أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الستار نورعلي - شعراء سويديون - دراسات ونصوص















المزيد.....



شعراء سويديون - دراسات ونصوص


عبد الستار نورعلي
شاعر وكاتب وناقد ومترجم

(Abdulsattar Noorali)


الحوار المتمدن-العدد: 7664 - 2023 / 7 / 6 - 01:20
المحور: الادب والفن
    


شعراء سويديون

دراسات ونصوص


عبد الستار نورعلي





السويد




حقوق الطبع محفوظة
الطبعة الأولى
2004

اسم الكتاب: شعراء سويديون
المؤلف: عبد الستار نورعلي
طبع بمساعدة:
DATORTEKETAKTIVITETSCENTER
Eskilstuna-Sweden

ISBN: 91-974364-9-6






بير لاغركفيست
1974-1891

كان بير لاغركفيست Pär Lagerqvist شاعراً وروائياً وكاتباً مسرحياً ، تميز بلونه وسماته الذاتية الخاصة التي أهلته ليكون أحد الشعراء والروائيين الكبار والمهمين الذين نحتوا بصماتهم على الأدب السويدي في القرن العشرين ، خاصة في روايته العالمية الشهيرة (باراباس) التي صدرت عام 1950 والتي كانت وراء منحه جائزة نوبل في الآداب 1951 . أصبح لاغركفيست عضواً في الأكاديمية السويدية 1940.

لقد استلهم في أدبه الشعري والنثري الفن الحديث ، الإنطباعي والتكعيبي ، ليصور بصدق وإحساس مرهف عال مشاكل الإنسان والحياة ، بصياغة من الحزن الداخلي والمعاناة الحسية المتراكمة التي اختزنت في ذاته الإبداعية لتتفجر فينطلق صارخاً بأعلى صوته أن الفزع جزء من إرثه السيكولوجي الحياتي والمعرفي الذي أدى إلى أن ينزف قلبه جراحاً تنفجر عالياً من الأعماق في البحث عن السكون والسكينة والأمن . نتنقل متعايشين مع هذه الأحاسيس في قصيدة (الفزع ، الفزع نصيب من ميراثي) وهي من مجموعته البكر (الفزع) 1916:

الفزع ، الفزع نصيب من ميراثي ،
جراح حلقي ،
صراخ قلبي في العالم.
الآن تقسو سماء مرعدة
في يد الليل الخشنة ،
الآن الغابات العالية
والمرتفعات المتصلبة
قاحلة جداً في مواجهة
قبة السماء المتقلصة.
كم قاسية كلها،
كم متصلبة ، سوداء وساكنة!

أتلمس طريقي في أرجاء هذه الغرفة المعتمة ،
إنني أشعر بحافة المنحدر الصخري الحادة في أصابعي
تتمزق يداي الممتدتان إلى ألأعلى دماً
صوب قطع الغيوم المتجمدة .

آخ ، أظافري تنخلع عن أصابعي
يداي تتمزقان جراحاً ، موجوعتين
باتجاه الجبل والغابة المظلمة
باتجاه حديد السماء الأسود
باتجاه الأرض الباردة !

الفزع ، الفزع نصيب من ميراثي ،
جراح حلقي ،
صراخ قلبي في العالم.

لقد جسد في شعره ، كما في أدبه النثري أيضاً ، الحاجة إلى الإيمان واليقين وآلام غيابهما عن نفوس الناس رغم ما قيل عنه في بداياته المبكرة بأنه يبدو وكأنه "مؤمن بدون إيمان" وذلك انطلاقاً من ابتعاده في شبابه عن قناعات الطفولة . إن الحس اليقيني الذي لون جانباً مهماً من نتاجه الأدبي يعود بالأساس إلى الأحداث السود والأزمات التي عايشها وكان شاهداً عليها ، مثل الحرب العالمية الأولى في العقد الثاني من القرن العشرين وصعود النازية في أوروبا في الثلاثينيات منه والتي أدت إلى الحرب العالمية الثانية ، مع كل تداعيات تلكما الحربين الكارثية على المجتمعات الأوربية والأفراد اثناءهما وما بعدهما . لذا وقف بير لاغركفيست ضد النازية منحازاً إلى الإنسانية في صراعها ضد قوى الشر ، وهو ما طبع أدبه عموماً الشعري والنثري و صبغه بالصبغة اليقينية والحاجة الى الإيمان وتصويره لآثار غياب الحس الإلهي في القناعات وذلك من خلال الكتابة عن المشاكل والأزمات الإنسانية المركزية في الحياة مما طبع شعره بالطابع الإنساني.

ففي قصيدته (ارتقِ على أجنحة دامية) ، وهي من مجموعته الثانية (بدلاً من الإيمان ـ قصائد في الفوضى) 1919 ، نعيش لحظات هادئة مع دعائه للخالق تعالى ومناجاته الحزينة المضمخة بالشجن في تضرع وخشوع وألم دفين واعتراف بالكبائر والصغائر من
الذنوب طلباً للعغو والمغفرة والرحمة والنقاء عن الدنايا والخلاص من الآلام والرزايا :

ارتقِ على أجنحة دامية ،
إلهي الرحيم العادل ،
أنت الذي أخضعت العوالم ،
أنت يا إله كل السماوات.

ارتفعْ عن الدارالدامية ،
حيث وضعت شريعتك ،
الواحدة ، العظيمة والقوية ،
التي وهبتها لنا نحن البشر.

مولاي ، إننا نفكر كعبيد
في الذي تفكر فيه كإله .
هل تسمع صرخاتنا في أعماق الليل ،
لك ، لك ، من أجل رسالتك؟

اقطعْ فوق أجنحة مرفرفة
الطريق خلال المحيط المظلم.
في العمق هنا في الأسفل
تجد قبورنا الدامية.
انظرْ إلى ديارنا الدامية ،
حيث نكافح حتى النهاية.
الفكرة التي لم نستطع إدراكها
استلهمناها بأحاسيسنا.

فكرة الكفاح والحياة ،
صوت الدم الطاغي
أمسى صرخة فحسب في الليل
منطلقة من صدر ممزق مجروح.

كبيرة جداً تلك الكبائر ،
لقد ارتكبنا الكبيرة والصغيرة .
لكن الشوق الذي يسوقنا في الموت
كان من شريعتك الخاصة.

أنظْر إلى ديارنا التي تلتصق
بها أجسادنا الميتة من التعب .
لا أجنحة ترفعنا
إليك ، يا مولاي ، وأنت في الأعالي.

لا أجنحة ترفعنا ،
يجب أن تهبط أنت إلينا.
عرشك بعيد وخفي ،
بعيد وخفي عنا.

إن إحساس الفزع الذي عبر عنه الشاعر السويدي الكبير "بير لاغركفيست" في القصيدة الأولى هو وليد مواكبته ومعايشته كما ذكرنا أهوال وتداعيات الحرب العالمية الأولى، كما أنه تعبير صادق عن الخوف الذي عم شعوب أوروبا بسبب تلك الحرب وويلاتها ، مثلماالقصيدة الثانية التي كتبت بعدها. لذلك نستطيع تلمس آثارها في قصائده متوزعة بين الإحساس بالفزع والضياع والرعب والخوف والصراخ ، وبين التوجه الديني اليقيني نحو الله توسلاً ودعاءاً وملاذاً.

استمر الشاعر لاغركفيست في تلويناته الشعرية الإنسانية التي يسبر فيها غور النفس من الداخل غائصاً في هواجسها ومواجدها ، يصور بريشة دقيقة حادة الإيقاع تلك الانفعالات والاسقاطات التي تحيا في الذات الإنسانية نزيفاً من نصال الألم الموجع في القلب والروح فتلقي بظلال الأرق الحالكة في النفس اللائبة وسط لهيب الحياة وقحلها وجفافها من السكينة واليقين الضائع في أغوار المصاعب والمعاناة البشرية وتسلط الإثم واللاعدالة والقهر في رقاب الناس جمعاً وفرداً ، لتسوق البشرية صوب الظلام والظلم والذنوب والآلام الجريحة ، ومثالاً على ذلك قصيدته (في أزقة النفس) وهي من مجموعة (عند نار المخدع) 1932حيث نسوح معه داخل النفس وهو يلتجئ روحياً إلى العذراء مريم في توحد يمتزج بالغزل مما يوحي بتأثيرات الشعر
الصوفي ومواجيده الروحية العشقية النورانية ، وحتى الحسية الجسدية الشهوانية منها والتي هي خروج من الجسد لا دخول فيه ، وسمو عن الرغبات . وكل ذلك عند لاغركفيست ما هو إلا طلب للدفء والخلاص من الدنايا وآلام الحياة . :

في أزقة النفس
هناك تقف المصابيح بعيدة عن بعضها
لدرجة من الصعب التمكن من العثور على أرقام البيوت.
هناك بحثتُ طويلاً.
بلا جدوى.

ربما بحثت عن أرقام عالية جداً ،
ليس لها وجود.
ربما هكذا.
الآن أقف في نهاية الزقاق
وأبدو بعينين جافتين في إحدى الليالي
التي لن ترعبني بعد الآن.

في الخلف يزعق أولئك الذين عثروا على ما يبحثون ،
الأرقام التي عثرنا عليها جميعنا ،
والصخب يرتفع في منازل الفرح حيث يقذف العضو الذكري منيه
والروح تسبر الأعماق ،
تلك النهايات ،
عند قرقعة قعادات الأطفال والدلاء
وقرقرة مجاري المياه خارجة باتجاه المزاريب والظلام
في أزقة النفس .
**********

مثل رحم الحياة الجبار
مليئاً بالأسرار ومخفياً ،
ينكشف لي الزقاق كله.
مثل عاشقة مستعدة لكل شيء ،
عارية ومرمية فوق مخدعها
من أجل الذي يحتاجها.

لكن بوجهها المعلق في الخارج وسط ظلام الليل
تحت النجوم
في خواء وألم يفوقان الوصف.

أيتها الأم العذراء ،
يا ملكة السماء بأكليل النجوم حول قمة رأسك ،
عندك أود أن أبقى مستيقظاً
في هذه الليلة.
الذين صلبوك في هذه الغرفة ،
توهموا أننا سوف نحيا؟
الذين حجبوا وجهك بالليل ،
توهموا أننا لا نصاب بالقلق؟

أيتها الأم المقدسة
رائع حضنك الأثير،
حيث نجد المواساة والسكينة .
البهجة مثل المروج المزهرة حارة من الشمس المحرقة.
وبغبطة نتعلق ونتمسك جميعنا بك.

ولكن ما جسدك المكشوف ،
ما فخذاك الشهيتان ،
المفتوحتان على مصراعيهما ـــ
في مقابل عري وجهك المذهل
الذي تخفينه
عنا.

امنحيني منزلاً عندك ،
أنا الذي أتضرع إليك !
امنحيني نفسك ،
كما أنت !
أنا الذي أتوق إلى عريك
مثلما يتوق حيوان الصحراء إلى الماء.

ومثل طيف ألمح وجهها .....
ممزقاً ومليئاً بالأخاديد وخطوط المعاناة كلها
وعبء كل المرارات
من الاشتياق والرغبة والألم.

لكنها ساكنة هادئة تماماً.

في نور الانكشاف اللانهائي ، كآبة تفوق الوصف
تبتسم هي في وجهي.

مثل أم دنيوية .

وفي خضم هذا النتاج الشعري من الأحاسيس الحارة المتدفقة والغاضبة الهادرة في صخب الرفض لكل الظواهر الانسانية اللاإنسانية ومشاكل ومعاناة البشرية الحياتية واليقينية لم تفت الشاعر بير لاغركفيست لحظات من الهدوء والانسياب في ساقية من العذوبة والبهجة ليتحفنا بغزل رقيق منعش وسط أجواء قرقعة الحياة الصاخبة وهو ما نجده في مجموعتيه (طريق الفرح) 1921 و(أغاني القلب) 1926 حيث تتلونان ببصمات من غزل لا غنى عنه في الأدب السويدي كما يرى الباحثون والنقاد . يقول في قصيدته (مثل شجرة لوز مزهرة) من مجموعة (الدرب السعيد) :

مثل شجرة لوز مزهرة
هي مثلي عاشقة.
غني أيتها الريح ،
غني لي بهدوء وعذوبة
عن فتنتها الرائعة .

مثل شجرة لوز مزهرة ،
كم هي طرية 1
كم هي مضيئة ونقية !
أنت فحسب ، يا ريح الصباح الأرق ،
تعلمين كم هي فاتنة رائعة.

مثل شجرة لوز مزهرة
هي مثلي عاشقة.
حين يخيم الظلام الآن حولي حالكاً ،
هل تستطيع هي أن تحيا هنا فعلاً ؟
إلى جانب أدبه الروائي والمسرحي الغزير أصدر بير لاغركفيست الشاعر
تسع مجموعات شعرية كان آخرها مجموعة )بلاد المساء( Aftonland عام 1953 . ورغم أنه عرف عالمياً كروائي كبير استحق جائزة نوبل إلا أنه أيضاً واحد من أهم وأكبر الشعراء و أبرز المجددين في الأدب السويدي في القرن العشرين من خلال لغته التجريدية البسيطة القريبة من الناس في مباشرتها وجرأتها وصفائها.

نقرأ في قصيدته (غريب صديقي) من آخر مجموعاته (بلاد المساء):

غريب صديقي ، واحد لا أعرفه .
غريب بعيد بعيد جداً.
من أجله يمتلئ قلبي بالحاجة .
لأنه غير موجود عندي.
ربما لأنه لا وجود له أبداً ؟

من أنت الذي تملأ قلبي بغيابك ؟
الذي تملأ كل العالم بغيابك ؟





أديث سودرغران
شاعرة تهيم في نبض الحياة
باحثة عن فردوس المرأة المفقود



أديث سودرغران Edith Södergranِ 1923-1892إحدى أهم وأكبر الشعراء السويديين والشمال الاسكندنافي وأوربا في القرن العشرين رغم عمرها القصير، فقد حضيت باهتمام بالغ في دراسات الشعر العالمي . ولدت لأبوين فنلنديين في مدينة سانت بطرسبرغ. دخلت هناك مدرسة ألمانية للبنات حيث بدأت حياتهاالشعرية المبكرة وهي على مقاعد الدراسة بكتابة أشعار تقليدية بلغات متعددة : الروسية والفرنسية وغالباً الألمانية. وقد تأثرت بالمدرسة الانطباعية الالمانية والرمزية الفرنسية والمستقبلية الروسية. تصور في مجموعتها البكر (قصائد)Dikter الصادرة عام 1916 مشاعر نكران الذات وتأكيد نبض الحياة في محاولتها التعريف بالمرأة الجديدة وشرح دورها:

لست امرأة . أنا كلمة حيادية.
أنا طفلة، غلام وقرار جريء ،
أنا شعاع ضاحك من شمس حمراء متوهجة........
أنا شباك صيد لكل الأسماك الكونية ،
أنا وعاء لعزِّ جميع النساء ،
أنا خطوة في مواجهة الصدفة والخراب ،
أنا وثبة في الحرية والذات ......
أنا همسة الدم في أذن الرجل ،
أنا قشعريرة النفس ، شوق ورفض اللحم ،
أنا لوحة الدخول إلى الفردوس الجديد.
أنا لهيب ، باحث ومندفع ،
أنا ماء ، غائر لكن مقدام عالياً حتى الركاب ،
أنا نار وماء في رباط شريف متحد بشروط حرة ......

اكتشفت عام 1908 أنها مصابة بمرض السل الذي أودى في النهاية بحياتها ، حيث أدخلت مصحاً في مدينة دافوس في سويسرا. وقد صورت حياة المعاناة اليومية هناك في قصيدة (حياة مصح) وهي من قصائدها الشبابية الأولى التي كتبتها بين عامي 1909 - 1907 بالألمانية:

ضد دم الدكتور آكسل البارد
وغروره الكبير المفرط
لا يجوز لأحد أن يحتج ،
إنه يمسك بنا بيد من حديد ،
لكنه حين يسافر بعيداً أحياناً
يجوز للدكتور باول أن يثور ويصرخ.

إنه يتجول بهيئة جدية صارمة،
كما لو كان في لندن وبرلين
رغبته متذللة ،
ومن جناح إلى جناح
بمعطف مفتوح الأزرار يتقافز مبتهجاً
ويبتسم ويقهقه مثل الأبله.

حين يجد نفسه في مهمة
يغدو شاحباً ، يغدو محمر الوجنات

يبدو خجلاً حقيقة
كما لو أنه لا يدرك أهميته ،
نحو الهاتف يسرع الخطى
ويجد الطريق الصحيح .

يذهب المريض في الطريق الملتوي ،
ويقسم ويتزحلق في كل خطوة
ويعلم نفسه أن يتوازن.
هنا يصبح المرء قانعاً و بلا مطالب ،
وفي معبد الدكاترة
يتعلم الآحترام.

