعلم والفضيلة بمقادير رفيعة تفوق المعتاد، أو أنه غدا محبوّاً بمثل هذه الصفات الاستثنائية وقت بعثته لهداية الناس
وقد راى علماء أهل السنة أننا إذا ماكنا نضع إيماننا في شخصٍ فذلك لأننا نصدّق ماقاله من انّه حاملٌ للوحي . ولم يروا أننا نتبيّن نبوّة شخصٍ مما وضعه الله فيه من مستوىً أرفع من العلم والأخلاق . ويقوم هذا الرأي على آيات قرآنية كثيرة، كالآية 52من سورة الشورى " وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ماكنت تدري ما الكتاب
ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا" وهو متنطوي عليه الآية التي ترد قبل هذه مباشرةً، وما تفضي به الآية 50من سورة الأنعام بكلّ وضوح وحيوية ، تلك الآية التي تردّ على اولائك الذين سألوا النبي معجزةً " قُل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم بالغيب ولا أقول لكم أني ملك إن أتـَّبِعُ إلا ما يُوحى إليّ"
وفي الآية 188 من سورة الأعراف ، يشار إلى محمّد: " قل لاأملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله ولو كنتُ أعلم بالغيب لاستكثرت من الخير وما مسّني السوء إن أنا إلا نذيرٌ وبشيرٌ لقوم يؤمنون" وهذه الآية أيضاً هي ردٌ على المشركين الذين كانوا يتساءلون لِمَ لا ينصرف محمد إلى التجارة ويجني الأرباح الوفيرة إن كان صادقاً فيما يدّعيه من العلم بالغيب .... آيات القرآن واضحة صريحة بهذا الصدد . أمّا الحديث والسير الموثوقة فتؤكد أنّ النبي محمدا لم يزعم قط أنه معصوم أو أنه يعلم بالغيب . كان يدرك مكامن ضعفه البشرية أحسن الإدراك ويعترف بها صراحة وعلى رؤوس الأشهاد. وعادةً ماكان يردّ على محاولات المشركين إرباكه بأسئلة خارجةٍ على الموضوع بالتأكيد على أنه بشر وعبد من عباد الله لا يعلم إلاّ ما علمه الله . أما صدق محمد وأمانته فيتجليان على نحو رائع في الآيات 1-11 من سورة عبس ، التي هي ضَرْبٌ من التقريع الإلهي الواضح : (عبس وتولّى* أن جاءه الأعمى* وما يدريك لعلّه يزكى* أو يذ َّكَّر فتنفعه الذكرى* أمّا من استغنى * فأنت له تصدّى* وما عليك ألا يز َّ كى* وأمّا من جاءك يسعى * وهو يخشى* فأنت عنه تلَهّى * كلاّ إنّها تَذْكِرَةٌ...)
لقد رعى محمد طموحاً بشرياً جداً لهداية بعض الأغنياء وذوي السلطان إلى الإسلام. ولعلّ مثل هذا الهدف أن يكون مبرّراً، لأن المشركين كانوا يطرحون على محمد سؤالهم المتبجّح: ( أي الفريقين خيرٌ مقاما وأحسن ندِيّاً ) – الآية 73 من سورة مريم-
وعلى أيّة حال ، فإن رغبة محمد في أن يكسب إلى صفّه بعض الأشراف هي رغبة طبيعية تماماً. وفي أحد الأيام أتى مسلم أعمى يدعى عمر بن قيس بن أمّ مكتوم إلى النبي فجعل يقول: " يا رسول الله أرشدني " وعند النبي رجل من عظماء المشركين كان مشغولاً بدعوته. فجعل النبي يعرض عن الأعمى ويقبل على الآخر. فنزلت على النبي هذه السورة النبيلة ، سورة عبس ، وفيها تأنيب واضح له.
وصار محمد كلما التقى ابن أم مكتوم بعد ذلك يرحّب به أحسن ترحيب، فهو الرجل الذي وبّخ الله نبيه من أجله . وفي الآية 55 من سورة غافر ( والتي تدعى أيضاً سورة المؤمن ) يصدر الأمر للنبي : " فاصبر إنّ وعد الله حقٌ واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشي والأبكار" فهذه الآية تنسب الذنب لمحمد وتأمره بالاستغفار له. وهكذا فإن إيمان المسلمين اللاحقين بعصمة النبي المطلقة يأتي في تناقض مباشر مع النص القرآني. .... وتتكرر هذه الموضوعة بصورة مختلفة في الآيات الثلاث الأولى من سورة الانشراح : " ألم نشرح لك صدرك* ووضعنا عنك وزرك* الذي أنقض ظهرك " وكلمة الوزر تحلُّ محلّها كلمة - الذنب- في الآيتين الأوليين من سورة الفتح: " إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً* ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتمّ نعمته عليك ويهديك صراطاً مستقيماً " ... وهذه المقاطع القرآنية الصريحة التي لاتقبل الجدل تثبت حين تُؤخذ معاً، أن النبي محمداً كان يعلم أنه عرضة للذنب ولم يدّع لنفسه ما نسب إليه الآخرون من عصمة ومرتبة تفوق مرتبة البشر . وهذا ما يرتقي بمكانة محمد الروحية أعظم الارتقاء عند كل من يعقل ويفكر .
