أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الستار نورعلي - قراءات نقدية في شعر عبد الستار نورعلي (كتاب)















المزيد.....



قراءات نقدية في شعر عبد الستار نورعلي (كتاب)


عبد الستار نورعلي
شاعر وكاتب وناقد ومترجم

(Abdulsattar Noorali)


الحوار المتمدن-العدد: 7796 - 2023 / 11 / 15 - 00:54
المحور: الادب والفن
    


الشاعر عبد الستار نورعلي
عصفورٌ من بلّور


قراءات نقدية
لعدد من الأدباء










المنظور واللا منظور في أقوال عصفور من بلور
قراءة في نص "الحارس" للشاعر عبد الستار نور علي

حميد الحريزي

((خلف بحار الشوق والحنين ، مدينة تعجّ بالأطفال والزهور))
عبد الستار نور علي

ان تغوص في البحر لا يعني انك امتلكت كنوزه، ان تغوص في البحر يعني: ستبهرك جواهره وأسرار جمال أعماقه.

هكذا هو حالي وأنا أغوص في بحر حياة ((عبد الستار نور علي)) وبحر إبداعه الأدبي والثقافي، هذا الطود الشامخ الذي يتعثر قلمي حين اكتب كلمة ((عبد)) حين اكتب او أتلفظ اسمه ، أحس ان الاسم يتشظى ، اشعر ان ليس هناك ما هو ابغض من العبودية إلى نفس أديبنا الكبير ، عاشق الحرية ، ورافع لواء محاربة القهر والذل والقبح والحرمان ، هذا الوطني العراقي هذا الإنسان العراقي الذي ولد في العراق ، هذا الذي شب وشاب في العراق هذا الذي ارتدى نخل العراق

((صرنا محطاتٍ
حقائبَ
تسمياتٍ
في جوازاتٍ مزورةٍ
خلعنا كل شيء غير اسمك:
من أين جئت؟
من العراق
وأين شِبت؟
في العراق
وأيَّ ثوبٍ ترتدي؟
نخل العراق))

من الصعوبة حقاً أنْ نسال:- من هو ((عبد)) الستار نور علي؟؟؟؟
من الصعوبة ان نسأل من هو منار نور علي؟؟؟

((ولد عبد الستار نور علي في منطقة باب الشيخ ببغداد عام 1942. اهتماماته الأدبية بدأت تظهر في مرحلة الدراسة الابتدائية، وكان يحرص على قراءة قصص الأطفال والمجلات التي كانت توفرها مكتبة المدرسة، تم تطورت قراءاته في المرحلة المتوسطة فشملت كتبا أدبية لكتاب عرب وأجانب. انتقل بعدها لدراسة الأدب العربي في كلية الآداب بجامعة بغداد قسم اللغة العربية التي تخرج منها عام 1964.

بعد التخرج عمل في الحلة حتى العام 1967 و بعدها في بغداد مدرساً للغة العربية ومديراً في عدد من المدارس الإعدادية والثانوية.

ويؤكد الشاعر عبد الستار نور علي أن فترة التدريس في الحلة كانت محطة هامة جدا في تطور قراءاته وبداية نشره لنتاجاته الشعرية.

خلال سبعينيات القرن الماضي انطلق في النشر بمختلف الصحف والمجلات العراقية والعربية، وقبل ذلك أذيعت له أول قصيدة عام 1965 ضمن برنامج “براعم على الطريق” الذي كانت تقدمه سائدة الأسمر من إذاعة بغداد.

أحيل على التقاعد عام 1989، ليواصل نشر كتاباته الشعرية والنثرية والنقدية في الصحف والمجلات العراقية والعربية.

اواخر عام 1991 هاجر من العراق مع عائلته إلى أوربا، ومنذ آب 1992 يقيم في السويد. عمل مترجماً ومؤسساً لصحيفة (مونديال) التي كانت تصدر باللغات السويدية والعربية والكردية والاسبانية بمركز أنشطة الكومبيوتر في مدينة اسكلستونا حيث يقيم .

رغم إنتاجه الغزير في العراق لم يُطبع له هناك أي كتاب أو ديوان شعري. لكن الدولة في السويد طبعت له ستة كتب. كما اخرج العراقي زهير عبد المسيح، لحساب تلفزيون مدينة إسكلستونا حيث يقيم فلما قصيرا عن حياته.

أصدر في السويد مجموعتين شعريتين، الأولى تحمل عنوان “على أثير الجليد” باللغتين العربية والسويدية، والثانية “في جوف الليل”، كما أصدر “شعراء سويديون” الذين يتضمن دراسات ونصوصا عن ابرز شعراء السويد في القرن العشرين.

نشر في صحيفة (Folket ) السويدية قصائد ومقالات، وشارك في عدد من المهرجانات الثقافية السويدية. وترجم مسرحية شعرية للشاعر السويدي أبه لينده حملت عنوان “جلجامش”، ونشر كتاب “باب الشيخ” الذي يضم مجموعة مقالات نقدية وأدبية ودراسات، ومقالا عن المنطقة التي ولد فيها وما زال يتذكرها ويعشقها.

يقول الشاعر والكاتب عبد الستار نور علي أنّ لديه حاليا 8 كتب جاهزة للطبع تضم القصائد التي كتبها الشاعر خلال السنوات الأخيرة في السويد. وكتاب “الكرد الفيليون…تاريخ ومعاناة”، إضافة إلى كتب أخرى تجمع ما كتبه الشاعر في مختلف القضايا التي تهم الإنسان العراقي سواء كان داخل العراق أم خارجه.

ويعزو شاعرنا غزارة إنتاجه إلى جو الحرية والديمقراطية في السويد الذي يضمن حرية التعبير والكتابة والنشر للجميع دون رقابة، شرط عدم التعدي على حقوق وحريات الآخرين.

ولأن الكتابة بالنسبة إلى عبد الستار نوري علي هي الزاد والماء والهواء كما يقول إنه “بدون القراءة والكتابة لا نستطيع فهم الحياة”، ويؤكد انه سيظل يواصل الكتابة ما دام فيه عرق ينبض على حد تعبيره))1

فماذا يريد والى أي سماء يروم الصعود ، وأي منار هذا الذي يقول:-
يا أيها القلبُ الذي ما نامْ
منْ كثرة الترحالِ…..
والتجوالِ
والتهجيرْ!
ما تبتغي
منْ بعد هذا البردِ
والهجيرْ؟ .

هذا الذي قرر ان لايفا رق قوافل الحب والنور والتضحية والفداء، قوافل حملة مشاعل النور والحب والسلام، قوافل من وضعوا أرواحهم على اكفهم وقاوموا قوى القبح والاستغلال والضلال، قوافل اللذين ذاقوا مرارة القتل والتعذيب والقهر والتجويع والتشريد، قوافل اللذين يحلمون ب((وطن حر وشعب سعيد)) ، قوافل الحالمين بعالم امن مسالم مرفه، وإنسان حر كريم في كل أرجاء المعمورة ، هذا السائر مع قوافل العطاء مفتوح العينين ، محترز، منبه رفاق الطريق من غدر الثعالب ، ووحشية الذئاب التي تتربص بهم الدوائر وتعد لهم المكائد والمصائد ((فانتبهوا)) ، وهو المتحسب المتفائل بـ((غد آتٍ، قناديل، وزهور:-
((سرْتُ مع القوافلِ حادياً:
الحبُّ في العينينِ جمرٌ ،
فاستفيقوا !
غفلةُ الثعلبِ والذئبِ انتظارٌ
ساعةَ الحسمِ
تخطُّ مخالبَ الدمِ
في لحومِ الطيرِ ،
فانتبهوا !
غدٌ آتٍ ،
قناديلٌ ، زهورٌ ،
ونسائمُ منْ عطورِ الوردةِ الحمراءِ تختالُ
على وقعِ خطى العشاقِ ينتظرونَ ،
هذي وردةٌ حمراءُ
ترفلُ بالربيعِ الفائحِ الأشذاءِ
محمولاً على كتفِ الشبيبةِ …

الجمعة 30 مارس/آذار 2012)).

هذا الذي عبر بحار القهر والاستبداد في ارض السواد، هذا الذي عبر بحور الغربة والعوز والتشرد، هذا الطري الندي الشفاف الذي لم تستطع ان تقهره دياجير الظلام ، هذا الذي ظل يحمل وطنه وآمال شعبه في حدقات عيونه ولم تلهه أنوار عالم الغربة وسحر الغرب ومغرياته……

(( يستطيع مجتمع من المجتمعات (تماما كما يستطيع فرد معين) ان يسمو فوق أزمته ،إي يمر بضائقة وفقر وأزمة اقتصادية ، من دون ان يفقد مثله وايمانه وحماسته وقوة اندفاعه ، بل قد يتخذ من مناخ الأزمة عاملا رئيسيا لتجاوزها ومقاومتها والتغلب عليها)) 2 ،

عبد الستار نور علي لم يفقد إيمانه بمبادئه مبادئ الحق والعدل والجمال، ظل يعتصر نسغ شبابه ، وهيبة شيبه من اجل عالم أفضل ، ولم يفقد الأمل ولم يركن للصمت او الكسل وهو القائل رغم الأهوال والأقوال والكوارث:-
((لم افقد الأمل في انتصار الأمل، فلا يزال الفارس ممتطياً صهوة روحه وقلبه وحرفه طائراً في السحاب ، باحثاً دون هوادة عما ينير))

وكأنه ينشد مع ناظم حكمت (( قريباً نقبض على الشمس))

هذا الغريد ، هذا الحكيم ، هذا البليغ ، هذا الذي أهدى الانسانية أجمل وأروع جواهر الأدب شعرا ونثرا ، هذا الذي شهد له أعلام الشرق والغرب شاعرا وليس أي شاعر ، شاعر تتداخل أمام ناظري صورته بالشعراء الكبار ((ناظم حكمت و بابلو نيرودا وايلوار ومظفر النواب ….))….

يعطينا درساً بليغاً رائعاً في التواضع وسمو الروح فيقول:-

((أنا مغرم ٌبالشعرِ لسْتُ بشاعرٍ ... حتى وإنْ غنّى الكلامُ ندائي))

نموذج آخر من نماذج الكبار روحا وفنا وتواضعا فقد كان ناظم حكمت يوقع بعبارة(الجاهل الكبير))!!!! بعد هذه المقدمة الموجزة المتواضعة عن هذا العلم الكبير والشاعر القدير ، والثائر الذي لايهدأ ، وقبس النور الذي لا يذوي نوره ، ولا يجف نبعه الإبداعي العذب ،والبحر مترامي الأطراف ،مستودع الدرر والجواهر وحامل الأسرار ، سنحاول ان نلقي نور مصباحنا المتواضع على احد روائع شاعرنا الكبير ((منار الستار نور علي))… ولا شك إننا لا نرى إنها أفضل وأكمل وأروع ((الجواهر)) ولكنها إحداها ، حَكمنا زمن نشرها في شهر أيار لتكون النص المختار لتسليط نور النقد عليه من بين النصوص الشعرية الأخرى المنشورة في ((المثقف)) بتاريخ 6 مايو 2012الا وهي قصيدة ((الحـــــــــــــارس))

الحارس :- مهنة استحدثها الإنسان بعد ان أصبحت له حيازة خاصة ، ربما يستهدفها طامع في داخل المجموعة او خارجها ، سواء في المدينة او الريف ، او بين القبائل البدائية في بدايات التطور البشري، هذا الحارس ليس بالضرورة يحرس ((حقا)) مكتسبا نتيجة التقسيم بين أفراد المجتمع وظهور الملكية الخاصة، بل حراسة مقتنياته وممتلكاته وغنائمه المغتصبة من الآخرين ، هذا الاحتراس الذي رافقته الإقفال ، والقلاع والاسيجة حتى عصرنا الحاضر ، حيث تم ابتكار وصنع وتهيئة أسلحة ووسائل رهيبة ليتسلح بها هذا الحارس الذي لا يريد ان يستريح ويريح فصار سحرا مخيفا انقلب على الساحر ولابد من أبطاله بنور شمس الحرية والعدالة والمساواة بين البشر بغض النظر عن اللون والعرق والجنس والقومية والدين .

جيوش وحراس

في عصرنا الراهن عصر الحكام الديكتاتورين والمستبدين ، واستحواذهم على الثروة والجاه / مما يتطلب تجيش الجيوش والعسس والحراسات من اجل قهر أي صوت حق او معارضة لنظام غاشم…. هذا هو عنوان نص الشاعر الكبير ، حيث أوقفه حارس السلطة ، ليس في مكان عام او خاص بالسلطان وإنما وصلت الوقاحة ان يستوقفه في باب بيته ومحل أمنه وسكنه وسكونه المفترض ان تكون لها قدسية خاصة، ولكن هذا الحارس الوقح تابع السلطان المتجبر بسائله مغتاظا…

فتأتي إجابته معبرة عن جمال روحه وشفافيته وبراءته ألا وهي جمالية وسلمية عصفور ،وأي عصفور انه عصفور من بلور لا تعرف أعماقه العتمة بل يسبح خلال جسده وروحه النور بسرور وحرية … هذه هي روح المواطن الإنسان الطيب المسالم … هذه هي روح الإنسان المناضل الحالم بالأمان والسعادة …… هذا الشفاف الجميل هذا الذي ((ضيع في الأوهام عمره))!!!! لاشك ان هذه ((الأوهام)) هي حلم الإنسان بالحرية والأمان والكرامة في بيته في وطنه في عالمه الفسيح ….

هذا الذي امضي عمره بين صدوع الصخر وقساوته ، والزهر البري الأبيض دلالة النقاء والطيبة والطهارة… وهو يستنشق قطرات الفجر الأولى، قطرات الوعي الأولى ، قطرات النضج الأولى ، قطرات التساؤل الوجودي الأولى ليس من الوهم وليس من عالم مفارق بل من واقع ارضي معاش ((من أفواه الأرض…)) أمه وحاضنته الأولى…

أنا الذي كنت العمر المطحون ، العمر المقهور ، العمر المهدور برحى الزمن الرديء القهار، زمن القتلة والطغاة، زمن الحروب العبثية الحروب العلنية المشتعلة تحت أسباب واهية كاذبة سواء باسم العزة الوطنية او القومية او محاربة عدو خارجي متخادم مع الحاكم لقهر واستغلال المحكوم …. وهنا يتشظى المعنى قذائف حارقة تدك حصون الطغاة وزيف ادعاءاتهم وتبريراتهم للحروب باسم الوطن والمواطن الذي يذبح ويهان ويعذب في أقبية الحكام السرية…. ولكنه لم يهن ولم يضعف ولم يستسلم، هاهو الإنسان المناضل ، هاهم أحرار العراق عند مقاومتهم للفاشية ، وقوى القهر في الماضي والحاضر وكأنهم يرددون مع الشاعر الكبير ناظم حكمت قوله مخاطبا جلاده :-

((أنا الذي أحمل في رسغي الطوق الحديدي
وكأنه سوار من ذهب،
وأتطلع إلى حبل المشتقة
دون ان يهتز جفني،
المكبوت المقهور نعلي؟؟)) .

وهو الصوت المخنوق المكبوت المقهور المصادر حقه في الاعتراض ، عبر كلماته البيضاء التي تنشد السلام والحب والعدل… هذه الكلمات التي المسحوقة المطحونة ((برحى الأوراق الصفراء)) أوراق الموت والتخلف المتواري بين قبور دارسة … وعيون الرقابة السرية في كل مكان في الشارع والبيت وأجهزة التصنت حتى في غرف النوم وجدران الأبنية حيث شاع بين الناس قول الاحتراز والخوف من رقابة السلطات ان على الإنسان ان لا يتكلم حتى إمام الجدار لان ((للحيطان أذان)) تسمع وعيون ترى..

وهذا ليس في ساحات اللعب والنزهة بل ((في ساحات القضبان)) ، لم يقف المطرب او العازف او الممثل او الشاعر الجميل بل (( يقف السجان بآلاف الإقفال)) ، دلالة على آلاف الزنازين المقفلة على الإنسان ، هذا السجان ذو اللسان الوقح الذي يصلي ضحاياه بكلام مزيف عن مجد مزيف وتاريخ مزيف بدعوى العصر الذهبي … هذا الزيف المنهزم والمندحر أمام عدو شبهه بنمر ورقي سيتداعى بنفخة من السلطان والقائد التاريخي قول نمر الورق الذي طغى على الشارع الصيني أيام ثورة ماو الثقافية وادعاءه ان الامبريالية نمر من ورق، سيحرقها التنين الأحمر!!!!!! أي نمر هذا الذي استطاع ان يمزق بوحشية العلم الأحمر في بلدان المعسكر ((الاشتراكي)) ولازال يفتك بشعوب العالم ويسلب وينهب ثروات البلدان من دون رحمة.

هذا الإنسان المغلوب على أمره وسط غابة من الشعارات وليست غابة مثمرة منتجة من مشاعر إنسانية واقعية، هذا هو واقع حال الحرب الايدولوجية الزائفة أيام الحرب الباردة كما أسموها ببين القطبيين الرئيس في العالم المعسكر ((الاشتراكي)) بقيادة الاتحاد السوفيتي السابق والمعسكر الرأسمالي بقيادة أمريكا… هنا الحارس يصاب بالذهول مما يسمعه من شعارات العداء والتآمر والقتل والتزييف التي كانت ضحيتها سعادة ورفاه الإنسان وأمنه والتلاعب بمشاعره والمتاجرة بأحلامه… القطب الهائج المتوحش المستفز و((قطبنا ))في العالم الثالث التابع العائد للبيان الأول بيان رقم واحد للانقلابات العسكرية الدامية التي أغرقت شعوبها ببحار الشعارات الملطخة بدماء ضحاياها الأبرياء.

هذه البيانات المزيفة التي تدعي الانتصار والغلبة وتغطي على هزائمها المنكرة ، في ظل هذا الواقع المنهزم المنكسر المزيف يتقهقر الحارس إلى كهوف وقبور الماضي السحيق ليعيش على ماضي زاهر لأجداده وأجداد أجداده ((القعقاع)) و ((نبوخذنصر))…. الخ في أوطان بلا مواطنين، بل في بلدان يحكمها السادة الرؤساء والأمراء والملوك وعبيد ليس لهم إلا الطاعة وتنفيذ أمر السيد((مواطنون بلا وطن))

ينتقل الشاعر المبدع والثائر الغاضب إلى الساحة العالمية ليبين دور المثقف العضوي والشاعر الثائر ممثلا بالشاعر الداغستاني ((رسول حمزاتوف)) الذي حاول ان يحرس بوابات وطنه داغستان بقصائده الرائعة المستمدة من واقع وتراث شعبه المكافح، صاحب مروج المعرفة الخضراء وتحت ظلال أشجار مثمرة مزهرة وتراث أسطوري ثوري لشعبه النبيل ، حين حاول ان يدافع عن مكاسب شعبه ووطنه ((الاشتراكي)) التي تحققت بدماء أبنائه وتضحيات الشعب السوفيتي الجبارة .. اصطادته يد العمالة والردة والخسة من أدعياء الحرية والديمقراطية المدفوعة من قبل قوى الشر والاستغلال الرأسمالي البشع مجسدة في الخائن والمنهزم ((غورباتشوف)) ورصاص ((يلسن)) رمز الخنوع والعمالة المتقنع بقناع الإصلاح والحرية والديمقراطية الزائفة.

هنا يوضح الشاعر موقفه معلنا رأيه وموقفه على الملا من أصناف وأنواع الحراس …. فهو يكره حراس الدولة العبرية ، وحراس شوارع بغداد المنفلتة ، وحراس أنفاق أورشليم وحراس جدران الفصل.

وهو بذلك لا يدعو للفوضى وعدم الانضباط والتسيب او إلى ((الفوضى الخلاقة )) فهو يحب الحارس الذي يحرس أحلام الإنسان وأمانه وأمنه وسعادته ، الحارس الذي يحمي الإنسان من وحشية أخيه الإنسان ومن عصابات الاستغلال والسلب والقتل ….

فهو يحب الحارس ، جيفارا، وهوشي منه ، وعبد الكريم قاسم مفجر الرابع عشر من تموز ومحب فقراء العراق ومحبوب الذي اغتالته قوى 8شباط 1963 البعثي القوماني الأسود…..

كذلك فان شاعرنا النبيل الواعي المنحاز للإنسان وحريته وتحرره كان يحب رموزا للثورة الفلسطينية ، عرفات ، وحواتمه ، وجورج حبش … ولكنه يقف مستغربا مستفهما مستنكرا ان يتحول هؤلاء الحراس إلى سجانين ومسجونين لبعضهم البعض بين القضبان العمياء الغير واعية المنقادة لذيول الدينصورات المنقرضة من الرجعيات وقوى التخلف العربي والإسلامي… هذا هو حال (( فتح وحماس)) في فلسطين الحبيبة

كما انه يمر بحالة اللا يقين في موقفه مما يجري في الصين ((الشيوعية)) بين حب هذا الشعب ومنجزاته والسمة العامة لنظام حكمه ولكنه يرفض الممارسات التي تقمع حرية الرأي للإنسان ويرفض مغازلة قوى الاستغلال العالمي او تمثل خططه وأساليب إدارته للبلدان ….

كما انه يغلق الأبواب أمام أي سؤال عن أدعياء حراس البوابة الشرقية التي كانت ممثلة بنظام صدام وسلطته وكذا أدعياء حراس البوابة الغربية او الوسطى وحارس إفريقيا الممثل بالقذافي المهووس اتهم جميعا وصف واحد لانكسارات الأنظمة العربية وانهزامها وعارها في الخامس من حزيران 1967 .

محطات العصفور البلوري

بألم بالغ ووجع صارخ يقول انه عاشق الندى ، ومرتشف قياسات الوعي من أمه الأرض أي من مرارة واقعه المعاش بين شقوق الصخر القاسي وبين الزهر البري الأبيض، هذا الذي ضيع عمره يحلم ب((أوهام)) الوعود ، هذا الذي عاش عسف وقهر السلطات الظالمة ، ورقابة عسسها وحراسها وسجانيها وسط غابات من الشعارات الزائفة والادعاء بماضي مندثر لتبرير حاضر مر.

ثم يرسم لنا صورة عالم الحكام التابعين في القرن العشرين وهم يتراجعون إلى ماض سحيق إلى الماضي وقبل الماضي.

يعرج على حال قوى الثورة الاشتراكية حلم الإنسان المقهور الذي اغتاله الكذابون وأدعياء الحرية والديمقراطية ((غورباتشوف ويلسين)) ، حين اصطادوا الشاعر المثقف الواعي ممثل روح الشعب وتراثه الإنساني الجميل مجسدا ب((رسول حمزاتوف))

يذكرنا بمجموعة (( داغستان بلدي)) الشهيرة لهذا الشاعر الكبير لسان حال العدل والحب والسلام والجمال….. يبرز الشاعر الثائر هويته يوضح للمتلقي ما يحب ولا يحب من الحراس ممثلة برموز هؤلاء الحراس وتوجهاتهم.

يحب حارس العدل والحرية والسلام والتضامن بين الشعوب مجسدة ب((جيفارا ورفاقه))، ويكره حراس الحرب والاستبداد والقبح والهزيمة حراس ((البوابة الشرقية)) وحراس ((هزائم الخامس من حزيران)) وحراس ((ملك ملوك إفريقيا))..الخ

بساطة الأسلوب وعمق الدلالة:-

شاعرنا الكبير لم ينجر وراء مودة عصر ((العولمة)) آلما بعد حداثة ، حيث يتوجب ان يكون النص غامضا ملتويا ، مقنع بأقنعة التخفي والتنكر ، عصي على الفهم من قبل المتلقي الذي يفترض ان يكون شريكا في المتعة وقراءة الرسالة المرسلة إليها ، قادرا على فك رموزها وشفراتها، وليس بحاجة لهيئة من علماء التأويل والتحليل لحل طلاسم النص وإيضاح معناه…..

هذا المنهج والأسلوب غالبا ماي كون هو اسلوب ومنهج الأدباء والشعراء حملة رسائل الجمال والحث والإيحاء ، أي اسلوب الشاعر الإنسان صاحب قضية تتبنى أحلام أخيه الإنسان ويسعى من اجل ان تكون الحياة أجمل وأفضل من أمثال (( نيرودا ، ولوركا وناظم حكمت و النواب…)) وكما يقول الشاعر المبدع عبد الستار نور علي في مقابلة له أجراها معه ميادة أبو شنب وجلال جاف في موقع المثقف حول بساطة كلماته ومباشرتها:-

((ان المباشرة في النصوص ليست نقصا او عيبا فنيا إذا أتقن الشاعر صياغتها بشكل فني راق يدخل نفس المتلقي بسلاسة وانسياب)) .

ولاشك ان شاعرنا الكبير هو صائغ ماهر للكلمات وللمعاني المبهرة الساحرة دون تعقيد، وهذه إحدى الميزات الإبداعية المشهود بها من قبل العديد من النقاد والأدباء والشعراء اللذين يقرؤون لعبد الستار نور علي.

انه صانع ماهر وليس متذوق رفيع الذوق فقط للمظاهر ومخابر صور وإيحاءات الجمال

(( الأديب ليس مجرد شخص متذوق لموسيقى الكلام، بل هو فوق ذلك -واهم من ذلك- شخص يصنع موسيقى الكلام)) 3

كذلك تتميز نصوص نور علي بعدم التكلف بل اصطياد السهل الممتنع ، ومحاكاة انسياب سواقي الماء النقي العذب وانعكاسات نور الشمس وضياء القمر على مويجاتها المتهادية صوب النماء والخصوبة والجمال، تمنح نفسها بممانعة جميلة شهية للطيور وللزهور وللإنسان الإنسان العامل المحب المنتج عاشق الجمال واسع الخيال ، انه نبع جمال وسحر متدفق بلا قيود ولا سدود حيث يقول:-

((إني أرى ان الإبداع الشعري هو ان تترك خزينك المتراكم تجربة وحسا وخيالا ولغة ومؤثرات ان يفرغ ما في داخله))

وكأني اسمع ناظم حكمت وهو يقول:-
((كأجمل أصوات الدنيا
ولسماع أجمل أغنية
إنما الأمل وحده لم يعد يكفيني،
أنا لا أريد، بعد ، سماعي الأغاني،
أريد ان اغني الأغاني))

هاهو عبد الستار نور علي لم يكتفِ بسماع الأغاني بل غنى أجمل الأغاني وارقها ، بصوت ساحر جميل ، صوت كلماته وإشعاره الرائعة…..لم يستورد مفرداته ولم يستدعيها من كهوف الماضي المندثر بل هو تعامل بذكاء وفطنة وعمق مع لغة عصره وبيئته ومجتمعه فنفخ فيها دفقت حياة جديدة متجددة والسها سحر بيان وقوة وجمال كيان نص أدبي ممتع ومعبر (( ان الأدب هو صورة معبرة تعبيرا حقيقيا عن المجتمع الذي يحيا فيه الأديب والذي تربى في أحضانه منذ نعومة أظفاره وقد تفاعل مع مقوماته المتباينة، ولاشك ان أداة التعبير الأدبي- اعني اللغة المنطوقة واللغة المكتوبة – هي أداة اجتماعية أولا وقبل كل شيء)) 4

الشاعر الكبير نور علي صاحب حس إنساني غاية في الرقة ، غاية في الحساسية، شاهد حي على واقع عصره ، شاهدا على عذابات وقهر ومأساة أبناء جنسه من البشر في العالم الأول والعالم الثاني، مأساة وقهر أبناء وطنه في العراق وعموم بلدان العالم العربي والإسلامي وبلدان ما يسمى بالعالم الثالث ،فقرر ان يمنح روحه للجمال ويقاتل القبح في كل مكان ، قرر ان ينتصر للمظلومين والفقراء والمشردين ، قرر ان ينتصر للطفولة والكهولة ، ان ينتصر للام والأخت والحبيبة المسلوبة الحرية والكرامة، فأنى له ان يكون إلا ثوريا متمردا على هذا الواقع المؤلم ، وكيف له إلا ان يصطف إلى جانب قوى التغيير والثورة وهو الذي يحس ويشهد:- ((الفرح غائب او مغتال والعدل مخنوق والحب لغة الجسد لا الروح ، والظلم سائد يمسك بخناق البشرية)) .