أن تشرب الحليب وتأكل الخضار،
مثلما تدعونا اليه ميمي بلطف زائد ،
أن تصرخ خلف تويفو ،
أن تزداد وتنقص في الوزن
كل ذلك هو واجب المريض
الذي لا يتخاذل عنه أبداً.

في مجموعتها البكر نلمح كذلك ظلال التلوين السريالي طاغياً في الصور اللغوية التعبيرية التي أثارت كلاً من السخرية والإعجاب في الوقت نفسه ، هاهي تصور في قصيدتها (النهار يبرد في مواجهة المساء) مشاعر البحث عن الدفء في الحب :

l

النهار يبرد في مواجهة المساء
أشربْ أنت الدفء من يدي ،
ليدي نفس دم الربيع
خذْ يدي ، خذْ ذراعيَّ البيضاوين ،
خذْ توق كتفيَّ النحيلين ....
كانت أحاسيسي رائعة ،
ليلة وحيدة ، ليلة مثل هذه ،
برأسك الثقيل فوق صدري.

ll

لقد رميتَ وردة حبك الحمراء
في حضني الأبيض ــــ
إني أتشبث بها في يديَّ الدافئتين
وردة حبك الحمراء التي ستذبل سريعاً ..............
أواه ، أنت المتحكم بي بعينين باردتين
إني أرضى بالتاج الذي تهديني
والذي يحني رأسي باتجاه قلبي .....

lll

رأيت سيدي لأول مرة هذا اليوم ،
مرتجفة أحسست به حالاً ثانية.
الآن أحسني نقية بيده الثقيلة على ذراعي الرقيقة .....
أين هي ضحكتي العذراء الرنانة ،
حريتي النسوية برأس شامخ؟
الآن أحسني نقية بمسكته المتشبثة وجسدي المرتعش ،
الآن أسمع ناقوس الحقيقة القاسية
في مواجهة أحلامي المحطمة ، المحطمة.

lV

بحثتَ أنتَ عن وردة
فعثرتَ على فاكهة.
بحثتَ عن نبع
فعثرتَ على محيط .
بحثتَ عن امرأة
فعثرتَ على روح ــــ
أنت خائب .

فقدت عائلة الشاعرة ثروتها في ثورة اكتوبر في روسيا، فبدأت ظروفها الحياتية تسوء كثيراً بسبب الفقر والمرض الذي اشتد عليها والعزلة التي بدأت تعيشها، لكنها ارتقت وسمت فوق كل ذلك بأحاسيسها متأثرة بفلسفة وأفكار فردريك نيتشه البطولية في الحياة ونبضها المتدفق ، وهذه رسمت ملامحها في مجموعتها (قيثارة سبتمبر) الصادرة عام 1918 كما نقرأ في قصيدتها (الإله الأجمل) :

قلبي هو الأجمل في العالم.
إنه مقدس.
من يراه
يشع ضياءاً من نظرته.
قلبي رقيق مثل طائر،
لا يوجد شكل هش مثله على الأرض.
إني اضحي به
من اجل إله مجهول.
الإله في الأعلى في الغيوم ـــ
أجنحتي تحملني إلى هناك ــــ
الإله الأجمل
أمامه كل شيء رماد.
سأعود ثانية
ببريق حول جبهتي ـــــ
لا أحد سيرى شيئاً آخر
غير الليل والله.

استمرت سيطرة تأثيرات نيتشه عل مجموعتيها الشعريتين التاليتين (مذبح الزهرة) 1919 و (ظل المستقبل) 1920 ، حيث الطبيعة والاستعارات الطبيعية هي الأساليب التعبيرية المخيمة على المشاعر والأحاسيس والأخيلة والصور . لنقرأ قصيدة (ظل المستقبل) :

أحس بشبح الموت.
اعرف أن أقدارنا موضوعة أكداساً فوق مائدة آلهة الموت.
أعرف أنه لا توجد قطرة من المطر تمتصها الأرض
وهي غير مكتوبة في كتاب الأزمان الأبدية .
أنا أعرف متيقنة مثلما الشمس تشرق ،
بأنني لن أشاهد مطلقاً تلك اللحظة المتوترة ، حيث تقف في ذروة السماء .
المستقبل يلقي نعيم ظله فوقي ،
هو ليس شيئاً سوى الشمس المتوهجة:
مخترقةً بالنور سوف أموت ،
هناك سأطأ البقايا كلها بقدمي ،
سوف أستدير باسمة بعيداً عن الحياة .

لم يتسن للشاعرة أديث سودرغران أن تقرأ ما كتب عن مجاميعها الشعرية بسبب غيابها المبكر عن الحياة تاركة ثروة شعرية كبيرة تقف في المقدمة من التجديد في الشعر السويدي في القرن العشرين . وقد نشر لها بعد وفاتها صديقها الناقد الأدبي "هاغار أولسون" مجموعة شعرية تحت عنوان (الأرض التي لا توجد) عام 1925 ومجموعة رسائلها عام 1955 . كما نشرت قصائدها الأولى التي كتبتها باللغات الأخرى أيام شبابها المبكر وهي على مقاعد الدراسة. لقد صدرت لها في حياتها خمس مجاميع شعرية. ونشرت مجموعتها الشعرية كاملة سنة 1949 .

كانت سودرغران تتدفق بالحياة والتفاؤل والتحدي رغم المرض العضال الذي كان ينشب مخالبه ليأكل في جسدها ويقضم نبضات حياتها ببطء وخبث وألم . ومع ذلك نقرأ لها ذلك الأصرار على استمرار الحياة والحلم الذي لاينتهي . تقول في قصيدة (انتصار أن توجد) من مجموعتها (قيثارة سبتمبر) :

ممَ اخشى؟ أنا جزء من اللانهاية .
أنا جزء من القوة العظمى في كل شيء ،
عالم وحيد ضمن ملايين العوالم ،
نجمة من الدرجة الأولى وهي آخر من تنطفئ .
انتصار أن أحيا ، انتصار أن أتنفس ، انتصار أن أوجد!
انتصار أن أشعر ببرودة الزمن تسيل في عروقه
وأسمع صمت نهر الليل
وأقف فوق قمة الجبل تحت الشمس.
انا أمشي فوق الشمس ، أناأقف فوق الشمس ،
لا أعرف شيئاً آخر غير الشمس .
ايها الزمن المتغير ، الزمن ـــ المتحطم ، الزمن ـــ المسحور ،
هل ستأتي بمكائد جديدة ، آلاف القوائم تعرض عليَّ وجوداً
مثل بذرة صغيرة ، مثل أفعى ملتفة ، مثل منحدر صخري في وسط البحر؟
يا زمناً ـــ يا قاتلاً ـــ إنسحبْ عني!
الشمس تملأ صدري بعسل لذيذ حتى الحافة
وهي تقول : مرة واحدة تنطفئ كل النجوم ، لكنها تنير دائماً دون رعب .

هذه الأحاسيس السامية المتدفقة بالحياة والحب والتحدي والبحث عن الأمل والدفء في الحلم البشري الأبدي وحتى في اللاموجود ، نغوص فيها ونحيا معها أيضاً في مجموعة (الأرض التي لا توجد) التي صدرت بعد وفاتها ، حيث نقرأ في القصيدة التي سميت المجموعة باسمها:

أحنُّ إلى أرض غير موجودة ،
بالرغم من أنَّ كلَّ شيء موجود فإني تعبة من المطالبة .
القمر يحكي لي بحروف فضية
عن الأرض التي ليس لها وجود .
الأرض ، حيث كل أمنياتنا تتحقق رائعة ،
الأرض ، حيث كل سلاسلنا تتساقط ،
الأرض ، حيث نبرِّد جباهنا الجريحة في القمر .
حياتي كانت داراً دافئة .
بينما في الحقيقة وجدت مرة وفزت مرة .....
الطريق إلى الأرض التي لا توجد .

في الأرض التي لا توجد
يجري حبيبي بتاج براق .
من هو حبيبي ؟ الليل داج
والنجوم ترتعش من الإجابة.
من هو حبيبي؟ ما هو اسمه؟
السماوات تتقوس أعلى فأعلى .
وطفل بشري يغوص في ضباب لا نهائي
ولا يعرف الجواب .
لكن هذا الطفل البشري ليس شيئاً أكثر من اليقين.
وهو يبسط ذراعيه أعلى من السماوات .
وها هي الإجابة تأتي : أنا هو ذلك الذي تحبين
وستحبين الى الأبد.





أبه لينده
شاعر الغزل العذري السويدي
صوت إدانة للفاشية يتدفق بالنقاء




أبه لينده Ebbe Linde (1991-1897) ــ أحد أبرز رواد التجديد في الشعر السويدي أوائل القرن العشرين ، فهو من جيل شعراء الشباب ما بين الحربين العالميتين الحامل لواء التجديد والعصرنة . كانت ريادته مع مجموعته (فجوة) الصادرة عام 1924 ، مع أنها ليست الأولى فقد سبقتها مجموعة (جوفنيليا) في صدر شبابه ، لكنه لم يطبعها في حينها إذ يقول عنها بأن أصالتها وقيمتها الفنية الخاصة لم تكن بالكبيرة والملفتة للنظر لكنها تلقي ضوءاً على مجموعته اللاحقة (فجوة) من حيث العنوان والمضمون و هي المجموعة التي أسست لشاعريته ، لذا أضافها إلى مجموعته الشعرية الكاملة التي صدرت عام 1967 تحت عنوان (قصائد lll - 0 ) فرمز إلى المجموعة بالرقم صفر والمجاميع الثلاثة اللاحقة بالأرقام واحد إلى ثلاثة .

يعتبر الشاعر لينده مجموعته (فجوة) بدايته الشعرية الحقيقية . أولى لينده في تجديده أهمية خاصة لعناصر : الشعرية والتاريخية والذاتية والعصرنة، في مزيج من البساطة في الأسلوب باستخدام اللغة اليومية المعبرة والإيقاع المقفى ليحدث الأثر في المتلقي . همه الأول هو لتوجه بشعره الى التأثير في مجموع المتلقين عامة لا تأطيره وحصره في النخبة الخاصة والمحدودة من المثقفين دون ايصاله الى عموم القراء. لقد وظف الشعرية والبساطة والمضمون في توليفة تترسم المشاعر والأحاسيس والاقتراب من التقاليد الاجتماعية السامية الجميلة لترسيخ قدسيتها في النفوس. فمثلاً في قصائده الغزلية التي امتاز بها وخاصة في مجموعة (قصائد 0 lll -) التي تحوي قصائده بين عامي 1936 - 1932 نلمس هذه الجمالية والرقة في عاطفة الحب التي تنتهي عادة بالزواج ، ليقربها مما نطلق عليه في أدبياتنا العربية (الحب العذري) . ولا غرابة إذا عرفنا تاريخ صدور القصائد وهو أواسط ثلاثينات القرن العشرين ، وهي فترة كانت فيها لاتزال آثار التقاليد الاجتماعية المنبثقة عن الدين تخط حياة الناس حتى في أوروبا . لنقرأ قصيدته الموسومة (رقصة الحب) :

أحبك و تحبينني
إن أردت معرفة المزيد عن الحب ، فقولي .
هل تريدين أن تعرفي لماذا ، سأخبرك
الحقيقة وكل شيء :
أنا أحبك لأنك مغرمة بي
أنت تحبينني لأني مغرم بك ......
أشعلي فتحة صغيرة ...... لا حاجة للمزيد ......
كل شيء يتدفق في الخارج
الحبُّ محطَّم ، الحبُّ هشٌّ
الحبُّ دوَّار ، من الحبِّ يولد الأطفال ،
أن يُرزق الإنسان أطفالاً هو أن يكون أباً لطاحونة ،
حساء من كل شيء ،
حبيبتي ، لا تقنطي الآن
في حالة الضرورة ، ستصبحين زوجتي
أحبك ، وتحبينني .

هذه البساطة في استخدام اللغة اليومية العادية والأحاسيس العفوية الصادقة في التعبير بالشعر سمة امتاز بها الشاعر في تجديده بين وسط شعري من الجزالة والبحث عن الصور المصنوعة والمحبوكة بعناية امتداداً للموروث الشعري المتواصل . لكنه رغم ذلك يرتقي في قصائد أخرى مستوى رفيعاً من الأداء الشعري ، ليقدم لنا لوحات فنية مرسومة بالكلمات بدقة كي نشاهد ونرى باللغة والتخيل والمعايشة الحسية ، كما نشاهد في قصيدته (مربع الشمس .. مزاح الفضة .. يصبح الخلود) :

الحبُّ يطرق الأبواب سريعاً ، لكن في هذه اللحظة
حيث انحدرتِ بمايوهك الأخضر باتجاه الماء
واليدان طليقتان نحو السطح مثل غصن كسول .
هذه اللحظة ستتلألأ إلى الأبد فوق مدينة ساحلية خالدة
تصاغ إلى زمردة مجلوة من شعرك الذهبي المتموج .
أشعة الشمس الفضية والرمال تتراقص حول أصابع قدميك .

هكذا أحياناً تُرفع نظرة خارج الضياء من ضوء على اليمين .
وتسقط مثل ذهب مستخرج من حوض مليء بالحصى ،
إشارة من عربة ترام ، كلمة ضاحكة ، كلمة حزينة ، وعدم استعداد ......
نحتتها روح السوَّاح العابر . لمَ حدث هذا ؟
محارة بشرية تفتحت ، على الأقل عرف الإنسان الأقرب اليها
واللؤلؤة ، لهيب حيٌّ ، ارتقى دافئاً باتجاه محيط الأبدية .

لقد تميزت قصائد أبه لينده إضافة إلى الغزل بالهجاء اللاذع الساخر لظواهر مرفوضة خارجة عن الطبيعة البشرية السامية التي ألهمته شعره ولونته بإيحاءاتها والتماعاتها ورسمت خطوطها في ثناياه ، فقد كان مؤمناً إلى حد الراديكالية بالقيم الانسانية الخالدة التي صبغت شعره بروحها داعياً لها من خلال إبرازها ونقد ما يمس القيم و الجمال داخل الروح البشرية وفي مسيرتها، وخير مثال قصيدته (القائد العام ) التي نقرأ فيها إدانة صريحة للعسكرتاريا التي سادت أوروبا في الثلاثينات من القرن الماضي في إلمانيا وإيطاليا وأسبانيا وما قادت إليه من كوارث على البشرية جمعاء :

وثب الجنرال من غفوته القلقة .
تذكر الأخت التي أصيبت بالجنون .
تذكر الأبن الذي وضع حداً لحياته ،
مع ذلك على المرء أن ينجز واجبه "حتى آخر قطرة" .....
توجه الجنرال إلى مهامه اليومية .
وقع عدداً من الأوامر منها ارسال اثنين وثلاثين ألف رجل إلى الموت سدىً .
سمح بالتقاط صورة فوتوغرافية له وهو في وضع بطولي بعد الفطور .
منح أوسمة لثلاثة آلاف أرملة وطبع قبلات
على كل خد من خدودهن وعلى الرقاب حتى تفجرت الشفاه .
وبعدها اضطجع وحدَّق بدون شهية في الطعام ، وبدون رغبة في التفكير .
انفجرت قذيفة في الغرفة المحصنة .
لقد تخلص من اطلاق رصاصة على نفسه في الجبين .

بذل الشاعر لينده جهده في أن يستبطن الذات الانسانية وأن يستثير دواخلها في إطار من استخدام ضمير المتكلم (أنا) والمخاطب (أنت) ، فمن أهم ملامح شعره استخدامه للضميرين هذين في ثنائية متواشجة تتلاحم لإيصال الفكرة والأحاسيس والهواجس الانسانية المتناقضة والمتضادة في جمالها وقبحها ، في شفافيتها ورقتها كما في غزلياته ، ووحشيتها وشراستها كما في قصيدته أعلاه (القائد العام) . هذه المتضادات يبثها الشاعر الى المتلقي بعفوية واسلوب سهل ممتنع مباشر خال من التعقيد والجزالة اللفظية التي امتاز بها العديد من مجايليه من أمثال الشاعر الكبير هاري مارتينسون الحائز على جائزة نوبل عام 1974 .

اعتمد أبه لينده كثيراً في أسلوبه على الانطباعية والفكرة في اطار استخدام الفعل والاسم اللذين يعتبران اسلوب العامة من الناس في التعبير لكنه مع ذلك حاول أن يبتعد عن الطبيعية المباشرة، وهو ما أشار إليه بنفسه في مقدمة مجموعته الكاملة . و في رأينا لأن ذلك يقود إلى ضعف الشعرية في النص وتقريبه من النثر . استند لينده في معظم قصائده على الحوار بين الأنا والأنت والتداعي الحر الذاتي لتجربة وهواجس الأنا متأثراً في ذلك بالكتابة الاغريقية واللاتينية القديمة في حواريات الفلسفة وغيرها . وكمثال قصيدته (عند الشاطيء) Vid stranden :

الماء الذي يتموج .
الفراشات التي تحوم .
شمس فوق قمم الشاطئ .
قبضات الدم في بوكيهات ورد باهرة براقة ،
أعشاب منحنية .
بين الشجيرات المطقطقة يقفز الدرب .
ريش أزرق ..... زوارق بخارية .......
كل الأرض منحدرات زاهية .