وفي مسائل العقائد الدينية والسياسية ومسائل العادات الاجتماعية التي تفتقر إلى دقّة الأمور الرياضية يقينيتها وإلى ثبات الأمور الطبيعية ووضوحها النسبيين، عادةً ما ينفر البشر من اللجوء إلى ما لديهم من ملكة عقلانية . وبدلاُ من ذلك ، فإنهم يتعرفون أولاً على عقيدةٍ ما ثمّ يرهقون أدمغتهم بحثاً عن حجج تدعم هذه العقيدة . وعلماء الإسلام لا يشذون عن هذه القاعدة. فقد بدأوا ، بدافع من التقى الحماسي ، بالإيمان بعصمة النبي ثمّ راحوا بعد ذلك يشدّون الآيات القرآنية الواضحة نحو تفسيرات بعيدة ، آملين أن يثبتوا تلك العصمة . والحال، أن السفسطة والمبالغة الحماسية التي أظهرها المفسّرون على هذا الصعيد تذكّر بقصةٍ عن سهل التستري ( وهو من دعاة الصوفية الأوائل المشهورين من ششتر في خوزستان ، توفي 1889)فقد جاءه واحد من مريديه وقال له إن الناس يقولون إن بمقدوره أن يمشي على الماء . وكان رد سهل بأن طلب منه الذهاب إلى المؤذن وسأله عن الأمر ، كان جواب الأخير بأنه
لا يعلم إن كان سهل يمشي على الماء أم لا. لكنّ ما يعلمه هو أنّ سهلاً قصد الحوض ذات يوم بغية الوضوء سقط فيه وكاد أن يغرق لو لم يسارع إلى نجدته .
ويتمثل واحدٌ من أوجه هذه المسألة في وفرة الأدلّة الوثائقية التي لا يمكن لأيّ ساعٍ وراء الحقيقة بعيدٍ عن التحيز أن ينكرها . ولقد رأى غولدزيهر( أستاذ العربية في بودابست)
أنّ مجاميع الحديث والسّير النبوية الباكرة تصوّر مؤسس الإسلام بدقةٍ ووضوحٍ لايتوفران في التوثيق التاريخي الخاص بأديان العالم الأخرى ، وأن هذه المجاميع والسّيَر جميعاً ودون استثناء تظهر محمداً على أنه يتصف بما يتصف به البشر من العوارض ومواطن الضعف ... ولانجد في هذه المصادر أيّة محاولة لنزع الصفات البشرية عن محمد؛ وعلى العكس من ذلك ، فإنه يوضع على سويّة واحدة مع المؤمنين ومن يحيطون به . ومثال على ذلك ما يروى عن محمد في معركة الخندق في المدينة ، من أنه ساهم في حفر الخندق شأنه شأن كل مسلم آخر . ومما يُنقَل عنه بشأن متع الحياة قوله :" حُبّبَ إلي من دنياكم الطيب والنساء وجُعلـَت قرّة عيني في الصلاة " أما بعض أفعاله المُتناقـَلـَة فقلما تتّسق مع التقشـّف والزهد والعزوف عن الدنيا ... غير أنّ محمداً سرعان ما نزعت عنه الصفات البشرية على الرغم من شهادات القرآن، والحديث ، والسّير . ولقد بدأت هذه العملية ما إن خرج النبي من المشهد.ففي اليوم التالي لوفاته هدّدَ عمر ( أو لعله صحابي بارز آخر) بسيفه المسلول بأن يقطع كل من يقول إنّ محمداً قد مات، لكنّ أبا بكر عارضه في ذلكن مستشهداً بما ورد في القرآن : " إنك ميّتٌ وإنهم ميتون " ( الآية 30 من سورة الزمر) كم كان أبو بكر محقاً ... وكلما بَعُدَت الشقـّة في الزمان والمكان عن وفاة النبي عام11هـ وعن المدينة ، أرخى المسلمون لخيالهم العنان. ولقد أسرفوا في ذلك وتغنـّوا به إلى الحد الذي نسوا عنده الأساسين اللذين يُكـَرران في الصلوات الخمس اليومية ، كما في آيات القرآن ، من أنّ محمداً عبد الله ورسولهن وبدلاً من ذلك ، فقد جعلوا منه علّة الخلق الجوهرية، مردّدين : " لولاك لما خـُلِقـَت الأفلاك " فهذا ما يصل إليه أحد الكتـّاب المتحمسين وهو الشيخ نجم الدين داية، في كتابه مرصاد العباد. حيث يرى أنّ الخالق القدير ، الذي يكفي أن يقول لأي شيء "كن " فيكون ، كان عليه أولاً أن يأتي إلى الوجود بنور محمد ومن ثمّ، وبعد أن ألقى ببصره إلى هذا النور وجعله ينزّ عرقاً من الارتباك الناجم عن تلك النظرة، كان له أن يخلق أنفس الأنبياء والملائكة من قطرات العرق تلك .. .. أما محمد عبد الله السمّان ، وهو من كتـّاب سيرة النبي المصريين المُحْدَثين ، فقد رأى أن محمداً كان بشرياً شأن بقية الأنبياء. فولادته، وحياته، ووفاته كانت كحالها عند بقية البشر. وكان يغضب، ويُسرّ ، ويحزن. وقد بلغ سخطه على أسود بن المطلب بن أسد أن دعا عليه : ( اللهم أعْمِ بصره وأثكِله ولده)
ولقد وضع الكاتب الفلسطيني الحديث محمد عزّت دروزة كتاباً عن حياة النبي احترس فيه ألا يعبّر عن آرائه الخاصة مالم تكن مدعومة بآيات من القرآن . ويشعّ إيمان دروزة الصادق بالنبي والإسلام من كل صفحة من صفحات عمله الرائع بجزئيه, حيث يختم بأسى أنّ غلاة المسلمين ، الذين يذكر بينهم القسطلاني .. قد ضلّوا سواء السبيل تماماً وانغمسوا في خيالات وأوهام لايجد لها ( دروزة) أي أساس في القرآن أو الأحاديث الموثوقة والأخبار الباكرة. فهؤلاء المتحمسون يؤمنون ، بلا أي مسوّغ ، بأن الله قد خلق البشرية كيما يمكن لمحمد أن يولد في الجنس البشري ، ولذلك فإن محمداً هو علّة خلق البشر ؛ بل إنهم يقولون إن اللوح ، والقلم، والعرش، والكرسي، والسموات، والأرض, والجنّ، والأنس ،والجنّة، والنار , وباختصار جميع الأشياء, قد وجِدَت من خلال نور محمد. فقد نسوا ذلك القول الواضح في الآية124 من سورة الأنعام: ( الله أعْلَمُ حيثُ يجعلُ رسالته) وقد تجاهلوا الإسلام الأساسي من أنّ الله وحده من في يده عالم الوجود.
