أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - حسن مدن - إعادة قراءة .. إعادة كتابة














المزيد.....

إعادة قراءة .. إعادة كتابة


حسن مدن

الحوار المتمدن-العدد: 7919 - 2024 / 3 / 17 - 10:21
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


يذهب ابن خلدون في "المقدّمة" إلى أن "التاريخ في ظاهره لا يزيد على أخبار عن الدّول والسوابق من القرون الأُول، تنمو فيه الأقوال وتضرب فيه الأمثال، إلا أنه في باطنه نظرٌ وتحقيق، وتعليلٌ للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق، فهو لذلك أصيل، في الحكمة عريق، وجديرٌ بأن يُعدّ في علومها وخليق". وكأننا بابن خلدون في هذا يحضّنا على التفكّر في الحاجة الدائمة التي لا تنتهي لإعادة تأويل التاريخ، حيث لا قول نهائيّاً فيه، حين تصبح جميع الأحكام خاضعة لإعادة الفحص والتدقيق.

ولعلّ هذا ما عناه الأديب الألماني غوته، حين قال إنه "تتعيّن إعادة كتابة التاريخ بين حين وآخر". وهي دعوةٌ شديدة الجاذبية، ذلك أنها تُحرّضنا على ألا نستسلم للمرويّات المتوارثة، وأن نعيد تدقيقها والبحث عما هو خارجها، بمعنى ما أغفلته سهواً أو عمداً، وخصوصاً عمداً، إذا أخذنا بعين الاعتبار الحقيقة المتواترة أن التاريخ كتبه المنتصرون، فأقصوا، وهم يكتبونه، كل ما لا يتلاءَم وأهواءهم ومصالحهم. لكن عبارة غوته حمَّالة أوجه، فالدعوة إلى إعادة كتابة التاريخ بين حين وآخر قد تؤوّل أنها حثٌ لمن آلت إليهم الأمور لأن يعيدوا كتابة التاريخ وفق أهوائهم ومصالحهم، ما يُقصي مرويّاتٍ اعتمدها الناس قبل ذلك، خصوصاً أن من المستحيل الجزم أنّ إعادة كتابة التاريخ هي، في المطلق، أفضل من كتابته الأولى، فهي نفسُها قد تكون تزييفاً لوقائع هذا التاريخ، فيما أصحابُها يزعمون أنهم يغربلون التاريخ مما لحقَ به من زيف.

قال أحدهم: "إنّ التاريخ لم يقع .. والمؤرّخ لم يكن هناك". وأياً كان الأمر، فإن التاريخ قد وقع، لكن المؤكّد أن المؤرّخ لم يكن هناك بالفعل، لم يكن موجوداً وقت وقوع الحادثة، وهناك من شبّهه برجل المرور الذي أتى متأخّراً للتحقيق في حادثة مرورية في مكان وقوعها، وأعدّ روايته لما حدَث نقلاً عن الشهود، والشهود ليسوا مجرّدين من الأهواء، ثم إن محضر التحقيق تضمّن، في خلاصته، ما ظنّه المحقق صحيحاً، أي ما اقتنع به هو من شهادة هذا الشاهد، لا ذاك. وليس بوسع أحدٍ أن يجزم، في صورة مطلقة، أنّ هذه الشهادة بالذات هي الحقيقة الناجزة.

في "المقدّمة" أيضاً صنّف ابن خلدون المؤرّخين في خانات، أو طبقات حسب تعبيره، منها طبقة فحول المؤرّخين، وذكر منهم: الطبري، ومحمّد بن يحيى، ومحمّد بن سعد الواقدي، ممن جمعوا أخبار الأمم في كتبهم. ثم طبقة الجهّال، ممن وسمهم بالتطفّل لأنهم خلطوا الأخبار بالباطل خطأ أو عمداً، واقتفى بعد هؤلاء جماعة قبلوا هذه الآثار واتبعوها وأدّوها كما سمعوها، وتليهم طبقة المقلّدين، الذين اتّبعوا آثار هؤلاء ولم ينقّحوا الأخبار ولم يراعوا طبائع العمران فيما حملوه من الروايات، وأخيراً طبقة المختصرين، الذين اكتفوا بأسماء الملوك والأمصار، كما فعل ابن رشيق في "ميزان العمل".