مرَّ زمن آمنتُ فيه بعالم أجمل
ـ كيف كان ذلك محتملاً ؟
ليس بعالم مليء بحقول الشهوة والقمار
ــ هذا مالم أفضله مطلقاً !
بل بعالم من التأمل والأفكار
ــ هذا ما اجده أجمل وأرق .
خاطبت نفسي :
إنه بالتأكيد ثقيل أن تسوح في أنحائه .
الوجه سيجده الانسان مليئاً بحشرات وسخة
عندما يتوق الانسان إلى الفضاء وضياء النجوم .
هنا يتصارع البشر ويتضورون جوعاً .
هنا ينتصب الموت السري في النظام اليومي ،
الناس يساقون ويُجبرون ،
هكذا فكرتُ أنا .

كان عنصر الحوار الدرامي إلى جانب توظيف السرد المتأثر بالحبكة الملحمية القديمة ، كما في قصيدته (هرقل الجديد) ، أحد أهم تلاوين شعره الذي خط طريقه في بنية صياغته الشعرية مما دفعه إلى ولوج عالم التأليف المسرحي ليصبح واحداً من أبرزكتاب المسرح التجريبي في السويد، وخاصة في مسرحيتيه (حبة الخردل) 1934 ومسرحية (ضوء الجليد) 1938، وقبلهما مسرحية (دعارة عروس). ثم عمله المتميز وهي معالجته التقويمية وتهيئته لملحمة جلجامش عام 1946 ، حيث استلهم الملحمة في مسرحية موسيقية اسماها (جلجامش)* حافظ فيها على الخطوط الرئيسة لأحداثها لكن بفهمه الخاص والفكرة التي أراد أن يضمنها عمله بحوار مبتكر جديد مبني على الأفكار المعاصرة ومواقف يدخل فيها الموسيقى والرقص والكورس المصاحب . كما أنه مارس النقد المسرحي كمهنة احترفها في عدد من الصحف السويدية اليومية ، ومنها صحيفة (داغنس نيهيتر) الواسعة الانتشار بين عامي 1964 - 1947 ، و قد جمع هذه المقالات وأصدرها في كتابين هما (الجريمة والعقاب) 1930 و (شرقي غربي) 1967 . اصدر الشاعر بيوغرافيا ذاتية في جزأين : (عمر الذكريات) 1969 ، والجزء الثاني (ذكريات داخلية) 1976 . وللشاعر أبه لينده تراجم كثيرة من الشعر الأغريقي واللاتيني ، إضافة إلى ترجمته لأعمال موليير وهولدبرغ وبريخت .

مختارات لأبه لينده


* نقاؤنا

زمناً بعد آخر يجب أن تُنظف النفس
تماماً مثل دُرج المكتب .
وإلا فإنها تتعفن ، تُنبت ثانية ، فتتحجَّر تماماً .
هل تحمل في داخلك الحرارة
والخطط المنطلقة الفظة المسننة ؟
هل لديك طبقات ورفوف
بآلاف الحاجات ، مثل المواعظ المنمقة تتطاير ؟
أشطبْها كلها !
طيور البحيرة تحوم فوق الماء ،
الأشجار عارية والجبال أبدية .
دعْ أياديها الساكنة تبحر فوق وجهك .
............ هكذا
أنت خال ، تماماً خال
لكي تمتلئ من جديد
بربيع طري وسعادة غامرة نقية في العمق .



* شاعر يتحدث

أفتح أنا طاقتي ، أجد هذا :
أن تتمنى أمر استثنائي
لذلك أشير إلى نفسي في القصائد .
لذلك أملأ هذا الشعر باستثناءات استثنائية .
لأضللك أيها القارئ !
لكن أنت ـ عليك أن لا تدع نفسك تُضلل .
عليك أن تفهم بأن هذا الاستثناء ليس هو ذاك الذي يستحق أن تكتشفه عندي .
هذا الاستثناء ـ عليك أن لا تمسحه عنك ،
يجب أن تكتشف خباياه ،
اسبرْ أغواره حتى تعثر على ما ليس باستثنائي ، ، إنما أكثر من ذلك ،
ليس بغريب غير عادي ، بل رائع مدهش .


* الغروب خلف برلين ـ1935

الشمس تغرب خلف برلين .
بيت بمحاذاة بيت ، بيت بمحاذاة بيت
القراميد المربعة الفانية تحت أدخنة حمراء
إيقاع للدار اللانهائية في الكون المطلق
لصحراء البشر اللامحدودة :
البرج النشيط ، برج بابل واسطوانة المذياع
يبرقان عالياً في فراغ مكتوم
مثل علامة فارقة تقذف إعلاناً .
برج بابل الثقيل
يشدُّ مجاميع مظلمة صوب سحابة وضيعة شفافة .
خطوط ضياء قناديل حديقة النمور المنكمشة . دوتشي .
أضيئت المصابيح . الأخضر يسوَّد ..... تدفق الفعل رايشتاخ .
الشمس تتورم مطرودة ،
شظية أخيرة من البيضة الهائلة الحمراء بلون دم طائر الرخ .
موسيقى الجاز تلهث بعيداً في الأسفل مثل نمر صغير ،
البديل الأسوأ لضياء المدينة يحصل على حياة خاصة مضطربة .
وفوق فوق فوق
.... تدور في هدوء الفضاء واحدة من مكائن غورنغ الهائلة
(القنابل ذات الزعانف)
إلى الأعلى فوق ذرات البشر .
إلى الأعلى فوق لا نهائية دار القيامة
حتى تبرز عالياً فوق تلك الشمس الحمراء المطرودة .

* غورنغ ـ هو هرمان غورنغ 1946-1893 أحد أبرز الجنرالات النازيين كان وزير دولة عام 1933 ، ثم قائداً لسلاح الجو 1935 . عين نائباً لهتلر 1939 ، اعتقله هتلر في عام 1945 ، وحكم عليه بالموت في محاكمات نورمبرغ إلا أنه انتحر .
* قام كاتب الدراسة بترجمة مسرحية الشاعر أبه لينده الموسيقية (جلجامش) الى العربية وطبعت ونشرت في السويد على نفقة مركز الكومبيوتر الذي كان يعمل فيه.




هاري مارتينسون
من رحَّال في العالم الى رحَّال داخل االنفس



الشاعر السويدي الكبير هاري مارتينسون (1904 ـ 1978) من الحائزين على جائزة نوبل للآداب وذلك عام 1974 مناصفة مع مجايله الروائي السويدي (أيفند جونسون )*. ولد مارتينسون في مقاطعة بليكنغه لعائلة فقيرة عانت من شظف العيش . مات والده عام 1910 ، فهاجرت والدته إلى كاليفورنيا . أما هو وأشقاؤه فقد أدخلوا الأبرشـية لتتولى رعايتهم مثل أشباههم من الأطفال اليتامى والمشردين . وقد صور شاعرنا بصدق وأمانة طفولته القاسـية هذه في كتابيه البيوغرافيين (زهرة الشوك) 1935 و(الطريق الى الخارج) 1936 اللذين يختلفان عن نتاجه الشـعري الدافئ ذي النبرة العميقة المنشور في نفـس الفترة الزمنية.
عمل مارتينسون بعد نهاية الحرب العالمية الأولى في باخرة تجارية ، ثم في عدد من السـفن عاملاً في ايقاد النار بالمحركات ، وذلك بين عامي 1920-1927 ، فأصيب على أثرها بالسل مما اضطره الى ترك حياة البحر . بدأ بعدها بنشر قصائده في الصحف . وكانت أول مجموعة تصدر له ضمن أنطولوجيا (خمسة شبان) 1929 . كما أصدر في العام نفسـه مجموعته الأولى (سفينة الأشباح) .
نتاجاته الشعرية والنثرية حتى عام 1945 : مجموعاته الشعرية (سفينة الأشباح) 1929 (رحَّال )1931 (طبيعة) 1934 ، وكتبه النثرية (رحلات بلا هدف ) 1932 (وداعاً للبحر) 1933 (الفراشة والبعوضة) 1937 (وادي منتصف الليل) 1938 (السهل والصعب) 1939 ، وكتابا السيرة الذاتية روايتا (زهرة الشوك) 1935 (الطريق الى الخارج) 1936 ، يغلب عليها صور من طفولته ومعاناته وحياته في البحر ، صور خيالية سريعة مترابطة . وجد في مجموعته (رحَّال) أسلوبه المتميز من خلال رسـم فن لغوي خاص جديد ملئ بالخيال الجامح والصور المستلهمة من ماضيه ومن الطبيعة . يقول في قصيدة (مستمع) من نفس المجموعة :
كنت طفلاً أيام الاصغاء
بجوار الموقد كان الكبار يجلسون
يهزون في المهد معاصيهم المزعومة صوب
اليوم الأخير ، حيث
سيُعلِّم المخلص المصلوب فوق الصليب الاثنين الطاهرين كليهما .

توترت القطة ، اتقدت النار ، صرخ صمام التهوية ،
غنى أحدهم أغنية شاكية نابضة
عن الخادمة التي وطأت الرغيف .
تحدثت الأفواه الخالية من الأسنان في فصول الخريف المتأخرة
عن غلة الأرض السـبخة المجذومة
وزهرة الطحين الوافرة اللاذعة المرة .
لقد تجمدت أنا بجوار موقد طفولتي .

وفي قصيدة (بعيداً عن هنا) من أنطولوجيا (أشعار حديثة ) 1931 يقول :
بعيداً عن هذا المكان أود أن أرسـل حلماً
الى حيث يحلق السنونو عالياً
عسى أن ينضج القمح هناك
ومن خلال محيطات نبات الشيلم الزرق
تمرهمسة خفيضة بطيئة عن الخبز
هنا عالم من الماء والحجر
يدي عارية عن الخبز وأنا أحسب خطوطها .

ومن (قصائد عن الخريف) من مجموعة (طبيعة) هذا المقطع :
في مساء ما انتصب صحو شتائي هناك وعبَّأ الأثيرُ
بحارَ الفضاء بكريستالات تزيد وتزيد .
النجمة المهجورة تشحذ نظرتها ،
وخنجر النجمة الفريدة رحل نازلاً في بحار السماء الغزيرة
وألقى رحاله ليسكن في كارلايولن .
لكن مركبة الجياد الأقدم لم تنقلب على عقبيها ، كلا ،
إنها تدور فرحة فوق المزرعة الصغيرة والقلعة المستطيلة ،
تنعكس على البحيرات كأنها قد تجمدت ،
حين يعطي الصقيع أقل إشارة .

في عام 1945 ومع مجموعته (اعصار) يتطور فن مارتينسون ويتغير شكل حياته وفلسفته كرحال في العالم الى رحال داخل النفس بتأثير من الفلسفة الصينية ، ونلمس هذا التبدل والأثر أيضاً في روايته (الطريق الى الموعد) 1948 حيث يتبع فيها منهجه الجديد في الرحلة الى الباطن ، وكانت هذه الرواية من أحب كتبه الى نفسه .
يقول في قصيدة (بلدان مختلفة ) من مجموعة (إعصار) :
في المدن البدينة
كانت الدار كبيرة واسعة ومزدحمة جداً
مثل كتلة صفراء في حساء
ينبوع القمر .
في بلاد العوز
أتت النار على الكوخ ، مات الطفل
والجثة جمجمة في ينبوع
القمر ذاته .

و يقول في قصيدة (الإنسان في عاصفة الخداع السحري) من نفس المجموعة :
نسل البشرية مخلوق من السحر في غابة الخداع السحرية .
هل يكون هذا في أيام البكاء أم في سنوات الضحك ؟
استيقظت في زورقي ، فإذا برعد وانقلاب غاضب !

عثرتُ على نبات القصب والمغازل والمحار والموج .
الزورق محمول فوق الأمواج العاتية .
ترى ما الذي أفزعني حينها ؟!

أن تكون بشراً بين البشر أسوأ شئ في الوجود .
للكل نفس الطلبات ، وكل واحد يعرف الآخر جيداً .
هل كان هذا في أيام البكاء أم في سنوات الضحك ؟
تستطيع الغابة أن تجيب . لكننا نتلقى ذلك من خلال الصدى فحسب .
يستطيع البحر أن يجيب ، مع السفن التي بنيناها وأغرقناها .

منذ ذلك النهار حيث حصل الأنسان على سمعة مطرزة بالذهب ،
منذ ذلك النهار حيث الأمواج تكسرت وجنحت
مصطدمة ببعضها فوق رؤوسنا
سألنا متى أزبدت وتحولت إلى انقلاب غاضب .
هل كان هذا في أيام البكاء أم في سنوات الضحك ؟

في رحلته الفلسفية المتوغلة داخل الذات فوق أنوار الحكمة الصينية والتأمل العميق في المستبطن لا الظاهر والداخل لا الماحول ، يصطدم مارتينسون بالماحول ، ليصاب بالفزع ، الفزع من التطور التكنيكي الذي يغزو العالم فيبدأ بغرز نصاله في الداخل الإنساني ليسحق النفس والروح بعد الحياة البشرية ، الفزع الذي صوره قبله بصرياً سينمائياً الفنان العبقري (تشارلي تشابلن) في أفلامه الخالدة . وقد خط هذا الفزع أنامله في شعره من خلال مجموعته (سيكادا) 1953 ، و ليخيم على عرضه المسرحي الشعري (آنيارا) 1956 الذي تحول الى أوبرا غنائية عام 1959 .
يقول في قصيدة (منذ زمن بعيد) من مجموعة (سيكادا) :
منذ زمن بعيد وفي يوم صيفي من أيام الأحد
حين كان على العامل الزراعي أن يسقي
الأحصنة الضخمة الرمادية
جلس مستنداً إلى جذع
شجرة الزيزفون العالية في الحقل .
فجأة جاء إلى بوابته
حصان بأجنحة بيضاء .

أدرك العامل كنه ما رأى ،
إنها نهاية أيام الحياة .
حمل نفسه متثاقلاً باتجاه القلب ،
وأضحى كل شئ يوماً خالداً من أيام الأحد
هناك تحت شجرتي البتولا والزيزفون .
ألقى خده مرهقاً
فوق حقل الصيف الأخضر .
في الريح صفقت بوابة .

أصدر هاري مارتينسون (حقيقة حتى الموت) عام 1940 ، وهو كتاب ريبورتاج يدور حول عمله كمراسل متطوع في الحرب الفنلندية الشتوية ضد روسيا أثناء الحرب العالمية الثانية . كما يسجل فيه ما دار في مؤتمر الكتاب الذي عقد في موسكو عام 1934 .

صدرت له مجموعات شعرية اخرى (العشب في ثوله) 1958 ، (العربة) 1960 ، (قصائد عن النور والظلام) 1971 ، (حشائش نامية) 1973 ، كما أصدر مسرحية (ثلاث سكاكين من واي) 1964. وصدرت له مجموعتان بعد وفاته (بعيداً يرتفع الصدى) 1978 ، (دوريدرنا) 1980 .

ـ مختارات من شعره ـ


* "المهاجر" من مجموعة (قصائد عن النور والظلام) :
المهاجر الذي سقط إلى الخلف ميتاً
واضطجع ساكناً ثلاثة أيام
فوق السهل المنبسط بعيداً في الخارج .
زارته في اليوم الثالث عند المساء
ملاك الصقيع .
جهزت له سرير الموت للشتاء .
أسقطت ضاربة بأجنحتها المنطلقة
كتلة ثلجية من داخل الغيوم .
غمرته ، وطارت ملاك الصقيع بعيداً .
لقد حولت موته
إلى ما يطيقه الصقيع .
مع الربيع عادت ثانية فعلاً
تلك الأولى والكبرى من ملائكة الموت .

* "الأقفاص" من مجموعة (العربة) :
الأزمان أقفاص للآلهة
معلقة في أعلى الشجرة ذات الأوراق المتساقطة .
قلب الأنسان يغرد في قفصه
مثل طائر القفص والزمن .
مرة سار إلهٌّ خلال هذه الأيكة
مصحوباً بإلهة حسناء .
كان الأثنان قد تجاوزا عمريهما
حيين خالدين .
تساقط روحاهما مثل الندى
كان مصباحهما شمساً .
علَّقا أقفاصاً صغاراً هنا في الشجرة .
وبعدها واصلا مسيرهما .
الأسطورة تنشد فيهما مديحاً .
كل شئ يفتقدهما .
إن الشوق الذي تنفساه عميقاً في روحيهما
لن تنساه الأنهار أبداً .