ويلاحظ الكاتب الفلسطيني المسلم المستنير ذاته أنّ القرآن قد نصّ على أن الأنبياء جميعاً من البشر الفانين الذين بعثهم الله لهداية الناس. ففي الآيتين 7و8 من سورة الأنبياء:( وما أرسلنا قبلك إلاّ رجالاً نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر( اليهود والنصارى) إن كنتم لاتعلمون* وما جعلناهم جسداًلايأكلون الطعام وما كانوا خالدين)
وهذه الإشارة ذاتها إلى الأنبياء لايختلفون عن بقية البشر إلا في اختيار الله لهم كي ينقلوا رسالته تكَّرّرَ في الآيات التالية التي يوردها عزت دروزة : ( قلْ سبحان ربّي هل كنتُ إلاّ بشراً رسولاً* وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلاّ أن قالوا أبعَثَ الله بشراً رسولاً) الآيتان( 93و94من سورة الإسراء) " وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق" ( الآية 7 من سورة الفرقان) نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنتَ من قبله لمن الغافلين – (الآية 3 من سورة يوسف )( وما جعلنا لبشرٍ من قبلك الخُلْدَ أفإن مٍتَّ فهم الخالدون ) الآية 34 من سورة الأنبياء ( وما محمد إلا رسول قد خلَت من قبله الرسُل ) الآية 144من سورة آل عمران ( ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان9 الآية 52 من سورة الشورى ( قل ما كنت بٍدْعاً من الرُسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتْبٍعُ إلا مايُوحى إلي وما أنا إلاّ نذيرٌمبين ) الآية 9 من سورة الأحقاف .
يمكن لنا أن نجد إشارات إلى بشرية محمد وشعوره البشري ومواطن ضعفه البشرية في جميع الروايات حسنة الإسناد . فعلى مدى أيام عديدة بعد غزوة بئر معونة، حيث قـُتٍلَ سبعون مسلماً، كان محمد يبدأ صلاة الجنازة قائلاً: " اللهم أشدد وطأتك على مُضر ( أي القبائل العربية الشمالية ). وبعد الهزيمة في معركة أحد ، التي قـُتِلَ فيها عمّه حمزة بن عبد المطلب، جَدَعَ حبشي يدعى وحشي أنف حمزة وأذنيه، أما هند زوجة أبي سفيان فبقرت بطنه عن الكبد فلاكتها. ولقد أغْضَبَ النبي كثيراً منظر حمزة وقد مُثّل به فصاح مغتاظاً : " لئن أظهرني الله على قريش في موطنٍ من المواطن لأمثلنّ بثلاثين رجلاً منهم " ويوضح هذا الحادث وسواه مما يماثله مقدار القسوة والحقد في العقل العربي القديم .
كانت البيئة الاجتماعية هي تلك البيئة التي يمكن فيها حتى لامرأة أرستقراطية من عليّة القوم أن تبقر بطن رجل ميت فتنتزع كبده وتلوكها، وحين لا تستطيع أن تُسيغها، تلفظها ، وفي أثناء هذه المعركة، مضت هند وعدد من النساء القرشيات من عليّة القوم إلى وسط المقاتلين المكيـّين مشمّرات كاشفات سيقانهن يشجعنهم بالمفاتن والوعود. .. وثمة رواية عن النبي في سيرة ابن هشام أنه أصاب في غزوةٍ عبداً يُقال له يسار ، فجعله في لقاح( ناقةٍ) له كانت ترعى في ناحية الجماء، فقدم على النبي نفر من قيس كبة من بجيلة، فاستوبئوا ، وطَحِلوا، فقال لهم : - لو خرجتم إلى اللقاح فشربتم من البانها وأبوالها- فخرجوا إليها. فلما صحوا وانطوت بطونهم عدوا على راعي النبي يسار، فذبحوه وغرزوا الشوك في عينيه، واستاقوا اللقاح . فبعث النبي في آثارهم كُرْز بن جابر ، فلحقهم ، فأتى بهم النبي فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم . .... ومن أحاديث النبي التي ترد في صحيح البخاري: - أنا بشر أغضب وآسف كما يغضب البشر- والحال أن حكايات وروايات كثيرة تؤيد ذلك.