وفي الوقت الذي حلق شاعرنا الكبير في عالم الشرق والغرب وتفاعل مع فنون وآداب العالم المتطور وأبدع في تذوق جمالها وأساليبها ، عاش في بلدان الثلج والضباب ولكنه ظل وفيا لوطنه ولبيئته ولمحليته المغروسة صورها ، الجميل والمؤلم منها ، المضيء والمظلم في مخيلته الواعية وغير الواعية مصاغة بشكل فني باهر ، وبشكل رموز ودلالة مبهرة في اغلب نصوصه الأدبية (( نتصور الأديب وقد نظر إلى المجتمع من خلال دوائر متباينة الاتساع ، بينما يكون هو في مركز تلك الدوائر جميعا، فثمة اقرب دائرة له هي دائرة المجتمع المحلي، وثمة دائرة أوسع منها هي دائرة الوطن الذي ينتسب إليه، وثمة دائرة انتمائية أوسع نطاقا تتعلق بلغته او دينه)) 5

سامعو النيران

قال الشاعر البولندي ادم ميسكيدفتش:-

((ليت بوسعي ان اصب في قلوب سامعي النيران التي تلهب فؤادي))

وان لم يستطع ((ادم)) ان يصب في قلوب سامعيه النيران التي تلهب فؤاده فقد تمكن ان يصب تلك النيران في قلوبنا شاعرنا الكبير عبد الستار نور علي ، بقدرته الساحرة على استثارة العاطفة الانسانية واستفزاز الضمير الإنساني النائم ، وتجسيد صورة معاناة أخيه الإنسان وآلامه…..

كما قلنا في مقدمة إطلالتنا المتواضعة هذه ومحاولة الغوص في بحر إبداع الشاعر الكبير بعدة غوص بسيطة ومتواضعة ،حاولنا ان نجد ونجتهد وفق إمكانياتنا في الكشف والتأويل والتحليل جمالية وسحر إحدى جواهره ((الحارس)) من حيث الأسلوب وحنكة الصياغة ووحدة الموضوع ، والمفردة الرشيقة الممتلئة بمعناها والفَرِحة بموقعها في النص، كذلك حاولنا ان نسلط الضوء على معنى ومضمون النص ومحاولة إيضاح ما هو مستتر ، المتغنج سحرا عن إعطاء دلالته ومعناه بسهولة ليوفر للقارئ والناقد متعة التفكر والمشاركة في صنع المعنى، باعتبار القارئ الناقد يصنع نص مواز للنص الأصلي ولكل قارئ وناقد نصه الخاص به مع بقاء سدى النص الأصل مشتركا بين الجميع،، يسرنا ان نشارك الناقد والمفكر الكبير غولدمان في دور القارئ الناقد قوله :-

((صار دور القراءة النقدية “هو العثور على الطريق التي من خلالها عبر الواقع التاريخي والاجتماعي عن نفسه من خلال الحساسية الفردية للمبدع داخل العمل الأدبي او الفني الذي نحن بصدد دراسته “))6

فخلصنا إلى ان الواقع التاريخي والاجتماعي الذي عاشه المبدع الكبير ، مجسدا بشكل رائع ومبهر في نصوصه الأدبية والشعرية ومن خلال نص ((الحارس)) موضع الدراسة، نستطيع القول ان الشاعر الكبير كان فطنا ، حساسا متحسسا بقدرة كبيرة لما يدور حوله في بيئته ومجتمعه، انه المنحاز دوما للجمال ومن ينحاز للجمال ينحاز إلى أجمل القيم الانسانية التي تقودها لبناء عالمها الحر العادل الأمن السعيد وكما قالها دستوفسكي :-
((الجمال منقذ العالم)) 7

المراجع
1- من ملف حول الشاعر في إذاعة العراق الحر
2- ص13 سوسيولوجيا الفن طرق للرؤية تحرير :ديفيد انغليز و جون هغسون ترجمة :- د.ليلى الموسوي مراجعة :- د. محمد الجوهري عالم المعرفة 341 يوليو 2007
3- ص67 سيكولوجية الإبداع في الفن والأدب – يوسف ميخائيل اسعد طباعة ونشر دار الشؤون الثقافية العامة – آفاق عربية ط1
4- ص40 سيكولوجية الإبداع في الفن والأدب – يوسف ميخائيل اسعد طباعة ونشر دار الشؤون الثقافية العامة – أفاق عربية ط1
5- ص43 سيكولوجية الإبداع في الفن والأدب
6- غولدمان دليل الناقد الأدبي د. ميجان الرويلي د. سعد البازعي المركز الثقافي العربي ط4 2005 ص328
7- دستوفسكي – عودة الانسان ص32 – ترجمة د. ثائر زين الدين منشورات دار علاء الدين ط2 2009

-النصوص باللون الازرق اقتباسات من نص ((الحارس)) وحوار الشاعر في ((المثقف)).
* نصوص ((ناظم حكمت)) من الاعمال ا الشعرية الكاملة لناظم حكمت ترجمة فاضل لقمان دار الفارابي ط1 1981، ودراسات للاديب السوري الكبير ((حنا مينه)) عن ناظم حكمت.

[email protected]

http://www.azzaman.com/?p=73764

* عن جريدة الزمان الطبعة الدولية




تجلّيات الغربة ...
بين صخرة سيزيف ... وحلم السّندباد .
قراءة نقديّة في مجموعة "على أثير الجليد" (1)

د . سعد ياسين يوسف

تشكل الغربة المكانيّة ممثلة بالإغتراب عن الوطن " ظاهرة إنسانيّة عامه لا ينفرد بها جيل دون جيلٍ آخر فهي موجودة منذ وطئ الأنسان هذه الأرض وبدأ طريق المعاناة " (2)
ويبدأ الإحساس بالغربة عند الإنسان منذ لحظات الولادة الأولى ومغادرتة رَحِمَ أمه الذي مكث فيه لأربعين أسبوعاً قبل أن يُقطع الحبل السِّري ويدخل الهواء لأوّل مرة في رئتيه مشكلا له صدمةً وإحساساً غريباً، دافعاً إياه لإطلاق الصرخة الأوّلى.
وعلى مدى سني عمره يتكرر هذا الإحساس ولكن بشكل آخر وبدرجات متفاوتة عند الإنسان فيعبر عنه بصراخ ٍ من نوع آخر وقد ينعكس على سلوكه وردّات فعله وطرق التعبير عنها.
غير أنَّ تجلّيات هذا الشعور عند الشعراء يأخذ منحىً إبداعياً بعد أن يفقد الغبطة الحقيقية بعيداً عن وطنه وقد "قيل لأحد الأعراب ما الغبطة ؟ : قال : الكفاية مع لزوم الأوطان والجلوس مع الأخوان، قِيل له: فما الذلّة؟ قال: التنقل في البلدان والتنحي عن الأوطان (3)
وقد لازم الإحساس بالغربة الشعراء منذ القصائد الأولى التي خطتها يدُّ الإنسان معبراً عن حنينه لأرضه ولأحبائه وللغبطة المُفتقدة، وأمتدَّ ليتجسد بالأساطير الرافدينيّة، وليس أدلّ على ذلك من غربة كلكامش بعد أن فقد صديقه أنكيدو، لتستمر هذه الظاهره في الأدب الجاهلي والتي تمثلت بالبكاء على الأطلال، وما برز بعد ذلك في العصور الأمويّة والعباسيّة وصولاً إلى الأدب في العصر الحديث، ليظهر مفهوم (المكانيّة) في الأدب العالمي والتي وصفها غاستون باشلار" ...بأنَّها الصورة الفنية التي تذكرنا بذكريات ماضية " (4)
ولأنَّها ماضية ومهشمة فإن الشاعر يلوذ بالحلم ليحقق توازناً عبر كتابة القصيدة فالشعر على حدِّ وصف باشلار "حلم مكتوب "
وفي مجموعة (على أثير الجليد) للشاعر العراقي المغترب (عبد الستار نورعليّ) تتجلى معاني الغربة بأوضح صورها عبر نصوصه التي تراوحت بين القصيرة والطويلة والمتوسطة.

* سيميائيّة الغلاف وتجلّيات العتبات النصيّة :
منذ النظرة الأولى يمنحك الغلاف شعوراً بالغربة، وبمدى الألم الذي تكتنزه الرموز والإشارات المرئية فيه حينما يتسع الجليد، ويتشكل ككائن الفقمة الذي يرفع رأسه إلى السماء وقد تجمّد جسده المكتنز، ومن زاوية أخرى يبدو كقاربٍ غرقَ في الجليد لترتفع مقدمته إلى الأعلى على خلفية تتساوى في فضاءاتها الزرقاء الأرض بالسماء لولا فاصلٍ من خط ضوءٍ شحيح هو كل ما تبقى من مساحة الأمل بعد أن تجلّل العنوان واسم الشاعر باللون الأسود تعبيراً عن حزنه لما فقده، وما فقده كان كبيراً، عالمه، أرضه، ووطنه، فسعى إلى لملمة حلمه المكتوب، وليكون "العنوان خلاصة دلالية لما يظنّ الشاعر أنَّه فحوى قصيدته أو الهاجس الذي تحوم حوله، فهو إذاً يمثّل تفسيرالشاعر لنصه " (5) وهو من العتبات النصيّة الأوّلى التي تحدد معالم المجموعة ومرجعياتها الإبداعيّة.
وقد عرّف علماء الألسنية العناوين: " بأنها مجموع الدلائل اللسانيّة من كلمات وجمل وحتى من نصوص تظهر على رأس النصّ لتدلَّ عليه، وتهيئهُ وتشير لمحتواه الكلي، ولتجذب جمهوره المستهدف "(6)، وهذا ما يؤكده نصّ الشاعر الوارد في مقدمة المجموعة تحت كلمة (استهلال) والذي جاء فيه:
" حين تضيق السبل، يشعّ من الداخل ضياء يطفو لينير...حلم أنْ ترى الحروف سبيل النهار. الحروف التي عبرت مضائق المعاناة، واجتازت صخور الألم المدببة الملساء، تدمى أقدامها، تنزلق، ثم تنتصب، لتنطلق همسةً، صرخةً، من أعماق سيزيف، لا أنْ تنام في الظلِّ ملقاةً، يسامرها الغبار...." (7)
وجاء الإهداء ليضيف عتبة أخرى تؤكد لنا الإحساس ببرد الفقد وضياع الغبطة (والكفاية في لزوم الأوطان) كما قالها الجاحظ، ليلوذ شاعرنا بوطن ٍ ابتكره لنفسه وضاق به عليه هو وأسرته والتي أسماها وطنه والحضن الأثير وشعبه الأعزّ ليصنع غبطة ً وليذيب بعض الجليد كي تتسعَ مساحات النور.
وتأتي قصيدة المجموعة (أغنيات تُبثُّ على أثير الجليد) التي اجتزأ منها الشاعر العنونة والمؤلفه من عدد من المقاطع بعناوين فرعية لتؤكد تجلّيات غربته بكلِّ وضوح وتمنحنا إحساسا باللاجدوى والألم ومقدار الإحباط الذي عاشه الشاعر كما في نصّ (المغني):
"صعد المغني مسرحَ الكلامِ ،
غنّى...
ثمَّ غنّى
طربَ الناسُ ،
انتشوا ،
فبكى...
وتوارت كلماتُه ..."(8)
فما بين فرح الناس وطربهم ونشوتهم، يأتي بكاء المغني وهذا الشعور كافٍ أن يزرع الغربة في الروح في وقت لا يستطيع أن يبوح بما في قلبه وروحه.
ويأتي نصّ (الغريب) ضمن مجموعة النصوص المندرجة تحت عنوان (أغنيات تُبثُّ على أثير الجليد) لتمثل تصريحاً واضحاً على ما ذهبنا إليه :

"وكلُّ شيءٍ يُشعل الضجرْ
نحملُ فوق القلبِ والرقابْ
حقائبَ السفرْ
فكلَّ يومٍ نختفي عن أرضْ
ونلتقي بأرضْ
ترفضنا الخطوط بين الطولِ...
بين العرضْ ..." (9)
وكذلك نصّ (القفز) يظهر لنا أثر الاغتراب والبعد عن الوطن في تفاقم الشعور بالقلق والألم وعدم الاستقراروهذا ما يزيد إحساس الشاعر بالغربة وهو الساعي إلى الاستقرار والركون إلى أرضٍ تحتويه.
"قفزتَ بين الأرض والأرضِ...
والأرضِ..
وسُحْتَ
فتخطيتَ المكانْ
قلْ لي متى تشعرُ بالأرضِ
وبالأمانْ؟! " (10)
لقد عبّر شاعرنا هنا عن أحاسيسه والتي وصلت إلى ذروة التأجج حينما يتوجه بالسؤال لنفسه قائلا: " قلْ لي متى تشعرُ بالأرضِ وبالأمانْ؟!" فهو بين الفعل الظاهر وهو القفز بين الأرض والأرض ،وبين الكثير من الألم الذي لم يعد ظاهراً، بل كشف عنه السؤال المرير لنفسه ، يحقق تواجد "خصائص العناصر التي تجعل من الشعر شعراً... العناصر الظاهرة والخفية... " (11)
وجاء مقطع (الأمان) بما يشبه مقطع (القفز) من حيث المعنى والأفكار ولتأكيد المعاناة في رحلة الشاعر للبحث عن الأمان :
" لا شيءَ يستاهلُ أنْ تحملَهُ إلا الأمانْ
فكلُّ ما مرّ على الانسانْ
في كلِّ عصرٍ وأوانْ
البحثُ عن مكانْ
ينعم فيهِ بثياب الحبِّ والأمانْ" (12)

* تجلّيات صخرة سيزيف :
في قصيدته (الأحجار) يستدعي الشاعرهنا ثلاثة رموز الأول أسطوري اغريقي وتجسّد ب(سيزيف) ورمزين تأريخيين عربيين هما (عمار بن ياسر) وأمه (سميّة) من مشاهير الصحابيات في الإسلام، ليعبّر من خلاله الشاعر عن ألمه وسخطه على هيمنة القوة والسلطة، وما ينجم عن ذلك من ظلم ٍ ، فسيزيف يرفع الصخرة من أسفل الجبل إلى أعلى قمته وتسقط ليعود فيرفعها دلالة على ديمومة المعاناة والألم والعذاب الأبديّ، أما عمار وأمه سميّه فقد وُضعت الحجارة الكبيرة على صدريهما وهما مشدودان إلى رمال الصحراء الساخنة وتحت أشعة الشمس المحرقة ليوجه أبو جهل طعنة مميتة إلى قلب سميّة فماتت تحت أنظار ابنها لتكون أوّل شهيدة في الاسلام... وكلاهما تعرض لغضب الأرباب، فسيزيف حصل له ماحصل بسبب غضب الآلهه لتمرده عليها، وكذلك للرمزين العربيين بتمردهما على دين أسيادهما وإيمانهما بالإسلام وبقيمه السمحاء وهذا ما أختزله الشاعر في هذا النص ّ:
"يحمل فوق الكاهل حجراً
يتسلق جبل الآلامْ
يصعدُ...
يهبطُ...
في دائرةٍ، والأفقُ ظلامْ،
عمارٌ يحبسُ صرختهُ
سيزيفُ دؤوبٌ، مصروعٌ كالدولابْ
.......... ......
وسُميّةُ
فوق الصدرِ الضامرِ حجرٌ
ما أثقلُهُ ! " (13)
وقد اختصر الشاعر النصّ بكلمتين وصف فيهما غربته وهما (الأفق ظلام) تعبيراً عن اليأس واللاجدوى وهما شكل من أشكال الغربة والابتعاد عن الحلم، الذي طالما سعى إليه وهو يبحث عن حياة آمنة مستقرة .
إن الشاعر بهذا الاستخدام الرمزيّ لم يسعَ إلى التوثيق وكتابة هذه القصة تأريخيا، بل سعى إلى تمرير رؤاه الفلسفيّة في رفضه لغربة روحه حينما يكون مستلبا ومسحوقا بقوى عليا مهيمنة وبكل ما يمس كينونة الإنسان وسعيه إلى تحقيق أحلامه وخلوده حتى لوتطلب منه ذلك، وقوفه بوجه الآلهة. وبهذا الصدد يقول الفيلسوف أرسطو وهو يتحدث عن قيمة الشعر: " بأنَّه أقرب إلى الفلسفة وأسمى مرتبة من التاريخ "(14) ..... ”وإنَّ الشاعر في محاكاته للأشياء يسبح في الكليات بدلاً من الجزئيات التي ألفَ التاريخ قولها" .(15)
ولوعدنا إلى قصيدة (الغريب) لوجدنا ثمة تماثل وتطابق بين الشاعر و( سيزيف) في المعاناة حينما تتحول حقيبة السفر إلى صخرة سيزيف التي تثقل كاهله، وهو يحملها من بلد إلى بلد .
"وكلُّ شيءٍ يُشعل الضجرْ
نحملُ فوق القلبِ والرقابْ
حقائبَ السفرْ ..." (16)
فهو ذات المشهد السيزيفيّ الذي يعيش معاناته الأبديّة شاعرنا، ولكن في رحلة البحث عن الأرض والأمان لتترك (الحقائب – الصخرة ) أثرها ليس فوق الكاهل فحسب بل في القلب لأنَّ التعب ليس جسديا ً فحسب وإنما هو تعب روحي وفكري وعاطفي يتجسد في غربة الروح الباحثة عن غبطتها المفقودة عبر الترحال .
وفي قصيدته (قال الحكيم بيدبا) يلبس الشاعر قميص سيزيف، ولكنَّه جاء به هنا عبر تناصّ آخر ألا وهو مقولة الإمام عليّ (كرّم الله وجهه) المعروفة " ذقت الطيبات كلّها فلم أجد أطيب من العافية، وذقت المرارات كلّها فلم أجد أمَرّ من الحاجة إلى الناس ،ولقد حملت الصخر والحديد فلم أجد أثقل من الدَين ." (17)
وهكذا ينحو الشاعر هذا المنحى في وصف مكابداته فيقول :
"إني حملتُ الصخرَ
والفولاذَ
والقِمَمْ
والحرفَ
والأنوارَ
والكلِمْ
فلم أجدْ أثقلَ منْ
كلام دجالٍ حَكَمْ ...."(18)
إنَّ مجرد إحساس الإنسان بأنَّ رقبته بيد الحاكم الذي يفعل به ما يشاء وكأنَّه مَدين له تمنحهُ شعوراً صادماً من الألم والغربة والخوف مِن أنْ يقطع سيف الحاكم رقبته لا لشيء إلا لأنَّه رفض منطقَهُ .
وتطلّ فكرة الصخرة السيزيفيّة برأسها مرة أخرى وبقوة في مقطع من قصيدة (شهادة) :
" قد حملتُ الصخرَ والفولاذَ في الوادي السحيقِ،
بين لوع الشجر الملتفِّ والأغصانِ والزهر الحريقِ،
صاعداً نحو المسلّاتِ " (19)
تعكس هذه التكرارات المرجعيّة الثقافيّة لشاعرنا (عبد الستار نورعليّ) واهتمامه بالموروث البلاغيّ الإسلاميّ والذي تحول في لا وعيه إلى مهيمنات فكريّة تتجسد صوراً في شعره يعيد تشكيلها للتعبير عن غربته وألمه ومعاناته وحريقه الذي هوحريق البلاد (العراق) عراق الحضارات ومسلّات العلم والمعرفة البشريّة الأوّلى، وهنا يتوحد عنده الخاص بالعام والذاتيّ بالموضوعيّ في عزفٍ سمفونيّ حزين يكون شاهداً على الخراب الذي حلَّ بالوطن .
وفي نص ّ (الرحيل) لجأ الشاعر إلى التضمين من التراث الشعبيّ تعبيرأ عن حزنه من فقدان الأرض والأهل عبر دوامة التنقل في محطات غريبة لم تطأها قدمه سابقا ولا تمثل له طموحه ولا تمت لذكرياته ولروحه بشيء مما جعله أمام غربة لا متناهية حينما يقول :
"يا فشلة الملهوف ويدور هله بمحطات"
صرنا محطاتٍ
حقائبَ ...."(20)

* السندباد ومفارقة حلم العودة :
يعدُّ السندباد شخصية أسطوريّة من شخصيات ألف ليلة وليلة وهو بحّار من بغداد. عاش في فترة الخلافة العباسيّة، ويقال إن السندباد الحقيقي تاجر بغدادي مقيم في عُمان (21).
زار السندباد الكثير من الأماكن السحريّة وواجه الكثير من الصعوبات أثناء إبحاره في سواحل أفريقيا الشرقيّة وجنوب آسيا في رحلاته السبع، ومن هنا يأتي استحضار السندباد من قبل الشاعر لعقد مقارنة بينه وبين الصعوبات التي مرَّ بها الشاعر والسندباد على حدٍ سواء، وإظهار فقد الشاعر لحلم العودة إلى الوطن، والإندثار في غربته القاتلة منطلقاً من تقابل الفكرة وتشظي الرمز وإعادة تشكيله في ضوء ما يعكسه من معانٍ ودلالات:
" تحملُ الزادَ وتنأى عن سواقيكَ....
فترحلْ،
ترسمُ الشوقَ على الريحِ...
على الماءِ...
على النخلِ...
على الضلعِ... وتشهقْ
(.... .... )
سندبادٌ أنتَ؟
لا... فالسندبادْ
حلمهُ طيفُ المعادْ،"(22)
فقد رسم شاعرنا النصّ بثنائية واضحة حينما قرن نفسة بالسندباد، سوى بالحلم، فالسندباد متاح له تحقيق حلم العودة إلى وطنه وقد فعل لينعم بالدفءِ على عكس الشاعر الذي تعذرت عودته وبهذا فقد فكَّ اقترانه بالسندباد، ليعود إلى غربته التي ألفها.
ويُظهرلنا الشاعر عبر هذا النصّ كيف فُرضت عليه الغربة والتي لم تكن حلمه، وخارج سقف توقعاته ولذا فهو يتوجه لنفسه بالسؤال فيقول:
" سندبادٌ أنتَ؟!
هذي رحلةٌ ليستْ على خارطةِ الحُلْمِ
على ما كانَ ينوي السندبادْ،
سندبادٌ أنتَ منْ أشتاتِ أرضٍ ..." (23)
ويتأكد هذا المضمون ـ أي الهجرة القسريّة والترحال ـ في قصيدة (رشدي العامل) والتي يصرح فيها عن رفضه للهجرة والترحال :
" في كلِّ يومٍ هجرةٌ،
فشاعرٌ يحطُّ بينَ غابةٍ
تلتفّ بالأشباح والأضدادْ"
...... ......
"وشاعرٌ ماتَ مع المساءْ،
في كلِّ يوم هجرةٌ...
منفىً... رؤىً..صمتاً... واختفاء،" (24)
تُظهر لنا هذه القصيدة بكلِّ جلاء اندفاع الشاعر إلى غربته ورحلاته السندباديّة قسراً بفعل الأشباح والأضداد الذين يحاصرون الشعر والشعراء في غابة اسمها الوطن. ولذا فللشاعر كلّ يوم منفى واحتمال موتٍ وهذا ما حصل للشاعر العراقي رشدي العامل.
ويأتي استدعاء هذا الرمز الثقافي في المجموعة إلى جانب رمز ثقافي آخر هو المبدع (بلند الحيدري) الذي وصفه بأنّه شيّد جسراً بين وجهين وأقام صرحاً لرسوخ الحبّ ليطلَّ بعدها من خلال رمزفكري ثالث وهو (الحلاج) على موضوعة الثبات على قول الحقّ والمبدأ، حتى لوكلف ذلك الإنسان أن يهرب إلى منفاه، أو حياته بالصلب والذي اختاره الحلاج مزهواً:
"هو ذا الحلاجُ مصلوباً ،
ويزهو
دون أنْ يعرفَ للخوفِ طريقاً
أو رفيقا..." (25) .

* الملاذ الآمن ... المرأة :
على مدى مجموعته على أثير الجليد تختفي المرأة في شعر(عبد الستار نورعلي) إلا من إشاراتٍ نادرة وكأنَّه أراد أن يخوض حربه مع الحياة ومواجهة الغربة لوحده متحلّياً بخلق الفرسان في أن يتصدى لهذا الموضوع بكلِّ شجاعة دون أن يقحم الحبيبة فيه، بل جعل الحبيبة ملاذهُ الآمن بعد أن ينتهي من معركته ويلقي بجسده تحت ظلال نخلتها متأملاً أعذاقها حالماً بتمرها، وليبث لها وجده وما عاناه في رحلته السندباديّة في مواسم الهجر والبعد والمنفى ومعاناته الأبديّة وهو يحمل صخرة الغربة والترحال على كتفه كما في قصيدة (ذريني):
" دعيني ألمسُ الأعذاقَ في نخلي،
لعلّي أحصدُ التمرا،
فأغرقُ ضفةَ الشطينِ بالأشعارِ والشهدِ
كلاماً عامراً بالحبِّ والوردِ
دعيني، فالمرايا تعكسُ الأصداءَ في وجهي
تجاعيداً طواها الدهرُ في الجلدِ
أقامَ مواسماً للهجرِ والبعدِ
دمي شريانُ أغنيةٍ.." (26)
ويعكس عدم اقحام الشاعر المرأة في رحلاته وأهواله التمسك بمنظومة القيم الشرقيّة والمرجعيات الثقافيّة والاجتماعيّة التي تسعى لصيانة المرأة وإبعادها عن المصاعب حيث يتكفل فارسها بالدفاع عنها وتحقيق ما يصبو إليه بشجاعته ومثابرته ليعود إلى دفئها وهي تضمّد له جراحاته وتُنسيه أهوال غربته.
وإذا اعتمدنا تأريخ كتابة القصائد كمرجعية لفهمنا لقصائد المجموعة سنجدها تشير إلى حقبة صعبة في حياة الشاعر، وهي حقبة تسعينيات القرن الماضي وما شهدته من تطورات سياسية ضاغطة على الإنسان العراقي بعد أن خرج من حرب شرسة مع ايران ليُزج مع بداية التسعينيات في حرب أخرى، أعقبها حصار دولي مما دفع الكثيرين إلى الهجرة وركوب أهوال الغربة والضياع والتشتت في المنافي إذْ نجم عنها شكل من أشكال الأدب الجديد الذي يعكس إحساس الأنسان العراقي بالغربة، وبالمقابل برز هذا الإحساس حتى لدى من بقيَ في الوطن بعدما حالت الظروف عن خروجهم من أتون الحياة ليعيشوا غربتهم في داخل الوطن ولينعكس ذلك في نتاجهم الأدبيّ .
ولو تناولنا النتاج الشعريّ والسرديّ خلال فترة التسعينيات للمبدعين العراقيين الذين لم يهاجروا لوجدنا الكثير من النتاجات التي تتشح بالغربة والمعاناة، غربة الوطن وغربة الروح لما حلَّ بهم، والذي يوازي الإحساس بالغربة الناجم عن ترك العراق.