علينا بعد هذا تخيّل كيف كُتب التاريخ أو أعيدت كتابته. وعودة إلى ما بدأنا به الحديث، فنقول إنّ التاريخ يظلّ دائماً بحاجةٍ لإعادة قراءة، وبالتالي، لإعادة كتابة، وفي عبارة أخرى، لإعادة تأويل. ربما لا يدور الخلاف حول أنّ واقعة تاريخية ما تمّت أو لم تتم، وإنما يدور، في درجة أساسية، بشأن الملابسات التي أحاطت بهذه الواقعة، وهو أمرٌ يُذكّرنا بالفارق بين العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية، ومن ضمن الأخيرة التاريخ، فإذا كان بوسع عالم الفيزياء أو الكيمياء أن يجري الاختبارات العديدة في المختبر للتحقّق من النتائج العلمية التي بلغها، فلا تغدو "حقيقة" إلا بعد فحوصاتٍ متأنّية، فإنّ الباحث في العلوم الاجتماعية يشتغل في فضاءاتٍ اجتماعية ومعرفية معقّدة تجعله عرضةً للخطأ أكثر من عالم الطبيعة، لأنه لا سبيل سريعاً لاختبار خلاصاته أو التحقق من مدى صحتها. كان الفلاسفة الطبيعيون قد لاحظوا ذلك، حين نبّهوا إلى أنّ مادّة التاريخ بالذات غير ثابتة وغير قابلة للتحديد، لأن الاختبار والتجربة أمران غير مُمكنين في الدراسة التاريخية.

ربما تتّصل العودة المطلوبة إلى التاريخ بالجزئيات والتفاصيل التي كثيراً ما جرى إهمالها لصالح التعميمات، أي الوقوف عند الأحداث الكبرى، كالحروب والغزوات، وإغفال ما كان خلف ذلك أو في موازاته، بصفتها عناصر لها سياقٌ مستقلٌ له سيرورته الخاصة به التي ظلّت مستمرّة، ولو على "هامش" التطوّرات الحاسمة.



#حسن_مدن (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بدرية خلفان .. سيّدة البدايات
- مجزرة الجياع
- التاريخ بوصفه حاضراً
- الرواية والمدينة في الخليج
- هل قادم البشر أفضل؟
- مقدّمات العدوان الصهيوني على غزّة وتداعياته
- رسائل من الغربة وعنها
- ظمأ للمعرفة لا يرتوي
- الغرب وازدواجية المعايير
- غزّة الشاهدة والشهيدة
- لماذا لا (تتعولم) أمريكا؟
- المصائب لا تاتي فرادى
- للكتاب أكثر من عنوان
- انتحار الجنرال
- (صوت الذين لا صوت لهم)
- قمة بريكس
- طاغور أول آسيوي ينال (نوبل)
- الناتو يقايض كييف
- ولا عزاء للورق
- هل يصبح اقتصاد (الأطراف) مركزاً؟


المزيد.....




- 60 قتيلًا في فيضانات مدمّرة شمال الصين.. ودار للمسنين تتحول ...
- استقالة رئيس وزراء ليتوانيا في إطار تحقيق بشأن مخالفات مالية ...
- ملف حصر السلاح يضع حزب الله والدولة اللبنانية على مفترق طرق ...
- السجن مدى الحياة لسويدي لدوره بقتل طيار أردني
- روبيو: الاعتراف بدولة فلسطينية يقوض المفاوضات ويزيد تعنت حما ...
- كاتب تركي: ما أهمية ميثاق التعاون الدفاعي بين تركيا وسوريا؟ ...
- العلاقات الروسية السورية.. اتفاقيات للمراجعة وملفات للمستقبل ...
- استهدفتها بأسلحة جديدة في مواقع مختلفة.. ما رسائل موسكو لكيي ...
- 15 قتيلا في هجوم روسي على كييف وزيلينسكي يدعو إلى -تغيير الن ...
- شاهد.. لحظة انقسام لعبة -البندول- في مدينة ملاهي بالسعودية إ ...


المزيد.....

- السيرة النبوية لابن كثير (دراسة نقدية) / رحيم فرحان صدام
- كتاب تاريخ النوبة الاقتصادي - الاجتماعي / تاج السر عثمان
- كتاب الواجبات عند الرواقي شيشرون / زهير الخويلدي
- كتاب لمحات من تاريخ مملكة الفونج الاجتماعي / تاج السر عثمان
- كتاب تاريخ سلطنة دارفور الاجتماعي / تاج السر عثمان
- برنارد شو بين الدعاية الإسلامية والحقائق التاريخية / رحيم فرحان صدام
- الانسان في فجر الحضارة / مالك ابوعليا
- مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات ... / مالك ابوعليا
- مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا ... / أبو الحسن سلام
- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - حسن مدن - إعادة قراءة .. إعادة كتابة