* "عجلة الطاحونة" من مجموعة (حشائش نامية) :
عجلة الطاحونة التي تفسخت منذ زمن بعيد
تدور بصحة جيدة في الأحلام .
ترى الذاكرة عجلة طاحونتها
مرتدية أقنعة الماء .
قوارير الأفعى تهتز وتحرك نفسها
بصحة جيدة حول سواقي منحدر ماء الطاحونة .
حين أغتيلت ذاكرتنا في البداية
توقفت طواحينها عن الطحن .
بعدها تبقى الصخور فقط في الذاكرة
أطول عمراً من الغراب الأسود والحوت .
كيف من هذا الماء المتدفق السريع
تعلمت صخور الطاحونة أن تنطق ؟!


* ايفند جونسون 1900 ـ 1976: روائي سويدي ولد لعائلة بورجوازية ، تأثر بالماركسية والفطرية وفرويد . في مؤلفاته نقد شديد للبرجوازية والرأسمالية .


السويد
26 آذار 2003





غونار أكلوف
شاعر يسوح في أعماق الانسان الكونية


أنا أؤمن بالإنسان الوحيد،
أؤمن به الذي يسوح وحيدا،
الذي لا يجري مثل الكلب نحو رائحته ،
الذي لا يفرُّ مثل الذئب من الرائحة البشرية:
في نفس الوقت هو إنسان و لا إنسان.

كيف نبلغ التضامن والمشترك الاجتماعيين ؟
أهجرْ الطريق العالي والسطح:
إن الذي يسكن في الآخرين يسكن فيك أيضاً.
سرْ في الطريق الأسفل وفي الداخل.
إن القاع فيك هو قاع في ألآخرين.
من الصعوبة بمكان أن يعوِّد الانسان نفسه على نفسه.

إن الذي يفعل ذلك سوف لاينخذل أبداً.
إن الذي يفعل ذلك سيصبح دائماً متضامناً جماعياً.
غير العملي هو ذلك الوحيد العملي في ارتقاء .

هذا الذي يبحث في المشترك والتضامن بين الخلق في الكون البشري الذي نحيا فيه ويعمل على استنطاق واستشراف الدواخل البشرية في عمقها وروحها وارهاصاتها الانسانية الجمعية المشتركة روحياً وفلسفياً وبشرياً لتلتقي الأنفس فوق الأحاسيس فترتبط بوشائج العشق والاعتياد على النفس وعلى الآخرين من خلال الفهم والارتباط المشترك لما يجري ويضطرب داخل النفس والروح ، هذا الباحث الرحال في كوامن الذات على بساط الشعر هو الشاعر السويدي العالمي الكبير غونار أكلوف Gunnar Ekelof 1968-1907 :

يعدُّ أكلوف واحداً من أكبر شعراء السويد في القرن العشرين .فقد لعب دوراً مركزياً في الشعر السويدي متأثراً بالفلسفة الاسلامية والشرقية الى جانب الموسيقى والرومانتيكية والحداثة العالمية . كان مثالاً يحتذى لكثير من الأدباء الناشئين الذين تأثروا به وترسموا خطى شعره. نشأ في استوكهولم في بيت بورجوازي كبير لم يعرف السعادة. بعد مراحل دراسته الأولى واصل تعليمه في الدراسات الشرقية في لندن ثم في جامعة أوبسالا في السويد ، حيث تخصص في الثقافتين العربية والفارسية . قام بعدة رحلات إلى باريس وأقام فترة هناك حيث اتصل بالشعر السوريالي وتأثر به و بالحداثة الفرنسية والموسيقى . بسط كل ذلك بصماتها في شعره ، وقد برز هذا التأثير في مجموعته البكر (قديماً على الأرض) 1932 التي خرجت من رحم السوريالية. يقول في قصيدة (الأزهار تنام في النافذة):

الأزهار تنام في النافذة والمصباح ينظر مضيئاً
والنافذة تحدق بطيش في الظلام الخارجي
اللوحات جامدة الإحساس تبرز دواخلها المحفوظة

تنحني الأزهار باتجاه الليل والمصباح يدير النور
في الزاوية تلتف القطة على كرة القطن لتنام معها
على الطباخ يشخر إبريق القهوة بين الحين والحين بسرور ورضا
والأطفال صامتين يلعبون بالكلمات فوق الأرض

المائدة البيضاء المُعدة تنتظر أحداً
لا وقع خطى مطلقاً فوق درجات السلم

قطار يقطع الهدوء من بعيد
لا يعري صمت السر
لكن القدر يحسب دقات الساعة بالعشريات.

أرسى أكلوف لنفسه موقعاً مهماً وفعالاً في عالم الشعر ناحتاً أثراً مميزاً في الأدب والثقافة السويدية، بحيث أن قصائده أمست صورة بارزة ولوحة مهمة في دائرة الشعر، وذلك بجهده ومثابرته وثقافته الواسعة النابعة من الأدب الكلاسيكي إلى المعاصرة والحداثة حتى اعتبرت مجموعته (أغنية السفينة) 1941إحدى كبريات المجاميع الشعرية الملحمية البناء في الشعر السويدي في القرن العشرين . وتحتوي على عدد من القصائد ذات البناء الكلاسيكي مثل قصيدة (كل انسان عالم):

كل انسان عالم، تستوطنه
مخلوقات عمياء في ثورة عارمة
ضد الملك الذي يتحكم فيهم.
في كل روح ألف روح أسيرة،
في كل عالم ألف عالم يختبئ
وهؤلاء العميان، وهذه العوالم الداخلية
حي حقيقية وحية، على الرغم من أنها غير كاملة،
حقيقية مثلما أنا حقيقة. ونحن الملوك
والأمراء بألوف الامكانيات في دواخلنا
نحن انفسنا رعية ، أسرى
في مخلوق ما أكبر، أنا والكائن هذا
نفهم الآخر قليلاً مثلما الرجل الأعلى يفهم
رجله الأعلى . من خلال الموت والحب
حصلت مشاعرنا على ايقاع اللون.

مثل سفينة بخارية كبيرة تمر
بعيداً خارجة ، تحت الأفق ، هناك حيث يتوهج
مساء ساطع. ولا نعرف عنه
قبل أن يجرفنا موج عالٍ الى الشاطئ ،
في البداية موجة، وبعدها موجة ، فعدد ... فكثير
من الامواج التي تضرب وتهدر الى أن يصبح الكل
مثل السابق. ــ مع ذلك فالكل غرباء.

وهكذا تنتابنا أشباح من القلق النادر الغريب
عندما يخبرنا البعض بأن الناس قد سيقوا اسرى،
بأنه من المحتمل تحرير عدد منهم.

ومن قصائد المجموعة ايضاً ذات الأثر الكلاسيكي قصيدة (خذْ واكتبْ) وهي طويلة تمتاز بأثر من اليقين والإيمان وأسلوب من التعبير يذكرنا بقصيدة (الأرض اليباب) لإليوت الذي كان من الشعراء المفضلين عند أكلوف وكذلك صدى من السريالية . وكل ذلك يصوغه الشاعر في مزيج لوني مختلط يضفي على المضمون طابعاً فلسفياً أيضاً نابعاً من دراساته للفلسفة :

1

عن الحياة ، عن الأحياء.
عن الموت ، عن الموتى.
عن الحب والكراهية.
عن الشرق والغرب ،
الاثنان اللذان لن يلتقيا أبداً
ولن يفترقا أبداً،
يحسان فقط بقرب كل منهما ،
يدركان ويتبعان كلاً منهما ،

مثلما يجب على الإنسان
في الحب والكراهية.

إنني أغني عن الشيء الوحيد الذي يجمع ويربط ،
الشيء الوحيد العملي ، لأن الجميع متساوون :
كيف يمتلك الانسان السلطة نادراً
كيف يترفع عنها !
كيف أترفع أنا عنها ، الترفع ــــ
الشيء الوحيد الذي يمنح السلطة والقوة .

2

أنا أنهض من أعماق رمادي
ـــ حياة من الإحساس المفكر
في الطريق إلى أن يلتهمني غليان اللاشكل
أحلق عائداً.
شاهد فحسب هو الإنسان الآتي:
خذْ واكتبْ!

لا توجد أية قوة أخرى غير القوة الداخلية
وهذه تأتي من الخارج ،
من شيء غامض يتحرك هناك في الأعلى ،
يبرق بين السحاب المبهم المضيء ذاتياً ،
يفيض عليك بتيار كهربائي
بحيث تشعر أنك تصارع نفسك !
هي القوة التي تتصارع لا أنت!
ما الذي تصارعه القوة ؟
لا يوجد أي ضعف آخر غير الضعف الذي في الداخل
وهذا يأتي من الخارج
من شيء غامض يتحرك هناك في الأسفل ،
شكل متغير ، غليان أسود ،
مليء بالتهديد ، مغناطيسي جذاب .
إنك تشعر كيف أن الأذرع القوية تتصارع !
هي القوة التي تتصارع ، لا أنت !
ما الذي تصارع القوة ؟
واقعياً ، أنت لست أكثر من ساحة قتال !
رحال من شمس ما أو عاصفة في الوقت نفسه
يبحث عن معطف ،
في الوقت نفسه ! ليس بانتظام وترتيب .
برد قارس في الظل ، حرارة لاهبة في الشمس :
نيسان الروح .

3

تقول: "أنا" ، و "هذا يعنيني أنا"
لكنه يشمل ماذا:
في الحقيقة أنت لا شيء.
كم الحقيقة لاأنائية عارية وبدون شكل!
كان مرعباً أن تبدأ بارتداء لباسك ،
أن تبدأ بتقديم نفسك وتنادي نفسك بـ"أنا"
وتتمسك بقشة.
في الحقيقة أنت لا شيء.
قانون العدالة ، قيمة البشر ، حرية الاختيار ،
كلها صور ملونة بالرعب في صالة الحقيقة الخاوية ،
مرعب هو الاعتراف بشيء بعيداً عن العدل والظلم ، بعيداً عن الافتراض وضده!
في الحقيقة أنت لا شيء.
النفس خارج الخير والشرِّ ساحة قتال للخير والشر،
جبهة الحيوان المتوحش العليا ضد السفلى ـــ
الحقيقة التي ترتاب فيها أحياناً مثل هاوية بمحاذاة الطريق ،
دون أن تجرؤ على أن تعرف ، دون أن ترغب في أن تعرف ،
أنت الذي تحس بالدوار من أصغر هاوية
في الحقيقة أنت لا شيء.
مكان ، لباس ، اسم ـــ
كل ماعدا هذه مجرد أمنية ،
أناك رغبة ، عقوقك شيء ، إحسانك شيء آخر :
كل شيء قد أخذته مقدماً !
إحسان ، لا يوجد أي إحسان ! أنت تحلم بالإحسان
وتتمتم بالقيامة ! والقداسة! ـــ وعليه هكذا هي أمنيتك.
قدر الانسان يقف ثابتاً دون تغيير
مع ذلك فإنك استطعت اللحاق بخطوة واحدة في بنائك المنشود:
أمنية واحدة لحد الآن من كل مافكرت فيه من آلاف وآلاف
أصبحت ممكنة ، ضرورية ، أكيدة وحقيقة نهائية ،
مثلك أنت الذي كنت أمنية منذ البداية،
مثل الاسم السحري الذي منحك والداك
لحمايتك من الظلام واللااسم ،
لتتميز أنت فحسب عن الآلاف المتشابهة أو التي تقريباً متشابهة.
ومع ذلك فأنت في القاع بلااسم مثل الليل والظلام:
في الحقيقة أنت لا شيء.


4

إن اللذة التي لا زلتُ أبحث عنها حتى الآن هي تردد لمنصة السباحة.
الفطنة التي آمنت بها حتىالآن هو جبن القافز .
لكن الذي ينتظر التراضي ، هو ليس براض.
الذي يريد الخلاص مدان سلفاً.
إنكار ؟ كلا ، اليقين الأعمق ،
الذي يمكن أن يُنال أولاً حين لا يؤمن المرء بشيء،
الذي يمكن أن يحدث أولاً حين يعرف المرء:
أنا لا أكذب ، ما في داخلي لا يكذب
والحقيقة هي أنا بعيداً (أنا هو أنا بعيداً).
أنا أتخلى عن نفسي
بشكل مثل آخر فأر في سفينة غارقة ،
حطام محترق حصلت منه الأعماق على نصيبها حين حصل السطح على نصيبه
(أنت موزون بميزان ، جزء منك خفيف ، جزء ثقيل)
ناج من السفينة ينجرف على الشكل المتغير المظلم ،
مجذوباً ومناراً من نجمة الصراع المليئة بالأسرار
غير المرئية أكثر سطوة من الشمس والقمر،
هي فردية وزوجية في الوقت نفسه ، عتمة ونور،
في الوقت نفسه! ليست في الترتيب أو النظام .
الحياة لقاء الأضداد،
الحياة ليست شريكاً لأي منهم.
الحياة ليست ليلاً ولا نهاراً
بل الفجر والغروب.
الحياة ليست شراً ولا خيراً،
إنها تردد الكلام بين الصخور.
الحياة ليست صراع التنين والفارس ،
إنها العذراء.
ولا أحد سيأتيني بجوع التنين وشراسته ،
ولا أحد سيأتيني بشجاعة الفارس النبيل ،
مع ذلك فإن الحكايات تكذب بشكل جميل!
ولا أحد سيأتيني بثقة وأمل العذراء ،
مع أن الصراع مستمر إلى الأبد
والذي سيمدُّ الحياة
ليس التنين
ولا الفارس
وإنما هي العذراء دائماً

5

إن خوف العذراء وهجرتها هو السيف والمخالب.
من هجرتها وخوفها يطعن السيف وتنمو المخالب الحادة .

إنها تموت في كل رمشة عين ، لذلك هي تحيا .
إنها تهاجر في كل رمشة عين ، لذلك هي تبقى .
إنها تستمد القوة ومضاد القوة ، لذلك هي تتمايل .
إنها تتمايل ، لذلك هي متوازنة .
الإكليل ، العباءة والأيدي المتشابكة خاصة بالصراع ، ليست لها ،
مع أن الصراع يخصها.
لها يعيش الصراع:
إنها مثاله.

أيها الهدوء العميق ، المغلَّف بالعاصفة!
أنت شبيه بدمية ، رماها طفل ،
دون رغبة تمرغ نفسك في اللامعنى!
للذي يكتشف الصراع تظهر.
للذي يكتشفك تختفي ،
مع أنه يختفي فيك :
بوابة تنفتح ، طريق يتعرج مختفياً في الأفق.
على الطريق طيف وحيد يبتعد.
نفس الطيف الذي يتجول في طريقه ويختفي ،
ويعود ليختفي ويختفي ثانية
وكذا من جديد يختفي ويختفي :
هلوسة و هذيان.

بالرغم من تأثيرات الحداثة العالمية في شعره إلا أن خصائص ومؤثرات الأدب و الشعر السويدي القديم تجد طريقها لترسم ظلالها وإيقاعاتها في ثنايا العديد من قصائده و خاصة في مجموعة (قصيدة حزينة) 1960 ، حيث نجد أثراً لكبار الادباء أمثال : إيمانوئيل سويدنبورغ 1772- 1688 ،
كارل بلمان 1795-1740 ، أوغست سترندبرغ 1912-1849 ، أديث سودرغران 1923-1892 . نقرأ في قصيدة (حيوان الطوطم) :

في المدينة اليونانية نيابولس
في الحديقة المليئة المليئة بالغبار والنخيل المريضة
فوق البحر الرمادي
المليء بالألوان المخفية وبقايا السفن
متحف العالم الصامت:
ذو الأرجل الثمانية ، مختف
في الزاوية السفلى من المربع
في خلفية اللون ، غير متحرك
بعيون جاحظة ، تتصيد
تيار متساو من فقاعات ترتفع
وستة ... سبعة من الأخطبوطات ترقص في الأعلى
بجلود السباحة تتلاطم بعيداً في الصفحات المتلألئة
تحت الضوء فوق السطح:
طيور البحر السفلية ، فراشات البحر السفلية
بأذرع معلقة بالمحار
راقصة إلى الأمام ، الكل في نفس الاتجاه
مرتفعة ، منخفضة في مجاميع حول بعضها
بعيون نصف مغلقة مشبعة بالاستمتاع
اخطبوطات بحوافي جلد السباحة المرفرفة
بثبات تتبادل مكانها مع شبيهاتها
أعلى ، أخفض . ــــ أنا أعرف ماذا يلعبون
إنهم يلعبون التيار ، تيار أعماق البحر ، تيار مضاد صحي
الذي يمسكهم مرفرفين على الموضع
فوق العمق المضلل .