* عتبات جانبية :
- لقد غلبت التفعيلة على قصائد المجموعة بشكل واضح جداً وكثيراً ما كان الشاعرُ يفخّم موسيقاها بالقافية مُعلياً صوت الإيقاع المتفجر في القصيدة ليوازي إيقاع روحه المتفجرة ألماً وثورة على واقعٍ مرير، فيما لم نلمس ذلك في منجزه المتأخر الذي مال إلى التروي والتكثيف والإبتعاد عن الإيقاعات العالية والتي تندرج ضمن توصيف قصيدة النثر وقصيدة (نصّ خارج النصوص) خير دليل على ذلك، وحسناً فعل الشاعر في ذلك لمواكبة تطور القصيدة العربية الحديثة التي أشتغل روادها، السياب، نازك، ومن ثم أدونيس، على النهوض بها لتواكب حركة الشعر العالميّة .
أما لغة القصائد فقد كانت سلسة ومنسابة تبتعد عن كل ماهو غريب وناتيء في اللغة، سعت بجِرسها إلى أنْ تمنح المتلقي حرارة ودفق إحساس الشاعر. ويتظافر الجِرس الموسيقي مع جمال الصورة الشعريّة لتقدم للمتلقي مشهداً شعرياً اشتغل عليه شاعرنا بمهارة الشاعر الستينيّ، إضافة إلى وجود مقاطع شعرية عالية التكثيف كما في قصيدته (معزوفات غير موسيقيّة للفرح) .
إن الشاعر عبد الستار نورعليّ من خلال مجموعته الأولى هذه استطاع أن يكون شاهد عصر، ومسلّة رفض لما لحق بشعبٍ بأكمله بعد أن وظف وعيه وقدراته الإبداعيّة ومنظوره الفلسفيّ في إطلاق نشيده "على أثير الجليد" وليذيب جليد حزنه منطلقاً إلى آفاقه الإبداعيّة الرحبة .
______________________
(1) مجموعة شعرية للشاعر عبد الستار نورعلي ، مركز أنشطة
الكومبيوتر في أسكلستونا / السويد 2000، ط1
(2) فاطمة محمد حميد الموسوي ، الاغتراب في الشعر الأموي ، مكتبة
مدبولي ط1، ص7.
(3) عمرو بن بحر الجاحظ ، الحنين إلى الأوطان ، ط2، دار الرائد
العربي 1982ص 38- ص39.
(4) غاستون باشلار، جماليات لمكان ، غالب هلسا ( مترجم ) ط2،
بيروت، المؤسسة الجامعية للدراسات ، 1984، ص6.
(5) عبد الله الغذامي ، ثقافة الأسئلة ( مقالات في النقد والنظرية ) دار
سعاد الصباح ، ط2 ،1992 ، ص 48.
(6) رشيد يحياوي ، الشعر العربي الحديث ، دراسة في المنجز
النصّي،أفريقيا الشرق ، الدار البيضاء ، 1998، ص115
(7) عبد الستار نورعلي ّ ،على أثير الجليد ، المصدر السابق ص5
(8) على أثير الجليد المصدر السابق ص23
(9)المصدر نفسه ص26
(10) المصدر نفسه ، ص29
(11) أحسن مزدور. مقاربة سيميائيّة في قراءة الشعر والرواية. ط1،
مكتبة الآداب، القاهرة، 1425هـ - 2005م. ص65.
(12) على أثير الجليد المصدر السابق ص32
(13) المصدر نفسه ص37
(14) أرسطوطاليس في الشعر، نقل أبي بشر متّى بن يونس القنّائي،
حققه مع ترجمة حديثة، شكري محمد عياد، القاهرة، دار الكاتب
العربي للطباعة والنشر، 1967. ص64.
(15) ينظرالمصدر نفسه. ص ن.
(16) على أثير الجليد المصدر السابق ص26
(17) ينظر نهج البلاغة ،تحقيق محمد عبده ،دار البلاغة – بيروت،
ط5 ، 1412 هجرية .
(18) على أثير الجليد المصدر نفسه ص40
(19) المصدر نفسه ص71
(20) المصدر نفسه ص47
(21) د.عبد الرحمن عبد الكريم العاني، تاريخ عمان الإسلامي، مطبعة
العاني، بغداد، 1985، "أطروحة دكتوراه" ص 23
(22) على أثير الجليد المصدر السابق ص53 .
(23) المصدر نفسه ص51
(24) المصدر نفسه ص66
(25) المصدر نفسه ص77
(26) المصدر نفسه ص96-70

صحيفة (المثقف) العدد 5106 / 28ـ8ـ2020
https://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=949344&catid=326&Itemid=1239

مركز النور 29. 8. 2020
http://www.alnoor.se/article.asp?id=369170

دنيا الوطن 29.8.2020
https://pulpit.alwatanvoice.com/articles/2020/08/29/531065.html








قصيدة "الرواية الأولى"
للشاعر عبد الستار نورعلي

أ‌. د. بشرى البستاني

سأتوقف ـ فقط ـ عند عنوان هذا النصّ الباذخ ـ ( الرواية الأولى ) ـ الذي يشكل جملةً اسميةً تتكوّن من مبتدأ وصفة، أما الخبر فهو النصّ، وبذلك تكون العلاقة بين العنوان والنصّ علاقة عضوية، لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر. فالنصُّ هو الذي سيحدِّد لنا كُنْهَ الرواية الأولى للشاعر، وبذلك ( يكون للمبتدأ كينونة ووجود) .أو إنّ العنوان ـ ( الرواية الأولى ) ـ خبر لمبتدأ محذوف تقديره ( هذه هي الرواية الأولى ) . والحذف يضفي جمالاً على النصّ ويجذب انتباه المتلقي ويحثه للكشف عنه .
اما الصفة هنا فوظيفتها إزالة الإبهام عن العنوان والإيحاء بوجود روايات أخرى بعد الرواية الأولى.

هذا بالنسبة للبنية التركيبية للعنوان، فإذا جئنا للجانب الدلالي فسنجد أنّ الرواية لها مدلولان:
حسّي، ومجازي وأدبي.

فالمدلول الحسّي ينحصر بما يتصل بالماء من إناء يحمل فيه كالمزادة، ومن حيوان يُحمَل عليه كالبعير، ومن انسان يحمله مُستقياً او مُتعهِداً دابةَ السقاية. ومن مجاز هذا الحمل حملُ الديّات كقولهم ( بنو فلان روايا الحمالات). ومن مجاز الحمل ايضاً حمل الأشعار، والأحاديث الشريفة، والقصص وروايتها.

وأرى هنا أنَّ من مجاز هذا الحمل أيضاً: هو حمل هموم الإنسان ومشاكله الوجودية، والتعبير عنها شعراً، ونصّاً إبداعياً كهذا النصّ لشاعرنا. فالنصّ يروي مشكلة البحث عن الحقيقة. إنه يثير أسئلة كثيرة عن مشكلة الخَلْق الأولى التي أخرجت (آدم عليه السلام) من الجنة، فضلاً عن مشكلة الحياة والموت، والعدالة والظلم.

وأول مشكلة يعرضها لنا: هي مشكلة (الحبّ) الذي يُعدُّ اساسَ بناء الإنسان، ومن ثم المجتمع. لكنَّ الحبَّ هنا في أزمة، فللحبّ هاجرة، ورسوم العشق في صحراء ترابية، وهو يصطاد ريحاً بشِباك اشواقه بكلّ ما في الريح من دلالات العذاب والموت والشقاء. هكذا يروي لنا الشاعر عن الحبّ في شعرية مدهشة من خلال الاستعارات التي تفيض بالجمال والعذاب حتى نستطيع أنْ نقول أنَّ ( الشعر هو استعارة كبرى ).

فالحبّ في روايته ليس الحبّ الذي يتمنى، فهو عنده (رقيٌّ) وصعودٌ الى الأعلى حيث النور والعدل اللذان يُطفَئان في طريق البشرية، وفي كل زمان ومكان، فيُرمى النقاء ( الأمل _ الأمنية ) على رصيف الحياة رغبة مشاعة للدهس لكل عابر سبيل يحمل سوء الطوية ليُراق دمه (النقاء).

وإذا كانت الرواية الأولى تحمل كل هذه المعاناة والشاعر في أوج شبابه (كتب القصيدة عام 1971)، والوطن ايضاً لايقلُّ عنه قوةً، فكيف ستكون الرواية الثانية بعد مرور هذه السنوات الطويلة وفي ظلِّ ظروفنا الحالية؟؟

أقول : لعلنا لسنا بحاجة الى رواية ثانية، فـ(الرواية الأولى)، بإسميتها ودلالتها على الثبوت، والتعالي على الزمن ـ عبّرتْ عن قحل الأيام ماضياً وحاضراً ومستقبلاً ، ولا فائدة من رواية المزيد إذ إنّنا لا نجد في زمننا هذا إلا الجفاف، وعدم الارتواء والانطفاء :

آه ياقصصَ الحناجر في التهامِ العشق،
هذا ابنُ المزامير صدى الواحات لم يروه نبعٌ
جفَّ في حلقه نبتُ العشقِ
وانطفأتْ شموسُ الرغبة الأولى

ولكنْ: هل الذاتُ الشاعرة تستسلم لليأس ..؟
أقول: لا.
فالعنوان بمعناه الحسّي الذي يتصلُ بالماء، وحامله بكلّ ما في الماء من رموز الحياة والنماء والخصوبة، سيلقي ظلاله على النصّ ومبدعه ويجرُّهما الى برّ الأمان ولو بعد حين.
الكلام يطول حول التعبير عن جمال هذا النصّ بلغته وايقاعه وصوره وطقوسِ روايته لآلام الإنسان، وعذاباته في كلّ زمان ومكان.

أ‌. د. بشرى البستاني
صحيفة (المثقف) العدد 4347 الاثنين 30.7.2018 :
http://www.almothaqaf.com/b/c1d/929641
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* من دواعي فخري واعتزازي حرص أستاذتنا الفاضلة على حضور مناقشة رسالة الماجستير للباحث "سرهد حسن نجم" بعنوان (بنية العنوان في قصائد عبد الستار نورعلي ـ دراسة سيميائية) التي قدمها الى جامعة صلاح الدين/ أربيل/كلية اللغات/ قسم اللغة العربية عام 2017، ومشاركتها في المناقشة ودعوتها الباحثين للأهتمام بدراسة شعري.
(عبد الستار)

نصُّ القصيدة:
الرواية الأولى:

وفي صمتٍ طويتُ البحرَ في عيني
وفي صمتٍ حملْتُ البيدَ في قلبي سرايا
نحو هاجرة الهوى ، رُحتُ أصلّي
أرفعُ الراياتِ للعباس ، أستجلي
رسومَ العشقِ في صحراء أغنيةٍ ترابيهْ ،
رميتُ شِباكَ شوقي اصطدْتُ ريحاً
صرتُ أحصدُها ، مررْتُ أناملي فيها
تقصّيْتُ الحقيقةَ عنْ رؤىً في عِرقِ أمنيةٍ سرابيهْ ،

وتلكَ روايةٌ حمراءُ تروي قصةَ الماضين في رَهَبِ ،
صحارى تحملُ الواحاتِ انجيلاً من السَغَبِ ،

أتلك روايتي ؟
قالوا : نعم !
ولكنْ تلكمُ الراياتُ سودٌ ، والرماحُ لظىً ،
وخيلُ الشوقِ قد هُدّتْ أعنتُها ،

فهامَ الفارسُ الغافي على صوتِ الشجا يروي ملاحمَهُ
ويحكي قصةَ الانسانِ في حبِّ المرايا
يرتمي في نبضها يغفو على هزِّ الأراجيحِ
فتاهَ وما خيولُ الشوقِ عادتْ منْ حصارِ البيدِ ماعادتْ ،

يتصلّبُ الهواءُ على وقع سنابكِ الفارسِ المرميِّ في أحضانِ العشقِ المراقِ دمُهُ ، ينامُ على فراشِ الثعالبِ تحملُ أوزارَ الشوكِ النابتِ في قلبِ أمنيةٍ تلوحُ على راحةِ الليالي وتختفي في أزقةِ النهارِ الجائع للمصابيح ،
أينَ دمُهُ ؟
الترابُ يمتصُّ الدمَ قانياً
يروي عطشَ الديدانِ في زوايا ممالك النملِ والعقارب ،

وتلكَ روايةٌ عمياءُ عن حبٍّ يلوحُ على حبالِ مشانق الرغبةْ،
يموتُ الرسمُ فوق جدار حلمٍ راقصٍ في ساحةِ النشوةْ،
يذوبُ الصوتُ في وهجِ التراتيلِ
تلوحُ الرايةُ الخضراءُ في صمتِ المواويلِ
وتسقطُ في الهزيمةِ خنجراً يُدمي رواياتِ الأناجيلِ
عن الحبِّ، عن الصفعِ، عن الصفحِ،
عن الانسانِ في لغةِ السماحاتِ،
تموتُ دلالةُ الرؤيا، وترتفعُ التراتيلُ الصديديةْ
تنزُّ هوىً بطياتِ الحكايات الطفوليةْ
عن العشاقِ هاموا في سماء الوجدِ مارجعوا صواباً
غيرَ أنَّ دماءَهم زُفّتْ عرائسَ في حشودِ الموجةِ الكبرى
إلى أرض المواعيدِ
فغابوا في حسابِ الخدعةِ العظمى، وغنوا جوقةً،
عادوا هياكلَ ترتوي طينا،
وتشربُ من كؤوس الخدعةِ الأولى،

ايا آدمْ،
سليلَ الطينِ، يأكلُ نسلُكَ الطينا،
أيا آدمْ،
لقد ضيَّعتْ فينا كلَّ أسرار الرسالاتِ
وأشبعتْ السلالاتِ
بكلِّ الحبِّ والتوقِ إلى دنيا المراراتِ،
أيا سُحُباً، ومدَّتْ ظلَّها الأجوفَ
في عينيكَ ياحبّي ويا سهري،
هذاكَ الخِصبُ في جسدِ العرايا ضلَّ صاحبُهُ
وجفَّ الغيثُ في قارورة اللهبِ،

وتلكَ روايةٌ هزّتْ أسانيدَ الأحاديثِ

وتلكَ روايتي!
قالوا : صدقْتَ.

غاب الصوتُ في الحلم الذائب في رجع الصدى القادم من بين السطور ، فأكل آدمُ التفاحةَ راضياً مرضيّاً ليضيع في متاهات المرئيِّ .

منحتُ الفارسَ الغافي تعاويذي
أدارَ يديهِ في قُفلي فما فتحَتْ
فصارَ يطوفُ في شُهُبٍ على روحي
وألقى الرحلَ في لغةِ المراراتِ
وفي حِممِ الخطيئةِ راحَ لونُ الشمسِ منطفئاً،
فيا حواءُ، هذا ابنُكِ قد شُلّتْ بقاياهُ،
تعوّدْتِ الخطيئةَ في انطلاق النارِ منْ حَلْقِ الأباطيلِ
ومنْ وترِ الأضاليلِ،
رميتِ ابنكِ في الشارعِ ظلاً للخفايا
رُحْتِ تلتهمين فاكهةَ الخطايا
تحملينَ أجنّةَ الشيطانِ في الحشرِ
وتلتقطينَ نجمَ العشقِ تسليةً وتحتلمين بالبدرِ،
فلا كانتْ رياحُ العشقِ، لا كانتْ، ولا بقيتْ،
فمنذُ تآكلتْ روحُ البريّةِ منْ تماديها
فقد حالَ الرحيقُ العذبُ مُرّاً
تاهَ عزفُ النور في وترِ الأقاصيصِ ،
وهذا اسمُ الطريقِ تغرُّبٌ، صمتٌ على الأجيالِ يهبطُ ينشرُ الغفوةْ،
وهذا اسمُكَ، يا آدمُ، صنوُ القمةِ الشوهاءِ
في جبلِ الطحالبِ، في غروبِ الأمسِ واليومِ ونيرانِ الغدِ،
وهذا اسمُ الخطيئةِ في انحدار السفحِ نحو قرارةِ الوادي المشاعِ
لكلِّ ذي عينٍ تمجُّ اللونَ في خضرةِ أثمارِ
وتنفرُ من بذارِ السعدِ في رَحَمِ المسراتِ
وفي سِفرِ الرسالاتِ،

أيا صوتَ الرغائبِ،
تلكَ ملحمةٌ تئنُّ على صراطِ القلبِ تروي ظلَّنا صمتاً
يداعبُ سمعَنا المشحونَ بالنومِ،

صُلِبَ الوجهُ على وجهِ الرصيفِ ومرّتِ العرباتُ وقرعُ الأقدامِ فوقه ... تصبّبَ العرَقُ في شعابِ العينين ... فشربتِ الشفتانِ كأسَ الملحِ ... تصلّبتا على شفيرِ الكأسِ ... سقطتا في مزالقِ التمنّي .....

أيا وجهاً رواهُ الحزنُ،
طافَ على ملامحهِ اصطخابُ الدهرِ بالأحلامِ والنشوةْ
رحلْتَ على عيونِ الآخرينَ شربتَ
منْ كأس المرارةِ رحلةَ الغصةْ
وعُدْتَ على بساطِ الجوعِ والعطشِ
تحمّلْتَ الشرائعَ فوق كاهلكَ
أخذتَ تهزُّ نشواناً على انشادِ سُمّار السلاطينِ
رجعْتَ مُسمَّرَ العينينِ والشفتينِ والأذنِ
وقد مسخوكَ أغنيةً ومرثيةْ
فتاه الصوتُ في الشفةِ الرماديةْ
وتاهَ عويلُ حزنكَ بين ضحْكاتِ الأباطيلِ،
أيا وجهاً رواهُ دمي ونزَّ عليهِ صوتي واقتحاماتي
وروّيْتُ الجفافَ على بقاعكَ خضرةً، خِصبا
ودُرْتُ على ميادينِ المغافلِ رؤيةَ الغاوي
وعشْتُ مع المغانم صورةً خرساءَ
لا لونٌ ولا أُطُرُ
فديسَتْ رحلةُ الأيامِ في حربِ المسافاتِ
وغابتْ طرقُ اللهفةِ في سيلِ الأحابيلِ
فقالوا، ثم زادوا :
آهِ يا قصصَ الحناجرِ في التهامِ العشقِ،
هذا ابنُ المزاميرِ صدى الواحاتِ لم يروِهِ نبعٌ
جفَّ في حلقهِ نبتُ العشقِ ،
وانطفأتْ شموسُ الرغبةِ الأولى ...
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ





الأنا بوصفها روحا مطلقة ..
قراءة في قصيدة الشاعر عبد الستار نور علي (الحارس)

سلام كاظم فرج

في نص الشاعر الأستاذ نورعلي تبرز الأنا بوصفها روحاً لا بوصفها دالةً على شخص الشاعر نفسه
رغم ما نجده في حيثيات النصّ من رجع لماض بعيد هو نفسه ماضي الشاعر..
ولذلك..يخطيء من يرى في النص مديحاً للذات او تمجيدا او تأسيا فرديا.. او حتى ندما على خيارات او رهانات.. استنزفت ايام العمر.. ولا حتى اعتزازاً وافتخاراً عابراً .. (تلك سمة النصوص العابرة. ونور علي اعمق من ان يكون كذلك..)
في البداية لنتلمس المفردات المفضية للأنا التي نعنيها:
"أوقفني الحارس.. يسألني...، أجبتُ: انا مَنْ ضيّعَ في الأوهامِ عمرَه، كنتُ العمرَ، كنت الصوت المخنوق، انا اكره ذاك الحارس، لكني احب الحارس جيفارا. والحارس كريم قاسم، والحارس هوشي منه،"
نعم هو عبد الستار نور علي بعينه.. وهو الشاعر نفسه..
لكن هذه الأنا لا تنفصل ابدا عن محيطها الذي سارت به، هذه الانا.. لا تتحدث هنا عن حب فاشل او مجرد نكسة او نكبة او خسارة قد يمر بها الانسان الفرد.. (ابن الرومي مثلا حين يرثي واسطة العقد). او المتنبي حين يعاتب سيف الدولة ويشكو غدر الزمان. لانه لم يحقق حلمه بالامارة..) الأنا هنا...وجدتها وقد خاضت في بحار النضال الجمعي لا النضال الفردي.. وعبرت رحلة طويلة في عالم الموجودات المادية ..وما تخللتها من عثرات وانتصارات.. هذه الانا وصلت الى اعلى مراحل الوعي بذاتها لتتحول الى أنا مطلقة جمعية تجمل كل تأويلات التاريخ المعاصر لحركة اليسار الحقيقية. وخيارات اليسار الانسانية لا المزيفة..
هذه الانا التي وصلت الى عتبة الفلسفة وهي في اوج وعيها وجدت ان هناك من يستوقفها ويسألها ويحاكمها..ويضعنا الشاعر الاستاذ نور علي امام محنة التعرف على نوعية هذا الحارس القاضي.. الذي يسأل الشاعر..ولنجد ان للحارس اكثر من قناع..
الحارس هنا هو الشاعر نفسه في تجلياته المتسامية. المتماهية مع اكثر من (أنا) خلدتها الايام.. هوشي منه. جيفارا. عبد الكريم،
والحارس هنا.. هو الآخر الذي لم يسبر غور المحنة والمسيرة الطويلة.. يقف ليسأل الشاعر من انت؟؟
هذه الاقنعة المختلفة.. ميزت النص كواحد من اكثر النصوص العميقة المثيرة للجدل النقدي..
ورغم ما نجد في النص من بساطة تجعله متاحا لقراءة شفافة لجمهرة القراء.. لكن مكامن التنوع في بنيته الشعرية تحتاج الى اكثر من وقفة نقدية..
ان الاستعارة. استعارة المفردة واستعارة القناع.. وتنوع مدلولات القناع نفسه تحيلنا الى فكرة النص الاصلية التي جعلت من قناع الذات (ذات الشاعر) صورة لقناع جيل بكامله.. وفي اشارة لافتة الى سينما الخمسينات اكثر من دلالة لتركيز هذه الفكرة..
يعاتبني اكثر من صديق.. ان تقديمي للنصوص لايشتمل على قراءة نقدية متكاملة..
فأقول ان استنساخ النص. واستنساخ الشاعر. وتناول كل انزياحات النص وإحالاته ومدلولاته..تنجب قارئا كسولا. وانا افضل ان اكون ناقدا كسولا على ان افرط بالقاريء..
وعليه ان نص الاستاذ عبد الستار نور علي هذا.. يحتاج الى جمهرة من النقاد لتداوله وتناول اكثر من مفصل رائع وبديع فيه..
وهنا يطيب لي ان اشكر الاستاذ الناقد حميد الحريزي الذي سألني عن امكانية تقديمه لنص الاستاذ نور علي هذا الى ملف النقد..(اتصل بي هاتفيا) فقلت له.. ان ذلك شرف كبير.. لكن دون ذلك اهوال!!..في اشارة مني الى تنوع الاقنعة وتداخلها في النص..
تحية لاستاذنا الشاعر والناقد الكبير الاستاذ عبد الستار نور علي. وعسى ان نكون قد وفقنا في تقديم جانب من جوانب النص المتعددة الاحالات .. وتلك هي مهمتنا.. تحريض النقاد على تناول النص . وتحريض القراء على العودة اليه برؤية مختلفة...
وتبقى مهمة إضاءة كل الجوانب مهمة عسيرة تستدعي اكثر من وقفة واكثر من قراءة.. وأن يقرأ النص برؤيتين مختلفتين.. من اجمل متع القراءة. .ودليل حي ملموس على ان النص يحتوي على باقة من التأويلات والفرضيات.. وتلك لعمري سمة من سمات النص المعاصر الأكثر اهمية وجدية وخطورة..

http://almothaqaf.com/index.php/araaa/65084.html


عبد الستار نورعلي
وقصيدة (الرواية الأولى)

جمعة عبدالله

(الرواية الأولى) هي قصيدة للشاعر (عبد الستار نورعلي)، نُشرت لأول مرة عام 1971 في مجلة (الثقافة) العراقية التي كان يصدرها الراحل الدكتور (صلاح خالص)، ويرأس تحريرها زوجته الدكتورة (سعاد محمد خضر).
تمتاز القصيدة بأنّها واسعة الأفق والتداعيات اللامحدودة، التي تستنبط رحلة عذاب الانسان الطويلة، ومديات العشق ومراراته. قصيدة تعاطت في اسلوبها الشعري المؤثر اسلوبَ (الملاحم الشعرية) بنفَسها الطويل، الذي يستقرئ ويستنبط كلّ مرحلة من حكاية الرواية، في الإشارات الدالّة، في المجاز والاستعارة، من عمق طقوسها وتضاريسها، بين عذاب الانسان في العشق والخطيئة والدماء، والمشانق والرايات . إنّها رحلة طويلة من المعاناة والتحدّي في مراحل العشق، مراحل التاريخ العابقة بالدماء والخطيئة التي يتوارثها التاريخ الإنساني من عصر الى عصر، ولكلّ محطة من محطات عذابها في العشق .
لاشكّ أنَّ تأثيرات القصيدة ـ في تعبيرها وتصويرها ـ تستلهم الاسلوبَ الملحميّ في التعاطي مع الاساطير. وكما ذكر ( سقراط ) بأنّ الشعر هو (محاكاة الاسطورة بالخيال)، لذلك انطلق الشاعر الإغريقي ( هوميروس ) في ملحمتيه الخالدتين (الالياذة ) و( الاوديسيا ) بمحاكاة فعل الخيال المبهر والملهم بعبقريته الفذة في تصوراته الخلابة. وهذه القصيدة (الرواية الأولى) تجاوزت تعاطي الشعر الملحمي بإدخال عنصر التأثير، في التأمل والرمز ودلالاته الإيحائية والتعبيرية. واشتملت على عدة معطيات رمزية (متحركة وثابتة)، يعني مثلاً رمزية (البحر) متحرك بدلالاته الرمزية عن العشق ( وفي صمتٍ طويتُ البحرَ في عيني)، بينما نجد مثلاً الدلالات الرمزية (الثابتة) في الإيحاء والمغزى في العشق بـ( التراب) لأنّه (سليل الطين)، وآدم خُلق من الطين ( وفي صمتٍ حملْتُ البيدَ في قلبي سرايا ) هذه رسوم العشق في الصحر اء، لم يقلْ في وصمة العشق بأنّها (اغنية رملية)، لأنّ الرمال متحركة، وبالتالي يكون العشق هلامياً , لكنه قال (أغنية ترابية) ، يعني أنّه حدّد هوية العشق ومكانه الثابت في موجدات الواقع، لأنّ التراب والطين ينتميان الى بقعة محددة في مكان محدد، والتراب والطين من الاشياء الثابتة، لو كانت متحركة لانكشفتْ بطون القبور تحت التراب. يعني بهذه الدلالة أنّ عشقه ينتمي الى جهة محددة ومكان ثابت، ولا تتسلق على الأوهام المتحركة، فهو في عشقه سليل عصور وعهود من سنوات عجاف ومرارة وتشاؤم، ولم يحصد منها غير ( وتلكَ روايةٌ حمراءُ تروي قصةَ الماضين في رَهَبِ) لم يحصد منه إلا: (الترابُ يمتصُّ الدمَ قانياً / يروي عطشَ الديدانِ في زوايا ممالك النملِ والعقارب)، لم يحصد إلا رواية عمياء عن حبّ ( وتلكَ روايةٌ عمياءُ عن حبٍّ يلوحُ على حبالِ مشانق الرغبةْ،) ليموت على جدار حلم راقص في ساحة النشوة ( تموتُ دلالةُ الرؤيا، وترتفعُ التراتيلُ الصديديةْ ) ولكن دماء العشق الذي يُحمل في زفة العرائس، في الحشود المتوجهة الى أرض المواعيد. لكنّه وقع في خيبة الحساب في (الخديعة العظمى)، ليحمل عذاب وشقاء العشق عبر توارث الازمنة .

تحمل القصيدة في تكويناتها الصياغية بطلين:

× الاول (آدم): وهو يحمل عذابات ومعاناة الانسان، طُرد من الجنة، يحمل خطيئة التفاحة، هو ابن الطين وصراعه الناشب مع ابن النار ، فمن يكسر عظم الاخر . لذلك فإنّ رمزية ( آدم ) عامةً تخصّ الانسان في المرارات والعشق، في جفاف الغيث في قارورة اللهب، في صراعه مع قوى الشرّ والعدوان من أجل استلاب العشق ونخره ونحره.

× البطل الثاني : الفارس الهمام ( وهو نفسه الشاعر ) الذي يخوض صراعاً متعدد الاطراف الأخطبوطية من أجل الحفاظ على العشق ونقاوته . وهو يحكي ويسرد حكايات صراع الحبّ والعشق بالتوارث في طيات الحكايات الطفولية . في حكايات المشانق وأعراسها، في جحيم الخطيئة، والزمن الجائر، في وتر خداع الأضاليل، في العيون المسحوقة، في بساط الجوع والعطش:
وقد مسخوكَ أغنيةً ومرثيةْ
فتاه الصوتُ في الشفةِ الرماديةْ
وتاهَ عويلُ حزنكَ بين ضحْكاتِ الأباطيلِ،
أيا وجهاً رواهُ دمي ونزَّ عليهِ صوتي واقتحاماتي
وروّيْتُ الجفافَ على بقاعكَ خضرةً، خِصبا

لذلك جفَّ في حلقه نبتُ العشق، وانطفأت شموس الرغبة الاولى.

دلالة الألوان في القصيدة:
1. الرايات السُود :
( ولكنْ تلكمُ الراياتُ سودٌ ، والرماحُ لظىً)

2. الرايات الخُضْر:

تلوحُ الرايةُ الخضراءُ في صمتِ المواويلِ

وتسقطُ في الهزيمةِ خنجراً يُدمي رواياتِ الأناجيلِ

عن الحبِّ، عن الصفعِ، عن الصفحِ،

عن الانسانِ في لغةِ السماحاتِ،
فاللون الأخضر دلالة (الخصب) و(الأمل) اللذين يقعان فريسةً للطعنات فتدمى الكتابات الخضراء (الأناجيل والكتب المقدسة) التي تدعو إلى (الحبّ/الخصب) و (الصفع) و(الصفح)، وهي إشارات متماهية مع تعاليم المسيح في الدعوة إلى التسامح والسلام: (مَنْ ضربك على خدك الأيمن فأدرْ له الأيسر)، لكنَّ الواقع غير الدعوات والآمال والتعاليم السمحاء.

3. الرايات الحُمْر:
وهي تدلّ على العشق والدماء والتحدي ( أرفع الراياتِ للعباس) وهي ترميز للرايات الحمراء، لكي يرسم عشقه، وكذلك:
وتلكَ روايةٌ حمراءُ تروي قصةَ الماضين في رَهَبِ ،
صحارى تحملُ الواحاتِ انجيلاً من السَغَبِ ،

وكذلك هي رايات المشانق. وهي تعني مَنْ يتسلق المشانق، وهم أصحاب الرايات الحمراء، ومَنْ تسعر النار في داخله. هم حملة الرايات الحمراء.

http://www.alnoor.se/article.asp?id=361371

عبد الستار نورعلي
يدافع عن الشعب والوطن
أحمد رجب

يتفق العديد من الكتاب والمثقفين بأنّ الشاعر المبدع عبدالستار نورعلي (أبو علي) مفخرة للعراقيين عامة والشعب الكوردي خاصةً بصفته مربياً جليلاً وأديباً كبيراُ وشاعراً مقتدراً وكاتباً لامعاً وصحفياً ناجحاً ورمزاً من رموز الشعر الخالدة حيث يملك موهبة شعرية فذة، وهو القادر على عرض المشاكل الإجتماعية والسياسية بطريقة سلسلة تثير الدهشة والإهتمام، ويعبر بكل شفافية ووضوح عمّا يجري في المجتمع العراقي بالرغم من بعده عن الوطن، وهو الذي تطرق إلى مأساة العراق والكوارث التي أصابته بعد زوال النظام الدكتاتوري، كما تعّرض إلى مشكلة الكورد الفيليين بجدارة، ويمكن القول انّه شاعر متمكن من كافة الجوانب شعراً وأدباً، ويجيد توظيف الكلمات، وبالإضافة إلى كتابة الشعر، يكتب مقالات صحفية ناجحة ويحلل الأوضاع السياسية بحس مرهف وشعور بالمسؤولية أفضل من السياسيين الذين زاد عددهم هذه الأيام.