فقد نـُقِل عن أبي رهم الغفاري, وكان من صحابة النبي :- غزوت مع رسول الله(ص) غزوة تبوك فسرت ذات ليلة معه ونحن بالأخضر قريباً من رسول الله(ص) وألقى الله علينا النعاس فطفقت أستيقظ وقد دنت راحلتي من راحلة رسول(ص) فيفزعني دنوها منه مخافة أن أصيب رجله في الغرز فطفقت أحوز راحلتي عنه حتى غلبتني عيني في بعض الطريق ونحن في بعض الليل فزاحمت راحلتي راحلة رسول الله(ص) ورجله في الغرز فما استيقظت إلاّ بقوله: حسّ، فقلت: يارسول الله استغفرلي - ... وفي أشهره الأخيرة ، عيّن النبي أسامة بن زيد على رأس القوة الماضية لغزو الشام. وكان من الطبيعي أن يثير تعيين النبي فتىً في العشرين من عمره لقيادة جيش فيه صحابة أجلاء مثل أبي بكر همسات الاستياء وعدم الرضا، حتى بين أقرب صحابة النبي. ومما قيل في إمرة أسامة: أمَّر غلاماً حدثاً على جٍلّة المهاجرين والأنصار. وحين بلغ النبي ما يقال ، ساءه ذلك أشدّ الاستياء حتى أنه خرج وهو في وجعه عاصباً رأسه حتى جلس على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال- أيها الناس،أنفِذوا بعث أسامة، فلعمري لئن قلتم في إمارته لقد قلتم في إمارة أبيه من قبل، وإنه لخليق للإمارة ، وإن كان أبوه لخليقاً لها-
وفي مرض النبي الأخير ، اجتمع إليه نساء من نسائه أم سلمة، وميمونة ، ونساء من نساء المسلمين ، منهم أسماء بنت عُميس، وعنده العباس عمّه ،فأجمعوا أن يَلُـدُّوه، فقال العباس : لأ لُـد َّنـَّه ، فلدّوه ، فلما أفاق النبي ، قال : من صنعَ هذا بي؟ قالوا :
يا رسول الله عمك، قال: هذا دواء أتى به نساء جئن من نحو هذه الأرض ، وأشار نحو أرض الحبشة ؛ قال: ولم فعلتم ذلك؟ فقال عمه العباس : خشينا يا رسول الله أن يكون بك ذات الجنب ، فقال: إنّ ذلك لداء ماكان الله عزّ وجلّ ليقذفني به، لايبقَ في البيت أحد إلا لُـدَّ إلاّ عمي ، ولقد لـُدُّت ميمونة وهي صائمة ، لِقَسَمِ رسول الله ، عقوبة لهم بما صنعوا به .
وتبرز ردود أفعال النبي محمد وانفعالاته النفسية في كثير من الحوادث المروية عنه خلال الثلاثة وعشرين عاماً ، خاصة خلال الأعوام العشرة المدنية ، من رسالته . ومن الأمثلة على ذلك ما جرى في قصة الإفك بخصوص عائشة ، وما أخذه على نفسه من تحريم ماريا القبطية وتعجله الزواج من زينب والإتيان بها إلى داره فور انتهاء عدّتها ..... وعلى الرغم من وجود هذه الشهادات جميعاً وخلوّ القرآن من كل ما ينسب إلى محمد أيّة مقدرة فائقة للطبيعة ، فإن تجّار المعجزات المسلمين الأتقياء راحوا يقولون ، ما إن مات محمد ، أنه قد اجترح كلّ ضروب العجائب الخارقة المستحيلة . وكلما بعدت المسافة في الزمان والمكان ، تنامت كتلة الأخلاق ، على الرغم من عِلْم خيرة علماء المسلمين أنّ ذلك مما لا يصدق واعتبارهم إيّاه من التوافه غير الجديرة بالاهتمام. ويكفي أن نورد قلّة قليلة من الأمثلة .
فالقاضي عيّاض .. القاضي والفقيه ، والشاعر ، والنسّابة الأندلسيين وضع كتاباً في مديح النبي عنوانه كتاب الشفا بتعريف حقوق المصطفى. وبخلاف ما يمكن أن نتوقعه، فإن هذا الكتاب لا يتناول قوّة محمد الروحية والأخلاقية وبراعته السياسية. بل إنّ محتوياته تدفع القاريءلأن يتساءل كيف أمكن لرجل متفقه يُفترض ألا يعوزه الذكاء أن يفكر بكتابة مثل هذا الهراء عن النبي، وعلى سبيل المثال ، فإن القاضي عياض يستند إلى المرجعية المزعومة لخادم النبي والمتمسك البارز بتقاليده أنس بن مالك لكي يسبغ على محمد فحولة جنسية مُعجزةً تمكنه من مجامعة زوجاته الإثنتي عشرة جميعاً كل يوم ويقدرها القاضي عيّاض بفحولة ثلاثين من الرجال. ثمّ يستند القاضي عيّاض مرةً أخرى إلى مرجعية أنس بن مالك فيضع لسان النبي: فضلت على الناس بأربع ، بالسخاء، والشجاعة وكثرة الجماع وقوّة البطش . وهذا الأمر الأخير ( قوة البطش) يقف في تعارض مع الأدلة المتوافرة في المصادر التي تشير إلى أن محمداً لم يقتل رجلا في معركة سوى مرةً واحدة، وحتى لو كان هذا القول منقولاً عن أنس بن مالك ، فإن كل من يتمتّع بشيء من الحس لابدّ أن يكذّبه . وحقيقة الأمر أن النبي لم يعمد أبداً إلى التفاخر بنفسه . وليس في القرآن أي ذكر لكرمه وشجاعته ، بل لقوته الأخلاقية وحسب: ( وإنك لعلى خـُلُقٍ عظيم) الآية 4 من سورة القلم ولوأن القاضي عياض تفاخر بما لديه هو من سخاء وبسالة ربما لوجدنا له بعض التعلاّت المقبولة ؛ لكنّه ليس له الحق في أن يضع على لسان شخص آخر مفاخر مخزية لاتشرّف كالبراعة الجنسية الفائقة والقتل، خاصة إذا ما كان هذا الشخص هو النبي الذي لم تصدر عنه أبداً مثل هذه القوال، غير أن القاضي عيّاض ، الذي يتجاهل الوقائع ، إنما ينم بصورة واضحة عن مقاصده ومطامحه الخاصة الخفيّة. ويصل به الأمر، في حماسته المحمومة لأن ينزع عن محمد صفاته البشرية ، إلى حدّ أن يجعل بول النبي وغائطه ينطقان وأن يقرر أنهما، برأي بعض العلماء ، طاهران. وهو يضيف إلى كل هذا حكاية بلهاء مفادها أنّ خادمة النبي أم أيمن شربت بوله ذات يوم دواءً لداء الاستسقاء ، وأن النبي قال لها عندئذ إنها لن تعاني بقية عمرها من ألم البطن. والأشدّ عبثاً وسخفاً من ذلك كله هو تأكيد القاضي عياض أنّ النبي كان إذا خرج لقضاء حاجة خارج مكّة، سار إليه الحجر والشجر فشكّل ستراً من حوله وحجبه عن الأنظار . وكلّ قارئ لهذه السفاسف لابد أن يتساءل لم لا تمضي حماسة القاضي عياض في نزع الصفات البشرية عن النبي إلى أبعد من ذلك. أما كان من المعقول أكثر أن يقول إن النبي لم يكن بحاجة لأن يأكل ويطرح مثل بقية البشر؟ ففي تلك الحالة ماكان ليبقى ما يهرع إليه الحجر والشجر كيما يخفيه عن الأعين.