قام الشاعر غونار أكلوف برحلة الى الشرق عام 1965 وقد تركت اثراً كبيراً وبصمة متميزة في شعره من خلال انبهاره بما رأى وعاش هناك من عوالم سبق له أن اطلع عليها أثناء دراساته الشرقية ، لكنه بالمعاينة تعلق بها وتأثر عميقاً ليتفاعل بالأجواء والرؤى الشرقية وخاصة الصوفية لدرجة أنها أمدته بقوة من الخلق الشعري ليكتب قصائد فيها بصمات من المدارك والأشواق والوجديات الشخصية النابعة من تلك التأثيرات والأجواء والمواجد الصوفية والعشق الروحي ليجسد كل ذلك في ثلاث مجموعات شعرية هي :(ديوان حول أمير أمجيان) 1965- (حكاية عن فاطمة) 1966، (الدليل إلى باطن الأرض) 1967 لتصبح هذه المرحلة أبرز وأهم المراحل في مسيرته الشعرية الطويلة . ومن مجموعته (ديوان أمير أمجيان) نقرأ من قصيدة (أمير أمجيان) مثالاً على هذه المرحلة من شعره المتميزة بالأجواء والروح الشرقية بحكاياتها الملهمة للشاعر:

يا امير أمجيان ،
ايها الأمير الكردي
ياأسيراً في فلاخرنه
يمتلك نارك هذا الخطاب:
العذراء التي لا يمتلكها أحد
لا تملك شيئاً
أوحت اليَ نفسي
بأنني يجب أن اقيم ثورة ضدهم !
حتى لو أن رأسي بسرعة
تعلق فوق خشبة في البوابة
فإن فكري مقيم عندك
عذراء النار واللاشيء.

* ومن المجموعة نفسها نقرأ في قصيدة (قلبي يتضور جوعاً) عن الجوع الروحي في فؤاد الانسان في تطلعه نحو العشق والمعنى الداخلي الذي يتوق اليه معانياً من اجله الحرمان والوجد والصبابة :

قلبي طفل متضور جوعاً
بين اضلاعي
طفل في قفص، بلا شك
تكفيني كسرة من الخبز
بين القضبان

لم أمد يدي يوماً
لم آلقَ شيئاً
من الحب
إني أتناول جوعي بعدك
إني أطعم جوعي بالجوع
هل هذا هو معناك
هل ستنتهي هكذا غايتي .

ومن مجموعة (حكاية عن فاطمة) قصيدة (الحكاية لانهائية):

الحكاية لا نهائية:
إنها تبدأ حيث تنتهي
الانسان أسير في نفس الدائرة
رجل ، امرأة
خيِّر ، شرير
أم . أب.
ابنة . ابن .
طائر بعينين يقظتين
يرفرف من غصن الى غصن
ويتبعك ـــــ
من هذا الطائر ؟
إنه روحك
ليست حياة الطائر قاسية جداً :
إنهم يحدقون فيك ، إنهم يخشون عليك .

إلى جانب الشعر عمل أكلوف ناقداً أدبياً وكاتب مقالات متميز مثله شاعراً فأصدر مجموعة من الكتب تجمع هذه المقالات . وكذلك ترجم وبالدرجة الأولى عن الفرنسية و بخاصة شعر بودلير وما بعده في كتابه (مئة عام من الشعر الفرنسي الحديث) 1934 ، وكذلك كتاب (في السريالية الفرنسية) 1933. ويعد غونار أكلوف أحد أهم الشعراء على مدى تاريخ الأدب السويدي .




بنغت آندربرغ
الراديكالي المتشائم

* لقاء مع الشاعر والروائي السويدي )بنغت آندربرغ( Bengt Anderberg أجراه )أوله هسلر( في الملحق الثقافي لصحيفة )داغنس نيهيتر( Dagens Nyheter السويدية الواسعة الانتشار بتاريخ 1999.11.02 وذلك بمناسبة بلوغه سن الثمانين ، فقد ولد عام 1920 .

ولد بنغت آندربرغ في مدينة غونتبرغ برز أول مرة مع مجموعته القصصية الأولى )مساء عن الربيع( En kvنll om vهren عام 1945 ثم كتب بعد ذلك شعراً ومسرحيات وروايات ومجموعة نثرية هي عبارة عن بيوغرافيا ذاتية ، وكتب للأطفال أيضاً ، كما ترجم بريخت وغوته . اثارت روايته )قايين( Kain اهتماماً كبيراًمن خلال واقعيتها ، صدرت عام 1948 .

نص اللقاء

الطريق إلى بنغت آندربرغ في بورنهولم يمتد بانشراح عالياً إلى القمة ثم ينحدر بشكل حاد ومثير نحو البحر الأسود في أطراف غودهيم. انحراف شديد إلى اليمين بمحاذاة عدد من الأبقار المجترة 180 درجة حول شجيرة صنوبر. ليس بمقدور المرء أن يفهم كيف تمكن إنسان ما أن يصل إلى هناك، وأكثر دهشة منه : كيف يمكن له أن يعود ثانية من حيث أتى.
إنه بالضبط مثلما ورد في رواية آندربرغ الأخيرة )آمورينا( Amorina التي صدرت في أيلول 1999 وقوبلت بحرارة من النقاد . تلاحظ في الرواية الكثير من أساليب القصة تنمو بحرية وإبداع. تسيطر عليها نزوة واحدة فقط لها علاقة بمسارات الرواية الأخرى:

ــ ليست لي أية سيطرة على ما أكتب. يعترف بنغت آندربرغ: أعتقد ذلك. إنها تبدأ بجملة جيدة وبعدها فلتذهب إلى الجحيم. يمكنها مواصلة طريقها إلى أي مكان كان. كنت أهدف في هذه الرواية أن تموت كل الشخصيات عدا الراوي ، لكنه كان من الصعب انتزاع الحياة من الفتاة الشابة في النهاية . كنت أحبها فعلاً.

ــ إنه حب غير سعيد يتذكره الرجل . لماذا؟ لقد فكرت ملياً: جلست مرة منذ زمن بعيد بقرب فتاة في متنزه فاسا في مدينة غوتنبرغ . قالت بأن لديها رفقة. هكذا كان يقال في ذلك الزمن )الآن تقول الفتاة أن لديها صديقاً ـ المترجم( أتذكر أني قلت أن الأزعج لو تمكنا في وقت لاحق أن نضحك معاً من هذا . وقد حدث فعلاً ذلك . لكنه الحزن هو الذي يخيم ، وبعدها يكتئب المرء.

)آمورينا( هي آندربرغ فيما بعد: عرض لحشد من الأكاذيب من تاريخ سلالة لما يقرب من القرن ، من بدايته حتى أواسط الثلاثينات. إنها ارتداد لتواريخ حب لعشاق مرهفي الحس ومبالغة مثيرة للسخرية وأساليب مصممة من الأدب الجميل: فهي نابعة من مجادلات بين الشيطان والبابا حول الإخصاب الطاهر النقي إلى صهيل المضاجعة في مروج هيسينغنز. تطفو الكآبة من تحت سطح الكتاب. لكن السطح يهدر وينبض بالحياة والرغبة والموت.

يبلغ آندبرغ الثمانين . إنه لشيء مدهش، حين يطلق ضحكته الساخرة يبدو في سن العاشرة أو الثانية عشرة على أكثر تقدير. إننا نجلس إلى مكتبه في الطابق الأعلى من المنزل الكائن في أوسترماريا: بيته الخاص في شهرة مرتفعات وذرنج حيث يسكن مع زوجته آستريد فنانة السيراميك، وآلبين الديك الذي ينفش ريشه بهذه المناسبة. وبين الحين والحين يقف بنغت ليجلب مجلداً من مكتبته البابلية حول الآلات الموسيقية في العصر الوسيط وعلم الأحياء ذات الخلايا وتوره سفنتون1 . إنني أشيد باللغة الموسيقية في )آمورينا(.

- أنا اصم تماماً، فانا أفتقد إلى الأذن الموسيقية. مرة منذ زمن بعيد جداً فهمت كيف يمكن الإحساس بالموسيقى. كنت جالساً إلى المذياع أغني مع نيكولاي جيدا 2 وهو ينشد"أغنية الفولغا" من تأليف فرانس ليهر3 )لديك الكثير من الملائكة عند دييغ( وعند لفظة دييغ (diig) التقيت بنفس النغمة مع جيدا بالضبط. لقد ارتعش جسدي كله، وانتفضت كل شعرة فيه. وكان ذلك المرة الوحيدة.
لنعدْ إلى البدايات: بدأ آندربرغ النشر في أواسط الأربعينات. إنه شاعر متأثر بالطبيعة كثيراً. والواقع أن كل ما في رأسه يدور بين )قصيدة غنائية لصحن اللبن( و )كوسمولوجي(4 . بعدئذ بدأت القصص والتمثيليات والتراجم وكتب الأطفال وكتب السيرة الذاتية. لكن الجميع يربط اسمه.بالرواية الجنسية الصريحة )قايين( 1948 والمجموعة القصصية )حب 1-14 ( 1-14 Kنrlek :

ــ لست خجلاً من ذلك ، بالعكس ، إنها لمتعة أن تميط اللثام عن ركام الجنس. قبل قايين كان هناك أبه لينده "Ebbe Linde"5 وفيلهلم موبرغ6 ورئيس أبرشية ما وهم الذين استخدموا الألفاظ البذيئة في التعبير ، من الناحية الأخرى أنا خجل من النصوص المقدسة التي وردت في )الطيور( و )كريستوفر(7.
قارن النقاد الواقعية السحرية في "آمورينا" مع واقعية رابيلي8. لكنني أتساءل ألا توجد نماذج حديثة؟ ربما غارسيا ماركيز أو سلمان رشدي؟ كلا ، إن بنغت يرفض ذلك ، من الناحية الأخرى بورخيس9 وبيراتن 10. عندما يرى المرء نفسه بيراتين الذي يعود إلى حقبة أقدم ، فإن ذلك مدهش. والشيء الأسوأ هو الأختلاق الذي يوحدهم:

ــ إنها تراجيديا أن تقرأ عن السنة الأخيرة من حياة بيراتين مع الكحول. كان يبدأ يومه بالخمر، فأنشد اروع أشعاره. كان الأطفال يتجمعون حول سريره. أما أنا فقد كنت مدمناً لسنوات طويلة ، لكني شفيت ألآن تماماً.
ــ حوالي سن الثامنة أحسست أني سأكون مؤلفاً. كنت قد قرأت سنويلسكي11 ورونبرغ12 وفرودنغ13 . حلمت أن أكون كبيراً مثلهم. هناك طرفة حقيقية. حدث ذلك فوق سكة الترام في غوتنبرغ سنة 1931 حيث كنت في طريقي من عملية جراحية للزائدة الدودية ، جلست وحقت في الركاب. لن تكون مشهوراً ، كلمت نفسي ، ولن تكون مشهوراً، لستَ أنتَ. لكن أنا، انا سأكون مشهوراً.
وهكذا في حدود الخامسة عشرة بدأ صبي هيسينغز يحلم أن يكتب ملحمة محلية: وهي التي أصبحت اليوم "آمورينا".

يتحول الكذب نفسه إلى حقيقة ، حيث كان جد بنغت آندربرغ أستاذاً في ذلك:"كان يكذب إلى درجة يصدق فيها نفسه. من هناك أكتسبتُ ذلك ، بالرغم من أنني أقاومه. الكذب بغيض ومؤلم جسدياً." يضاف إلى ذلك عمر الكاتب الحالي حيث يعود الإنسان بهدوء وراحة إلى عهد الطفولة. إضافة إلى آلمكفيست أيضاً الذي له الصدارة في "آمورينا". في كتاب آندنبرغ يظهر هذا الشخص مرابياً ذا غرة شعثاء يختلس المال من الناس في المانيا. إنه بلا ضمير، لكنه مع ذلك يتصرف بطريقة تجعل المرء يعتقد بأنه أحد اقاربه.

ـــ كان آلمكفيست إنساناً بدون أخلاق تماماً. ربما لذلك نحن أقرباء. بالتأكيد كل الغرائز الفظة الوحشية موجودة في أعماق فؤادي. أريد السيطرة عليها. لقد كنت مقتنعاً طوال الوقت بأن آلمكفيست مذنب. وكل أولئك الذين لا يزالون مقتنعين ببراءته لم يفهموا بعد بأنهم يعزفون في قربة مقطوعة.

أتذكر أني رأيت ملصقاً في باخرة بورنهولم ورد فيه )لا تغروا النفوس الضعيفة( تحذيراً للنشالين. في "آمورينا" كل النفوس إنسانية. يتعرضون دائماً للإغراء فيتعرضون لحوادث ويموتون. إن بنغت يتفق مع الجدة في الكتاب ، فهو يؤمن بخطيئة الإرث. إن العجز الإنساني يخلق نبرة الكتاب التراجيدية الأساسية. مع ذلك فإن الظروف المحيطة تلعب دورها في ذلك أيضاً. تصف "آمورينا" زمناً كانت الفروق الطبقية والمظالم فيه ترد بوضوح في المصطلحات الماركسية. كيف يمكن النظر إلى الفرق اليوم بين هسينغسن والطريق المشجر الموصل إلى قصر الملك؟ أيوجد هذا حقاً؟

ــ حالياً لا يوجد ذلك بالفعل. لكننا في طريقنا إليه. إني على قناعة تامة بذلك. فالرأسمالية المتوحشة تتمدد الآن بلا حدود. وهي تتطلب طبقة جديدة من العبيد. فالذي يجري من تكييف لأوقات العمل وتحطيم الحركة النقابية ..... نحن في طريقنا بوضوح. وأين سيذهب غير المتعلمين؟ لا أحد بحاجة اليهم بأي شكل ، سيسمح لهم طبعاً أن يجمعوا النفايات من الحدائق. وأما المدمنون ... لا ، حقاً لا أدري. إني أرى المستقبل مظلماً.
يقول أندنبرغ في إحدى قصائده سنة 1981:
الأعماق والسماوات
تثير اهتمامي نظرياً فحسب
لقد عملت فوق السطح بكل طاقتي

لم يمنعه ذلك من العمل للجنة خبراء الإنجيل. كيف ينظر المرء اليوم إلى مثل هذا المفكر العقلاني وهو مهتم بهذا الشكل بالمعتقدات؟
ــ بالتأكيد لا يبدو هذا جميلاً. إن العلمانيين العقلانيين لا يقبلون مثل هذه المهمة، فهي بعيدة عن قناعاتهم. يشمل هذا نفسه المعارف الزائفة. لقد اعترض كارل ساغان14 على رجل خيالي مثل فيلكوفسكي وتناوله بصرامة. ليس هذا مألوفاً الآن. لا أن يتناول المرء الدين بتزمت أو يناهضه ، ولا أن يتناول العلم بتزمت كذلك . أما أنا فإني أداهن حقاً. نحن بحاجة اليوم إلى هدنيوس15 آخر. هذا شيء شبيه بما يرد في أغنية )ابناء العمل(:

العبودية مع التوقيع
صلاة وتضحية
نبتعد عن الضعف في الظلام والحاجة

تلك حقيقة قطعاً. الدين يعمُّ الأرض في كل مكان. أليس للمسيحية دور أخلاقي ما في التطور الحاصل؟ لا. يجيب بنغت آندربرغ:"كان ذلك موجوداً قبل المسيحية بزمن بعيد ، أن لا يقتل أحدنا الآخر. تأملْ في قوانين حمورابي كمثل. ولاحظْ جيداً ، لقد سنها إنسان من الطبقة العليا."

إن الحصيلة النهائية من آمورينا سوداوية. فالحب يكافح ضد الشر والنظرة الضيقة والمظالم دون جدوى. بنغت آندربرغ راديكالي متشائم. على جدار المطبخ تخطيطات بقلم الرصاص خطها طفل "بنغت مع فرشاة"، يبدو كأنه رسم الشيطان على الجدار. لديه في داخله عمر لمعلم حكمة حقيقي. لقد عايش وجرَّب أزمات نفسية قاسية. إنه دائرة معارف بشعر أبيض مع سبع عشرة دجاجة في حديقته. لذا نتجرأ أن نسأل : ما معنى كل هذا؟

ــ وماذا يمكن أن يكون هذا؟ كلا ، إن الحياة على الأرض صدفة وبلا معنى خاص. الخطأ الأول كان نشأة الحياة ، والخطأ الثاني كان اتحاد المخلوقات ذات الخلية الواحدة لتتكون الكائنات الحية مثلك ومثلي. الأميبيا ذات الخلية الواحدة لا تمرض ولا تموت. لقد قرأت تواً لوليم كلارك )الجنس وأصل الموت(. إنه يرمي إلى أن الموت دخل الحياة مع الحب. برنامج الموت مبرمج في الخلية ذاتها.