الشاعر عبد الستار نور علي هو احد ابناء شريحة الكورد الفيليين من مواليد محلة باب الشيخ / بغداد عام 1942، تخرج من كلية الاداب ـ قسم اللغة العربية في جامعة بغداد عام 1964 وعمل مدرسا في المدارس الاعدادية في محافظات الحلة وبغداد لمدة 25 عاما.

ونظراً للأوضاع المزرية والكوارث التي جلبها نظام صدام حسين الدكتاتوري على العراقيين، وقيام أزلامه بإعتقال المواطنين عشوائياً ومن ثم تعذيبهم بقسوة وقتلهم بأعداد كبيرة، والقيام بتغيب المئات من شباب الكورد الفيليين، إضطرّ الشاعر عبدالستار نورعلي إلى الهجرة مع عائلته نهاية عام 1991، ولكي يواجه مشاكل عديدة منذ خروجه من العراق ووصوله إلى بلغاريا، والإنتظار فيها مدة طويلة إلى يوم سفره إلى مملكة السويد التي أصبحت محل إقامته الدائمية.

الشاعر والكاتب المعروف عبدالستار نورعلي كوردي يكتب بالعربية وبهذا الصدد يقول:
"لا غرابة في ذلك، خاصةً نحن ندرك الأثر الكبير للمحيط والظروف التاريخية والبيئة الإجتماعية على الفرد وبنائه النفسي والشخصي ومكوناته الثقافية والفكرية. لقد عشت وترعرعت في منطقة كلها من الأكراد الفيليين، وهي منطقة باب الشيخ في بغداد، لكن المحيط الخارجي كان عربياً صرفاً، أول تأثير لغوي عربي جاءني من الوالد رحمه الله، حين كنت أستمع إليه وهو يرتل القرآن الكريم، فقد كان رجلاً متديناً يصطحبني معه وأنا صغير إلى المسجد وإلى أضرحة الأئمة، والتأثير الثاني كان من الملا (الكتاب) حيث كنا نحفظ أجزاء من القرآن الكريم، ثمّ المدرسة حيث الدراسة باللغة العربية، بالرغم من انني درست في المدرسة الفيلية الابتدائية التي كانت تابعة لجمعية الأكراد الفيليين، وكانت الدراسة فيها باللغة العربية كغيرها من مدارس بغداد. لقد كان لهذه المدرسة فضل كبير جداً في نمو وتطوير شغفي بالمطالعة، سواءً بمعلميها الذين كانوا على مستوى عال في تخصصاتهم وطريقة تعليمهم، أم بمكتبتها الصغيرة في حجمها والكبيرة بمحتوياتها. كانت تضم قصصاً للأطفال وكتباً لاعلام الأدب العربي، فكنت أستعير وأقرأ وأستوعب فتنمو البذرة وتتطور، وهكذا صعوداً إلى المتوسطة والاعدادية حيث اخترت الفرع الأدبي، وأرتقت معي إلى الجامعة فتخصصت في اللغة العربية وآدابها في جامعة بغداد – كلية الآداب، وبعد تخرجي عملت مدرساً في ثانويات العراق المختلفة، وآخرها عدد من إعداديات بغداد، وخلال هذه المراحل واظبت علي إثراء وتطوير إهتماماتي الأدبية والثقافية العامة ونشر القصائد والمقالات."

الشاعر المبدع والمربي الجليل عبدالستار نور علي يتذكر اساتذته ولا ينساهم، إذ يقول:
"لقد مرّ بي العديد من الأساتذة الأفاضل سواءً في اللغة العربية أم في غيرها كانوا من خيرة الأساتذة وكان لهم أثرهم في توجهي الأدبي، أذكر منهم أساتذة مدرسة الفيلية الابتدائية المرحوم سلمان رستم وأحمد زينل والمرحوم شهاب أحمد وحسين الصيواني ومحمد علي البنّا وغيرهم لا تحضرني أسماؤهم، والشاعر المصري علي الصيّاد في الاعدادية، وفي الجامعة كان للمرحوم الدكتور علي جواد الطاهر أثر مهم في التوجه نحو المطالعة الحرة المنتقاة إذ كان يدرسنا النقد الادبي، إضافة إلى كل ذلك الفضل الكبير للمرحوم الدكتور صلاح خالص في السبعينات."
وعن مضمون الموضوعات في شعره ومقالاته والشكل الشعري يضيف قائلاً:
"المقالات أدبية نقدية كما ذكرت، أمّا الشعر فقد كان للفكر التقدمي الإنساني الذي تربينا عليه وأغترفنا من مناهله بصمته الكبرى العميقة في فكري وأحلامي، ونسج التكوين النفسي الباطني وتوجيهه إرادياً أو لا إرادياً بإتجاه المضامين المختارة والمستلهمة من خلال التجارب الذاتية والإنسانية العامة، وان كنت أرى أن التجربة الذاتية مخاض للتجربة الإنسانية بمحيطها المحلي أو العالمي. لذلك إقتربت في شعري من معاناة الإنسان في كل مكان، في وطني، في بقاع الأرض المترامية الأطراف، كتبت في ما عاناه شعبنا ولا يزال، في هزيمة حزيران، في فلسطين، في فيتنام، في شيلي أيام مصرع سلفادور أليندي، في مسيرة عدن التقدمية وغيرها، لقد نشرت الكثير من هذه القصائد في الصحف والمجلات العراقية والعربية، إلى جانب قصائد ذاتية، وان كانت في أرديتها تجارب عامة، كما أسلفت، منها قصيدة نشرت في مجلة الورود اللبنانية عام 1979 :

قالوا : تدلل، قلت : لا
إنّ الدلال مقيتُ
والمرء إن حمى الوغى
في القارعات يفوتُ
لا يصلح الوجهَ القناعُ
فمرتديه مقيتُ
صبّوا الكؤوس فإنني
في الشاربين لَحوتُ
من يملأ القدحَ الشرابَ
وعاقروه سكوتُ
فانا البحارُ انا السفائنُ
في الخضم افوتُ
لم أخشَ من لبس الوقارَ
رداؤه الكهنوتُ
لا فرقَ بين العرش أو
مَنْ في الكفافِ يموتُ
وكان ما نشرته ولا يزال من حيث الشكل هو من الشعر الحر{شعر التفعيلة} كما يسميه البعض وقصائد قليلة من الشعر العمودي، ومنها المذكورة."

الشاعر عبدالستار نورعلي يمتلك طاقات إبداعية هائلة، وإمكانات من الإداء الفني المتمثلة بالنشاط والحيوية، الأمر الذي يساعده بالدخول إلى قلب الأحداث التي تحيط بشعبه الكوردي، وهو لا يتوقف عند الكوارث والمأساة مكتوفَ الأيدي، بل يذهب لعرضها وكشف القائمين بها وأتهامهم بأدلة دامغة، وإيجاد الحلول لكل المشاكل المستعصيه.
الكاتب والشاعر العراقي عبدالستار نورعلي يكتب بالعربية، وهو كوردي القومية وينتمي إلى الكورد الفيليين، ومعروف لدى أوساط واسعة من قراء الصحف الوطنية والتقدمية، ولدى قراء مواقع الانترنيت.
كتب ويكتب الشعر والنثر والمقالات الصحفية متناولاً معاناة الشعب العراقي بكافة فئاته وأوساطه، ومعبراً عن حبه وتوقه إلى تربة الوطن، وله ذخيرة شعرية في ذلك، لقد كتب عن هجرة العراقيين وهموم المثقفين متصدياً للفكر الرجعي والشوفيني، ومحملاً نظام الطاغية صدام حسين الدكتاتوري في العراق المسؤولية في إضطهاد وتشريد خيرة أبناء الشعب العراقي بمختلف قومياته ومعاناتهم المستمرة.
ان إهتمامات الشاعر الأدبية تعود إلى مرحلة الطفولة حين كان يصغي إلى والده وهو يقرأ القران، وإلى دراسته عند الملا (الكتاب)، ثمّ إلى المدرسة الفيلية الابتدائية، حيث كان يستعير الكتب من مكتبتها الصغيرة المتواضعة كقصص الأطفال وكتب المنفلوطي وجبران خليل جبران وغيرهما، وقد إستمرت هذه الإهتمامات والمطالعات وتعمقت خلال سنوات دراسته فتخصص في اللغة العربية وآدابها في جامعة بغداد ويقول الشاعر عبدالستار نورعلي:
"لا يمكنني أن أنسى التشجيع الدائم الذي كنت ألقاه من إبن عمي المرحوم جعفر صادق ملا نظر، الذي كان عضواً في الحزب الشيوعي العراقي وتوجيهاته ورعايته. لقد كان يرعاني ويوجهني ويعيرني ما لديه من كتب، وكان يؤكد على قراءة الأدب الواقعي.
كانت البداية في الإنطلاق عام 1964 مع أول قصيدة عبر برنامج (براعم على الطريق) الذي كانت تقدمه سائدة الأسمر من إذاعة بغداد، ثمّ توالت القصائد والمقالات على صفحات مختلف الصحف والمجلات العراقية، وأولها الملحق الأدبي لجريدة الجمهورية، وفي الأعوام اللاحقة الثقافة الجديدة والثقافة والتآخي وغيرها إضافةً إلى الصحف والمجلات العربية منها الهدف الفلسطينية واليوم السابع والطليعة السورية والبلاغ اللبنانية والورود لصاحبها المرحوم الأديب اللبناني الكبير بديع شبلي وغيرها."
إنّ للصحف والمجلات دوراً كبيراً في تعريف وإبراز الكاتب من خلال تقديمه إلى المتلقي، والإهتمام بنشر نتاجاته، وخاصةً في بداية حياته الأدبية، وكانت الصحف والمجلات تهتم بالناشئين من الأدباء، وتأخذ بأيديهم، وتفرد لهم صفحة خاصة اسبوعية، وكان بعضهم يسّميها بصفحة القراء، ولم يكن الاسم وشهرته والعلاقات الشخصية هو الحكم الفصل في النشر، بل جودة النص، هذا عن دور الصحف والمجلات في إنتشار وتعريف الكاتب، أمّا عن دورها العام فبالتأكيد أنّ لها دوراً ثقافياً وفكرياً وسياسياً واجتماعياً مهماً وخطيراً سلباً أو إيجاباً، فكم منها تركت بصمة مشرقة في تاريخنا لا نزال نذكرها، وكم منها نذكرها بالسوء والإشمئزاز والقرف."
يضيف الشاعر والمربي الكبير عبدالستار نور علي قائلاً:
"لا بدّ لي من التأكيد على دور مجلتي الثقافة الجديدة والثقافة المهم في نشر الفكر التقدمي وتعميقه، وإغناء ثقافتنا الوطنية ووعينا بالفكر الإنساني الذي افتقدناه بعد الهجمة الشرسة على هذا الإتجاه وحامليه، وكذلك دورهما في نشر نتاجاتي شعراً ونثراً وإتساع حضوري على الساحة الأدبية."
يقول المخرج والكاتب العراقي جودي الكناني:
"ان دراسة دقيقة لنتاج الشاعر عبدالستار نورعلي يجعل من الصعب وضع خريطة لشعره، فهو شاعر متنوع الإيقاع ذو إمتدادات واسعة في المساحات، وخاصةً مساحته الذهنية التي تستند على خزين ثقافي كبير.
من المعلوم أنّ المكان يلعب دوراً كبيراً في صياغة وعي وسايكولوجية الشاعر، فخصائص المكان تتجلى في نتاج الكثير من الشعراء، أمّا عبدالستار نورعلي فقد سكن كمبدع في جغرافية روحه القلقة المضطربة، وهذا القلق أنجز أهم قصائده، فهو إبن لبغداد التي ولد فيها، وطاف في أزقتها، وعانقها حد العشق، وهو المسكون بالهوى العراقي يضمد جراح الجبل الذي يعانق الغيمة، والذي يتحدث عن حق مغدور لأمة ينتمي الشاعر إليها، وأنتماؤه هذا ليس عرقياً بل إنتماءً للقصيدة، إنتماءً للحق الإنساني في الوجود الكريم.
ان تفحصاً دقيقاً لنتاج الشاعر عبدالستار نورعلي يجعلنا نطوف في عوالم مختلفة ونقف أمام مفردات لها إنتماءات خاصة، فالقصيدة بالنسبة له ليست مشروعاً هندسياً تهيأ له المستلزمات بل هي لحظة من الطوفان، ثمّ تسكن، يقول عن ولادة القصيدة عنده ( في لحظة الإبداع والكتابة لا تحضرني سوى اللحظة التي أحياها بكياني وجوارحي، فالمبدع يغرق فلا يحس إلا أنّه بين الموج ويعوم ويحاول إصطياد ما يضطرب في قاعه ويتفاعل دون إحساس منه). لذا تراه يحاول جاهداً الحفاظ على تلقائيته كشاعر. فهو يسلم قياده للحظة المخاض الشعري وما تأتي به، فيضع جانباً كل ما يقوله الآخر وما ينظر اليه. المهم أن لانترك العقل يتدخل بحدة خوفاً من أن ينقطع الخيط بين المبدع والنص. إن عبد الستار نورعلي يخشى كثيراً من أن يسقط الابداع اسير الاصطناع خوفاً من (شرخ العفوية والانسياب والتدفق التلقائي للتجربة المخزونة (الضاغطة).

في صرخته التي اسماها (الفيليون) تختلف فيها المفردة اللغوية اختلافاً كبيراً عما في باقي قصائده ، فنحن هنا أمام نسيج شعري ذي صورة تراجيدية حادة ومفردة قاسية وجرس شعري يدخلك في عالم من الحماسة لتتبع الفصل الدامي في تاريخ الأكراد الفيليين. هنا يحول الشاعر قصيدته الى ملحمة يرزم فيها تاريخ شعب لا تنتهي هجرته :

فتتابعت فيكم رياحُ الهجرِ
مثلَ تتابعِ المطر الغزيرِ
...........................
في كل فصل هجرةٌ محسوبةٌ
بكتاب سفيان صغيرْ
لا يرتوي من صاعقاتِ النار
أو من ذبح معشوقٍ وليد

أما بداية القصيدة فأشبه بالطوفان :

الأرض تلفظ كلَ يوم جثة
وتعيد مهزلةَ الجريمه
الأرضُ كلُ الأرض مِرجلةٌ أليمه

إنها القيامة التي يراها عبد الستارنورعلي ونراها من خلاله. يعود ليخاطب أبناء قومه :
ياأيها القومُ الموزعُ نسلكم
ما كنتمُ ضمنَ الخطوطِ الخضرِ
في الأمم الكبيره
فتناوبتْ فيكم سيوفُ الناسِ
كلٌّ يعتلي سقفَ الجريمه
ليفاخرَ الدنيا بمعزولٍ عن الأحلافِ والدياتِ
لا يقوى على صدِّ القبيله

هناك ثمة قيم ينبغي الحفاظ عليها حتى تكون الحياة قابلة للعيش. وعبد الستار نورعلي ذو ثوابت انسانية عالية ، فهو يمجد مثلاً (أحلام) المرأة الآتية من بين قصب الأهوار في جنوب العراق لتستشهد في ذرى جبال العراق دفاعاً عن الحق بنفس الحماسة التي يمجد فيها كردياً يحترق خلف صخرة ويترك كيس التبغ تعبث به الريح .... ففي الأرض متسع للجميع ، والبطولة لا تحدد بمكان :
امرأةٌ من قصبِ الأهوار
تفترشُ الرملَ الأحمرَ في فوهةِ الكهف
بين حنايا كردستانْ
بين الثلج وبين النارْ
تلتقط
حبةَ رمل فتقبِّلها
تحرس قبلتها
تنحت صورتها
في القلب الرابض بين الجبل
وبين نخيل الأهوارْ

يقول الشاعر عبدالستار نور علي عن هجرة الكورد الفيليين:
"إن قضية تهجير الكرد الفيليين العراقيين واحتجاز أبنائهم ثم تصفيتهم في السجون لها اسباب ودوافع عديدة باتت معروفة كتب فيها الكثيرون. ولا نأتي بجديد إذا ذكرناها ثانية. وهي أسباب ودوافع سياسية بسبب معارضتهم للنظام السابق وانتشار الفكر اليساري وسط أبنائهم، وانتماء الكثير منهم للحركات الكردستانية وثوراتها أو تعاطفهم معها على الأقل. كما أنَّ أوساط رجال الأعمال والتجار الفيليين كانت احد مصادر التمويل المالي لتلك الحركات، فقد أشار إلى ذلك الدكتور فاضل البراك مدير المخابرات السابق في ثمانينات القرن الماضي في كتابه (المدارس الايرانية في العراق). فكانت حملة الترحيل محاولة مدروسة ومخططة من النظام الديكتاتوري الساقط لتجريد الحركة الكردستانية من ظهير قوي لها بين الكرد الفيليين، وتقليل القوة والكثافة الكردية السكانية في بغداد ووسط وجنوب العراق.
اضافة الى ذلك كان الدافع المذهبي أيضاً أحد الأسباب الكامنة وراء حملة التهجير والظلم الذي لحق بالفيليين تاريخياً في العراق. وكان تخطيط وتحضير النظام السابق للحرب مع ايران سبباً آخر، فألبس الحملة لتبريرها ادعاءه بما سماها بالتبعية الايرانية تهمة ألصقها بالكرد الفيليين، معتبراً إياهم طابوراً خامساً يخشاه بعد انطلاق الحرب.
وهناك نقطة مهمة في أجندة البعثيين ضد الكرد الفيليين وهي أنهم في انقلابهم في الثامن من شباط 1963 فوجئوا بمواجهة ومقاومة مسلحة شرسة في منطقة باب الشيخ في بغداد وأزقتها التي كان سكانها من الفيليين ولمدة ثلاثة أيام وبوسائل بدائية منها قنابل المولوتوف."

لا شكّ أنّ العراقيين يعلمون بأنّ المجرم الطاغية صدام حسين ونظامه العروبي الشوفيني قد جرّ الويلات والكوارث العديدة على العراقيين عامةً والكورد خاصةً، وركّز هجومه الشرس على شريحة وطنية شجاعة منهم، وهم الكورد الفيليّون، وهنا يقول الأستاذ القدير والشاعر المعروف عبدالستار نور علي:
"باديء ذي بدء أنا كوردي ولا أؤمن بهذه التقسيمات لشعبنا الكوردي، إذ أنّ مشكلة أي جزء منه هي مشكلة الأمة كلها، الحل كامن في الحل العام عبر الحلول الجزئية، ان الفيليين جزء من الأمة الكوردية، ومشكلتهم هي إحدى مشاكلها، ولكن لخصوصية حالتهم ومعاناتهم يجري الحديث عنهم سواء من داخلهم أم من القوى والجماعات الأخرى كوردية وغير كوردية.
وللكرد دور بارز وفعال في الثقافة والروح وفي مختلف أوجه الحياة العربية الاسلامية فبرزت أسماء كبيرة ذات أصول كردية أضاءتها بكل ما يشرق من ابداع وانتاج وفعل تاريخي. وهناك الكثير من الكرد الذين شاركوا والذين قدموا دماءهم عن قناعة راسخة وايمان عميق في المعارك التاريخية العربية والاسلامية قديمها وحديثها. منهم المشاهير ومنهم مجهولون. ومن المجهولين المرحوم قاسم موسى ملانزار الذي شارك في حرب فلسطين مع الجيش العراقي ومتطوعاً في صفوف كتائب المجاهدين وهو ابن عم الكاتب(عبد الستار نورعلي)، وعبد الجبار كريم ابن أخته الذي استشهد على أرض الضفة الغربية في حرب الخامس من حزيران 1967 ."

سجِّل أنا كردي

يقول الشاعر :

"في الأصل كتبتْ في 2000.02.14 رداً على أحد المثقفين الكردستانيين البارزين حين انتقد وبحدة في مقابلة على فضائية كردية في حينها الكتابَ الكرد الذين يكتبون بلغة أخرى غير لغتهم ولا يكتبون بلغتهم والى حد الاتهام بالخيانة، وكان يقصد الذين يكتبون بالعربية أوبالتركية أوبالفارسية. وبما أني أحد هؤلاء المقصودين بالاشارة لأني أكتب بالعربية فحسب أحسست بغصة ألم عميقة، انزويت بعدها في غرفتي وكانت الساعة تشير الى منتصف الليل تماماً لأبدأ في الكتابة حتى الساعة الرابعة فجراً فتولد القصيدة.
نشرت القصيدة في مختلف الصحف ومواقع الانترنيت الكردية والعربية في حينها. لكن المقطع الأول اضافة جديدة بدأتها بتاريخ الأربعاء 28 نوفمبر 2007 بعد قراءتي لمقالة فيصل القاسم (ليس دفاعاً عن العملاء الصغار … ولكن) على موقع دروب بتاريخ 27 نوفمبر 2007 ، وأنهيتها السبت 29 ديسمبر.

رسالة الى السيد(فيصل القاسم) :

هذا أنا ،
افتحْ عيوني !
أشرع الأبوابَ تحتَ الجلدِ،
وانظرْ !
سترى الجبالَ والوديانَ والسهولَ والحقولَ تزهو
وبيوتَ الطينِ والقصبِ وأهوارَ الجنوبِ
والنخيلَ والأنهارَ تجري في شعابِ الروح ،
هذا دجلةُ الخيرِ، الفراتُ، الزابُ،*
هذا بردى ينسابُ من بين العواصف يلتقي الليطاني والأردنَ،
والنيلُ يضمُ شعريَ المنثورَ كالأضواءِ وسط الماءِ
يومَ اشتدَّ في سيناءَ ضربُ النارِ واهتزَ الفضاءْ،
فتهاوى الخطُ وانسابت على الرمل الدماءْ،
عندها حقَ الغناءْ،
وهنا …..
ذاك سفينُ النارِ يحكي قصةَ الأوراس، *
وهناك …..
تلك صحراؤكمو الكبرى تناغي ضلعيَ المكسورَ
في القدسِ وفي صبرا شاتيلا
وحلبجه.

ويضيف الشاعر قائلاً:

سجِّلْ ….!
قد رأيتُ الناسَ مشدودينَ
منزوعينَ
عن صاريةٍ بينَ شعابِ الجبلِ المرتدِّ
والمعتدِّ،
والألغامُ
والأسلاكُ
والنيرانُ
في الأقدامِ ،
والأطفالُ
والأيدي
تخوضُ الصخرَ والطينَ
واشلاءٌ عرايا .
هل رأيتَ الشوكَ في صدر صبيه
وشظايا
وعرفتَ الرعبَ في الأفئدةِ العذراءِ
أفواهَ المنايا ؟
فتحتُ بابَ الكتبِ الأولى ،
قرأتُ أنَّ الحبَّ في الجذورِ يروي أفرعَ الأغصانِ
أنَّ النبعَ لا يجفُّ إلا في صحارى المدنِ المغلقةِ الأبوابِ
إلا في اقتلاعِ الخيمِ والديوانِ
في أروقةِ الأطلالِ والقوافلِ المدججه.
والشاعرُ المنفيُّ والمهجورُ والحادي
ينادي:
إنني صوتُ القبيله
جذرُ الأصيله
حتى وإنْ كنتُ على قائمةِ الشيوخِ مولىً
مارقاً
مرتزقاً
مصعلكاً
فأستحقُ أبشعَ العقاب !؟
سجِّلْ …..!
أنا كردي …

وفي الختام يقول شاعرنا الكبير عبدالستار (أبوعلي) :

يرويها ضياءاً منْ لهيبِ النارِ
والمطرقةُ الحمراءُ في الأيدي مسله…………….
يا ايُّها الموصولُ في الأعناقِ ،
في مقهىً على ناصيةٍ بينَ ربى الوديانِ
بينَ الثلجِ والخريرِ تحكي قصةً
للبطلِ الذي ارتدى عباءةً، كوفيةً،
ولم يقلْ: سجِّلْ أنا كردي ..!
سجِّلْ …!
أنا كردي …
ما ارتديتُ يوماً صورةً بالزيتِ والألوانِ
أو ساريةً ترفعُ أعلامَ الحواريينَ في شوارعٍ
تصطفُّ في أبوابِ أهواء الشيوخِ والملوكِ
والأئمةِ الساهينَ عن صلاتهمْ !
سجِّلْ …..
فإني ما ارتديتُ علبةً زخرفتُها
زيَّنتُها
لتصبحَ الوجهَ القناعْ ..!
سجِّلْ ….
فقدْ أعلنتُها بينَ الوجوهِ السمرِ والشقرِ
وقدْ أعلنتُها فوقَ رؤوسِ الأخوةِ الأشهادِ
والأعداءِ
إني ما ارتديتُ جبةً،
عمامةً،
عباءة،
أو صولجانْ ….!

الشاعر أبو علي يقول:" أنا الساكنُ في زاويةٍ شمالَ غربِ الأرضْ"، نعم انه يعيش في السويد وسط الثلوج وبهذه المناسبة يكتب:

ثلجٌ يتساقطُ …………
………………………..
الليلُ يسامرُ شارعَهُ الخالي
ينزلقُ …………
في حضن الثلجْ ………….
أرضٌ تغرقُ في ضجةِ عرباتِ الريحْ ،
والنافذةُ المغلقةُ العينينْ
ترخي ستائرَها
بينَ الوجهِ المشرع وبينَ الشارعِ .
تلكَ المرآةُ الملتصقه
بجدارِ الغرفةِ
تعكسُ صمتَ الظلمةِ
مغموساً
بالخوفْ ……
مثلَ نزيلٍ في أعماقِ الغابةِ
بينَ الأشجارِ الملتفةِ بالعُري
وسكونِ الليلْ
يسمعُ زمجرةَ ذئابِ الآفاقِ
تتقاتلُ فوقَ فريستها
في ذاك الدربْ،
والأقدامُ تفرُ
وسطَ الأوحالِ الممتدةِ
لتحطَ على صوتِ مدينتنا الغارقِ
في وحلِ هديرِ الموجْ ..............

ويكتبُ شاعرنا المبدع الكبير في قصيدته (هذي السويد):

هذي الســويدُ درةُ البلدان ِ
مدرسةُ النفوسِ والأذهان ِ
حافظة ُ الحقوق ِ للإنسان ِ
يعيشُ فيـهـا وافرَ الأمان ِ

فالحقُ فيها نهرهُ يسـيلُ
عنْ سيرهِ العادلِ لايميلُ

ليشـملَ الكبيـرَ والصغيـرا
واللابسَ الحريرَ والفقيرا
والعاملَ البسيطَ والوزيرا
حتى الذي يلجأ مستجيرا

لافرقَ بينَ أبيضٍ وأسمرِ
وأسـودٍ وأشقرٍ وأصفرِ

وعن بغداد يكتبُ قائلاً:
هنا كانتْ بغداد..!
السماءُ ملبدة بالدباباتِ .
الشوارعُ مزدحمة بالغيوم ،
والبيوتُ تغرقُ في المطرالأسودِ
والأحمر
والرمادي
الهاطل من سمتياتِ النزيفْ………
الناسُ همو الناسُ بين رحى الأزقةِ
وأسنان الفقرْ
كما كانوا في زمانِ الصخبِ
أم الوجوهُ استحالتْ محبرة ً من الدم
تكتب الذي سار في الطريق الى النهرِ
فالتقى بجدار العزل (ممنوع المرور من هنا)
وتوقف الركبُ عند الساعةِ الصفر
والوجوهُ تتساقطُ في شوارع القضبان تحتَ سياطِ
قفْ
لاتتحركْ
اسكتْ
أغلقْ عينيكْ
صُـمَ أذنيكْ …؟!!
كلُ شيء على مايرامْ ،
قال المنصورُ باللهِ الغارقُ في لحمِ الناس ْ،
المقابرُ تتسعُ للذين لا مساكنَ لهم
الا القلوبَ والأحلامْ
ونوافذ الأحداقْ ……

هاجم بعضُ الأخوة الكوردَ الفيليين دون وجه حق عند إنتخابات مجالس المحافظات لأنّ أصواتهم كانت مشتتة، أي بمعنى آخر انهم لم يصوتوا لقائمة معينة، ودفعاً للإلتباس وبيان الحقيقة كتب الأستاذ عبدالستار نورعلي في مقالةٍ له قائلاً:

"لم تخرج نتائج انتخابات مجالس المحافظات في العراق التي جرت في 31 يناير 2009 الماضي عن حسابات السابقات لدى المطلعين على الأمور داخل البيت الفيلي في الوسط والجنوب وبغداد بالذات. فأصوات الذين شاركوا منهم بالتأكيد توزعت بين القوى السياسية المشاركة المختلفة بناءاً على المنطلقات والتوجهات المتباينة النابعة عن قناعات خاصة لكل فرد مؤسسة على مواقف فكرية أو عاطفية أو روحية بحسب عمق التأثير للجانب القومي أو المذهبي أو السياسي وحتى المصلحية الذاتية لدى البعض من الفيليين بحثاً عن مناصب أو مواقع أو منافع مادية شخصية.