ومثل هذه الشطحات المجنونة ليست مقصورة على القاضي عيّاض ، فالعشرات ممن كتبوا عن النبي، كالقسطلاني الذي سبق ذكره، راحوا يكررون مئات من القصص السخيفة المماثلة التي يقتصر دورها على تعريض شخصية محمد الفريدة للهزأ والحط من شأنها. فلقد وُضِعَ على لسان النبي أنّ الله جعله في صلب آدم حين خلق آدم ، ثمّ في صلب نوح، ثم إبراهيم، وراح ينقله من أصلاب طاهرة إلى أرحام ذكية، فلم يزل كذلك حتى استودعه خير رحم وهي آمنة.ويوحي هذا بأن بقيّة البشر إنما تبرز إلى الوجود فجأة من تحت الأشجار. وبالطبع فإن كل بشري يحوز إمكانية الوجود أو الوجود بالقوة قبل أن يتحقق كواقع أو كوجود بالفعل من خلال الحمل به وولادته . وبحسب القاضي عياض مرةً أخرى ، فإن النبي كان لايمر بحجرٍ ولاشجرٍ إلا سار إليه وقال: السلام عليك، يا رسول الله. لعلّ البهائم بما أوتيت من قدرةٍ على الحركة، وبما وُهبت من بلعوم وحنجرة ولسان، يمكن لها أن تأتي وتلقي السلام؛ ولكن كيف يمكن للجماد، المفتقر إلى الدماغ، والبصر، والإرادة، أن يميّز نبياً ، دع عنك أن يسلم عليه؟ سيقول بعضهم إن هذه معجزة ، ولكن بم يجيب هؤلاء عن السؤال لماذا لم تحصل أيّة معجزة حين رفض مشركو قريش أن يؤمنوا من غير معجزة؟ بل إن المعجزة التي طالب بها أولئك القرشيون محمداً كانت أهون نسبياً: أن يفجّر الماء من صخرة أو يحيل الحجارة ذهباً، ليس غير. وإذا كان الحجر قد سلّم على النبي، فلماذا أصابه حجر وشجّ وجهه وكَلَم شفته في معركة أحُد؟ لاشكّ أن تجار المعجزات سوف يقولون إنّ هذا الحجر على وجه التحديد كان كافراً.
وقد قيل في كتبٍ كثيرة , أصحابها من السنة والشيعة على حدّ سواء أنه لم يكن للنبي محمد ظل وإنه كان يرى خلفه كما يرى قدامه بل عن الشعراني.... يمضي إلى أبعد من ذلك فيزعم في كتابه كشف الغمة أن النبي كان يرى في الاتجاهات جميعاً ، ويميز في الليل كما في النهار. فإذا ما سار مع طويل بدا أطول منه ، وإذا ما جلس كان منكباه أعلى من مناكب من معه ... واصحاب مثل هذا الهراء أشدّ سذاجة من أن يقيسوا عظمة رجل مثل محمد بغير المقاييس البدنية الخارجية ، وأشدّ بلادة من أن يعلموا أن القوة الروحية ، والفكرية، والأخلاقية هي وحدها ما يعطي الشخص ميّزة وتفوقاً على الآخرين . ومع هذا، فإن من اللافت أن أحداً من تجار المعجزات لم يتساءل لِمَ لَمْ تحدث قط أية معجزة تؤزر قضية النبي . كما أنهم لم يتساءلوا لِمَ لمْ يكن بمقدور النبي أن يقرا أو يكتب، وبدلاً من جعل النبي بلا ظل وأطول بالرأس والمنكبين من سواه ، أما كان من الأفضل جعله يكتب القرآن بيده المباركة بدل أن يستأجر كاتباً يهودياً ؟ ويبقى الأشد لفتاً للانتباه واقعة أن تجار المعجزات هؤلاء هم مسلمون قرأوا القرآن ويعرفون العربية بما يكفي لفهم معانيه، لكنهم بقوا أسرى أوهام تتعارض تعارضا مباشراً مع النصوص القرآنية الصريحة وبقوا في لهفة لتقديم الأوهام على أنها حقائق راسخة ... والآيات القرآنية التي تنص على أن محمداً لديه كل النوازع والغرائز البشرية هي آيات واضحة تمام الوضوح فلا يمكن صرف النظر عنها أو التقليل من شأنها . ففي الآية 131 من سورة طه المكية يُقال للنبي:
( ولا تَمدّنَ عينيك( أي لا تنظر بحسد) إلى ما متعنا به أزواجاً منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه وَرِزق بربك خيرُ وأبقى ) ومثل هذا ما نجده في الآية88 من سورة الحجر وهي مكية أيضاً: (لاتمدّن عينيك إلى ما متّعْنا به أزواجاً منهم ولا تحزن عليهم واخفض جناحك للمؤمنين) واضحٌ من صياغة هاتين الآيتين أن شيئاً من الحسد قد داخل نفس محمد . لعلّه قد رغب في أن يتمتع بما توفره الثروة والبنون من المزايا، على نحوٍ ماكان يتمتع أشراف قريش وسادتها