ماذا عن الأطفال؟ إني أتساءل ، والفن والطبيعة والموسيقى؟
ــ نعم كل هذه مجرد سلوان وتخفيف للحظات قصيرة. لكن مع ذلك فالأساس مظلم. إن الحياة بكامل عظمتها لا تستحق أن تعاش. كان هناك محلل نفساني يدعى غرودك وهو منسي اليوم يرى بأن الطفل حين يخرج من رحم أمه يصاب بصدمة ، لأن اول ما يسمعه هو صراخ أمه ، وأول ما تقع عليه عيناه هو دم أمه. يترسخ هذا فوراً في نفسه وإلى الأبد. فيرى الحياة كلها عقاباً لظنه بأنه السبب في ألم أمه. يرى غرودك بأن كل الأمراش إرادية ، وبأنها عقاب يتلوى به الانسان. وكذلك حوادث سكك الحديد إرادية.

في الحديقة خارج النافذة يرتفع القمر فوق الزهور الشاحبة التي زرعت في ذكرى الصديق ستيغ خودين. تنسحب طيور النورس مع لون شعر بنغت آندربرغ الأبيض المزرق ببطء في رحلتها المسائية خارجاً نحو كريستيانمو وغريسهولم.

لكن ! يقول بنغت: عند منخفض جوي يميلون فطرياً باتجاه الأرض لكي يقتلوا الديدان. تلك القسوة تحت السطح طول الوقت. إن صقراً حوَّاماً يقف منتصباً في ريح الشمال العاصفة ، وكأنه يتخبط بأرجله. كان يمكن أن يكون هذا هو سويدنبرغ الطائر على انخفاض منطلقاً من داخل "آمورينا".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هوامش : الهوامش هذه من إضافاتي ـ المترجم ـ .

.1 توره سفنتون : عنوان قصص للأطفال سميت باسم البطل الرئيس فيها . وهو يظهر بصورة مخبر سري.

.2 نيكولاي جيدا: مغني أوبرا سويدي من أصل روسي ومن مواليد 1925. درس في المدرسةالعليا للأوبرا في استوكهولم. غنى على مسارح الأوبرا الكبرى في العالم.

.3 فرانز ليهر 1948-1870: مؤلف موسيقي هنغاري. بدأ نشاطه في فيينا منذ عام 1899. بدأت شهرته مع أوبرا )الأرملة الطروب( عام 1905

.4 قصيدتان من مجموعته)ضوء الليل( 1985 Nattljus. توجد لهما ترجمة ملحقة.

.5أبه لينده Ebbe Linde 1991-1897 : له ترجمة سابقة في الكتاب .

.6 فيلهلم موبرغ 1973-1898 Vilhelm Mober : روائي سويدي من المدرسة الواقعية. عمل في صباه في مصنع للزجاج وشركة للغابات والتربة. ثم عمل في الصحافة. بدأ بكتابة القصة القصيرة. نال الشهرة مع اصدار رواية )راسكنس( 1927. لكنه أصاب نجاحه الكبير عام 1941 حين
اصدر روايته المعادية للنازية )امتطاء الفرس الليلة(. أصدر رباعية حول هجرة السويديين إلى الولايات المتحدة الأمريكية خلال خمسينات القرن التاسع عشر. تحولت معظم رواياته إلى مسرحيات وأفلام سينمائية.

.7 الطيور : مجموعة شعرية 1962. و "كريستوفر" قصة 1945

.8رابيليه 1553-1494 Francois rabelais: كاتب فرنسي درس اللاهوت والطبيعيات والانسانيات. عمل طبيباً. وصف حياة الناس اليومية . ويعدُّ من أبرز ممثلي عصر النهضة.

.9 بورخيس 1986-1899: الشاعر الأرجنتيني المعروف.

.10 بيراتن 1972-1895 Piraten: روائي سويدي عرف بهذا الأسم واسمه الحقيقي هو )فريتيوف نيلسون(. درس القانون وعمل في المحاماة فترة من الزمن. أول ما عرف بروايته )بومبي بت وأنا( 1933. في أعماله أثر من تقاليد الحكايات الشعبية والمزاج الهزلي للكاتب الأمريكي مارك توين.

.11 سنويلسكي 1903-1841 Carl Snoilsky: شاعر سويدي رومانسي .

.12 رونبرغ 1877-1804 Runeberg: هو يوهان لودفيك رونبرغ ، شاعر سويدي . كان متزوجاً من الكاتبة القصصية فردريكا رونبرغ. وقد اصيب بمرض عضال أقعده الفراش حتى وفاته . كانت زوجته ترعاه . تحول منزلهما إلى متحف.

.13 فرودنغ 1911-1860 Frِding: غوستاف فرودنغ ، شاعر سويدي من أحب الشعراء المبدعين ، للغته البسيطة الأليفة ذات الإيقاع الموسيقي. كان أبوه ضابطاً ، وكانت أمه من المهتمين بالشعر لكنها مريضة عقلياً. عانى الشاعر مشاكل نفسية حادة من هلوسة وقلق وإدمان ، وقد أضاع ثروة ورثها بين الحانات والمقاصف. فأقام متنقلاً بين بيوت الأقرباء. عولج في مستشفى للأعصاب بين عامي 1905-1898 . وقد عمل في صحيفة راديكالية حيث نشر معظم قصائده.

.14 كارل ساغان 1996-1934 Carl Sagan: عالم فلك أمريكي ، له مؤلفات علمية مشهورة.

.15 هدنيوس 1982-1908 Hedinius : فيلسوف سويدي ، عمل استاذاً في جامعة أوبسالا 1973-1947 Uppsala كان متأثراً بمور وبرتراند راسل ، وكان له دور مركزي في المناظرات الثقافية السويدية . في كتابه )الإيمان والمعرفة( الصادر عام 1949 انتقد علم اللاهوت السويدي الذي يرى أن العقيدة المسيحية تتناقض مع العقلانية .

قصيدتان لبنغت آندربري

أغنية إلى صحن اللبن

يعيد رونبرغ النظر في المطبخ ليتأكد بأن كل شيء مضبوط ،
صحون اللبن مليئة حتى حافاتها بحليب الجرسيه ،
تمَّ غسل الصحون ، خزانة المؤن خالية من الذباب .... إلخ.
هناك في الأعلى يرتقي ثانية قاعدته في بورغو.
لكن هنا في الأسفل عندنا في ليلة الصيف الدافئة المتأخرة
تجري البكتريا صامتة خلال الحليب بأرجلها الضئيلة
فيتصلب في أثرها مع الحموضة النابضة.
الصباح قادم ، يوم في أغسطس ينطفئ في سحاب الضباب الذهبي
يدحرج عربة الحمولة ، والسنابل تضغط على القش.
ساكنة مليئة بقوة متراخية تفرمل في المساء.
تطوف أشباح حقيقية ببطء من نهاية إلى نهاية .
صمت بارد محلِّق يملأ صالات غابة الكتاب ،
تنحدر الشمس هائلة خلف البيوت السود،
تتزين السماء الحمراء الصافية بريش وردي.
شرقاً تنعكس النجمة الأولى في عتمة البحيرة الشرقية.
في ليلة تشرع شبابيكها القوطية باتجاه الفضاء ،
تنحني السماء خرساء تحت وطأة النجوم المتلألئة ،
والأطلسي العتيق يتراءى كظلمة في الظلام.
الصباح ثانية والشمس فوق خدود التفاح البضة ،
تهفهف الستائر الفاتحة في تيار الريح الحاد، آلاف الأبواب تدوي ،
رائحة القهوة ، ذلك الضجيج المنطلق من أواني الفطور الخزفية ،
آن الأوان لإنزال الملعقة في صحن اللبن
خلال طبقة القشدة الضخمة المتألقة المشبعة.
وهناك في الأسفل يُقطع اللبن الصامت ذو الظل الأزرق.
تلتقي نظرتك الحالمة نصف اليقظة بذلك فتغمض عينيك.
تحسُّ بذلك الطعم الصحي الحاد النابض مثل ذكرى.
أوه ! حلمك الطفولي بصورة أخرى من طفولتك !



كوسمولوجي

لا شيء يدحض العرض القديم المعتاد لكروية الأرض افضل من غروب الشمس في نوفمبر. تتقوس السماء بلون برتقالي ناري وكريستال أخضر ثلجي فوق الجزء الجنوبي الغربي من العالم. المسافة إلى قبة السماء نفسها واسعة بلا حدود ، يرى الإنسان ذلك قائماً ولوحة الأرض تحدها الغابات والجبال والوديان الطويلة الغارقة في الدخان. بلا خفقة جناح ينسحب سرب من الطيور السود باتجاه وهج المساء غير بالغة زمان الرحيل. في مكان ما تحت سطح الأرض يحوم القمر الآن في طريقه إلى لقاء الشمس ، وهو ينير شاحباً فوق جذور الجبال الشامخة ، وفي أعماق المحيط المصفحة .




أوستن خوستراند
شاعر اليقين والمؤثرات الصوفية والتضامن الجماعي

ولد الشاعر السويدي أوستن خوستراند ضsten Sjِstrand عام 1925 وبدأ حياته الشعرية عام 1949 مع مجموعته الشعرية الأولى "أونيو" Unio التي امتازت بالتركيز الشعري العالي ، والغوص العميق في مكونات الشعر السويدي في أربعينات القرن الماضي المتأثر بإفرازات ما بعد الحرب العالمية الثانية السوداوية من سيطرة احاسيس القلق والخوف والاكتئاب والتعبير بأجواء من عالم الرمزية الأورفيوسية والتي وجدت بعض ملامحها طريقها إلى شعر خوستراند :

قبل أن يتلاشي الغسق
في غيوم الليل المجهولة
تسمع أنت في لحظة مشتعلة
حياتك
مثل صدى يرجع
من أعماق قبو زجاج فضاء الليل الأزرق

لكن هذه السوداوية والتشاؤمية الأورفيوسية سرعان ما اتجه أوستن خوستراند في الضد منها في خمسينات القرن الماضي باتجاه شعر بعيد عن الخوف من العقد والتعقيدات من خلال أسلوب يبقى للغة فضاءاً ذا إيقاع غنائي مؤثر . ويعبر خوستراند عن ذلك بقوله "هل يمكن للشعر مثل الموسيقى بطريقة أعمق وأكثر عمومية ، وبوسائله الخاصة ، أن يجتاز الحواجز التي تمثلها الكلمات واللغة ؟ أعتقد ذلك ؟" . لكننا نلمح هذا الابتعاد عن الأورفيوسية حتى في بعض قصائد مجموعته الأولى "أونيو" بالرغم من استخدامه لصورها ومؤثراتها الوصفية والتعبيرية مثل قصيدته "في الدوامة" I virveln :

في الدوامة
في أعماق مياه النور
رأيت يقين الكون يُدمَّر
من تماثيل الغسق المائية

في الدوامة
في أعماق مياه النور
رأيت شراع بزوغ النهار
يُشكَّل من الحياة
رأيت الرياح
رأيت الرياح
ساكنة في الفضاء
رأيت النجوم
الشاحبة
تتحول إلى اغصان
تتحول إلى غابات من الخضرة
في الدوامة
في أعماق مياه النور
رأيت أنا الوضوح الواضح
رأيت أنا

هذا الكشف والإيمان اليقيني بالنور المنبعث من خلال الظلام والغابة السوداء التي استحالت خضرة ما هو إلا إنكشاف على التفاؤل والنور الذي يتوحد في نفس الشاعر ليكون الوضوح الواضح الموجود . وهو نابع عن تأثيرات الصوفية التي تلون قصائد المجموعة والرؤى المنتشرة في ثناياها. يقول النقاد أنها من تأثيرات قراءاته لهرقليطس ومؤثرات شاعره الأهم والمثال المفضل السويدي "غونار أكلوف" . هذا دون الإشارة إلى تأثيرات الصوفية الاسلامية التي نجدها في تعابيره وصوره بشكل جلي . وهذا التأثر يرجع أيضاً في نظر النقاد إلى تعبير عن تلوين لجذور نظرة دينية كاثوليكية تشهد على أحاسيس داخلية بالوحدة والجهاد خلف اليقين والتضامن الجماعي. وهو ما نعيشه بصدق وجلاء في أجواء قصيدته الموسومة )في المعارف المفتوحة والمخفية للعشق( ممزوجاً بالوجديات والتهويمات الصوفية المغمسة في روح العشق الداخلي والبحث اللامتناهي عن السكينة والذوبان في المد والجزر مع إيقاع البحث عن اليقين المفقود والصفاء المنفي في دواخل العاشقين الواقعين بين أسر الأحاسيس المنطلقة في أجواء العموم الضاغطة وبين شعاب الرؤى في فضاءات الروح الهائمة في شعاع الأنوار العليا . يقول خوستراند في قصيدته المشار إليها وبأجواء تذكرنا بكبار متصوفتنا من الشعراء ، وكذا عنوانها المتأثر بعناوينهم ، وهي من مجموعته ) تحويل التيار( الصادرة عام 1977 :

إنني أحمل صليبك
حول جيدي.
أنا لا أعرف ماذا يعني هذا
عن المسيحية
والمسيح.
لكنني أشعر بجلدك
مقابل جلدي،
كيانك ،
حيث أقل حركة في الأعماق
تشقُّ
سطح الماء الصافي .

أيها المنحدر ،
أو المرتقى
للجلسات في الأعماق !

أنت موجود هناك.
أنت موجود هناك !
أيها الماء الحي ،
أيها النبع الأنقى ،
هناك حيث أحتسي العزيمة
لكي أكون موجوداً

بينما تحت الأجنحة المحطمة للطائرة
تحتي
المياه السود تنطلق مهسهسة
مع قمم الأمواج القريبة اللامبالية
وشوارع وممرات للتجوال
تنحرف مبتعدة
بأسماء كانت قبل لحظة حميمية جداً:
لا نغلينيه ،
كاتايانوكا ـ
و ــ مثلما تقريباً وبلغة غريبة ــ
جسر رصيف السفن .....

في عصرنا
كل البحار تحولت إلى ما قبل البحار .
لأول مرة في التاريخ
أصبحت الأرض كروية .
انا أحيا
مع أفق العيون هذه ....

البشر قد تحملوا
نهضوا في وجه جيوش الظلم ،
تحدوا برودة الزنازين ،
والشمس المعدنية الشعاع ،
تحملوا الكدَّ والتعب اليومي ،
هذه العجلة الدوارة المضللة ،
تحملوا القشعريرة في الفراش الوحيد:

أحدهم قد عرف من هم .

ومن خلال دهاليز جديدة ضيقة
تسرع أنت
بآلام في صدرك
من شروط المؤهلات ،
شروط المنافسة ،
من الحق والتوق
إلى حياة خاصة :
إلى جدارة أنه بدون عملة مزورة
واعتماد زائف
ذاتياً يتم اختيار البعد والقرب ،
جذر النبتة ، أساس الجبل وفي البداية : الحب !

أنا أحمل صليبك حول جيدي.
لكنه صليب غير مرئي .
غير مرئي مثل السلسلة
وعلامة الصليب على الجبين ــ

بأظافرك وفمك وأسنانك
قد لقَّحتني
ضد الصمت الداخلي .

وكل يوم
يومياتنا
هي معجزة .

إن هذا الوجد الصوفي المنحدر من نبع إيماني ديني واستلهام من الموسيقى والعلوم الطبيعية وأثرها فيه قد جعل شعر أوستن خوستراند ذا إيقاع عال نقي جدي نلقى فيه توجهاً في نقد المادية التي استحكمت بالحياة المعاصرة لتبعدها عن الايمان والاستلهام الروحي الصافي للإنسان ، وبذا يضيف الشاعر بعداً إنسانياً على مضامين شعره المتأثر في جذره بالتوجهات اليقينية الدينية . مثلما نراه يتجه في بعض قصائده هذا المنحى النقدي للمادية التي تسحق روح الإنسان لتحيله الى ما يشبه المعدن الذي تحركه أيد أخرى مستغلة ، وبهذا المنحى نجد شاعرنا يصل إلى لمس آلام ومعاناة البشر الذين يقعون أسرى الظلم والظلام فيعبر عن جراحهم وحياتهم التعيسة ،ليجد نفسه في صف الشعوب المسحوقة يستلهم منها الألم البشري ، هاهو يصف هذه الحياة في قصيدته )من شمال أفريقيا( Frهn Nordafrika من مجموعته )ظلام غريب ضياء غريب( Frنmmande mِrker frنmmande ljus الصادرة عام 1955 :

قطعة معدنية.
ضياء معدني.
ضياء عمودي مشتعل
فوق أحلام الرمال الملتهبة
هناك كل حشرة تنكمش على نفسها
تنكمش على رغبتها العمياء ، على ثمار جافة
مهسهسة مثل المطر
هناك أفكار وقرارات تتهاوى مثل طين محروق
من الجدران والسقوف.
جروح الأطفال المفتوحة
والذباب في العيون
وكل حشرة تنكمش على نفسها
مثل النفور ينهض من داخل بالوعة الرغبة
الى جدران الغرفة ، إلى بصاق ملتهب وصرخة ،
إلى نور الليل القطبي ، إلى كل ذرة رمل ، كل شظية من الصخر
الذي يعكس هذا الفراغ المنطوي
حيث السيقان تتصلب مثل قطعة معدنية ،
تسقط مثل النار.
نور القمر المعدني
هناك رياح الصمت تجبر اللغات أن تتكلم بطبول جافة
وكومة من حلوق متقلصة
والنظرة تلتصق بالحياة التي يمكن أن تعاش
بجوار حياة نملة تنطلق مارة
في الغبار.
أوه حياة النملة وسط علب المعلبات والكلاب !
من أنت حتى لا تفتش عن جسدك
وخبزك اليومي
من أنت حتى لا تنهض من صوت المزمار
إلى مصباح الأرض الوحيد
والمشاركة الليلية لأخوتك .