الفيليون حالهم حال كل العراقيين بمختلف قومياتهم وطوائفهم وأديانهم، فليس كل العرب مثلاً في وجهة واحدة أوموقف ثابت على حزب أو قوة سياسية بعينها، فهم موزعون على جهات وقوى وأحزاب مختلفة وبالعشرات، وكذا الكورد والتركمان والكلدو آشوريين والأرمن والصابئة والأيزيديون والشبك. فهذه مسألة طبيعية في كل شعوب الأرض، والفيليون لا يختلفون في هذا عن غيرهم."

ويضيف الشاعر الكاتب قائلاً :

"إنّ من المعيب والمخجل على البعض أنْ يعيّر هؤلاء بأنهم اقاموا في الفنادق الفخمة وضربوا الدجاج والأكلات الدسمة وأقاموا الحفلات ولم يقدموا شيئاً ولم يفلحوا في كسب أصوات الفيليين للذين استضافوهم وللقوائم التي تمثلهم وكان المنتظر منهم أنْ يصوتوا لها.
ما كان الفيليون جائعين جشعين مفترشين العراء وبحاجة الى فنادق فخمة واكلات دسمة وضرب في الدجاج، إنما حاجتهم هو العمل الجاد والمخلص والحقيقي على استعادة حقوقهم وأموالهم وبيوتهم ووثائقهم المصادرة ومعرفة مصير الألوف المؤلفة من شبابهم المغيبين في المقابر الجماعية التي خلفها النظام المباد. وخاصة ان الذين انتظروا منهم الأصوات والتأييد هم مِنْ اصحاب السلطة وصناع القرار وقوى التأثير الكبير على مجريات الأمور في عراق ما بعد الاحتلال.

فما الذي قدموه للفرد الفيلي الفقير والعاطل عن العمل والمقيم في بيت لا يليق بالسكن الانساني؟ وما الذي فعلوه في بذل الجهد والعمل على استرداد المهجرين من الفيليين لحقوقهم المغتصبة منْ أملاك وأموال ووثائق ومعرفة ما جرى لخيرة شبابهم الذين احتجزهم النظام المباد بعد تهجير عوائلهم؟
ما الذي فعلوه؟ وما الذي قدموه؟

وإذن لم تكن الاستضافة لله بالله! ولم تكن حباً بالفيليين، والله!
إن الفيليين هم مِنْ أصحاب البيت العراقي كله. وهم من بُناته الأصلاء والمتفانين والمخلصين والحافظين على ولائه وحبه، قدّموا الغالي والنفيس من الأموال والأرواح والأولاد في سبيله وفي سبيل قضية أمتهم أيضاً، فواجهوا ظلماً واضطهاداً مزدوجاً لم يعانِ مثله طيف عراقيٌ آخر. فمَنْ يقدّمُ لهم شيئاً فهو ليس منةً منه ولا فضلاً، إنه جزءٌ مِنْ حقوقهم ومن أموالهم التي منبعُها خيراتُ وطنهم وشعبهم، هذه الخيرات التي يتمتع بها غيرهم دون وازع ولا حدود ولا قانون.
وصح المثل العراقي القائل:
"البيت بيت أبونه، والناس يعاركونه"!"


الشاعر الكبير عبدالستار نورعلي يعيش مع هموم شعبه ووطنه، ويكتب في مجالات عديدة، وكتاباته الغزيرة التي تنشر في الصحف والمجلات أو في مواقع الأنترنيت، وأحاديثه للإذاعات ومحطات التلفزة والفضائيات تظهر شفافيته وصدقه وتفاعله مع الأحداث، وهو القادر على الدخول إلى قلب الأحداث وتصويرها بوضوح، وإعطاء التحليلات الصائبة التي تدفع الناسالى قبول آرائه السديدة، وقراءة كل ما يكتبه بشغف، ومن إبداعاته وشعره نقرأ:
حول الأحداث الدامية وقصف مدينة هه له بجه الكوردستانية بالإسلحة الكيمياوية يقول:
هذي حلبجة ُ في المدى أخبارُها
لتثيرَ في همم ِ النفوس ِ شرارَها

وتعيدُ قصـة َ ذبحـها ، وحريـقها
صوراً من الحقدِ اللئيم ِ شِفارُها

ويضيف:
فالشمسُ إنْ ضمتْ سحابٌ وجهَها
سـتظلُ شـمساً ، يسـتحيلُ سـتارُها
ويختتم قائلاً:
يا شـعبَ كردسـتانَ حرقـة َ لاعج ٍ
حملَ الجراحَ على الضلوعِ ونارَها

كم في مسيركَ هجرة ٌومحارقٌ
تـتشـقـقُ الأرضون .. من آثارِها

ويحَ الطغاةِ وإنْ تـنمرَ ذلـُهم
لحفيرةٍ تهوي لتلبسَ عارَها

وحول الإعلام العراقي وعدم الإهتمام بنقل محاكمة المتهمين عن إعتقال وتشريد وقتل الفيليين يقول الشاعر أبو علي:

"كنا ننتظر هذا اليوم وقد حلّ. كانت الألوف المؤلفة من الكرد الفيليين يجلسون من صباح هذا اليوم أمام شاشات التلفاز ينتظرون الفضائيات العراقية التي اعتادت أن تنقل وقائع المحاكمات، كما حصل في القضايا السابقة، من قضية الدجيل وحتى ما سميت بقضية الأحزاب، والمقصود بها ما تعرض له بالذات حزب الدعوة الحاكم في العراق من اضطهاد وملاحقة وتصفية. كنا مسمّرين أمام التلفاز نقلب القنوات كل لحظة دون جدوى!!!!؟ فلم نشاهد ولم نقرأ حتى ولو خبراً صغيراً في نشرة أخبار أو على الشريط الخبري. ومرّ الوقتُ ثقيلاً فلاذكرٌ جاءَ ولا خبرٌ مرَّ ولا طيفٌ عبر!
يا ترى هل جرت المحاكمة، أم لا؟
هل قضية الكرد الفيليين بلا أهمية في الاعلام العراقي أيضاَ؟!
هل لأن الفيليين لا يملكون القوة اللازمة التي تخيف أو التي يحتاجها البعض لدعم أجندته السياسية والانتخابية؟
هل أصبحت السياسة في العراق على المبدأ الذي قاله الشاعر العربي القديم: إذا لم تكنْ ذئباً على الأرض أجردا؟ أم أنَّ السياسة العراقية وإعلامها وأعلامها تسير وفق مَنْ له ظهير ومن لا ظهير له؟!
مساكين الفيليون مظلومون حتى من وسائل الاعلام. أغلب الظن لإنهم لا يحسنون فنَ البيع والشراء في سوق الإعلام أيضاً كما هم في السياسة وصراع الحكم والسلطة."

يشخص الشاعر عبدالستار نور علي كمحلل سياسي محنك السياسة الأمريكية قائلاً:
"تتميّز السياسة الأمريكية مثل غيرها من دول العالم وخاصة الكبرى بأن محركها وموجه استراتيجياتها وتحركاتها التكتيكية هي مصالحها. وتاريخها منذ الحرب الباردة ولحد اليوم، وهي القوة الكونية العظمى الوحيدة، خير شاهد ودليل. فليس لها أصدقاء وحلفاء دائمون، فهي على استعداد للتخلي عنهم إذا اقتضت مصالحها. وشاه ايران ونورييغا من الأمثلة الحية."
ويضيف أيضاً:
"إن الثقة المفرطة بالولايات المتحدة الأمريكية كدولة وسياسة، ووضع كامل الأوراق في سلتها خطأ جسيم يدلّ على قلة وعي وادراك وفهم لما يحرّك هذه الدولة العظمى رمز الرأسمالية المتوحشة. والقضية الفلسطينية لا تزال الشاهد المرئي الحي والمعاش يومياً، فلا تزال بعض القوى الفلسطينية التي وضعت قضيتها في يد أمريكا بالكامل تدور حول نفسها وحول ذات المحور في دوامة لانهاية لها لا في الأفق القريب ولا في البعيد. "

وفي الختام يقول:
"إن التجارب في العالم أثبتت أنّ الثقة بأمريكا والركون الى سياساتها والأمل بوعودها ومساعداتها الخالصة هي من باب الوهم المحض، والسذاجة السياسية، والأمل الزائف الذي يوقع أصحابه في فخ لن ينجوا منه فيصيبهم بخيبة أمل وربما بهلاك.
إنّ أمريكا كما يقولون هم ليست جمعية خيرية تقدم المساعدات الى الشعوب والدول دون مقابل، وأن مصالحها هي التي تحركها، وعليه إذا التقت مصالحنا بمصالحها فلا مانع من الاتفاق معها ووضع اليد في يدها. لكنهم نسوا أو تناسوا أنها دولة عظمى، وأنها تتحرك مع الضعيف بمكر واستعلاء وتصغير. وحالما تؤمن مصالحها أو تتعارض مع مصالح الآخرين فإنها تضرب بكل اتفاقياتها ووعودها ومساعداتها عرض الحائط، وتترك حلفاءها ومؤيديها والشعوب لمصيرهم. والتاريخ خير شاهد."

ان الشاعر والمربي الكبير عبدالستار نورعلي مخلص لشعبه وقواه الوطنية، صادق مع ذاته ومحيطه، يعبر بكل قوة عمّا يجيش في أعماقه، ويمكن ملاحظة هذا الإخلاص والصدق في هذه الصورة:

قالوا: شيوعيٌّ. فقلتُ:
كلُّ منْ يشعُّ نورُ الشمسِ في عينيهِ،
دفءُ الأرضِ في قلبهِ
في لسانهِ، الفولاذُ يسقيهِ،
وربُّ الشعرِ والكلامِ والفكرِ وصدقُ القولِ راويهِ،
وحبُّ الناسِ حاديهِ وناديهِ،
طريقُ الشعبِ في النضالِ بالأيدي وباللسانِ، بالقلبِ،
وحقُّ الوطنِ المسلوبِ في الحريةِ الحمراءِ
روحٌ من أغانيهِ،
سلامُ الكونِ، أمنُ الناسِ فيضٌ منْ أمانيهِ
خلوُ البلدِ الرابضِ في الصدرِ
من الجوعِ من الفقرِ
من الأميةِ الضاربةِ الأطنابِ هاديهِ،

نتيجة لاشتداد التعسف الاجتماعي والقومي ومحاولة الحكومات المتعاقبة على سدة الحكم والسلطات الدكتاتورية وزبانيتها لقمع حرية الفكر وسد كل المنافذ امام تغلغل الافكار الوطنية والتقدمية برز الاديب والشاعر عبد الستار نور علي نجما ساطعا ومدافعا صلبا عن الناس في سبيل الخلاص من الافكار الرجعية والاضطهاد القومي، وهو بالإضافة إلى ذلك يقف بوجه الطائفية والمحاصصة والنفاق وفي قصيدته الرائعة (انتخبوا العراقَ، لا الفسادَ والنفاقْ!) يقول:

ما كنتُ يوماً في الشيوعيينَ، ما كنتُ،
وما أزالْ.
لكّنهُ في كلِّ يومٍ ينبضُ السؤالْ
في لبِّ هذا القلبِ، في حاضنهِ العراقْ:
منْ كانَ اولَ المضحّينَ من الرجالْ
ولا يزالْ
ينحتُ في الصخرِ، ولا ينظرُ للمحالْ
يحملُ فوقَ الكتفِ الأثقالْ
سجناً وتشريداً وظلماً دائماً
وما استقالْ
عنْ ساحةِ النضالْ
وقدَّمَ النفسَ رخيصاً
قدّمَ الأفكارَ والأنوارَ والآمالْ،
وما استفادْ
لا بهجةَ الكرسيِّ نالْ
لا شهوةََ الحكمِ ولا الأموالْ....
----------------------------------
منْ كانَ أولَ النضالْ
وآخرَ النضالْ
ومصنعَ الأقلامِ والأبطالْ
منْ أجلِ هذا الوطنِ المسبيِّ بالغزاةِ
والطغاةِ والأقزامِ والأنذالْ
وعصبةِ اللصوصِ والوحوشِ والأغلالْ؟
يا أيها الشعبُ الذي قد واكبَ الأحوالْ
وسِيرةَ الأحزابِ والأقوامِ والرجالْ
وراقبَ التاريخَ والأيامَ والسِجالْ
مابينَ أهلِ الحقِّ والساعينَ في الضَلالْ
وعايشَ الأجيالْ
ولا يزالْ!
انتخبِ العراقْ!
لاتنتخبْ
عمائمَ الفتنةِ والشقاقِ والنفاقْ
الزارعينَ الجهلَ والظلامَ والإملاقْ
وسادةَ الحروبِ والفسادِ والإرهابِ والإزهاقْ
لأنفسِ الخِيرةِ منْ عشاقْ
هذا العراقْ!

يقول المبدع عبدالستار نور علي في (همسة):

كلُّ ما في دمي انسانٌ بسيطٌ ونزيهٌ وشديدْ
إنني أُخرجُ ما في الصدرِ منْ فيضٍ واحساسٍ عنيدْ
إنني أنحتهُ، أكتبهُ، كي يفهمَ الناسُ جميعاً
دونَ قيدٍ أو ستارٍ من حديدْ
وكلامٍ ناحتٍ في الصخرِ منْ قعرٍ بعيدْ
فأنا أعشقُ أنْ أحكي مع الناسِ على قربٍ شديدْ
هكذا وجهاً لوجهٍ ولساناً للسانْ
كلَّ ما في القلبِ للقلبِ عياناً لعيانْ!
إنني أؤمنُ أنَّ الفنَّ ابداعٌ جميلْ
وكلامٌ دافئٌ منْ مَوقدِ الصدرِ، وحرٌّ وأصيلْ
وهو في خدمةِ كلِّ الناسِ في عالمنا هذا الذي
يغلي على البركانِ فقراً وحروباً ومعاناةً
وظلماً واغتصابْ
واعتداءاً واحتلالاً قادماً من كلِّ بابْ
وشعوباً في ظلامٍ غرقتْ مابينَ أقدامٍ ونابْ

فليقولوا ما يرونْ
وأقولُ ما أرى.
أيها القارئُ، يا أوفى قريبٍ وصديقْ،
أنتَ فينا الناقدُ المُعتمَدُ الأولُ

في اليوم الحاضر أصبحت السرقات من قوت الشعب العراقي بجميع قومياته المتآخية أمراً مشروعاً، وانّ الفساد المستشري في كل مفاصل الحياة اصبح هو الآخر صفة ملازمة للمسؤولين، والشاعر عبدالستار نورعلي كشاعر كبير وكاتب مبدع ينقل هذه الصورة التي من خلالها يتلمس المرء واقع الحال:

صارَ نهبُ النفطِ مشروعاً،
خياناتُ القياديينَ مشروعاً،
فسادُ القائمينَ على شؤون الناسِ مشروعاً
واهمالُ ذوي العقل أولي الحِكمةِ مشروعاً
وغزو الأرضِ مشروعاً
وحرقُ الشعبِ بالنابالمِ والكيمياء والذرةِ مشروعاً.
فصارَ ابنُ الشوارعِ والأزقةِ
عازفُ الطبلةِ والمزمارِ والراقصُ واللصُ المُخانِسْ
صارَ شيخاً وسياسياً وعضواً في المجالسْ
والمَعالسْ،
قائداً فذاً،
لجمعٍ من أبالسْ!!
رحمَ اللهُ الذي قالَ:
زعاطيطٌ، مضاريطٌ، عفاريتٌ.
لقد بزّوا لدينا كلَّ شيطانٍ رجيمْ!
ويقول ايضاً:
صارتِ العينانِ في الخلفِ،
وصارتْ ألسنُ الناسِ على خارطةِ الساسةِ اثنين وأكثرْ.
صارتِ الحمرةُ لوناً باهتاً بينَ الرماديِّ وأصفرْ.
صارَ ربَّ القومِ ذاكَ النقدُ أخضرْ.
صارَ أهلُ الزورِ في الميدانِ أشطرْ.
والمَرارُ الناشبُ المخلبَ سُكَّرْ.
صارَ جيبُ اللصِ أكبرْ.
وعماماتُ السياسيينَ في التزويرِ أوفرْ.

يقول الكاتب الشاعر الأستاذ جعفر المهاجرعن المربي الكبير الشاعر عبدالستار نورعلي الذي أبى أن يكون بوقاً ومدّاحاً:
"وعين مدرسا يدرس اللغة العربية في مدارس بغداد بعد أن تجمعت في ذهنه ذخيرة أدبيه كبيره نتيجة شغفه بالكتاب ومطالعاته المستمره لشعراء وأدباء عرب كثيرين فتوهجت قريحته الشعريه ونشر قصائده في الصحف والمجلات العراقية فكان يجمع بين أشرف مهنتين الكتابة والتدريس لكن المصائب والكوارث التي حلت في وطنه العراق الجريح أرغمته على الهجرة بعد تعرضه للظلم والأضطهاد لأنه أبى أن يكون بوقاً ومداحاً للطغاة والظالمين الذين تربعوا على جماجم الناس بعد انقلاب 8 شباط الدموي الأسود عام 1963 الذي استولى فيه البعث الفاشي على السلطة."
وختاماً يقول الأستاذ جعفر المهاجر:
"وفي أجواءالسويد تنفس عبير الحريه فتدفق قلمه وأصدر عدة مجموعات شعريه وكتابا ترجم فيه للعديد من الشعراء السويديين الى العربية وكتابا عن باب الشيخ تلك الحارة العريقة والتي يعرفها كل عراقي ولكن الذي يحز في قلبه أنه لم يستطع أن يطبع كتابا في وطنه وعندما وصل ألى السويد ألف عدة كتب في فترة قياسيه وطبعت له المطابع السويدية عدة مجاميع شعريه.أليست هذه مفارقة غريبه من حق الشاعر أن يتألم لها.؟ أن الشاعر والباحث المربي الأستاذ عبد الستار نور على يستحق أكثر من تكريم من وزارة الثقافة العراقيه التي تصم آذانها وعيونها عن أدباء العراق الكبار الذين غربتهم المنافي وأدمت قلوبهم رياح الغربه . لقد قال والألم يغمر قلبه منذ 45 عاما من الكتابه لم يصلني أحد ولم يسأل على أحد سوى فضائية عشتار الجميله التي أجرت معي لقاءً، فتحية حاره لفضائية عشتار على هذا الجهد الخير رغم أمكاناتها المتواضعه، وألى متى يبقى الأديب العراقي المغترب بعيدا عن اهتمامات وزارة الثقافه ؟ تحية لشاعرنا المربي الكبير الأستاذ عبد الستار نور علي وألى مزيد من الأبداع أيها الشاعرالعراقي الوطني الأصيل.وعذرا أذا لم أف الموضوع حقه."

أهدى الشاعر الكبير أبوعلي الأديبة المغربية المعروفة والمبدعة زهرة رميج هذه القصيدة:
يا زهرةَ الصدق
وما في رحلةِ الفضاء
من قمرٍ وأنجم
شمسٍ وكبرياءْ
تألق ٍ تحتفلُ النجومُ
فوق الكفْ
بضوعهِ
وصدقهِ
في القلبِ والروحِ
وفي الملحمةِ الشماءْ ،
وحرفهِ الموشومْ
بكل ما في الكونِ من ماءٍ
ومنْ تربٍ
ومنْ هواءْ

ويضيف أبو علي :
يا شعلةً منْ ألقِ الزمانْ
ذاكَ الزمانْ
أيامَ كان النورُ في الكونِ
يشقُ الأرضَ والبلدانْ
منطلقَ العنانْ …..
يا رحلة ً تعبقُ بالإبداعِ والنماءْ
وغرةِ الرجاءْ
في عالمٍ يسكنهُ الجلادُ
والغلمانُ
والرقيقُ
والحربُ
وقتلُ الشجرِ الحافلِ بالخيرِ
وبالأحلامِ والأطفالِ والهواءْ

أما الأديبة المبدعة زهرة رميج فقد كتبت ما يلي:
"الأخ العزيز المبدع المتألق عبد الستار نورعلي
لا استطيع ان أعبر لك عن سعادتي و مفاجأتي الكبيرة و أنا أجد هذه القصيدة الرائعة المهداة إلي!.
صحيح أن الأرواح جنود مجندة…. منذ البداية، اكتشفت فيك الشاعر المتميز و الإنسان العميق المهموم بمصير الإنسان اينما كان و بغض النظر عن جنسه أو لونه او انتماءاته. تشبثك و تغنيك بقيم الخير والجمال والمحبة و الحرية هو ما شدني إليك و جعلني لا أفوت فرصة قراءة نصوصك العميقة حتى عندما لا تسعفني الظروف لقراءتها في حينها. لم يخب ظني فيك ، ولم تكذب عليّ حاستي السادسة. ذلك انك من تلك الطينة النادرة التي تشفي الجروح و تعيد الروح بسحر صدقها و إصرارها على مقاومة الظلام و تتبع خطى النور أينما لاح في الأفق.
و لم تخنك حاستك أيضا. فالإنسان همي الأول والأخير. والكلمة الصادقة تفعل فعل السحر في نفسي.
لقد ابكيتني هذا الصباح - من الفرحة - و أزلت مرارة كانت لا تزال تسكنني. و جعلتني أتراجع عن قرار كنت قد اتخذته بيني و بين نفسي.
فالف الف شكر لك يا عبد الستار.
و دمت أخا صادقا صدوقا وشاعرا متميزا و إنسانا عميقا."

يهتم الشاعر الكبير عبدالستار نورعلي بالمرأة في شعره، وفي هذا المجال كتب للأم، والزوجة، وعيد المرأة ففي قصيدة للأمهات المضحيات بفلذات الأكباد، والصامدات الشامخات في وجه الغل الشوفيني للدكتاتورية البغيضة بعنوان (الأم العراقية) يقول:
هذي هي الأمُ التي
قد حملتْ في رحمها
كلَ الذي مرَ به العراقْ
هذي هي الأمُ التي
قد جابت الآفاقْ
بحملِها
وحزنها
جراحها
بكائها
دموعها
سـرورها
شـموخها
سـموها
وصبرها الأصبرِ منْ ايوبْ
وقلبها الأصلبِ والأصفى من القلوبْ
وروحها الأرقِ من نسائمِ الحقولْ
هذي التي ما خـُلقتْ من مثلها
أم ٌ على الأطلاقْ …!

وبمناسبة عيد المرأة كتب يقول:
إلى المرأة التي ترافقني مسيرة الحياة. تتحملني في الآلام والمرارات، وتحملني في الفرح أنا وأولادنا الثلاثة.. إلى التي كلما تحدثنا عن الحقوق، تتصرف بالواجبات، إلى التضحية الدائمة، إلى رفيقة الدرب أم علي:
يمر عام، إثره عام/ وهذا العيد يزهو وردةً، حبيبةً، سنبلةً، /قصيدة رقيقة الأنداء/وخيرة النساء /أماً وأختاً،/ زهرة الدرب،/ وهذي الطفلة الجميلة الحسناء /وكل عام تطلق الشفاه/ والأسطر العصماء/ تحكي عن النساء/ في دورة الظلم وجور العالم المليء بالشرور والحروب والأهواء/ تحكي عن القهر الذي يلاحق المرأة/ بمحو دورها وحقها/ تحكي عن العالم في الدوامة السوداء.....

ويختتم أبو علي قائلاً:
يا أكرم النفوس،/ صُبّي على قلوبنا من قلبك/ ومن أحلامك الضياء / وحرقة الباحث عن مسلة الحب،/
وعن إطلالة الوفاء / صُبّي وانْ كان علينا أن نصب في الروح وفي الفؤاد/ تمثالك/ وتحته ننحت من عيوننا الاسم/ ومن ضيائك:/ الحقوق/ الحقوق/ يا أوضح النساء.

يهتم الشاعر والكاتب الكبير عبدالستار نورعلي إضافةً للشعر والكتابات الأدبية والصحفية والتحليلات السياسية بالترجمة، وخاصةً من اللغة السويدية إلى اللغة العربية فقد ترجم (جلجامش) وهي مسـرحية شـعرية للشـاعر السـويدي أبه لينده، كما ترجم للشاعر الليتواني غنتاراس غرايوسكاس ، ولفدريكو غارسيا لوركا، والشاعر اليوناني كوستاس كاريوتاكيس، والشاعر الكوري كو آن وشعراء سويديين ضد الحرب وغيرهم.

وهنا نأخذ مثالاً مترجماً من قبل شاعرنا للقصيدة (حل الأزمة) للشاعرة السويدية لينا أكدال وهي من مواليد غوتنبرغ 1964:
"أقولها للمرة الأخيرةِ./ توقفوا الآن./ إذا رأيتُ أحدَكم يُطلقُ النار مرةً أخرى/فلنْ تكون هناك حلوى بعد الطعام./ ألا تسمعون ما أقول؟ / عندها فإني سآخذ المسدساتِ والبنادقَ والقنابلَ والمدافعَ./ لنْ تحصلوا عليها ثانيةً/ إذا كنتم منشغلين بإطلاق النار على بعضكم البعض طوال الوقتِ./ الآن يجبُ أن ينتهيَ ذلك. / لا يهمني من الذي بدأ أولاً./ لا أهميةَ لذلك.// توقفوا الآن عن القتلِ./ توقفوا عن الحرب./ يكفي هذا الآن./ يجبُ أن ينتهي فوراً./ انظروا هنا، كم هذا المنظرُ محزن./ بيوتٌ مهدّمة، أطفالٌ وحيدون، أناس قتلى في كل مكان./ لا طعامَ موجودٌ، كلُّ شيءٍ مُدمَّر./ يكفي هذا الآن./ عليكم أن تعتذروا./ افعلوها./ تبادلوا الاعتذارَ فيما بينكم./ نعم./ نعم، بكل سرور./ أسامحُ بكلِّ سرور، حين يقولُ أحدهم معذرةً./
ينبغي لكم أن تتعاونوا لإعادة بناء المدن،/ اغمروا المشردين برعايتكم،/ ضمدوا الجراحَ / وأبداً، أبداً لا تقترفوا مثلَ هكذا حماقاتٍ./ نأكلُ الآن الرزَ بالحليب./ ستتحسنُ الأمور/ لو أننا أعلمنا بعضنا البعضَ مسبقاً."

لقد كتب العديد من الأخوة الكتاب والأخوات الكاتبات من العرب والكورد والقوميات المتآخية مقالات عن الشاعر الكبير والأديب المعروف عبدالستار نور علي مع نماذج من شعره وكتاباته فقد كتبت الكاتبة السيدة نظيرة اسماعيل في جريدة آفاق الكورد تقول:
"الشاعر عبد السـتار نورعلي في موسـوعة الشـعراء العالميين
دخل اسـم الشـاعر عبد السـتار نورعلي في موسـوعة الشـعراء العالميين ، التي تحتوي على أسـماء أبرز شـعراء العالم المدافعين عن حرية الانسـان وحقه في الحياة والعيش الكريم والأمن في عالم نقي خالٍ من الفقر ومن الحروب والاضطهاد والتمييز بسبب الجنس أواللون أو العرق أو الدين أو الطبقة ، والعاملين من أجل المساواة ونشـر النور في الكون. الشـعراء الذين يرفعون أصواتهم سـيوفاً من الضوء لإرعاب الظلام على الأرض ، ويصنعون من كلماتهم أسـلحة لم يعرفها المجرمون على مر التاريخ.

يمتاز شـعره بالتعبيرعن معاناة الإنسـان في وطنه وفي العالم ، معاناته من الظلم والاضطهاد والفقر والعدوان والحرب. كما يجد المرء في شـعره نفثات ذاتية روحية تعبر عن معاناته في الغربة والبعد عن الوطن والحنين اليه ورفعه على أكتافه ألماً وجرحاً ينزف وما يزال من الاضطهاد والحروب والغزو والتدمير وقتل روح الانسـان فيه ، وهو في ذلك يعبر أيضاً عن معاناة كل انسـان يقع تحت نفس الظروف ويعايشـها."

https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=168094

(الحوار المتمدن-العدد: 2609 - 2009 / 4 / 7 -)









الشاعر عبد الستار نور علي
والتجريب بأعلى سقوفه
( النقد بمحاذاة النص)

سلام كاظم فرج..