كانت غالبية خصوم النبي العظمى من الأثرياء، النافرين بصورة طبيعية من أي تغيير والمسارعين بلهفةٍ إلى إسكات أي صوت قادر على النيل من مكانتهم الراسخة . وكان من الطبيعي يا لمثل أن تلتف الجماعات الناقمة حول محمد . وفي مثل هذه الظروف شعر النبي بالحزن وتمنى لو يستميل إلى صفه بعض الأغنياء النافذين ، ولقد علّق على هؤلاء ما يأمله للإسلام. ولكن الله حظّر عليه اتخاذ هذا السبيل. وهذا ما تبينه الآيتان34و35من سورة سبا( وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مُتْرَفوها إنا بما أرسلتم به كافرون * وقالوا نحن أكثر أموالاً وأولاداً وما نحن بمعُذبين ) وفي الآية 52 من سورة الأنعام يخاطب النبي بكلمات لايمكن أن تفوت القارئ النبيه
( ولا تطرد الذين يدعون ربّهم بالغداة والعشيّ يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء ومامن حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين) إنّ نبرة العتاب في هذه الآية لشديدة الدلالة على طبيعة النبي البشرية وسلوكه البشري . فالمشركون كانوا يقولون إنهم لن يلتحقوا بمحمد مادام أتباعه من الفقراء ، ولعلّه قد ساوره إغراء أن يسترضي الأغنياء بل وأن يستخف بأنصاره الفقراء ، ومما يدعم هذه الفرضية الآيتان 27و28 من سورة الكهف ( واصْبِرْنفسَكَ مع الذين يدعون ربّهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تَعْدُ عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تُطِع من أغْفَلْنا قلبه عن ذِكرنا واتـّبع هواه وكان أمْرُهُ فـُرُطاً* وقُل الحقّ من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعْتَدْنا للظالمين ناراً ) وبحسب تفسير الجلالين ، فإن سبب نزول هذه الآية كان رفض عيينة بن حصن ( وهو من السادة) ورجاله قبول الإسلام ما لم يطرد محمد أتباعه المعدمين ... وتنقل الآيات73و74و75 من سورة الإسراء هذا المعنى ذاته من عدم عصمة النبي ومعها بشريته العادية تماماً . وعلى الرغم من اختلاف الروايات في أسباب نزول هذه الآيات، إلا أنها جميعها تؤكد معنى النص: ( وإن كانوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غَيْرَهُ وإذاً لاتخذوك خليلاً* ولولا أن ثَبـَّتناك لقد كِدتّ تركنُ إليهم شيئاً قليلاً* إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لاتجد لك علينا نصيراً ) وبحسب بعض المفسرين ، فإن هذه الآيات قد تنزلت بعد لقاء النبي بعض القرشيين( كما ذكرنا من قبل) حين تلا سورة النجم وجرت على لسانه تلك الكلمات التي أسف لها فيما بعد : ( تلك الغرانيق العلا* إن شفاعتهن لترتجى ) ومما يروى أن أباهريرة وقتادة قد قالا إنّ هذه الآيات الثلاث قد تنزلت على أثر بعض المفاوضات بين النبي محمد وأشراف قريش , الذين طلبوا من محمد أن يعاملهم كسادة، أو يكف على الأقل عمّا يُظهرهُ حيالهم من عدم الإحترام، ووعدوه بالمقابل أن يدعوه بسلام، وأن يقيموا معه علائق الودّ والصداقة ، وكفوا عن ضرب فقراء المسلمين ومشرّديهم وعن طرحهم على الصخور التي حرّقتها الشمس ، ومن الواضح أن النبي قد قبل أو أبدى رخاوةً تجاه هذا العرض حين قـُدِّم في البداية، لكنه بدّل رأيه حين آن أوان الفعل. ولعلّ نفسه الباطنة هي التي حثّته إلى فعل ذلك ، تلك النفس ذاتها التي كانت دفعته إلى التفكير في المسائل الروحية على مدى سنوات مديدة ثم إلى الشروع باجتثاث الشرك والوثنية ؛ ذلك أن التسوية المعروضة عليه من المحتمل أن تحدّ من تأثير دعوته أو تذهب به جميعاً . ولعل المؤمنين المخلصين من ذوي الصلابة مثل عمر والمؤمنين المقاتلين من ذوي الشجاعة مثل علي والحمزة قالوا له إنّ أية تسوية من أي نوع هي خطأ فادح وهزيمة. وفي الأحوال جميعاً ، فإن هذه الآيات الثلاث تثبت أنّ النبي محمدا لم يكن بعيداً عن تلك الصفة البشرية المتمثلة بالتعرض للإغراء والافتتان .