هذا الشاعر الذي غمس كلماته في روح النور والعشق ومحيط النفس والألم البشري ونقاء الحرف والايقاع المنبعث عن أثر لحب الموسيقي أصبح أحد كبار شعراء السويد وأهمهم ، ليأخذ مقعده عضواً في الأكاديمية السويدية عام 1975 وليتبوأ رئاسة تحرير مجلتها )آرتس( Arets بين عامي 1987-1975 ، وينال جائزة الأدب الكبرى عام 1978. كان أوستن خوستراند متزوجاً من الشاعرة والناقدة السويدية )ألا هيلباك( Ella Hillbak 1979-1915 . أصدر خوستراند مجاميع شعرية ومجاميع من المقالات النقدية ، فقد كتب النقد الأدبي إضافة الى نصوص للأوبرا وخطباً ونصوصاً درامية ، كما ترجم الشعر ونشر أنطولوجيات أدبية .

يقول في قصيدة )مدرسة اللغات الشرقية( :

إصنعْ رقعة من الجلد المسلوخ
جلدك!
بنفس الطريقة : القلم من عظامك
الحبرمن دمك.
اكتبْ هكذا الكلمة ، الكلمة المستعارة ،
واحدة فواحدة
خلف قصيدة السيد!
كنْ متأكداً:
تأريخ الشخصية يضيء مع غيابه في الطبشورة .

"ما الذي ينتفع الإنسان به نوراً إذن؟"
الشمس. القمر. النار. الكلام.
الصمت عند الذي يمتلك عيوناً.
ايتها البلاد المنفية !
مثلك أعلم نفسي الكلام من جديد.



توماس ترانسترومر
شاعر الأرخبيل السويدي


الشاعر السويدي توماس ترانسترومر Tomas Tranströmer أحد أبرز شعراء الحداثة في السويد . ولد عام 1931 في العاصمة استوكهولم . تخصص في علم النفس وعمل فيه عدة سنوات . برز شاعراً عام 1954 في مجموعته البكر )سبع عشرة قصيدة( التي لفتت إليه الانتباه شاعراً مبتدئاً مجدداً في لغته وأخيلته . وقد أشار المحرر الثقافي لصحيفة )داغنس نيهيتر( حينها إليه من خلال عرضه للمجموعة بالقول :" يكتب ترانسترومر قصيدة رقيقة من الشعر المرسل المتحرر من الايقاع ." )داغنس نيهيتر 4 نيسان 1954 ( . يقول في قصيدته الأولى في المجموعة )استهلال( :

اليقظة مظلة أمل من الحلم
حراً من الدوامة الخانقة يهبط
المسافر نحو طوق الصباح الأخضر
الأشياء تلتهب . إنه يعي ـ في حالة قُبرة مرتعشة ـ
أنظمة جذور الأشجار الجبَّارة
للمصابيح الدائرة تحت الأرض . لكن فوق الأرض
تقف الخضروات ـ في فيضان استوائي ـ
بأذرع مرفوعة ، مصغية
إلى إيقاعات مضخات خفية . وهو
ينحدر باتجاه الصيف إلى ألأسفل
في الفوهة المضيئة إلى الأسفل
خلال فتحة الأعمار الخضر الندية
مرتجفة تحت محرك الشمس . هكذا ترتفع
هذه الرحلة العمودية خلال اللحظة ، وتتوسع الأجنحة
إلى استراحة لطائر جارح فوق ماء هائج
دويُّ بوق العمر النحاسي
الطريد
معلَّق فوق القاع الخاوية

في ساعات الصباح الأولى يتمكن الوعي أن يحتوي العالم
مثلما تمسك اليد بحجارة دافئة من وهج الشمس
وقف المسافر تحت الشجرة . فهل
بعد السقوط في دوامة الموت
سينمو ضياء باهر فوق رأسه ؟

يقول الناقد )تومي أولفسون( :" ليس ترانسترومر بارعاً ومليئاً بالخيال فحسب فهو كذلك لديه شئ يريد أن يقوله . " وهذا ما نلحظه في القصيدة المذكورة من معان خلف الأخيلة والصور الباهرة التي تنشط المخيلة وتدفعها لمعاينة ما وراء اللوحة الشعرية الخصبة .

لقد أظهر ترانسترومر أنه من الممكن إخضاع شكل القصيدة القديمة لمتطلبات واستجابات الحداثة في مزيج بارع ليرفعه إلى مصاف أبرع وأشهر شعراء الحداثة السويدية و مستحقاً للترشيح لجائزة نوبل في الأدب . إنه مركب نادر من الصور والأخيلة والمعاني ، وامتلاك القدرة في السيطرة على أدواته الشعرية ولغته في بساطتها المعبرة الموحية من خلال إثارة الحس والمعايشة في أجواء القصيدة دون تعقيد . يقول في قصيدة )بريد Airmail( :

في مطاردة صندوق الرسائل
حملت الرسالة عبر المدينة.
في الغابة الواسعة من الصخر والأسمنت
تخفق هذه الفراشة التائهة بأجنحتها .

سجادة الطابع البريدي الطائرة
أحرف العنوان المترنحة
إضافة إلى حقيقتي الصامتة
تحلق حالياً فوق البحر .

فضة الأطلنطيك الزاحفة .
ضفاف الغيوم . سفينة السمك
مثل نواة حبة الزيتون المبصوقة.
و ندية هي أعماق الماء الشاحبة .
هنا في الأسفل يستمر العمل ببطء .
غالباً ماأختلس النظر إلى الساعة .
ظلال الأشجار أرقام سوداء
في هذا الصمت الجشع .

الحقيقة موجودة على الأرض
لكن لاأحد يجرؤ على ألتقاطها .
الحقيقة ملقاة فوق الشارع.
لا أحد ينسبها لنفسه .

لترانسترومر ثقة عميقة بالدواخل الأنسانية واحترام للحياة الفردية الخاصة للإنسان ، كما يمتاز شعره بالبساطة مع تكثيف الصورة الخارجية إضافة إلى بعد ديني ساحر. ففي قصيدته )أقواس رومانية( يصور زيارة لكاتدرائية في أحد البلدان الجنوبية حيث يقابل ملاكاً يحادثه وسط العتمة ليحملنا نتجول عبر كشف بواطن النفس الأنسانية :

في داخل الكنيسة الرومانية الأصيلة انحشر السواح في العتمة .
قبو مفتوح خلف قبو بلا نظرة شاملة .
حزمة من أشعة النور حلَّقت .
ملاك دون وجه احتضنني
وهمس خلال جسدي كله :
"لا تخجل لكونك إنساناً ، كنْ فخوراً !
في داخلك ينفتح قبو خلف قبو بلا نهاية .
لن تكون كاملاً مطلقاً ، وهذا الذي سيكون ."
أصبت بالعمى من الدموع
اقتادوني أمامهم خارجاً فوق باحة تغلي في الشمس
سوية مع السيد والسيدة جونز والسيد تاناكا وسنيورا ساباتيني
وعميقاً في داخلهم انفتح قبو خلف قبو بلا نهاية .

كان لطفولة ترانسترومر أثر في حياته الشعرية الموغلة في النفس والباسطة شراعها عبر الأخيلة الدفاقة المثيرة للدهشة والتأمل العميقين . انفصل والداها وهو صغير فعاش في كنف أمه المعلمة ، كما نشأ على شواطئ أرخبيل استوكهولم والريف السويدي لفترات طويلة تركت آثاراً واضحة فيما كتب . كان صديقاً حميماً لجده من أمه ذلك القبطان الذي خاض عباب البحار ، وكانت لتلك الصداقة أهمية خاصة في حياته خطت آثارها في شعره الذي نلمس فيه صور البحر والساحل والصخور والأشجار وصخب الأمواج والطيور ونستقرئ الأحاسيس الإنسانية والأخيلة الخلاقة فيها. منها قصيدته )أرخبيل خريفي( المؤلفة من ثلاثة مقاطع وهي :

* عاصفة

فجأة يلتقي المتجول هنا شجرة البلوط القديمة
الهائلة ، شاخصة مثل أيل متحجر
بقرون ضخمة أمام قلعة بحر أيلول
الخضراء الداكنة
عاصفة شمالية . ذلك في الزمن الذي تنضج
فيه عناقيد التوت . يقظاً في الظلمة يسمع المرء
وقع خطوات النجوم
في الأعلى فوق الشجرة .

* مساء ـ صباح :

إنحلت صارية القمر وتهرأ الشراع .
يحلِّق السمان ثملاً مبتعداً فوق الماء .
وحافات المراسي الضيقة باردة . الأيكة
تتأوه في الظلام .

في الخارج فوق درجات السلم . الفجر يطرق ويطرق
بوابات البحر الحجرية الرمادية فتشع الشمس
قريباً من العالم . آلهة الصيف نصف المخنوقة
تنسلُّ في دخان البحيرة .

* إيقاع منفرد

تحت سكون نقطة الصقر الحوَّام الدوَّارة
يتدحرج البحر هادراً إلى الأمام في النور
يمضغ عشوائياً لجامه من الطحالب ويصهل
مزبداً فوق الساحل .
الأرض تتغطى بالظلام مثل الخفاش
ينحدر في طريقه . الصقر الحوَّام يتوقف ويتحول إلى نجمة .
البحر يتدحرج هادراً إلى الأمام ويصهل
مزبداً فوق الساحل .

يظل توماس ترانسترومر من أبرز الشعراء السويديين الذين نحتوا بصماتهم على الأدب السويدي المعاصر بجدارة مشهودة . وقد أصيب الشاعر بالشلل الذي لم يقعده عن مواصلة مسيرته الشعرية الخصبة .

قصائد مختارة من شعره

* عميقاً في أوربا :

أنا الهيكل الشاحب الطائر بين بوابتين نهريتين
أستريح في السرير في الفندق بينما المدينة حولي تستيقظ
المنبه الصامت والضياء الرمادي يتدفقان إلى الداخل
ويرفعاني ببطء إلى المستوى اللاحق : الصباح .

الأفق يتنصت . إنهم يريدون قول شئ ، أولئك الموتى .
إنهم يدخنون ولكن لا يأكلون ،
وهم لا يتنفسون لكن يحتفظون بأصواتهم .
سأسرع عبر الشوارع مثل واحد منهم .
الكاتدرائية السوداء ، ثقيلة مثل قمر ، تخلق مداً وجزراً .


* إعلان

الهيجان الصامت يخربش على الحائط من الداخل .
شجرة الفاكهة مزدهرة ، طائر الوقواق يصرخ .
إنه خدر الربيع . لكن الهيجان الصامت
يلوِّن كلماته المؤثرة في الاتجاه المعاكس في المرآب .

نرى كل شيء ولا شيء . لكن باستقامة مثل بيرسكوب
مستخدم من طاقم منعزل تحت الأرض .
هي حرب الدقائق . الشمس الملتهبة
تنتصب فوق المستشفى ، موقف المعاناة .

نحن الأحياء مطروقون مسامير إلى الأسفل في المجتمع !
سننفكُّ يوماً من كلِّ شيء .
سنشعر برائحة الموت تحت الأجنحة
ونصبح أخفَّ وأشرس من جيش محارب .


* إلى أصدقائي خلف الحدود

لقد كنتُ شحيحاً في الكتابة إليكم . لكن ما لم يجز لي أن أكتبه
انتفخ وانتفخ مثل سفينة هواء عتيقة
وانزلق أخيراً بعيداً عبر سماء الليل .

الآن الرسالة عند الرقيب . إنه يضيئ مصباحه .
في الضوء تطير كلماتي إلى الأعلى مثل قردة على حاجز حديدي
تنتفض ، تتصلب ، و تبرز أسنانها .

إقرأوا ما بين السطور . سوف نلتقي بعد 200 عام
حيث الميكروفونات في جدران الفندق منسية
وفي النهاية يجوز لنا أن ننام ، أن نغدو كائنات متحجرة .



لارس نورين
شاعر الهلوسة والشيزوفرينيا وسيكولوجيا التداعي

أنا أكتب لكي
أختفي عما كتبت
أنا أحيا لكي
أختفي عما حييت

هكذا ينظر الشاعر والمسرحي السويدي الكبير لارس نورين Lars Noren ، المولود سنة 1944 في العاصمة استوكهولم ، الى الكتابة والحياة . تجسد هاتان الصورتان الشعريتان رؤيته للأدب والحياة و تأثيرهما في إبداعه الشعري والروائي والمسرحي ، و حتى الحياتي . وهكذا فهو يعيش لكي يتجاوز ما عايشه . و يكتب ليتجاوز ما سبق وكتب . إنه يصوغ الشعر من قعر المعاناة التي تسوق الى تدفق مكنونات النفس و تفجير الحياة والإنقلاب والتجاوز في المكان أو خلق له.فالشاعرية عملية ضغط تراكمي لما وراء الأحاسيس المشحونة بمؤثرات الخارج البيئي الذي يحيا وسطه و يتعايش معه المبدع ليحفر هذا المحيط أخاديد من الوجع النازف وصدوعاً داخل النفس في زمن يطول ليتفجر في لحظة الخلق الشعري ، لذا فالكتابة الابداعية ضغط ثقيل متواصل يقرع في النفس و كأنه يذله بهذا الضرب المصاغ بالألم :

كتابة الشعر إذلال للنفس
إنها تستغرق وقتاً أطول من الحياة
أن تحطم ذلك المكان الذي فيه الجديد
سوف يأتي
أو أن يكون مكاناً له

الفن عند لارس نورين هو خلق حالة لبلوغ المعرفة والاحساس بالنفس ذاتها ، وبالحياة نفسها بحيث يؤدي ذلك الى الكشف والمكاشفة ووجوب التغيير والانقلاب والتجاوز . يقول بأنه حين كتب ليخفي أصبحت لغته لامدركة غير مفهومة ، ويقصد في بداياته الشعرية، لذلك بدأت نبرته وأسلوبه يتجهان نحو الوضوح والانكشاف أكثر فأكثر مع بدايات السبعينات. وهذا ما نلمسه في قصيدته (الثلاثاء 10.2.1976) من مجموعة (اشتغال الليل) الصادرة عام 1976:

ضوء
وظلام
للكتابة فيهما

الصامتون ، الرائعون
يختفون في
اللغة الكلمات
التي لا تستطيع الصمت
مثل الضوء في

الصور القديمة
النور الوحيد الذي لدينا
من ذلك الزمن

هناك حيث أنت
تتخلى عن حضوري

قريبين
نكون ، حبنا
هناك حيث
لا يمكن بلوغه
من غير تحطيم
لنفوسنا

عيناك تنامان
وحيدتين في داخلي

هو أنت فقط
محاولتي أن
أكتشف نفسي
لنفسي

كيف لي أن
أحبك حتى
أدرك ، أتخلص
من حب أكبر

مضى النهار
والكلمات أمست
أصغر
فاصغر،
لا ينضب
فمنا من الصمت
في الضياء
اللغة أكثر باتجاه الغروب
في عمق كل
ظلام
أحبه
أسقط مع
الانحدار

أصدر لارس نورين عدداً كبيراً من المجموعات الشعرية تجاوزت الثماني عشرة ، غلب عليها وخاصة نتاجات الستينات الأسلوب الهلوسي السريالي والسادية في معايشته لعالم من المخدرات و ارهاصات الشيزوفرينيا التي عانى شخصياً منهما لذا فقد كان يكتب على حافة الوعي مثل السرياليين . نقرأ له في قصيدة (بوابة إلى العالم الثاني ـ تنفتح أكثر فأكثر) من مجموعته (حافات الهاوية ) الصادرة عام 1968 :

" هذه المكالمة التلفونية الغريبة المفرقعة تستمر في عجيزتها الناعمة ، حتى لو أشغلت نفسها بميكانيزم يذكرنا بقضية الانهيار ... أوه يا إلهي ، كم هي لعوب !..... كل شيء اهتز هنا بالضبط ...... كاري كوبر كان يرتدي بدلة بيضاء. كان جميلاً جداً . أحدهم تسلل خلفه بمسدس مزخرف لامع. كان بإمكاني رؤية كل الزخارف على الأنبوب . كمية هائلة من أرجل الدجاج في الإست والفم .
أوه ، يا إلهي ، كم هي لعوب !
إنهم يتساقطون سبع مرات بين وزنهم الخاص وفقدان الوزن التام . لقد تعرضوا لصراخ مدوٍ وصمتٍ تام . تعرضوا للعصر والتعذيب حتى يمكننا معرفة : كم يصمد رواد الفضاء ؟"

فشعره يدور في عوالم الاغتراب والتحدي و الإدمان على المخدرات وسيكولوجيا الاضطراب والتشوش والرعب الخانق الجاثم على النفس.نعايش هذه الأجواء والتداعيات الحسية في قصيدته (شظية ، أيلول ) من مجموعة (مسدس) الصادرة في 1969 حيث يكتب :

عشْ مع
الرعب ، قلْ
ذلك الثابت ..... انتظرْ
فوق النور ، الذي سوف
يقذف الوجوه بقوة ...... صوب
أسوار واجهات المباني ...... في
حرارة كل من براندبرغ و
أريزونا ...... انتظرْ وعشْ في
خضوع صارم ، والذي يكون
رعباً ، ليس بعيداً عن
الموت ، لحد الآن
ولادة جديدة حقيقية ، الجميع
في تكوين جديد
إجتماعي يومي
للجميع ..... بأن
الحقيقة ، هكذا
تكون ، سوف
يسري مفعولها في
النهار ، في
لحمنا ، بعد ذلك
نخرس ..... المطر
لا يغسل
الموت عنا بعيداً ، لكني
بك ، أنا
أحيا تقريباً طول
الوقت ، غنياً مثل
ملاك ، وواعياً بذاتي
مثل أميبيا ، أو
بالعكس ...... أنا
أكتب حقيقة كلاً من
المحلِّق المتأرجح و
نصف المحلق عالياً فوق
دورات المياه الحقيرة والمضيئة .... بعد
أن أكون غير قادر تقريباً
أن أعيش معها ......