في منتصف عام 2003 اقترحت على الاخوة في منتدى أدباء المسيب..تأسيس تقليد دوري لعرض نصوص شعرية مثيرة للجدل وتناولها بالنقد البناء الرصين خارج منظومة الإطراء التقليدي او القدح التقليدي.. واقترحت أنْ نخصّص امسية في بداية كل شهر نطلق عليها (النقد بمحاذاة النص).. استمر هذا التقليد لفترة قصيرة.. لكنه أنتج بضع محاولات نقدية لبعض النصوص التجريبية.. وقد أبدع الاستاذ (صباح محسن جاسم) رغم ظروفه الصعبة في تحريض أدباء القضاء على التفاعل الايجابي مع الفكرة فكتب نقداً عن نصي الموسوم.بـ(ضياءات موغلة في القدم..)..و نصي (تناص مع ذوي الشعور السود).. وكتبت نقداً عن قصيدة (أبحث عن مأوى لظلّي) للشاعر (توفيق حنون المعموري).. ونشرتُ بعض محاولاتنا في الصحف المحلية..وأردنا لمشروع (النقد بمحاذاة النصّ) أنْ يزدهر.. لكنْ تذبذب الوضع الأمني حالَ دون استمرار نشاط المنتدى إضافة الى عدم توفر الدعم المادي في الحصول على بناية لمنتدانا أحبط حماسنا..
من هذا المنطلق وجدتُ في نصّ الشاعر الاستاذ (عبد الستار نورعلي)، المنشور بمحاذاة مقالتي هذه، فرصة لإحياء تلك الفترة...آمل ان تجد صدى طيباً لدى صديقي واستاذي الشاعر الكبير (عبد الستار نورعلي) والأخوة والأخوات....
.......................
يثير نصُّ الشاعر الاستاذ عبد الستار نور علي (كشف حساب غير متأخر) جملة من الأسئلة حول القصيدة المعاصرة .. لعل اهم تلك الاسئلة: هل هنالك حدود للتجريب يقف عندها الشاعر كي لايخرج نصّه من دائرة الشعر الى دوائر أخرى تحتاج الى مسميات جديدة؟ .

وإذا كان (عنترة) الشاعر الجاهلي قد قال .. (هل غادر الشعراء من متردم...) ناعياً المواضيع المتاحة للشعراء، معلناً أنْ لم يبقَ للشعراء ما يقولونه، لأنهم لم يتركوا صغيرة ولا كبيرة إلا وغادروها. وإذا كان (إزرا باوند) قد أفنى عمره وهو يجرِّب ويدعو تلامذته للتجريب، ونضو ثياب السائد مهما كانت جدتُه، وإتخذ من التجريب منهجاً وسبيلاً ورسالة، فإنّ الشاعر الاستاذ (عبد الستار) في نصه هذا يتمرد على كل الأساليب السائدة، بما فيها التجريبية!! وهو الشاعر الذي عرفناه ملتزماً بقصائد العمود، وهو الناقد المهم الذي قرأنا له دراسات رصينة عن القصيدة الكلاسيكية الفخمة، وجزالتها عند (الجواهري) و(يحيى السماوي)..وهو الملمّ بكل ما أبدعت العرب من شعر على مدى قرون، منذ أن بدأ (المهلهل) أخو تغلب شقيق كليب يُهلهلُ الشعرَ، وليس انتهاءً بآخر ابتكارات (حسب الشيخ جعفر) فيما سُمّي بـ(القصيدة المدورة).. لكننا نرى الاستاذ (عبد الستار) وقد ملّ كلّ قديم سائد وكأنه يلبي دعوة الزهاوي جميل صدقي:
سئمْتُ كلَّ قديمٍ عرفتُهُ في حياتي
إنْ كانَ عنـدك مِنْ جـديدٍ فهـاتِ

القصيدة العربية من ناحية البناء مرّتْ بتطورات كثيرة فبعد أنُ التزمَتْ نظام البحور من وزن وقافية وحرف رويّ ونظام الشطر والعجز.. انتقلت على يد (بدر) و (نازك) ورفاقهما منتصف القرن الماضي الى ماسُمّي بـ(الشعر الحرّ) معتمدة تنويع الأوزان والقوافي في النصّ الواحد فيما سُمّيَ ايضاً بـ(شعر التفعيلة)..ثم برزت (قصيدة النثر ) التي تعتمد الموسيقى الداخلية للنص، واعتماد الجملة الشعرية والصورة الشعرية دون الالتزام بوزن أو قافية.. بل اعتبر الوزن والقافية إحدى نقاط ضعف النص!. واختلفت التسميات لمثل تلك النصوص فمنهم من اطلق عليها اسم (النثر المركز) كما فعل احد روادها الشاعر (حسين مردان).. إلا أنّ الاسم الذي اكتسب شيوعاً وقبولا هو (قصيدة النثر)..ثم مالبثَ أنْ ظهر ماسُمّي بـ(النص المفتوح) العصيّ على التجنيس..

ونصّ شاعرنا (عبد الستار نور علي) يركّز على منظومة أفكار، وكما بيّنَ في بعض مداخلاته على النصّ أنه اعتمد تراكمات فكرية ومعرفية ومسيرة تأمل وتجارب عديدة.. لكنه هنا وفي هذا النص ينسف كل ماتعارف عليه الشعراء من وزن وقافية وتفعيلة، بل بالموسيقى الداخلية للنص.

فهو هنا يستفزّ المتلقي بطرح اسئلة أخرى خارج حدود النص، ويدعوه لمزيد من نزع الاقنعة حيث لا قناع بياتيّ (نسبة الى عبد الوهاب البياتي).. ولا وحدة موضوع.. بل أشطر قائمة بذاتها مستفزة مستفزة (بفتح الفاء وكسرها).

هنا وجدت استاذنا (عبد الستار) يفرّط في التجريب حتى يقترب من المعادلات الرياضية والفيزيائية..

هي دعوة للاخوة النقاد والأخوات الناقدات وللشعراء والشواعر المهتمين بالشأن الابداعي ومنهم استاذنا الشاعر (عبد الستار نورعلي) لتناول النص أولاً وإغناء البحث في الحدود المتاحة للشاعر لممارسة التجريب...

........

لنقرأ نص الشاعر الاستاذ عبد الستار نور علي:

تجريب: كشف حساب غير متأخر
عبد الستار نورعلي

أربعون + خمسة =

كتب ، أقلام ، أوراق ، أنامل =

عينان ، صدر ، أضلاع ، قلب =

الكرة الأرضية + كلمات حارقة/ محترقة + صداع + آلام + غربة + إحديداب =

كيفَ احتملتَ كلَّ هذا الدُوارْ
والتعبَ المُرَّ وضيقَ الحصارْ ؟

صخرة بحجم الكون ، صعود نزول =

سفح ، غابة ، أشجار متشابكة ، أشواك

طرق ملتوية ، وحل ، جليد ، فيضانات ، انفجارات

هل أيقظكَ العرّاف ؟

نومٌ عميق ، غصن زيتون ، حمامةٌ =

“الكلمة الطيبةُ صدقةٌ؟” =

اتقِ شرَّ مَنْ أحسنتَ اليه !

ما الذي تبغي اليهِ
أيها العابرُ فوقَ العربهْ

=

جوع ، حرمان ، أحذية ضيقة ، خيلٌ متعبة

ليل طويل ، ستائر رمادية ، شمعةٌ محترقةٌ

كأس فارغةٌ ، مائدةٌ خاويةٌ ، كراسٍ بلا اقدام ، بلا ظهر

أوراق مرمية على قارعةِ الطريق ، صدر ضاق على التاريخ

بركان يغلي

عينان متعبتان ، أنامل دامية، كرسي متصدّع لابتوب بحجم الكفّ =

في انتظار جودو

هل تجيد الجودو والكاراتيه؟

جودو وكاراتيه=

بلطجة ، كرسي ، تاج مزيَّف ، لسان ذلّاق صحف يومية ، فضائيات عربية

هو =

عينان صافيتان ، قلب ينبض بالدم ، أقلام رصاص صوت نقيّ ، يد متعبة =

الطيبة سلاح الضعفاء

نزع فلان ثوبهُ =

تصفيق حادّ ، فضائيات ، مسارح ، دولارات

هل تستطيع أن تنزع ثوبك؟

عيب !!!

عيب =

إعراض، كواليس ، رغيف يابس ، صمت مطبق ، موت في رداء حياة

هل جرّبتَ الفاليوم ؟

الفاليوم =

خدرٌ صناعيّ ، نومة أهل الكهف ، سكون ، موت في رداء موت

اربعون + خمسة + وجه ثابت + أوراق خضر + يد بيضاء +

ثياب غير منزوعة + يقظة + نوم منْ غير فاليوم + الكلمة الطيبة صدقة

=

جدار برلين ، صمت الغابات ، شوارع خلفية ، نجيب سرور

إنذار:

هل ستتوقف العربة عند الخامسة والأربعين؟

إنْ كان لا يدري =

مصيبة

وإنْ كانَ يدري =

المصيبة العظمى *

دمٌ يجري + قلب ينبض + سطور بيض + كون مضطرب =

تجليات ، حياة ، كشوف ، تحديات ، استمرار

فوق التلة ثلج يلمع تحت الشمس

أناس يتزحلقون في عزّ الظهيرة

هو لايجيد التزحلق

هناك بالجوار تحت الأشجار أناس يشوون لحم دجاجٍ

هل تأكلُ لحمَ الأسد؟

“اقرأ باسم ربّك الذي خلق”

لا يوجد كهف ولا عنكبوت هنا

غابات كثيفة ، جليد ، أرانب برية

لا أحد يصطاد الأرانبَ هنا

هل تأكل لحمَ الأرنب؟

سؤال وجيه ، لا أعني وجيه عباس

ما الذي ذكّرك بوجيه عباس ؟!

لا تدري !

باقلاء بالدهن الحرّ ؟

الحدود السبعينية تقترب ، Stop! ، اشارة حمراء

هل أنت نادم؟

ربما

إنه يومٌ لا ينفع فيهِ الندم

ارمِ طموحَكَ واغفُ بالإصرارِ
الدهرُ للطبّالِ والزمّارِ

مزامير الصحف اليومية ، مزامير شعراء السلطان

هو لايعني مزامير داوود:

اغرسْ نفسَكَ عند مجاري الماء

ورقٌ لا يذبلُ ، ثمرٌ يُفلحُ

واملأ كأسَكَ بنبيذِ النافذةِ ، مُشرَعةً

اكشفْ عورةَ مَنْ في الساحةِ رقّاصاً ، ثمناً بخساً

اكشفْ ما تحتَ ستارِ العورةِ في حقلِ الباطنِ ، ما في جدار الظاهرِ

هدموا جدارَ برلين

ثمّ ماذا؟ وشنو يعني؟ هل أكلوا الكيكةَ؟

افتحْ

أنْ تفتحَ بابَ العشق الغافي تحت الجلدِ

أن تفتحَ عينَ النائمِ =

عيون ، قضبان ، تعذيب ، ذبح ، تفجير

مصنع السيارات المفخخةِ في بيت الرئيس القائد

حتى آخر رمق ….

* اشارة الى قول الشاعر:

إنْ كنتَ لا تدري فتلك مصيبةٌ
وإنْ كنتَ تدري فالمصيبةُ أعظمُ

https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=304714

(الحوار المتمدن-العدد: 3707 - 2012 / 4 / 24)




مدونات عبد الستار نورعلي
تنفض غبار الرجع القديم بنصائح سيدوري
هاتف بشبوش

إنّ شعاب المدينة ودهاليزها لدى عبد الستار نور علي، صارت سلاماً، صمتاً، رفوف مكاتب، طبيعة، ثلج، دوياً وانفجاراً قاتلاً، وجثثاً وأشلاء ممزقة هناك في مدينته الأصل بغداد .كلّ هذه التفاصيل الدقيقة طفقت تعصر قلب الشاعر. لكنّ الحياة تستمر، وتسير مهما ضاقت الارض بنا:
" تضيق بنا الارض , تحشرنا في الممر الاخير , فنخلع أعضائنا كي نمر ...." (محمود درويش).
يوميات عبد الستار نتاج مريح. وقد اشترك في بنائها الرمز والكناية والايقاعات المنضبطة، بشكل تراتبي يحسد عليه، إنها يوميات مفتوحة على العلن ,ولم نجد مايشير الى الاسرار , فتعال وانظر ايها القارئ والناقد بدون حرج او تردد.
يوميات مدينة الجزء الاول !!!
الإهداء...
سلاماً أسكلستونا!
سلاماً بغداد!
سلاماً شظايا جثةٍ ممزقةٍ في الشوارعْ!
سلاماً أحلامَ اليقظةِ!
سلاماً أحلامَ النومْ!
لقد ارتدينا رداءَ الليل وهماً أنه النهار
فتسلينا بلعبةِ النومِ
لنستيقظَ في الشوارعِ الخلفيةِ
بالمدنِ الامبريالية الكافرةِ

أن تكون شاعراً ,عليك ان ترى اكثر المدن , ان ترى البحار , ان ترى الأشياء المختلفة، أن ترى الأحلام وأضغاثها، أنْ تزجّ نفسك في علب الليل، وتصرخ أنك لست واهماً، وأنّك قد عشت نهارات سعيدة , واما اذا استيقظت في سرير السماوات البعيدة رغما عنك او بارادتك , فتلك هي المنافي , الأمكنة ذات البيئة الخضراء لميلاد اكثر الارهاصات والمرارات للشعراء , المنافي هي الامكنة التي لايصل اليها النسغ الصاعد من الطفولة ...هي الامكنة التي تعطبت بها الشرايين التي تغذي اطراف الجسد المتناثر بين المتاهات... هي الامكنة التي يكون فيها المغترب على غير مستقر له ,هي الامكنة التي تختلف فيها الجاذبية عما في الوطن الام. المنافي هي الارض الخراب كما يقول كافافيس في حديث مطول له اقتطع جزءا منه.....( قلتُ سأذهب الى مدينة اخرى افضل من هذه , كل محاولاتي مقدر عليها بالفشل , ستلاحقك المدينة ذانها , وستدركك الشيخوخة في الاحياء ذاتها, ما من سبيل , مادمت خربت حياتك هنا , في هذا الركن الصغير, فهي خراب اينما كنتَ في الوجود).
لقد تعطر الاهداء بالسلام للمدن الاحب الى قلب الشاعر , حتى ادرك الحزن قلبه وهويرتدي عباءات الوهم, وصف قلق جدا مثلما النفس القلقة للشاعر عبد الستار وهويكتب النص , النفس التي تعيش الصراع وعزاء الروح , من منا أيام زمان , لم يحلم ان يرى العالم المتحضر , الذي طالما ناضلنا كثيرا في سبيل الوصول اليه , , وقد ضاع نصف العمر , ان لم يكن كله في سبيل هذه الاحلام, لكننا استيقظنا كما يقول الشاعر عبد الستار , بعد حلم طويل , ان نعيش الحياة بكامل حقيقتها واحلامها في الدول الراسمالية , والتي يطلق عليها البعض للاسف بالدول الكافرة , رغم ايوائها له مع التكفل بجميع مايتمناه لمزاولة حياته , وهنا جاء التعبير تهكمي ساخر من قبل الشاعر عبد الستار اشارة منه الى ذلك , استيقظنا لنرى انفسنا في الركب الخلفي لشعاب الامبريالية , هذا يعني اننا نحتاج الى مسافة زمنية تقدر بعشرات السنين , كي نصل الى مانصبو اليه , بارادتنا او من عدمها , كما وان الشاعر اراد ان يوصل رسالة مفادها ,ان الامبريالية العالمية , قد اختلفت كثيرا عما كنا نعرفه , وأنها رغما عنها قد شرّعت بعض القوانين التي نادى بها ماركس وادم سميث , نتيجة لضغوط البشرية التي ناضلت في سبيل الكرامة لنفسها .

نص الحادية عشر صباحا....
أخافُ أنْ ألقي رؤوسَ اصابعي
فوق الحصى،
الأرضُ تحتضنُ السجائرَ
تحتسي أثرَ الشرابْ
نَفَسَ الترابْ

الشاعر في تجواله الشخصي , يدون يومياته عن هؤلاء البشر المسثمرين للطبيعة والحياة بشكلها الصحيح , الارض هي الام , وهي الانتماء , ولكنها غالبا ما تكون لعنة في بلداننا , مما جعل الشاعر الكبير الماغوط ان يقول ( لا شئ يربطني بهذه الارض سوى حذائي) . بينما نجد الشاعر عبد الستار قد وصف هذه الارض السويدية ولشدة حبها لابناءها ورعايتها لهم بكونها الام الحنون , الام التي تعطي ولاتأخذ , انها تحتضن حتى اعقاب سكائر ابناءها , في ايام الكرنفالات التي نراهم فيها يسكرون ويسكرون ويسكرون , حتى تسيل صبابتهم , مع انفاس التراب الحي , فتحتسيها الارض , كي يبقى اقترابها لهم ......هاجسا للجذور .

هذي القصيدةُ قطعةٌ منْ بوح ميدانٍ تساقطَ خيلُهُ
في ساحةِ الرجعِ القديمِ ،
وسمّرتْ أنفاسَها عندَ انغلاقِ البابِ
في بلدانِ أسوارِ الكلامْ،

الشاعر واضح هنا , لايحب تكميم الافواه , يريد الصراخ بالكلمة, كما وأنه يعتقد , انّ الذي يصر على ان لايعرف دروس السنين الغابرة بآلافها التي مضت , سيبقى في الظلام , كما وان هناك علاقة وثيقة بين اللغة الشعرية والحياة اللغوية التي يحياها الشاعر عبد الستار , وباعتبار ان الشعر كف يعبر عن ارادة الحياة وايقاعها . الشاعر صور لنا مدن الشرق وكانها سجن كبير للكلمة , سجن بأسواره العالية التي لاتطالها الاذرع, وما من احد يستطيع الوصول اليها والاقتراب منها , ومن يدخل هذه الاسوار مفقود ..مفقود ..مفقود . سجن في ظل اللوياثان الذي لما يزل يحكم بقبضته الفولاذ رغم الاحداث الاخيرة وصراخ الشعوب العربية بأكملها لكنه مازال يحلم بالبقاء في تكميم الافواه ورضوخ الشعب له .المدينة التي يحلم بها الشاعر عبد الستار هي ليس مدينة افلاطون , انه يحلم في اليقظة والنوم , في ان يرى سراج النهار سراجا واضحا , لاوهماَ. ولذلك نرى ان الجزع العميق ينكشف له كلما امتد بجذوره في اعماق الوجود .

اما المدون ادناه في سبتمبر .. فهو نصُّ خالصُّ يحكي عن الطبيعة

ذاكَ الثمِلُ النائمُ فوقَ العشب الأخضرِ
ما بينَ دخانٍ يمتطي الأغصانَ
في هذي الحديقةِ ، والخليلةُ قربهُ
لا تعرفُ التاريخَ ، لا الجغرافيا، ولا مناخَ اليومِ،
تنظرُ في فراغِ الروحِ لا تدري الذي
يجري على الأرضِ ولا العشبِ،
ولا النائمُ بالقربِ اليها يعرفُ القصةَ،
كيف التقيا جوارَ هذا النهرِ تحت الشجرهْ،
كيف استذاقا البيرةَ الحارةَ من فوهةِ العلبةِ،
كيف انتشيا ، غابا معاً وسط دخانِ العالمِ التائهِ
مذْ ايامِ سيدوري،
عرباتُ أطفالٍ تمرُّ
وأمهاتٌ يرتدينَ الحبَّ والضحكاتِ
عطّرنَ الطريقَ بهمهماتٍ وأحاديثَ
عن الشمسِ التي سطعتْ بهذا اليومِ
تمنحُ منْ حرارتها حكايةَ كيفَ أنّ الجلدَ يحترقُ،
وكيفَ الكلبُ ينطلقُ،
وأخبارَ الرجالِ والعملْ،
وتعريْنَ على العشبِ، اضطجعْنَ،
وغسلْنَ الجلدَ منْ صدأ المَللْ،
وشبابٌ مثل فلقاتِ القمرْ،
وقفوا في الناصيهْ
بشرابٍ من كسلْ

هذا النص يتكلم عن الطبيعة بشكل خالص , هنا الشاعر بدا صوفيا زاهدا , غير مشغولا بما عرفناه عن السياسة وتداعياتها في اغلب نصوصه , هنا هو مولع بالطبيعة , ولم لا فقد كان قبله الكثير من الشعراء قد تغنوا بها ومنهم الكبير احمد شوقي ( تلك الطبيعة قف بنا ياساري .. حتى اريك بديع صنع الباري) . فيكتور هيجو يقول ( أن كل شئ في الطبيعة هو عبارة عن ايقاع ووزن.. يعني ان الله خلق العالم من الشعر) . هذا النص يقرأ بشكل كامل وغير مجزء , لانه قطعة واحدة متواصلة ولايمكن فصل اي ثيمة عن الاخرى ,وكأني ارى الشاعر حينما طفقت رؤوس أصابعه تكتب لم تشعر باالاعياء او الاجهاد , حتى أنجز الذهن والملكة البوحية كامل ما بجعبتهما من سيل شعري متراكم , ووجب التفريغ التام لها دفعة واحدة في تلك اللحظات الصوفية التي ينعزل فيها الشاعر تماما عن العالم الخارجي , ولذلك جاءت القطعة هذه متراصة , متماسكة , وشكلت عقد متكامل وفصل اي منها عن الاخرى تؤدي الى فرط العقد كله.
النص كتب باسلوب تنسيقي جميل مع رونق الشكل على الشاشة , الشكل الشعري هو كما المرأة التي يهمها ان تكون جميلة و مزوقة امام من تـُحِب , كذلك الشعر يهمه جدا ان يكون وسيما , شكلا ومعنى وروحا امام القارئ او الناقد, لانه يستمد حيويته من القارئ نفسه , هناك متعة لكاتب الشعر ان يكون مقروءا من قبل المتلقي , وهي متعة متبادلة بين الطرفين , كما وان هذه القطعة الشعرية لعبد الستار بحد ذاتها عبارة عن لوحة فنان تشكيلي قد رسم الطبيعة , ثم جاء شخص يتشاعر ,فقام بتحويل اللوحة الفنية الى شعر , او ان الطبيعة نفسها جعلت من الشاعر ملهما فقام يتشاعر , مما اعطانا الشاعر عبد الستار هذه القطعة الذهبية الرائعة عن الطبيعة, والنفس الانسانية وعلاقتها بالطبيعة, حيث ان السويدين وبيوم مشمس يتمددون فوق ملاءات بسيطة , احيانا تكون سروايل او سوتيانا بسيطا , فوق العشب , وكلهم نساءا ورجالا , امهات واطفالهنّ , اشبه بالعراة ,جاءوا تحت الشمس ينفضون عنهم صقيع الشتاء الفائت , يجلسون كما يقول الشاعر وقد غاب عنهم التاريخ وجغرافية المكان, انهم يعيشون اللحظة الحاضرة , اللحظة الابيقورية الرائعة , وليأتي مايأتي غدا , فهذه المناظر الخلابة للطبيعة وللنساء الشقراوات والاجساد الفارعة في الطول الناتجة عن التغذية الجيدة للاوربيين , ليس كما اليمنيين الاقزام او التايلنديين او الفيتناميين ونحن كذلك وغيرها من الشعوب التي لاتمتلك ثقافة التغذية نتيجة الفقر . هنا نرى الناس جميعم لديهم الشعور بالالفة والاجتماع والانتماء الى الشمس والطبيعة الساحرة, وكانها طقوس عبادة الشمس قبل الاف السنين , فنرى الجمهرة البشرية المنطرحةعلى العشب ,والثمِلة من كأسين, كأس الخمرة وكأس الشمس والاستمتاع بالطبيعة , وبينهم نرى الشاعر عبد الستار يسكر هو الاخر ولكنه يسكر بالشعر, كي يتقد خياله وينفتح على فضاءات اوسع , فيعطينا هذه اليومية عن الطبيعة بوصفها المؤنس . فنرى الجمهرة هذه وكانها تصرخ , لاللعزلة التي تفضي الى الموت. وصف الشاعر الطبيعة بوصف فوتوغرافي بديع وكانها ( هراء خلاّب ) ... الهراء الخلاب الذي يدخل في النفس الدهشة والغبطة من هذه الطبيعة مع البشر المتناغم معها , البشر الذي يحترم الطبيعة , البشر الذي يعيش مع الطبيعة في علاقة تبادلية واغتنام لحظات ربما لن تتكرر ..لان الطبيعة دائما حبلى بساعة اعلان إنصرافنا وانتهاء دورتنا في الافراح والاتراح. ثم يؤكد لنا الشاعر على سومريته وجذور انتماءه حيث يسرح في خياله الى سيدوري صاحبة الحانة ونصائحها الى كلكامش ,عندما تقول له (ليكن كرشك مليئا دائما/ وكن فرحا مبتسما نهار مساء/وأتم الافراح وارقص والعب/ دلل صغيرك/ وافرح زوجتك/ فهذا هو نصيب البشرية. فهنا الشاعر اراد ان يربط عشبة الخلود بالتصرف الانساني الذي يراه , ودعوة صريحة منه للاستمتاع بالحياة بناءا على ماقالته سيدوري , مع وضوح شامل للمعنى التراكبي والايضاح النغمي للنص.

* الثلاثاء 15 سبتمبر 2009

بين رفوفِ الكتبِ الباسطةِ الأفياءَ
نساءٌ ورجالٌ في رحابِ العينِ يمتشقونَ
أخبارَ النهارِ من الجرائدِ،
والموائدُ رحلةُ العمرِ الطويلةُ
في صدى الصفحات

التجوال بين رفوف المكاتب عالم مذهل , عالم لامتناهي , يفتح منافذه على فضاءات العالم على مآسي وبؤس البشرية منذ النشوءوحتى الان , كما وان رفوف المكاتب تدخلنا في الانطباع الذي مفاده ( كنا اطفالا فكنا ابرياء ... ولما كبرنا تلوثنا .. كما الكتب الموضوعة فوق رفوف المكاتب .. حينما يتراكم الغبار عليها على مر الايام والسنين ).
ان رفوف المكاتب تكاد ان تكون رحلة الكون الطويلة لما فيها من مجريات مختلفة , متاهات , عشق , موت , كره , حدائق جوراسية من العلم والادب والمعرفة تضيق وتتسع, تحيا وتموت , تتلاشى كالديناصورات , بالمختصر هي المكان الذي يحتوي على التاريخ المدون الذي يحتوي العجب العجاب......( هناك في عمر البشرية تاريخا غير مدون لم يصلنا ولم نفهم منه شيئا حتى الان )..

* الأربعاء 11/11/2009
الساعةالثالثة عشرة/

فوقَ نصالِ القرنِ الغربي ... يحلمُ
أنْ يضعَ وسادةَ أرض الغربِ
تحت الرأسِ، وينامُ
فوق حصانِ كاري كوبر وبرت لانكستر
ونهدي مارلين مونرو وبريجيت باردو
يرقص مع زوربا اليوناني
كانَ يحدّقُ في تلك السماءِ السمراءِ
فيرى مطراً يهطلُ في عينيهِ
من فوق "مرتفعات ويذرنج"،

الاحلام تكررت هنا وكما في النصوص بشكل كامل اكثر من سبعة مرات ..نعم .. من منا لم يحلم في صباه وعنفوانه ايام كان العالم يزخر بالحركات التحررية والثورية,ايام حب السينما , واسبوع الفلم السوفيتي في السبعينات , وفلم ( الحرية تلك الكلمة الحلوة وفلم زد وغيرها )او افلام الرومانس كفلم( احببتك بالامس للمثلة برجيت باردو ) , من منا لم تهزه رقصات التحدي لزوربا اليوناني وعلى وجه الخصوص حينما مثل الدور من قبل الممثل العالمي الشهير انتوني كوين ورقصاته الغضة الطرية واصراره على النجاح في الحياة بعد كل فشل ذريع . ومن منا لم يقرأ مرتفعات وذرنج والطفل النشيط البائس ( هيثكليف) ,ة ومن لم يقرأ للعمالقة نيرودا , مايكوفسكي , ديستويفسكي.
الذي لم يدخل ساحة الثقافة في ايام السبعينات كنا نطلق عليه (البرجوازي) , وهذه الكلمة لها وقع كبير تلك الايام , بحيث ان البرجوازي في تلك الايام عليه ان يشتري صديقا له, لا كما هذه الايام حيث يلعب المال دورا اساسيا في بناء شخصية الانسان ( رأيتُ الناس قد ذهبُ .... الى مَن عنده ُ ذهبُ ).