وهذا ماتؤكده مقاطع قرآنية أخرى. من بينها الآيتان 94و95 من سورة يونس : ( فإن كُنت في شكٍّ مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربّك فلا تكوننّ من الممترين* ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين ) وكذلك في الآية 67 من سورة المائدة ( يا أيها الرسول بلغ ما أنْزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بّغت رسالته والله يَعْصِمك من الناس) ... كيف ينبغي للمسلم الذي يؤمن بالله ويقرّ بأن القرآن كلامه أن يتأوّل هذه الآيات ؟ ما معنى هذه الضروب من اللوم والتذكير والتحذير التي توجّه النبي؟ لاشك أن التفسير الوحيد هو أن الضعف والهشاشة البشريين كانا قد أخذا بتلابيب النبي . ولابد أنه كان قد خشي القوم إلى أن قال له الله ألاّ يخشى لأنه سيقيه مضايقتهم. فبعض القرشيين, وعلى رأسهم الوليد بن المغيرة, والعاص بن وائل ، وعدي بن قيس، والأسود بن المطلب والأسود بن عبد يغوث ، ضايقوا النبي أشدّ المضايقة بسخريتهم منه ومن دعوته ، ولعله شعر في قرارة نفسه بالندم على نهوضه برسالته بل وأضمر التخلي عنها وترك القوم وما يشاءون. وإلا لما كان تلقى ما أمره به الله في الآيتين 94و95 من سورة الحجر : ( فاصدع بما تؤمَر واعرض عن المشركين * إنّا كفيناك المستهزئين * ) والحال ، أن الآيات الثلاث التي تلي ذلك بآية في السورة ذاتها إنما تفصح عن الأمر وتثبت ما اقترحناه من تأويل: ( ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون * فسبّح بحمد ربك وكن من الساجدين* واعبُد ربّك حتى يأتيك اليقين ) وقد رأى بعض المفسرين أنّ كلمة – يقين- تعني مصير الموت الذي لامفر منه ؛ فمن الواضح أن افتراضهم عصمة محمد قد حال بينهم وبين الإقرار بكونه عرضة للشكوك وساقهم إلى ابتداع هذا التأويل وسواه مما يتعارض مع التعابير القرآنية . فمعنى هذه الآيات الثلاث واضح تماماً ؛ فما عاناه محمد من كرب وغمّ دفع إليه الشكوك، حتى أنه راح يتشكك بصحة موقفه ، لكن التعبّد للرب والتسبيح بحمده كانا كفيلين باستعادة يقينه واطمئنانه إلى رسالته . وفي الآية الأولى من سورة الأحزاب ، يصدر الأمر جلياً إلى محمد : (يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين) ويؤوّل تفسير الجلالين الفعل الأول في هذه الآية – اتق الله- بأنه يعني – دم على تقواه- ويؤكد تفسير آخر على أن الأمرين كليهما، وإن كانا يصدران إلى النبي إنما يقصد بها المسلمون جميعاً. وحماسة هؤلاء المفسرين تفوق سدادهم ، لأن الله في الآية الثانية من السورة ذاتها يأمر النبي : ( واتبع ما يوحى إليك من ربّك ) فالآيتان تشيران بوضوح إلى أن محمداً كان قد ارتكس حيال ما أصيب به من خيبة بطريقة بشرية طبيعية فراح يتساءل ما إذا كان عليه أن يذعن لمطالب خصومه ، لكن الله حال بينه وبين ذلك بكل صرامة وشدّة ؛ وبلغة أقرب إلى العلم , فإنّ محمداً كان يعاني من الإنهاك والهمود، لكن قوّة إرادته الداخلية ردعته عن الاستسلام وأعادته إلى مساره ... أما إذا استبعدنا هذا التفسير، فإن الاحتمال الوحيد الباقي هو أنّ النبي أراد أن يبدي الرضا متظاهراً باللين والرغبة في التسوية حيال مطالب خصومه ، لكن الله منعه عن ذلك . ومثل هذه الفرضية قد تبدوا قابلة للنقاش بالنظر إلى دهاء محمد السياسي،لكنها تبدو بعيدة الاحتمال بالنظر إلى صدقه، وعزمه, وقوته الأخلاقية. فمحمد كان يؤمن بما يقوله؛ كان يؤمن بأنه يوحى إليه من عند الله
ولكي نختتم هذا الفصل ، فإن من المناسب أن نورد قصة من تفسير كيمبرج( وهو تفسير قديم للقرآن باللغة الفارسية ) كمثال على تفكير المسلمين في قرون الإسلام الأولى ونأي هذا التفكير عن وقائع العصر حين تنزّل القرآن. والقصة( في الصفحة 295 من الحزء الثاني من طبعة طهران) هي على النحو التالي: ( بعد نزول سورة النجم التي تبدأ بالقول : والنجم إذا هوى ) ، بعث عتبة بن أبي لهب كتاباً إلى النبي يقول أنه يكفر بالنجوم في القرآن. فاستاء النبي ولعنه ، قائلاً : اللهم سلّط عليه سبعاً من سباعك – وحين سَمِع عتبة بذلك ارتعد ، وكان في إحدى القوافل، وحين توقفت القافلة عند حرّان ، استلقى عتبة ونام في وسط رفقائه . لكن الله أرسل أسداً لينتزع عتبة من وسطهم ويمزق جسده دون أن يأكل شيئاً من ذلك الجسد اللعين النجس . وبذلك علم القوم جميعاً أن الأسد لم يأخذه بغية افتراسه بل لإنفاذ دعاء النبي . لم يخطر ببال من اختلقوا هذه القصة أن النبي كان يمكن أن يرجو ربه رحمة هذا الرجل وهدايته إلى الإسلام ، بدلاً من لعنه , أليس الإسلام إيماناً برب العالمين الرحمن الرحيم ؟
بيد أن الإسلام لم يكن ، في المدينة ، إيماناً بالله وحسب؛ فقد غدا أيضاً أساساً لنظام شرعي جديد ولدولة عربية. فأحكام الإسلام وفرائضه وُضِعت جميعاً خلال مكوث محمد في المدينة سنواته العشر الأخيرة وكانت الخطوة الأولى تغيير قبلة الصلاة من القدس إلى مكّة . وقد تمثلت إحدى نتائج هذه الخطوة بما ترتب على اليهود بعد ذلك من دفع الجزية إلى المسلمين . وتمثّلت نتيجة أخرى بتخلص عرب المدينة من عقدة الدونية لديهم وبما راح الأعراب يكتسبونه من حميّة قومية؛ ذلك أن الكعبة، موضع الأصنام الذي تجله القبائل ، صار بعد ذلك بيت إبراهيم وإسماعيل ، جدي العرب ، ولقد جرى ما يماثل ذلك بشأن الصيام ، حيث نٌبِذَ الغرار الذي يسير عليه اليهود. ففي البداية كان الصيام يتواصل من اليوم العاشر في شهر محرّم، على عادة اليهود ،
حتى أيام معدودات؛ أما بعد ذلك فصار الصيام صيام شهر رمضان بأكمله .