يحلمُ هذي الأيامْ
برمالِ الصحراءِ الشرقيةِ أنْ تمتدَّ ، لتنامْ
على وسادةِ قلبهْ،
فيفيقُ وشمسُ ظهيرتها تُشعلُ رأسَ قصيدتهِ
منْ أول ايام ولادتها،
قالَ الحلمُ يوماً:

إنّ النائمَ فوق حريرِ يديَّ
يستيقظُ مخمورَ العينينْ،
وسيأتي الليلُ الآخرُ مقسوماً نصفينْ،
نصفاً في قدحِ الخمرةِ ممتزجاً بسرابِ الخيلْ،
نصفاً يشربهُ عواءُ الليلْ

هنا الحلم يجسد لنا اللوعة والاشتياق والوجيب على ان يعود الشاعر الى الارض الام حيث الشمس الدائمة الحارقة, لاكما في اسكلستونا الباردة الثلجية ,ذات المطر الدائم , ولاوجود للفصول فيها , كاتب الماني وصف المناخ في البلدان الاسكندنافية بانه ذو فصلين وليس اربعة ( شتاء بارد جدا وصيف متقلب سئ ) ..ولذلك راح الشاعر عبد الستار يحلم في بلده الام ,, فقال لنا , ان الشمس تلازم الشرقي منذ الولادة و حتى حينما يهيلون عليه التراب وهو ذاهب الى القبر ... تلك الشمس التي جعلت مني ان اصدق قولا للطاغية الرئيس معمر القذافي وهذه اول مرة اصدق فيها القذافي كما يقول المثل الشائع ( فاتك من الكذاب , صدق كثير) , لقد قال القذافي كلاما يخص الاوربيين والغربيين وتنكيلا بهم( انهم يحسدوننا على شمسنا).. وهذا صحيح الى درجة كبيرة , ولذلك نرى الغربيين في سفرهم وسياحتهم يبحثون عن الشمس والانطراح تحت لهيبها , الشمس التي حازت على مثل دارج يتناوله العراقيين جميعا وخصوصا في الظهيرة ( الحمار فيها يبول دما) . الشمس ابدية قادمة من الازل وتبقى لاشعال القصيدة التي لاتموت , القصيدة الساطعة دائما هي الاخرى كالشمس . يحلم الشاعر عبد الستار بالشمس لانه اصبح يشكو الاغتراب وهذه المرة الاغتراب الشمسي , وكأن البدن هو الذي يتكلم ويعبر عن حاجته الى فيتامين الشمس الذي يتناوله الاوربيون كاقراص في علب زجاجية , اوعن طريق البيوت الشمسية , الشمس التي تجلب الكآبة نتيجة غيابها الطويل في اوربا , وبظهورها تجلب الانشراح واتساع الافق , الشمس التي تذكر الشاعر بوطنه وحفزت النوستالجيا لديه والتي بدأت تشتغل فعاليتها بتفريغ الشاعر لكافة الشحنات التي نقرأها هنا . . الاحلام هي استمرار الليل بالصهيل , مع الانتشاء النصفي المسكر والنوم على اكتاف الحرير.. والنصف الاخر ليكن ضجيجا وهلوساتا وذئابا تنهش فينا.

يوميات مدينة الجزء الثاني:
النص الاول...

*الجمعة 11 ديسمبر 2009
الساعة الثانية عشرة والنصف ظهراً

لا تفتحْ أوردةَ الكتبِ
فسماءٌ غائمةٌ
وشوارعُ معتمةٌ
تخلو من مارّهْ
لا تطلقْ أشرعةَ الأوراقْ
لا تفتحْ أبوابَ القلمِ
قد تسقطُ منْ أعلى السطرِ
فوق سِنانِ القلبِ
بينَ سنابكِ خيلِ الأحلامْ
قرأتَ صباحاً
أنَّ الظلمةَ رفيقُ الدربِ
في هذا الكونِ المعتمِ
وفتحتِ الشاشةَ:
أخبارٌ ... أخبارٌ
عنْ عالمكِ المرئيّ
واللامرئيُّ في روحِ الغيبْ
رأيتَ صباحاً جثثاً .. جثثاً
تتناثرُ فوق جدارِ العزلِ
عندَ الخضراءْ
أمٌّ تصرخُ نادبةً
تُحنّي خديها بالدمْ
تبحثُ عن أشلاءْ
انفجارات
انفجارات
انفجارات
انفجارات
باكستان
أفغانستان
عراقستان
صومالستان
لا تفتحْ أقنيةَ القصةِ
فمؤلفُها ينامُ
فوق رصاصِ النفط
لا تفتحْ فمكَ على الآخرِ
الخطرُ الآتي مرسومٌ
خلفكَ في الظلّ

وظيفة الشعر هو الملاذ من الموت , نكتب لكي لاينقضي النهار ولكي تستمر دورة الزمن , , فكيف اذا كان النهار في السويد واجواءه الباردة وفي الساعة الثانية عشرة والنصف نهارا ولايوجد اي من السابلة في الشارع كما جاء في نصوص الشاعر , , في هذه الاجواء الباردة والملل الرهيب والحياة الراكدة في السويد وعموم البلدان الاسكندافية , جاء هذان النصان الجميلان , فكم من الوقت بدا للشاعر واسعا فاتحا صدره لكي يستوعب هذه الكلمات الشفيفة مع البقاء وهو في كامل نشاطه والقه , لكي يقتل الوقت اللعين هنا , كما وان الشعر تحدي ورغبة في البقاء , فكم من الرغبات هنا بقيت لترسم هذه النصوص باشكالها الجميلة , لان الاشكال كما قلنا اعلاه هي من الميزات الاساسية للشعر , فجاءت النصوص وكانها تحمل شكلا هندسيا براقا في صوره , وانا أقرأ روعة النصين واوقاتهما في البرد الزمهرير , النص الاول في ديسمبر والثاني في جنوري وكلا الشهرين هما قارصان فكيف اذا كانا في السويد حيث يسكن الشاعر .. الا أنني وجدت نفسي في النص الاول وعيوني تقرأ حروفه شعرت بحرارة تدب في اوصالي لان اجواء النص قد حملتني الى هناك , الى اديرتنا العنيفة في حرارتها.. النص الاول ومافيه من انفجارات ودوي قنابل وقتل في الباكستان والعراق وكل ماينتهي بالسستان حسب ماجاء في النص. لقد استطاع الشاعر من خلال ذلك , وكانت لديه القابلية الفذة لكي ينقل القارئ وهو يقرأ جودة الكلمات الى ذلك العالم الملئ بالغضب والدمار الشامل ..انفجارات انفجارات انفجارات لقد كررها الشاعر اربع مرات , ولقد جاء التكرار موفقا جدا , لان مشاهد الدمار في هذه البلدان هي مشاهد لايخلو منها يوم واحد بل على مر الدقائق , فلابد من التاكيد هنا , لقد جاء النص هنا وكانني جالس بالقرب منه وانا اتفرج على الشاشة وارى مايراه هو بالظبط , لقد كان نصا بارعا في الصورة والنثر الشعري المذهل , الذي ينقل القارئ الى فضاءات حقيقية, يستطيع من خلالها ان يرى بام عينيه ماتحمله هذه الفضاءات... وانا انهي قراءة النص الاول اشعر وكانني مازلت التهب حرارة رغم انني مشدود الى نص دبسمبري لشاعر كبير اسمه عبد الستار, التهب حرارة من اجواء بلداننا المدمرة من الدوي والانفجار , اشعر بالحرارة والفوضى والعنفوان ..وكانني هناك وعن كثب احس وارى .... انه نص تعبيري دقيق في كل تفاصيله الصغيرة والكبيرة.

النص الثاني.....
*السبت 9 يناير 2010
الساعة الثالثة عشرة

ذاكَ عجوزٌ ينزلق
الدرجةُ عشرون تحت الصفرِ
ماذا يفعلُ شيخٌ يترنحُ
بين جليد شتاءِ الشارع
كلبٌ يتبولُ فوق الثلجِ
وأنا خلف زجاج النافذةِ أحدّقُ
في الشجرهْ
أغصانُ الشجرةِ تشتعلُ
شيباً
قدمايَ جامدتانِ
ويدايَ بلون جليد الأرض
والقلمُ الباردُ يحتضرُ
رغم الدفء الصادرِ من مدفئة الحائطِ
وموقدِ تلكَ الأيامْ
كلّمتُ النجفَ الأشرفَ أمس مساءاً
قال الصهرُ النجفيُّ التاجرُ
سنزورُ الحضرةَ بعد قليلٍ
أنتم في حاضنةِ القلبِ ومرآة العينِ
ولبِّ الأيامِ
إنّا ندعو عندَ أميرِ الحقِّ لكمْ
بالصحةِ والعافيةِ ودفءِ الحبِّ
وسلامةِ ذكرى الأيامْ
حتامَ تظلونَ
خلفَ حصارِ جدارِ جليدِ الأيامْ
وبرودةِ أعصابِ الحبّْ
قلتُ ودعائي موفور الأمنِ
ووقايةِ سيفِ الجلادِ
ودوامِ حرارةِ شمس الكونِ
في أرجلكمْ
الشارعُ خالٍ
ومحلاتُ الأزياءِ الغربيةِ خاويةٌ
بعد الأعيادْ
لكنَّ القهوةَ عامرةٌ بصداع البردْ
بين أثير جليد مدينتنا
لا تسمعُ غيرَ عواءِ الصمتِ
ودقاتِ القلبِ
وضبابِ العينينْ
صرخَ المتنبي يوماً
واحرَّ قلباهْ
وتقولُ جلودُ مدينتنا
وابرداهْ
هلْ منْ ناصرْ
ينصرُ أبناءَ جليدِ الكونْ
تلك الصوماليةُ بحجابٍ يزحفُ فوق الثلجِ
والموبايلُ فوق الأذنِ
والصوتُ الصارخُ كما طبلٍ
تسرعُ في مشيتها وكأنّ الأرضَ رمالٌ
منْ عمق الصحراء
تغيبُ خلفَ الساحةِ بين أنين الأشجارْ
جلدٌ يتضوّرُ برداً
جلدٌ يتضوّرُ حرّاً
جلدٌ يتضوّرُ
فراغاً
بينَ جلودِ الألوانِ المختلفةِ
تضيعُ جلودُ مدينتنا
للثلجِ الماضي طعمٌ خاصٌّ
للثلجِ الحاضرِ طعمٌ خاصٌّ
بين الطعمينِ
لا طعمَ على ألسنةِ مدينتنا
كانَ سراباً
حينَ حللْنا بين ربوع الحلمِ الماضي
كانَ سراباً
في أول أيام البردِ
رقصَ الأطفالُ على الثلجِ
في آخر ايامِ البردِ
رقصَ الشيخُ
منْ قسوةِ إيقاعِ البرد
لا تهتزَّ
فالهزاتُ علاماتُ الصدمةِ
شغِّلْ عقلكَ والقلبَ واهدأْ
حدِّقْ في رابيةِ الشمسِ هناكَ

اشعر وكانني فعلا في اجواء السويد والدنمارك القارصة ... بداية النص بعجوز ينزلق , هي هكذا جاءت البداية على سليقة الشاعر لكثرة مافي هذه البلدان من شيوخ وعجائز ولكثرة رؤيا الشاعر لهم , والذين بقوا في الذاكرة الانطباعية للشاعر , فهم اكثر من الشباب البالغين نراهم في الشارع , لتمريغ مفاصلهم , وقتل الزمن الكئيب لديهم من مرارة الوحدة مع كلابهم الوفية .. لقد اصابتني القشعريرة من البرد وانا اقرأ النص لما يحويه من واقعية مدهشة وثلج حقيقي لاثلج يصفه الشاعر .. ثلج كثير وكثير .... لدرجة انني انتقلت فجأة من اجواءنا الحارة في النص الاول الى هذه الاجواء الثلجية القارصة ... انه نص فعلا يدخل تحت الجلد ( جلد يتضور بردا) ولم اشعر اطلاقا بالثانية لاادري لماذا ( جلد يتضور حرا) ... فبقيت باردا مثلجا على طول قرائتي للنص ...والدرجة (عشرون تحت الصفر) فهي كفيلة ان تجعلني اموت بردا.. جاء النص هنا يحمل مرارة الشاعر من البرد الذي ليس له تاريخ ,, ولا الثلج له تاريخ .. فالايام اغلبها بردا وثلجا ...سوى حرارة بول الكلب فوق الثلج .. انه وصف دقيق ... الماء الحار حينما ينزل على الثلج يستطيع المرء ان يكتب به كتابة مقروءة .. او مثما ينزل الماء على الرمال ايظا لو استطاعت كلاب بلداننا ان تتبول على راحتها كما كلاب السويد .. ................

شغِّلْ عقلكَ والقلبَ واهدأْ

بالنسبة لي لاول مرة ارى شاعرا يستخدم هذه العبارة العامية ( شغل عقلك) وفي نفس الوقت هي فصيحة ولاجدال على ذلك والتي جاءت غاية في الجمال والروعة , وحينما حدقت في الشمس شعرت بالدفئ ينزل الى بدني فتخلصت من البرد الذي كاد ان يصيبني بالزكام او الانفلونزا لشدة مافي النص من ثلج ..انه الحزن الذي يبعثه الثلج كما المطر ربما كما يقول السياب ( اي حزن يبعث المطر) ...نص يشرح لنا رغم برودة الطقوس ... الا انها طقوس تحمل السلام والحرية , والحب, انها طقوس خالية من الانفجارات والقنابل والفوضى .. انها طقوس انسانية , طقوس باردة وحزينة , تبعث الملل , لكنها , في نفس الوقت تنام على اكف الراحة وهذا اهم ما في الوجود .....
نص حمل الدعاء وصراخ المتنبي ... ونداءات الموبايل .. رغم ان الشاعر وصف لنا الضجيج الناجم عن المكالمة التلفونيه من الصومالية , وهذا ايظا وصفه الشاعر بشكل حقيقي لالبس فيه , وهذا الضجيج اشار اليه الشاعر لان السويدين ينزعجون من هكذا ضجيج ناجم نتيجة مكالمة تلفونية , امر عجيل غريب امورنا الحياتية , التي لاتحمل الهدوء ولاتعرفه اطلاقا , حتى في مكالماتنا نحن في ضجيج وعنفوان , وعراك صاخب , وفي اغلب الاحيان المكالمة هي غير مهمة على الاطلاق , ولكن مثلما تقول الحكمة ( الضجيج يأتي دائما من العربات الفارغة ) .انه نص رسم لنا الجسر بين القديم والحديث .. بين الاتي من الازمنة السحيقة والاتي من الحاضر بكل ما توصل اليه العلم الحديث.. نص جعل منا ان ندوس ارض الصحراء بقدم ... وان ندوس بالاخرى , الثلج المتساقط حوالينا ....
تعليق اخيــر.......

عبد الستارنور علي شاعر يميل الى كتابة النص الواضح، ولانعني هنا بالوضوح البغيض , بل الذي يجعل من القارئ مستريحا لامتشنجا. رؤوس اصابعه تركض الى الهادف والنير، تركض الى الوقع المهضوم من قبل المتلقي، لكنه في نفس الوقت بعيداً عن الإسفاف والاستطراد المملّ. كما وأنّ الاشتغال بهكذا نصوص مباشرة هي أصعب بكثير من النصوص الغامضة، حسب اعتقادي؛ لأنني أشعر بمستطاعي كتابة الكثير من النصوص الغامضة في وقت قياسي معين، لكنني لا أستطيع كتابة نصّ واضح بنفس السرعة والروحية؛ لأنّ النصوص المباشرة، إذا ما زاغت قليلاً عن القالب الشعري أصبحت إنشاءً أو خواطر ركيكة، يكاد يسخر منها الشاعر نفسه. الكثير منا كان يحلم حينما نبتت له اول مواهب الشعر في انْ يكتب نصاً كما نصوص نزار القباني، أو باسلوب السهل الممتنع, وكنا نتصورها سهلة ولا تتطلب العناء اللغوي او الصوري والتركيب البنيوي ، لكننا وقتها لم نستطع أن ناتي ببيت واحد؛ لأنّ الغوص في هكذا نوع من الشعر يتطلب المهارة العالية. وإنّ الخطأ البسيط سيؤدي بالشاعر أنْ يكون مسفسطاً .. واذا ما راجع النص وجده كلاماً عادياً لا يصل الى مصاف الشعر الحقيقي. عبد الستار شاعر ولغوي بنفس الوقت بحكم مهنته , يستطيع الحفر بالكلمات , ليعطينا الحفرة التي تروي عطشنا ماءاً قراحاً, ونستطيع ان نرى وجوهنا في مائها وكأنه المرآة الصقيلة, , لا تلك الحفرة التي لانهاية لها ولابداية ، شاعراً يستطيع أنْ يطير بنا عبر الزمكان وعلى بساط الريح , منتشين , سابرين غور الرجع القديم، وكل فضاءات وساحات المدن الزاخرة بالحدائق والاسفلت والتحضر والتأثر بالحياة الجديدة، وباسلوبٍ محدثٍ وفنيٍّ مميز.
هــاتف بشبــوش/عــراق/ دنـمارك
http://www.alnoor.se/article.asp?id=115137#sthash.3tmKOt0D.dpuf

(النور 23/05/2011 )



قراءة جمالية وامضة للمعطيات الشعرية الثرّة للشاعر"عبدالستارنورعلي"!
عبدالجبارنوري

توطئة:
يعتبر الشعر من أرقى أشكال التعبير اللغوي وهو من أوائل الفنون المحلية والإقليمية والعالمية الجميلة والتي تستجيب لحاجات البشر وطموحاتهِ السوية ، وكذا النهج الثقافي الملتزم والمثقف الواعي الثوري، الذي يتحسس آلام وجروحات شعبه، فهو المطلوب في البناء المجتمعي لكونه واعياً ومدركاً، فهو الكود المُشفّر للتغيير، ووضع الجمهور على طريق الألف ميل في هذه المدونة الإنسانية الثورية أنْ نردّد خطاب ميرابو الثورة تشي جيفارا وهو يحدد سمات المثقف المطلوب للتغيير:
( المثقف الذي يلوذ بالصمت أكثر خراباً من النظم الدكتاتورية)، ونحن بحاجة لفسحة أمل وتأمل للوصول إلى اليوتوبيا (المدينة الفاضلة) المترعة بالأنسنة والحرية والفرد المصلح. إنّ ومضات الجمال تشرق منْ فضاءات قصائدك الجميلة، يا أباجوان، وقد قرأتُ لثيودور ديستوفيسكي في الأخوة كارمازوف: الجمال سوف ينقذ العالم ( نحنُ لا نفهم أنّ الحياة هي الجنة، وأنّ علينا أن نفهم ذلك سوف تتحقق في كل جمالها في الحال سنحتضن بعضنا البعض ونذرف الدموع ) .
النصّ:
عبدالستارنورعلي شاعرالمنفى والحرية عراقي مقيم في السويد، مواليد 1942"، فهو شاعر وكاتب ومترجم وناقد أدبي، لهُ من ثمرات مستلهماته الشعرية: قصيدة "أحبك يا آرنستو"، وبين الغربة والجراح ، والورد يسحر مثله الوردا، ولوركا إنهضْ ، وقصيدة "أغنيات تُبثّ على أثير الجليد"، وقصيدة "يا موقد النفس" التي كتبها 1985، بدأ بكتابة الشعر الكلاسيكي متنقلاً إلى الشعر الحر لشعورهِ أنّ القديم لا يحقق مساعيه لطموحاتهِ الذاتية. قصائد الشاعر عبدالستار نورعلي وجدانية تصدر من أحاسيس الشاعر وأبداعاتهِ الشخصية، وتجاربه الذاتية في إعلان الحرب على مستلبات الحياة: الفقر والمرض والجهل والحرمان والموت ، فهو شاعر الواقعية الملتزمة بمحور الأنسنة والحرية بأرقى صورها، تتماهى بكبرياء وتصطفّ مع شعراء كبار في الوطن والعالم العربي. الشاعرُ الأسطورة، لك كلّ المجد، لقد أجدت وأبدعت في الشكل والمضمون والتراتيبية المنهجية، وبتجلياتها المتنوعة، قصائد البيت والتفعيلة وقصائد النثر الأدبي، مجملها ترقى لبانوراما متكاملة فأنت الحب والجمال والموسيقى .
وسوف أستعرض خلال هذهِ القراءة الوامضة بالأنبعاثات الجميلة بفضاءاتها الشعرية والأدبية النقدية لبعض من نصوص الشاعر المرهف عبدالستارنورعلي :
التكامل الجمالي في قصيدتهِ " لوركا أنهض " لوحة جميلة بكل المقاييس تأسر القلب والذات وهو يقول :
لوركا أنهضْ
لا يزال العرسُ دامياً
لا يزالُ الناسُ همُ الناس
لايزال الفاشستُ يعتلونَ الكراسي
والناسُ سكارى
وما هم بسكارى
ولكنّ أكثرهم يعلمون
أندهشتُ لبراعة الشاعر في رسم صورها الحياتية الحيّة على لوحة البؤس اللاتيني أنسنةً وحرية وخبزاً ، محيطةً بهالة من التراجيديا المؤلمة والمتعايشة مع وهج الشعر ا لثوري التقدمي ، وبحبكتهِ السحرية الفذة وقدرتهِ الأسطورية في صنع سلالم الحروف والتسامي سامقاً ليعانق الثريا باذخاً حينها مسحة من التكامل الجمالي .
يبدو لي أنّ هناك غيمة ثرية تسير وتتسع بوحي الشاعر الكبير "عبدالستارنورعلي" لتنثر رذاذها زهرا وطيبا ومسكاً على بساتين وخمائل هذا الكوكب الجميل الذي أحتضن شاعرنا بتكحيل عينيه حباً وجمالاً ليخطّ يراعُه المتميّز قصيدته الشعرية الموسومة (أحبك يا أرنستو) فالقصيدة منجز أدبي ثقافي رائع، متكامل من بنية معمارية وبهندسة لغويةٍ ونصيّة شعرية مثيرة ومبهجة نُشرتَ عام 2005 ، وثمة إثارة وتأمل وإعجاب في سيمياء العنوان والذي يأسر المتلقي ويدخله صومعة قصائدهِ متوضئا ببعض أبيات القصيدة :
رجلٌ قد جاوز خطّ الستين
بخطين
يحلمُ بالثورة دائمةً
في كونِ ضاع
بين محطاتِ الظلمةِ
والقتلِ
وضبابِ الرؤية
ليس غريباً
أنْ يعشقَ لوحةَ آرنستو
تشي جيفارا

هوية الثائروالعاشق المتمرد " آرنستو جيفارا"
--------------------------------------------------
هو الطبيب والكاتب والزعيم العسكري وعازف الگيتار والمصوّر الفوتوغرافي ورئيس دولة الأسطورة " تشي غيفارا" 1928- 1967 ، بعد نجاح الثورة الكوبية صُنّف ثورياً بالرجل الثاني في القيادة للدولة الكوبية الفتية، فهو أرجنتيني المولد كوبي الإقامة، وهو نموذج ثوري وطني عالمي، وجدتهُ أنساناً جديداً تحركهُ دوافع أخلاقية، وليست رغبات مادية، ومن يقرأ سيرتهُ الذاتية يتألم ويحزن وثم يبكي ، فهو حقاً قامة وطنية تخزن جلَّ صفات القيادة من مطاولة وصمود وصبر وحنكة سياسية ، إضافة إلى أهتماماته الثقافية الأدبية والشعرية، حيث كان مولعاً بقراءة الماركسية، لكون آيديولوجيتهِ أممية، ومولع بقراءة أشعار بابلو نيرودا ولوركا ، وقراءة الصفحات السياسية الثورية لكارل ماركس، ووليم فوگنر، وأندري جيد، وجواهر لال نهرو، والبير كاموم، ومعلم البروليتاريا لينين وأنجلز، وجان بول سارتر. غامر بحياته لمرتين في دول لاتينية، وأعدم في دولة ثالثة، ولهذهِ الشخصية الكاريزمية مؤثرات ديناميكية على شاعرنا المتألق والكبير الأستاذ " عبدالستار نورعلي" في نسج قصيدته الرائعة ( أحبك يا آرنستو) :
والعشقُ ضياءٌ مرسومٌ في روح الأرض
حيّر أمراءَ الحرفِ
وصنّاعَ الكلمات
والثورات
يا أرنستو،
لوعادتْ خيلُ الوديان تقاوم عاصفة البحر الهائج
لو أنَّ سنابلَ ارضِ الفقراء
وبنادقَهم
أحلامَ الليلِ
وأنفاسَ الجدران الصدئة
تقفزُ منْ فوق الغابات
والأنهار
والصحراء
لاعتدْنا للكافرِ
بنصاعةِ عينيكَ حصيرا

يزهو بالتنوع:
أسلوب الشاعر"عبدالستار نورعلي" في نسج عناصر القصيدة وبنيتها التصويرية أتجه نحو (تنويع) ثيمات نصوص قصائدهِ الشعرية. ولأنهُ شاعر متمكن في توظيف جميع الأشكال التعبيرية في مضامين قصائدهِ الملحمية .
أتضح لي خلال الدراسة المستفيضة المتواضعة لمجمل نتاجاتهِ الشعرية أنّها تزهو ببوح شعري متنوع شكلاً في حيثيات سرديات قصائده بثيمات متنوعة؛ لكي يستلب المَلَل من المتلقي، ويرسم في بنية القصيدة تلك التناقضان النصية بين مضامين الحرب والسلام والخير والشر والحب واللاحب.
الشاعر أبو جوان غيمة مطر، رذاذها تحطّ حيث الإبداع والتألق، وقصيدتهُ "أحبك يا آرنستو" ذات طابع " درامي تراجيدي" في بناء رصين تبرز فيه مركزية الإنسان والصراع الطبقي وتناقضاتهِ في زمن التوحش والإذلال، والتجويع وأستلابات الروح. وأنت أيها الشاعر الكبير "عبدالستارنورعلي" تستحق الاصطفاف مع عظماء الكلمة الحرة ، وبأبطال مناضلين خُلّدتْ أفكارهم كتراث حضاري، وخُلّدتْ بصماتهم في أرشيف السِفر البشري، كالحسين أبن علي، وأبو ذرالغفاري، والحلاج، ومحمود محمد طه، وسلام عادل، وجيفارا. وهذا مقطع من القصيدة يستحضرها في :
كمْ مِنْ معشوقٍ قتلَ العاشقَ في اللعبة
كم من قلبٍ ذابَ على وجع القلب
كمْ مِنْ فقراء
هاموا في رائحة الخبز
فأحترقوا
في تيزاب أولي الأمر
وثمة رغبة متطلعة في البحث عن المزيد من آهاتهِ الشعرية في "الدراما التراجيدية المأساوية " وجدتُ لهُ قصيدة " يا موقد النفس " التي كتبها في العام الدموي للنظام السابق 1985 فيها يقول :
يا موقدَ النفسِ إكسيراً لراحلةٍ
كأسُ المنايا يدورُ اليومَ ساقيها
وتمطرُ العاصفَ الموبوءَ نازلُهُ
بالمُهلكاتِ أبابيلاً تساقيها

- الميل نحو الحداثة والتجريب بلغة جميلة مهذبة وهو يقول :
لِمَ كلُّ جراحاتِ التوق
مَنْ ذا يحظى برنينِ القلب
ووخزِ الشوق
مَنْ هذا الحائزُ جائزةَ الطوق
مَنْ أجدى غيرُك !؟
آرنستو

- الأسطورة والرمزية التصويرية وقصيدة "لوركا إنهضْ" التي كتبها في 27آذار2006:
لوركا إنهضْ
فرانكو يرتدي بدلةً مكوية
وربطةَ عنق
مِنْ معاملِ تجهيز الرقاب
على مقياس رختر
والأدمغة على مقياس حالةِ الطقس
هذا اليوم

- الديستوبيا :
تعني التراكم الكمي والنوعي للمخرجات السلبية للحكم الشمولي الدكتاتوري وأنهيار القيم الحضارية بسبب القبح التكويني للثقافة الرأسمالية المتوحشة. ولأنّ شاعرَ القصيدة متمكنٌ وبحبكة فنية وهواهُ اليساري التقدمي ألقى الضوء على مساحة واسعة من المخرجات السيئة للحكم الشمولي للمدينة الفاسدة البغيضة التي تُحصي الأنفاس بهدف ترويج ثقافة الخوف، وتكاد تكون ثيمة الدستوبيا النهج البارز للقصيدة، في هذه الأبيات الشعرية:
يا آرنستو
تلك القممُ الشاهقة
بين سماواتِ جبال الأنديز
تعشق فيك سيجارةَ هافانا
ولباسَ الجوريلا
والأقسا م
يا ذا الأيامِ نداولها
بين بيوتِ القصبِ
والغاباتِ المكتضّةِ في أحضان الأمزون
هذهِ أزقةُ سانتياغو الحافية
لازالتْ تعشقُ مملكةَ الحبّ
السحرية
في أشعار بابلو نيرودا