أما قواعد الزواج والطلاق والحيض والأسرة والنسب والوراثة وتعدد الزوجات وحد الزنا والسرقة، والقصاص والدّية وسواها من القضايا الجزائية ، والقضايا المدنية مثل النجاسات والمحرمات والختّان فقد أخِذَت مع بعض التعديل من الشريعة اليهودية بصورة أساسية أو من العادات العربية قبل الإسلام وجميعها سُنّت في المدينة . ويبقى أن هنالك قواعد أخرى تمس المسائل المدنية والشخصية كانت بلا شك بمثابة إجراءات اتّخذت لتعديل النظام الاجتماعي والتجاري ، على الرغم من اصطباغها بالأفكار والممارسات اليهودية والعربية الجاهلية



#مصطفى_حقي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الشاعر الإنسان عايد سراج غيفارا يبحث عن صديق ...؟
- معجزة القرآن .. ومواهب الرسول الفكرية واللغوية وقوته على الإ ...
- نصف عقد في حوار حضاري متمدن ...
- مهرجان الرقة المسرحي الثاني وانحسار النص المحلي..؟
- حتمية انتصار الثقافة مطلب حضاري ..سيادة الوزير
- .. الضحايا يغتصبون الضحايا..؟
- حدث غير واقعي ، ومع ذلك تعاملت معه المدينة بمنتهى الواقعية . ...
- رسالة إلى نبيل عبدالكريم ...؟
- ..العلمانية مابين الأممية والقومية ...؟
- لو كان الحجاب رجلاً لحجّبته ...؟
- صفعة المرأة في اسياد المال حطّمت باب الحارة ...؟
- لقد أخرسنا الغرب فعلاً....؟
- ..لما كان القضاء بخير سننتصر حتماً.... ودقي يامزيكا ...؟
- وأخيراً .. هل تساؤلات خوسيه أثنار تزيد الطين بلّه...؟
- العلمانية .... والمرأة ...؟
- ثلاثة نساء متميزات هذا الأسبوع
- مفهوم المقاومة مابين الحداثة ومابعد الحداثة ...؟
- مفهوم المقاومة مابين الحداثة ومابعد الحداثة ..؟
- .. الإسلام السياسي .. والشارع العربي الثائر .. والبابا ..؟
- هل الديكتاتورية وسيلة لتطبيق الديمقراطية ....!


المزيد.....




- فن الغرافيتي -يكتسح- مجمّعا مهجورا وسط لوس أنجلوس بأمريكا..ك ...
- إماراتي يوثق -وردة الموت- في سماء أبوظبي بمشهد مثير للإعجاب ...
- بعد التشويش بأنظمة تحديد المواقع.. رئيس -هيئة الاتصالات- الأ ...
- قبل ساعات من هجوم إسرائيل.. ماذا قال وزير خارجية إيران لـCNN ...
- قائد الجيش الإيراني يوضح حقيقة سبب الانفجارات في سماء أصفهان ...
- فيديو: في خان يونس... فلسطينيون ينبشون القبور المؤقتة أملًا ...
- ضريبة الإعجاب! السجن لمعجبة أمطرت هاري ستايلز بـ8 آلاف رسالة ...
- لافروف في مقابلة مع وسائل إعلام روسية يتحدث عن أولويات السيا ...
- بدعوى وجود حشرة في الطعام.. وافدان بالإمارات يطلبان 100 ألف ...
- إصابة جنديين إسرائيليين بجروح باشتباك مع فلسطينيين في مخيم ن ...


المزيد.....

- الكونية والعدالة وسياسة الهوية / زهير الخويلدي
- فصل من كتاب حرية التعبير... / عبدالرزاق دحنون
- الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية ... / محمود الصباغ
- تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد / غازي الصوراني
- قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل / كاظم حبيب
- قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن / محمد الأزرقي
- آليات توجيه الرأي العام / زهير الخويلدي
- قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج ... / محمد الأزرقي
- فريديريك لوردون مع ثوماس بيكيتي وكتابه -رأس المال والآيديولو ... / طلال الربيعي
- دستور العراق / محمد سلمان حسن


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - مصطفى حقي - ثلاثة وعشرون عاماً في الممارسة النبوية-بشرية محمّد