تبرز ثيمة الفنتازيا واضحة في تكحيل القصيدة ، فالحكايات الأسطورية الافتراضية سمة تلازم الشعراء الكبار قديماً وحديثاً، عالميا أعتبرت من أهم الذخائر الثرّة والثرية في خزانة الفكر الأنساني، وقصد شاعرنا الوصول إلى (اليوتوبيا ) المدينة الفاضلة. وقال في قصيدة أحبك يا آرنستو:
ليس بيدي
يا آرنستو
أو بيدِ الزمن الغافي
في تعليلاتِ الحرسِ الأقدم والأجدد
والقادمِ فوق حصانٍ من خشبٍ
أو تحليلاتٍ من خبراء الزمنِ الخائب
أنْ أحصر وجهكَ في شقّ الذاكرة
في أسوار الكتب
ثيمة الغربة في حياة الشاعر رذاذ مؤذي ومستلب على بستان الشاعر الجميل نورعلي. إنّ الغربة جرح تسع جغرافية الوطن، إنها الموت اليومي. قيل لأحد الأعراب: ما الغبطة؟ قال الكفاية مع لزوم الأوطان والجلوس مع الإخوان! وقيل لهُ: وما الذلة؟ قال التنقل بين البلدان والتنحّي عن الأوطان. وبالتأكيد شرب الشاعر عبدالستار من كأس الغربة حدّ الثمالة في البعد القسري أكثر من نصف قرن، ولم يتمكن من إخفاء عشقهِ الصوفي لوطنه الأم ، لذا أعلن آلامها في مجموعته الشعرية (على أثير الجليد) بأوضح صورها الشعرية وهو يقول :
دقَّ طفلٌ مشرقيٌّ بابَ الفرح
لم يجبهُ أحد
تزّاحمُ الخيول
تنتظر السباقَ نحو ساحة الفرح
فأنطلقتْ صفارة الإنذار
قد كُسرت سارية الفرح !؟
فمالت الزهرةُ فوق راحة العشب
تشربُ من برودة الندى
كاتب وباحث عراقي مقيم في السويد
تشرين ثاني 2023
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=808954
(الحوار المتمدن العدد 7773 23/10/2023 )


سردنة الشّعر ورموز الإحالة في خلق مجاوزة النّصّ
(نص خارج النصوص) للشاعر عبد الستار نور علي أنموذجاً

د. وليد العرفي

لسْتُ صاحبَ حانةٍ،
لأبيعَ خمرةً مغشوشةً..
يطرح الشاعر: عبد الستار نور علي منذ العتبة النصية في العنوان إشكالية النص في علاقته مع الموروث من جهة، والمتلقي من جهة أخرى، وهي حالة مواجهة قائمة على تعدّد التأويل المُغاير للسائد، إذ يبدو العنوان لعبة فنية إشارية تفيد بالاختلاف، وكلمة خارج إحالة مكانية وحالة تعبيرية؛ فكل خروج على النمط يُعدُّ تمرّداً , هو ما يعنيه الشاعر بالتأكيد من خلال رغبته في إحداث فعل انعتاق من كل مُحدّدات النص المُسبقة، وتجاوز جغرافية الشعر، وتاريخ اللغة معه، ولعلّ هذا الاختلاف في طريقة التناول والتعبير تبدت بظهوراتها اللغوية باستخدام الشاعر أسلوب النفي (لست) ما يفيد بإمعان تلك الحالة التي يسعى الشاعر إلى تأكيد وجودها وتأصيلها في أسلوبه الشعري، ووفق هذه الرؤيا يُشير إلى أنه ليس صاحب خمارة، والحانة هنا ترميز للثقافة السائدة بوصفها فعل تخدير للوعي في فعلها تماماً كما هي نتائج الخمرة في إذهاب الوعي وامحاء فاعلية التفكير، وجاءت الكلمة الواصفة (مغشوشة) إشارة لافتة إلى تزييف الحقيقة، إذْ يرى الشاعر أنَّ من مهام النص أن يكشف ويعري لا أن يُدلّس ويُموّه الحقائق، وهذه المكاشفة تقتضي وجود طرف مُتلقٍ يعي ما يُقال، ويدرك أهمية تلك المكاشفة التي تُمكّن من إحداث تغيير في التفكير الذي يقود بالضرورة إلى تغيير في السلوك الفردي والمجتمعي على حدٍّ سواء، وهو ما عبّر عنه شاعرنا بالقول:
لسكارى..
لا يعرفون الكلامَ المختلف،
ويتقنون فنَّ الرَغْي..
منْ غير ألسنةٍ،
ولا عيونٍ،
ولا آذانٍ،
ولا أطرافْ.
ويبدو الزمن نقطة تحوّل فاصلة ومُفارقة لفيزيائية الوقت؛ فالساعة الخامسة والعشرون ساعة افتراضية مُضافة من مخيلة الشاعر إلى الزمن، وهو ما يعني إرادة الشاعر في زمن آخر يُمكنه من فعل ما؛ لأنه يُدرك أنَّ الزمنَ الحاليَ أضيقُ من أن يُحقّق فيه ما يأمل بإنجازه، ولذلك فالساعة هنا ملمح من ملامح المجاوزة التي بدأها الشاعر في إعلان عنونته
توقّفْتُ..
على قارعةِ "الساعة الخامسة والعشرين"؛
فقد تجاوزَني قطارُ الشرقِ..
السريعُ..
الذي انطلقَ..
في الساعةِ الرابعةِ والعشرينَ..
متوجّهاً....
الى بلدةِ "كوستانتين جيورجيو"،
عند أقاصى الذبح.
يُعيد الشاعر في لحظة التوقّف هذه الأمور إلى مساقاتها الطبيعية من حيث الزمان والمكان؛ فقطار الشرق السريع يتجاوز الشاعر، وهو تجاوز يجعل من الشاعر حالة مُتجدّدة في سعيه إلى فعل تجاوزي أكثر مساحة من جغرافية المنطقة المُحدّدة بالشرق، وهي غير خافية بدلالاتها على كل ما هو عالق في ذاكرة الشاعر من موروث ثقافي، ونمط تفكير عقائدي، وعلى هذا المنحى تبدو رمزية "كوستانتين جيورجيو" ذات مغزى اجتماعي، وبُعد فلسفي ينهض بالأسئلة التي ستبدأ من خلال حوار بين الشاعر والآخر:
سألني الواقفُ..
في المحطَّةِ الأخيرةِ مثلي:
ألستَ المُسمّى بـ(عبد الستار) ؟
قلْتُ:
(بلى)، وربِّ الكعبةِ!
قال:
لا تقلْ "بلى"!
وقلْ (نعم)..
مُخالفاً القاعدةَ
ـ سينهض المرحوم مصطفى جواد..
الجواد
محتجّاً ـ
قلْ (نعم)،
فتنالَ وسامَ التقديرِ والتصفيق..
لأنكَ خالفْتَ..
ولم (تختلفْ).
ألستَ ابنَ (الملا نور علي)..
المواظبِ..
على القياسِ،
ولم يختلفْ،
فواظبْتَ..
ولم تختلفْ؟!
قلْتُ: نعم.
فصفّقَ طويلاً..
وغابَ..
في لجّةِ الساعةِ الرابعة والعشرين..
ولم يختلفْ!
يبدو فعل القص القائم على تقنية الحوار بتناوب الفعل: قال و قلت نمطاً يُحاول الشاعر من خلاله أن يُحقّق للشعر عنصراً مهماً من عناصر التقنيات السردية، إذ الحوار من أركان البناء القصصي، ووفق هذا التصور الذي طرحه الشاعر في الاستهلال أراد الشاعر أن يقوم بفعل سردنة الشعر، أو تسريد الشعر وفق ما يجد فيه مقدرة على إيصال الفكرة وطاقة إضافية؛ لتحقيق غايته في عبوره إلى ضفاف مختلفة غير مسبوقة، وبهذا التوق وتلك الرغبة تتكشف لنا أبعاد الحوار بين الشاعر والآخر الذي يبدو عارفاً به؛ فهو لا يسأل بمقدار ما يُفسّر ويكشف وعلى هذا؛ فالسؤال ليس للإجابة، وإنما هو حوار تساؤل كاشف عارف، تلك المكاشفة التي أراد الشاعر فيها إثبات اختلافه مع المعهود والقار في الذهنية الشرقية سواء ما كان على المستوى اللغوي التي دلَّل عليها برمزية اللغوي:مصطفى جواد أم على مستوى آلية التفكير التي لم تغيّر من طبيعتها المتمثلة في والد الشاعر، وطريقته القائمة على القياس بالتزام صارم .
ولا بدَّ من التعريج على الرموز التي اتَّكأ عليها الشاعر في نصّه، إذ الرمز في النص الشعري ليس مجرّد علامة تزينية، وإحالة مرجعية وحسب، بل إنَّه عنصر داعم للفكرة، وركن من أركان التأسيس النصي في اشتغالاته البانية لثقافة ترتكز عليها القصيدة في أبعادها المتشعبة، ومن هذا المنطلق تتبدّى رموز النص وفق أبعادها الثقافية أو النفسية
الرمز الثقافي: وهو ما يكشف عنه رمزية (قطار الشرق السريع) في إحالة على إحدى روايات الإنكليزية آجاتا كريستي التي تحمل عنوان: (جريمة في قطار الشرق)، وما يؤكّد لنا أنَّ الشاعر يقوم بفعل الاستدعاء عن مقصدية هو مآل السياق في النّص الشعري (الذبح) الذي يتّفق مع عنوان الرواية الذي يبدأ بلفظ: جريمة
ويندرج في السياق ذاته التحديد الزمني: (الساعة الخامسة والعشرون) لمؤلفها الراهب الروماني جيورجيو فرجيل قسطنطين، وهي رواية تستند إلى أسئلة وجودية كبرى تتحدّث عن مصير الإنسان في واقع يمثّل متاهة لا يجد فيها الإنسان نافذة أمل للنجاة منها.
رمزية الشخوص التي اعتمد فيها على رمز لغوي باستدعائه مصطفى جواد
اللغوي المعروف في إشارة إلى عصر كانت فيه اللغة العربيّة في أوج قوَّتها وازدهارها، إذْ تجد من يدافع عنها، ويصون تراثها نحواً وصرفاً وبلاغة
الرمز النفسي الذي يمثّله استدعاء شخصيّة الأب: (الملا نور علي) وفي هذا الاستدعاء تجلّت رمزية المستدعى من ناحيتين: الأولى سيكولوجية لما تعنيه الشخصية المستدعاة للشاعر بحكم رابطة العلاقة الجامعة بينهما على مستوى العلاقة الأبوّية من جهة، وعلى صعيد المرجعيّة الثقافية بما كانت تُجسّده تلك الشخصيّة من علم ومعرفة .
تبدو قصيدة الشاعر عبد الستار نور علي قصيدة خارقة لحدود الأنماط، وهي بهذا تتشكّل في خصوصيّة غير مسبوقة، وتظل مفتوحة على أسئلة في تأكيد أن النص الشعري يظلُّ مُرتهنا بالإبداع ؛لأنَّ ديدن الإبداع الحركة،لا الثبات،والتغيير لا التأطير، وهو ما أبرزه الشاعر في جوابه الأخير بــــ حرف الجواب: (نعم) بدلاً من (بلى) في تأكيد فعل تخلّق حالته الشعرية المتجاوزة .

(صحيفة المثقف: العدد: 5086 المصادف 2020-08-08)
http://www.almothaqaf.com/b/readings-5/948785





عبد الستار نورعلي: الشاعر الذي يبكي ضاحكاً
كتابة: جودي الكناني

شاعر ابهى من فلوات ، واكبر من حزن بلاد. يعشقه القاصي شعراً ، والداني روحاً. يحلم بالدفء منذ الطوفان ، ويشعل كل مصابيح الروح للغيمة الآتية من خلف الأفق يستجلي منها أخبار بلاد كانت يوماً وطناً للشعراء وداراً للغرباء. يسألها هل نسيته الأنهار؟ وماذا عن تلك الأحجار فوق القمة المغروسة في أعمق أعماق الروح. يسألها هل من شاهد على ضياع العمر الجميل؟

إن دراسة دقيقة لنتاج الشاعر العراقي عبد الستار نورعلي يجعل من الصعب وضع خريطة لشعره. فهو شاعر متنوع للايقاع ذو امتدادات واسعة في المساحات ، وخاصة مساحته الذهنية التي تستند على خزين ثقافي كبير. إن نظرة متأنية لشعراء الخمسينات والستينات العراقيين وحتى السبعينات تبين بوضوح أن أكثرهم خرجوا من تحت رداء شاعرين أو ثلاثة. فمعظم الشعراء تجد في شعرهم آثاراً واضحة للبياتي وبعده سعدي يوسف وقبلهم السياب. وأحسب أن الشاعر عبد الستار نورعلي من الجيل الذي يفترض أن يحسب على جيل ما بعد أولئك الرواد ، لكن من الصعب أن تجد أثراً لشاعر آخر في شعره ، فهو يختلف عن الآخرين.

إنه لم يتفيأ تحت ظلال شاعر آخر وذلك يعود لأسباب عديدة منها: أن بدايته القوية كشاعر كانت مع الشعر العمودي، وهذه المرحلة أخذت مساحة زمنية ليست بالقصيرة ، حيث كان في منأى عن المشاركة في عملية التحويل الى الشعر الحديث ، ولم يكن طرفاً في اللغط الدائر حول موضوعة الحداثة. ولكن كان له رأي بما يجري.

وثانياً لم تسكنه الجغرافيا فتترك آثارها فيه. فكما هو معلوم أن المكان يلعب دوراً كبيراً في صياغة وعي وسيكولوجيا الشاعر. فخصائص المكان تتجلى في نتاج الكثير من الشعراء. أما نورعلي فقد سكن كمبدع في جغرافية روحه القلقة المضطربة. هذا القلق انجز أهم قصائده. فهو ابن بغداد التي ولد فيها ، وطاف في أزقتها ، وعانقها حد العشق المتوحد في الذات، وهو المسكون بالهوى العراقي، وفي ذات الوقت يضمد جراح الجبل الذي يعانق الغيمة، والذي يتحدث عن حق مغدور لأمة ينتمي اليها الشاعر، وانتماؤه الكردي هذا ليس عرقياً بل انتماءاً للقصيدة وانتماءاً للحق الانساني في الوجود الكريم:

أيا مطرَ الربيعْ
اغسلْ وجهَ العراقْ
ونقِّرْ على جبهتي قطرةً بعد قطرهْ
تباركَ اسمُ العراقْ
تباركَ مَنْ سالَ دمُهُ
على جذع نخلةٍ في الفراتْ
تباركَ مَن طارَ جذعُهُ
شظايا
على قمةٍ في الجبالْ
تبارك كلُّ مَنْ صاحَ
ياعراقْ ...!

إن تفحصاً دقيقاً لنتاج الشاعر نورعلي يجعلنا نطوف في عوالم مختلفة ونقف أمام مفردات لها انتماءات خاصة. فالقصيدة بالنسبة له ليست مشروعاً هندسياً تهيأ له المستلزمات بل هي لحظة من الطوفان ثم تسكن. يقول عن ولادة القصيدة عنده :
ــ في لحظة الابداع والكتابة لا تحضرني سوى اللحظة التي احياها بكياني وجوارحي ، فالمبدع يغرق فلا يحس الا وهو بين الموج فيعوم ويحاول اصطياد ما يضطرب في قاعه ويتفاعل دون احساس منه.

لذا تراه يحاول جاهداً الحفاظ على تلقائيته كشاعر. فهو يسلم قياده للحظة المخاض الشعري وما تأتي به، فيضع جانباً كل ما يقوله الآخر وما ينظر اليه. المهم أن لانترك العقل يتدخل بحدة خوفاً من أن ينقطع الخيط بين المبدع والنص. إن عبد الستار نورعلي يخشى كثيراً من أن يسقط الابداع اسير الاصطناع خوفاً من (شرخ العفوية والانسياب والتدفق التلقائي للتجربة المخزونة الضاغطة).

في قصيدة (المسلة العارية) يستخدم الشاعر مفردات شائعة في النص الديني، لكنه يخضعها لفلسفته الخاصة ، ويجعل منها أقرب الى بناء صوفي. ففي هذه القصيدة التي أسميها (تراجيديا الحيرة) يفلسف الشاعر غربته ويبدأها بحلم :

يستبطنُ الليلَ فيُلقي على
ظلالهِ آثارَ ريح المكانْ
فيحتويهِ الرهانْ
ينقله من مسرح الرؤيةِ في حوزةٍ
مليئةٍ بالصبواتِ الحسانْ
ينامُ في الظلِّ وفي لهفةٍ
يبحثُ عن شمسٍ وعنْ أرجوانْ
الشمسُ تغفو خلف حدِّ المدى
غارقةً في لجِّ هذا الزمانْ

إن هذه البداية تتجلى فيها تأثيرات شعره العمودي. لكنه يتدارك ذلك في المقطع الذي يليه والذي يتناول فيه مشكلة اليومي ، منفاه الروحي ، وعدم تجانسه مع السائد الذي يحيط به ، فتراه محاولاً أن يرتب قلقه :

يستبطنُ الليلَ، أيا نجمةً
سائرةً
دون نجوم السماءْ
حائرةً
ترحلُ بينَ الفضاءْ
...............
رُدِّي ففي بعض الصدى نسمةٌ
تعانقُ المشهدَ والليلَ
وفصلَ الرداءْ


إن هذه النجمة التي تسكن في الترحال والحائرة هي الشاعر نفسه. أما نهاية القصيدة فهي تلخيص للخاتمة غير المنتظرة لما آلت اليه الأشياء والأشلاء. لقد صاغها ببناء فيه الكثير من الشفافية وبظلال وارفة من الحزن الشفيف :

ياصورةً تنهضُ مِنْ وجههِ
تسيل في الحبِّ صدى العنفوانْ
فيكِ مسراتٌ هوتْ
وانزوتْ
بينَ مصاريعِ كتابِ الأمانْ
في ليلةٍ دارتْ على فُلكها
وطاردتْ نوازعَ الالتقاءْ
يستبطنُ الليلَ وفي ليلةٍ
بيضاءَ فيها الأرضُ لونُ الضياءْ
والشجرُ الوارفُ في صمتهِ
مسلةٌ عاريةٌ عن رداءْ

أما في صرخته التي اسماها (الفيليون) فتختلف فيها المفردة اللغوية اختلافاً كبيراً عما في باقي قصائده ، فنحن هنا أمام نسيج شعري ذي صورة تراجيدية حادة ومفردة قاسية وجرس شعري يدخلك في عالم من الحماسة لتتبع الفصل الدامي في تاريخ الأكراد الفيليين. هنا يحول الشاعر قصيدته الى ملحمة يرزم فيها تاريخ شعب لا تنتهي هجرته :

فتتابعت فيكم رياحُ الهجرِ
مثلَ تتابعِ المطر الغزيرِ
...........................
في كلِّ فصلٍ هجرةٌ محسوبةٌ
بكتاب سفيانٍ صغيرِ
لا يرتوي من صاعقاتِ النار
أو من ذبح معشوقٍ وليدِ

أما بداية القصيدة فأشبه بالطوفان :

الأرضُ تلفظ كلَّ يوم جثةً
وتعيد مهزلةَ الجريمهْ
الأرضُ كلُ الأرض مِرجلةٌ أليمهْ

إنها القيامة التي يراها عبد الستارنورعلي ونراها من خلاله. يعود ليخاطب أبناء قومه :

ياأيها القومُ الموزعُ نسلُكم
ما كنتمُ ضمنَ الخطوطِ الخضرِ
في الأمم الكبيرهْ
فتناوبتْ فيكم سيوفُ الناسِ
كلٌّ يعتلي سقفَ الجريمهْ
ليفاخرَ الدنيا بمعزولٍ عن الأحلافِ والدياتِ
لا يقوى على صدِّ القبيلهْ

إن ما يميز نتاج هذا الشاعر المبدع هو أنّ القصيدة عنده تمتاز بالجزالة ، وهذا يعود الى تمكنه من البناء الكلاسيكي للقصيدة ومعرفته الدقيقة بقاموسيتها اللغوية. كما تمتاز القصيدة عنده بأفعالها الدرامية المؤثرة وبنائها البصري ذي الجمالية العالية. فالقصيدة عنده أقرب الى الملحمة. انها تحكي حدثاً مصاغاً عبر بناء بصري ، ثم يوصل كل ذلك عن طريق اللغة ذات الشفافية العالية. اللغة عند شاعرنا وسيط يوصل الحالة المعبر عنها بالصورة الشعرية وليست الاساس في القصيدة. فهو لا يعتبر اللغة هدفاً ، وهذا ما يجعله مختلفاً عن الكثير من الشعراء المعاصرين الذين يعتبرون الشعر لغة أولاً. ولذا عند متابعة نتاج الشعراء الجدد – وما أكثرهم – ترانا في لجٍّ من المتلاعبين بالمفردة وكأن تزويق الكلمات والحذلقة هي صنعة الشعر الآن. وعليه فأنت تراهم يشبهون بعضهم البعض كثيراً.

أما الميزة الأخرى في نتاج الشاعر عبد الستار نورعلي فتتعلق بشكل القصيدة، فإنه كما اسلفنا لا ينظر للقصيدة مشروعاً على الورق. لأن التنظير ليس مهمة الشاعر. فالنص الشعري عنده يأتي كنتاج لحالة تأزم خاصة لا يصطنعها بل يعيشها، وربما هذه الحالة لا تأتي باستمرار، فشكل القصيدة ومحتواها انعكاس الحالة وحجم تأزمه فيها. إنه من غير المستطاع تبويبه ، فهو لا ينظر للقصيدة لكنه يدرس تجربته دائماً. حيث ان الشاعر الحقيقي لا يكون انعكاساً للآخرين ولا يشبه نفسه، أي لا يكررها.

إن تنوع اشكال القصيدة عند نورعلي يعود الى التراكم الكبير في تجربته الثقافية كقارئ وكشاعر متتبع لنتاج الآخرين ومعاصر لإشكالات عصره وخاصة ما يتعلق منها بالشعر. أما العمق الذي نحسه ونلمسه في معظم قصائده فيعود الى الخزين المتراكم لتجربته الخاصة الذاتية. فالاحداث التي عاصرها وعايشها تركت في شعره آثاراً واضحة. فهو لم يقفز فوق الأحداث بل الاحداث لها حيز كبير في شعره. ان مجتمعنا العراقي وعلى مر التاريخ اشبه بمرجل نار لم يهدأ أبداً. من يطفئ هذا المرجل؟ إن من يحاول سيسكنه المنفى ثم يعود ليتخذ المنفى وطناً. ثم يضيق هذا الوطن ليصبح بحجم غرفة صغيرة. ولا يجد الشاعر وسيلة للبقاء الا الاحتماء بالثوابت.

هناك ثمة قيم ينبغي الحفاظ عليها حتى تكون الحياة قابلة للعيش. وعبد الستار نورعلي ذو ثوابت انسانية عالية ، فهو يمجد مثلاً (أحلام) المرأة الآتية من بين قصب الأهوار في جنوب العراق لتستشهد في ذرى جبال العراق دفاعاً عن الحق بنفس الحماسة التي يمجد فيها كردياً يحترق خلف صخرة ويترك كيس التبغ تعبث به الريح .... ففي الأرض متسع للجميع ، والبطولة لا تحدد بمكان :

امرأة من قصب الأهوار
تفترش الرمل الأحمر في فوهة الكهف
بين حنايا كردستان
بين الثلج وبين النار
تلتقط
حبة رمل فتقبلها
تحرس قبلتها
تنحت صورتها
في القلب الرابض بين الجبل
وبين نخيل الأهوار

أما الجانب الآخر في نتاج عبد الستار نورعلي ، وهو الشعر العمودي ، فهو يحتاج حقاً الى دراسة مستفيضة. فالقصيدة العمودية عنده تمتاز بالبناء المتراص والجزالة العالية. هذه الجزالة لا تعود الى استخدامه المفردة الكلاسيكية مع أنه متمكن منها، لكن الجزالة تعود الى اختياره الدقيق للمفردة المعبرة بكثافة الحالة الحدثية التي يسردها بتتابع صوري يجعلك أشبه بمتابع لأحداث فيلم لا يمكنك التوقف عن متابعتها. ففي القريض من شعره نرى حالة من السمو تجعله في مصاف الكلاسيكيين :

لا يُصلحُ الوجهَ القناعُ فمرتديهِ مقيتُ
صبّوا الكؤوسَ فإنني في الشاربينَ لَحوتُ
مَنْ يملأ القدحَ الشرابَ وعاقروهُ سكوتُ؟
فأنا البحارُ أنا السفائنُ في الخضمِّ أفوتُ
لم أخشَ من لبسَ الوقارَ رداؤهُ الكهنوتُ
لا فرقَ بينَ العرشِ او مَنْ في الكفافِ يموتُ

وكذا في قصيدته التي يعارض فيها الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري :

أأبا فراتٍ ، والجراحُ فمُ
وعلى السيوفِ من الجراح دمُ

إنَّـا على حالين تجمعنا
لغةٌ تحلِّقُ ثم تضطرمُ

إنّا على حالينِ يُثقلُنـا
همٌّ يصولُ وليس ينصرمُ

همٌّ تكابدُهُ على سَفَرٍ
بينَ القوافي نارُهُ ضرَمُ

وأنا هنا حالانِ ما افترقا
نفسٌ تذوبُ ورؤيةٌ سَأمُ

(انتهى)


الفهرست

قراءة في نص "الحارس" للشاعر عبد الستار نور علي: حميد الحريزي
قراءة نقديّة في مجموعة "على أثير الجليد" : د. سعد ياسين يوسف
قصيدة "الرواية الأولى" للشاعر عبد الستار نورعلي: د. بشرى البستاني
الأنا بوصفها روحا مطلقة، قراءة في نص الشاعر الاستاذ عبد الستار نورعلي (الحارس): سلام كاظم فرج
عبد الستار نورعلي وقصيدة (الرواية الأولى): جمعة عبد الله
عبد الستار نورعلي يدافع عن الشعب والوطن : أحمد رجب
الشاعر عبد الستار نور علي والتجريب بأعلى سقوفه: سلام كاظم فرج
مدونات عبد الستار نورعلي: هاتف بشبوش
قراءة جمالية وامضة للمعطيات الشعرية الثرّة للشاعر عبد الستار نورعلي : عبد الجبار نوري
سردنة الشّعر ورموز الإحالة في خلق مجاوزة النّصّ: د. وليد العرفي
عبد الستار نورعلي الشاعر الذي يبكي ضاحكاً: جودي الكناني



#عبد_الستار_نورعلي (هاشتاغ)       Abdulsattar_Noorali#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- التناص ووظائف العنوان في قصائد عبد الستار نورعلي (كتاب)
- صمت للشاعر السويدي توماس ترانسترومر
- حرب المسافات
- عندما يُحبُّ الشاعرُ...
- الشاعر المستهام
- ماذا فعلتِ بشاعرٍ يهواكِ؟
- مسرحية (جلجامش) للشاعر السويدي أبه لينده
- شعراء سويديون - دراسات ونصوص
- ديوان ثلاث روايات
- سعدي عبد الكريم و-الملائكة تهبط في بغداد-
- لا أنام...
- الخارطة...
- خَبوْنا، أيُّها النائي...
- ديوان (ثلاث روايات)
- ديوان (مزامير آل الملا نزار)
- (موتُ رفيقةٍ) للشاعر السويدي أبَهْ ليندَهْ
- الشاعر أ. د. عادل الحنظل بين الغربة والجراح
- شذرات من الأرشيف 1
- قلْ لِمَنْ يبكي...
- السيفُ أصدقُ أنباءً


المزيد.....




- حرمان مغني الراب الإيراني المحكوم عليه بالإعدام من الهاتف
- فيلم -العار- يفوز بالجائزة الكبرى في مهرجان موسكو السينمائي ...
- محكمة استئناف تؤيد أمرا للكشف عن نفقات مشاهدة الأفلام وتناول ...
- مصر.. الفنانة دينا الشربيني تحسم الجدل حول ارتباطها بالإعلام ...
- -مرّوكِية حارة-لهشام العسري في القاعات السينمائية المغربية ب ...
- أحزان أكبر مدينة عربية.. سردية تحولات -القاهرة المتنازع عليه ...
- سلطنة عمان تستضيف الدورة الـ15 لمهرجان المسرح العربي
- “لولو بتعيط الحرامي سرقها” .. تردد قناة وناسة الجديد لمشاهدة ...
- معرض -بث حي-.. لوحات فنية تجسد -كل أنواع الموت- في حرب إسرائ ...
- فرقة بريطانية تجعل المسرح منبرا للاجئين يتيح لهم التعبير عن ...


المزيد.....

- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الستار نورعلي - قراءات نقدية في شعر عبد الستار نورعلي (كتاب)