برز نورين شاعراً عام 1963 مع مجموعته الأولى (شجرة السرو ، الثلج) ، ومن البداية اسس نفسه شاعراً أصيلاً مبدعاً بقصائد تعبر بقوة عن الذات في معاناتها وضغوطها النفسية . لقد منح مساحة من حرية الانطلاق والتدفق في نصوصه الشعرية الأولى للتفاعلات السيكولوجية الهلوسية.فقصائده تعبير عن الاحساس الداخلي الذاتي بالتعرض للاعتداء والخطر. كما أن مشاعر الرعب، التعرض للموت، اليأس، الخيالات الجنسية السادية، القسرية، الشعور بالغثيان والازدراء هي المكونات الاساسية لنتاجه الشعري. ربما كانت للحياة العائلية المضطربة التي عايشها أثرها العميق في حياته و في كتاباته، ونتحسس هذا في قصيدة (والد) من مجموعة( قلب في قلب ) 1980 :

يا ابي ،
كان ذاك وكأن حياتي ابتدأت
لأول مرة حين ودعتَ الحياة

الآن يجب أن أكون قادراً على رؤيتك ورؤيتي

ليس باستطاعتي أن أقبل أو أدرك
بأنك متَ وحيداً
وبسبب الوحدة
وبأن لا أحد قد تخلى عنك
أو احتضنك

بأنك جرحت!
جبينك بالرغم من كونك ميتاً
لأنك سقطتَ هكذا

سوف لن أحيا أكثر أبداً
معك وبدونك
سوف أعي تماماً
بأني لم أغيرك
بأن الحب ليس له ماضٍ

بعد فترة من النشاط الابداعي يطور لورين لغته الشعرية لتكون أكثر تقيداً وكبحاً بحيث تنتظم الألفاظ واضحة كاشفة، وتصبح الحالة الأصعب على التعبير أكثر طواعية، كما أن العلاقات في الواقع الخارجي المحيطي تغدو أكثر وضوحاً وشاهداً على الوعي الاجتماعي والسياسي لديه. مثلما نلحظ في قصيدته (مساء الأحد) من مجموعة (قصائد ليلية ونهارية ) 1974 :

يوم بارد ، يوم كريستالي صاح
فتحة أنف لينين تنضح دماً دائماً
في حديقة الملك يمتطي الأطفال أحذية التزلج

تحت رؤوس الأشجار الضخمة
مع كأس من الجعة
يلعب الرجال أيروتيكياً مع بعضهم
بينما النساء يقلن بأنه لا يجوز كتابة الشعر بعد الآن

شخص صغير ذو شعر ابيض في غرفة المعيشة .
أن تصرخ أمر متعب
السلم يصبح متزحلقاً ، العينان كليلتان
من مؤخرة الموت تسقط حالاً فكرة
وتتحول الملابس مِزقاً
وحذاء العامل الخشبي متهرئ تماماً
والكعب عبارة عن شقوق
عندما يموت ستتمكن أنت من أن ترى
كيف حافظ على أدواته

في صباح مبكر
شبكة نافذة مخزن الحبوب مغطاة بالنحل
اليد جامدة على الطاولة
بعد الظهر والبرودة
العربات تبدو وكأنها تحترق
الناس تحلم
بماضي أقاربها
وماديتهم المليئة بالأمل

أنت لن تأتي
إني أراك في كل مكان
الآن نتناول طعامنا ، أنا غير موجود بعد الآن

الفضاء خال تقريباً
شيء مفقود ـ ماذا ؟
شيء صغير ........

أصدر لارس نورين إلى جانب الشعر عدداً من الروايات التي تنطلق في موضوعاتها من المحيط الاجتماعي، و هي روايات (سالومي) 1968 ، (خلايا النحل) 1970 ، (في سماء باطن الأرض) 1972 وتعد هذه الرواية الجزء الثاني من خلايا النحل .

ومنذ عام 1980 توقف عن كتابة الشعر ليتوجه الى المسرح كلياً فيحقق نجاحات كبيرة باهرة في هذا الفن ،حيث ترجمت ومثلت مسرحياته في كافة دول الشمال الاسكندنافي، كما ترجمت إلى لغات اخرى مثل الفرنسية والألمانية والهولندية والايطالية واليابانية والفارسية وغيرها . ومن مسرحياته (ابتسامة باطن الأرض)، و (الليل أو النهار) ، و (الفوضى جار للرب) ، ومن اشهر مسرحياته (حلقة شخصية 1: 3) التي استمر عرضها لمدة ست ساعات ، و (نشيد الانتقام) التي تدور حول العلاقة المضطربة والمشحونة بالملل والسأم بين زوجين، فهي مبنية على شخصيتين فقط . حتى في الدراما المسرحية لم يتخلص لورين من المضامين و الموضوعات السيكولوجية التي هيمنت على نتاجه الشعري الكبير .

توقف لارس نورين عن الشعر مع مجموعته (قلب في قلب) عام 1980 واتجه الى الدراما المسرحية كلياً ليكتب و ينتج ويخرج عدداً كبيراً من المسرحيات تجاوزت العشرين . إن هذا التحول الى فن آخر ، كما يرى النقاد ، هي حالة من كبح تدفق الصور التخييلية من أجل استخدام خشبة المسرح الواقعية كنوع من الحماية في وجه الصور الشعرية التي تسيطر وتتدفق بسهولة ويسر، إلى جانب ان هذا التحول قد حصل بسبب المؤثرات الذاتية أكثر مما هو بدافع فني جمالي . فقد ذكر نورين شخصياً بأن الشعر قد أمسى مشوشاً فوضوياً بشكل كبير وبأن الصور قد قهرته . ومع كل ذلك فإنه من أكبر وأهم الشعراء السويديين الذين برزوا في النصف الثاني من القرن العشرين .

قصائد مختارة

* ليزبيث ، 23 سنة ، في المذاكرات

من المفروض أن نكون قد تلاقينا وتناولنا الطعام معاً
لأنها كانت محمومة وهزيلة ،
إلا أنها ماتت من الموت المحافظ القديم.
ماتت مثل قسوة مؤقتة ،
عملية جراحية فورية للوجه .
في يوم الجمعة ، بعد العمل ،
تناولت كالعادة كمية كافية
من حبوب النوم لكي تنام
حتى الأثنين كي تتجنب الوحدة .
هذه المرة اضطجعت ثلاثة ايام
راضية على الأرض في الصالة
مع سماعات الأذن مشتغلة ، وهي تستمع
إلى باخ فابتلعت لسانها .
الصوت لم ينقطع بشكل كاف
عند الأذنين فجعلتها ترتعش .
بعد عدة أيام
دفنوها بسرعة والى الأبد .
كل أعدائها كانوا هناك .


* قصيدة سعيدة ومليئة بالخيال عن الشعراء

أحببت أن أكون الأول بين الناس
لكنني في كل مكان أبدو مثل عدو .

بعد أربعين عاماً يتبقى فقط
السمع الشتوي الداخلي .

الأيام تشع مثل حسناء مخطوبة
مع تراب المساء في ابتساماتها .

اللغة تحيا حياة الخادم ، أنا كذلك .
هل أنا ملاك أم غبي ؟
ــــــ فتات من لا شيء .

أنا ذاهب بكل سرور لأستلقي عارياً
بباطن قدمين ممزقتين وعينين جميلتين .

وفوق السرير تستطيعين أن تقفزي بقدمين خفيفتين
مثل الفتيات في لوحة بوتيسليس (الربيع)*.

* بوتيسلسيس Botticellis : هو ساندرو بوتيسلسيس 1510-1444 ، أحد أشهر رسامي شباب النهضة الآوائل ، والربيع أسم أحدى لوحاته التي رسمها بين عامي 1480-1475 .





كريستيان لوندبرغ
قصائد بين شوارع القاهرة والحلاج

كريستيان لوندبرغ Kristian Lundberg من الشعراء السويديين الشباب. ولد عام 1966 ، اصدر مجموعته الشعرية الأولى )خلال سبتمبر( سنة 1991 ، أعقبتها )قلوب كل الأشياء( 1992 ، )الأشجار حول البيت( 1994، )برج أعلى مني( 1996 . وفي عام 1998 نال الجائزة الأدبية لصحيفة )آفتون بلاديت( Aftonbladet وهي إحدى كبريات الصحف اليومية السويدية .

بنسيون ، روما ، القاهرة ، حزيران

إنه المساء الآن
القميص المغسول معلق بالنافذة
يتأرجح بخفة في الريح الرخوة

أنت موجود في هذه الغرفة المتواضعة
هناك كرسي ، منضدة ، سرير
إنك مضطجع جامد النظرة :

خلف النور
يوجد ظلٌّ لما
كان بمقدورك أن تصبح ، تفكر في
بذرة الحياة القاسية
التي يمكن للإنسان أن يعصرها
حجراً أو فاكهة
اليد ناعمة ، خاوية

إن الذي حلمت أنت به هنا
في بنسيون رخيص
في أطراف المدينة
هو ايضاً إنسان
في زيارة لبلد غريب.

إنك تراها الآن بوضوح جلي
هي تتكون من ذلك
الذي لن تكونه أبداً
وجه أعمق
ينتظر في الخارج هناك
خلف صورة المرآة

أنت الآن مستيقظ تماماً
غرفتك تقع في الطابق الرابع
الستائر مسدلة
الشيء الذي ينمو
يجب أن يعود إلى الوراء
النور يظهر النور

تدير إلى الأمام وجهك
ظلام يفتش عن حمالة ،
هناك حيث أنت
يفتش الظلام عن حمالته

لست وحيداً ، لست وحيداً
أصغ إلى الصخب
الأصوات التي تفيض وتهدر
تحت في الشارع: ظلٌّ يمشي في ظلٍّ
خدمات المرور ، أخدود الماء العريض
يشق المدينة ، الأشجار تميل إلى الأمام
تحني تيجانها في الماء الأخضر

قلبك مفتوح دائماً
عرق أشدُّ نوراً يتوغل في الليل باحثاً، يحتسي
الظلامَ الذي يطبق علينا
نكتب كتاباً عن الغياب
يستطيع الإنسان أن يتنفسه
نحن لا ننتمي إليه بعد الآن
المصابيح في الغرفة
تتقاطع فوق شارع محمد فريد
يُنار واحداً بعد واحد
لا أحد قد يخفي نفسه
في الجزء المظلم من الغرفة
لا أحد مختبئ بعد الآن

كل شيء جاهز :

نوع خاص من النسيان
يغسل جسدك
ينسلخ عن ذاكرتك
ستكون نظيفاً من اللحم
حراً من الزمن
أنت تذوب
في أكبر
وأكثف صورة

نحن آلهة

أنت اليوم
منصور الحلاج
صلابة الصخرة
حينما ببطء
تنمو
تصبح منحدراً حاداً في الجبل

أنت القلب الأعلى
والأقوى

لست أنت يداً تضفر
النور والظلام طيفاً ، ولا لهباً
ينفث من أنفاسه وجهاً ما من جوف الليل

لا تصبحْ النوم الذي يطبق بؤبؤ العين
الذي يحتفظ بصورة
للمدينة التي هجرتها أنا تواً

لست أنت اليد التي تمد
وعاءاً من الماء خلال جدار السجن
ولا منقار غراب ، ولا خبزاً شافياً،

لا تصبحْ المنطقة
حيث يزول الأكثر رطوبة في الأكثر جفافاً
أليست الاتفاقية بين المدِّ والجزر
الصدع الذي يوسع مساحة الجبل

أنت أكبر أكبر
من حلم الطفل الأعمى
بكعبة داخلية

أنت اليوم
منصور الحلاج
الفجوة التي ببطء
تملأ المرايا حتى حافاتها

الصورة الأخيرة لا تزال حاضرة

يرى المرء فتاة صغيرة أو فتى
يركِّز بصره فوق ورقة ناصعة البياض
ظل ينحني إلى الأمام ويقرأ
ما تقرأ وتكتب الآن:

"القوة الثقيلة التي تجبرني
أن أنحني على ركبتي أمام الأيقونة
تسمح للون الأيقونة أن ......"

أنت لست بقعة مظلمة
تكشف عن نفسها بجلاء
في اليوم القائض هذا
لست الصوت الذي يحيل
إيقاع النهار إلى محكمة ليلية
لست البذرة
التي ترفع وتحرر الشجرة
ولا السراب الذي يغري الطريق
إليه ، أنت أكبر أكبر

أنت أكبر من يقظة المصباح في الليل
أكبر من ألف باء للنوم والماء
أكبر من ذاكرة الصخرة للتحليق والسماء
أكبر من علامة لإنسان
شفرة للعودة إلى البيت

انت أكبر أكبر من الغياب
الذي يجتمع يومياً حولنا،
إنساناً في أثر إنسان

أنت دائماً المعنى
أنا لا ألحق مطلقاً أن أدون
السطر الأخير الذي يشرح
القصيدة التي تتمُّ وتبدأ من جديد الآن :

اليوم هو أنت


ثورة الأطفال

الدار استجمعت نفسها
في الطريق البعيد ، أبواب وشبابيك
تنتصب مفتوحة باتجاه
ضياء منتصف النهار الساكن

يد خفية
تتحرك ببطء خلال ساعات قوية حرة
العمل يمد وزنه في الآلة
الملقاة في كل اتجاه
كل شيء يتهاوى

هذه الريح تعصف
بالمزارع والحقول خاوية ، أحدهم قد رفع
الظل الذي بايد مشدودة
السطر الأخير الذي يشرح
القصيدة التي تتمُّ وتبدأ من جديد الآن :

اليوم هو أنت


ثورة الأطفال

الدار استجمعت نفسها
في الطريق البعيد ، أبواب وشبابيك
تنتصب مفتوحة باتجاه
ضياء منتصف النهار الساكن

يد خفية
تتحرك ببطء خلال ساعات قوية حرة
العمل يمد وزنه في الآلة
الملقاة في كل اتجاه
كل شيء يتهاوى

هذه الريح تعصف
بالمزارع والحقول خاوية ، أحدهم قد رفع
الظل الذي بايد مشدودة
ضغط واطئ ينمو وينحدر فوق الشاطئ
إنه زمن الاستعداد ، هل يوجد هل يوجد
نور في الظلام هل يوجد ليل
يتحد بالنهار

الظل ينتشر في النور

وبعد ذلك فقط
الصوت الثاقب
لصمت الطيور
وبعد ذلك فقط
الثاقب
وبعد ذلك فقط
و

النور ينتشر في الظلام











المحتويات

بير لاغركفيست ص 7

أديث سودرغران ص 19

أبه لينده ص 29

هاري مارتينسون ص 39

غونار أكلوف ص 48

بنغت آندربري ص 65

أوستن خوستراند ص 78

توماس ترانسترومر ص 88

لارس نورين ص 97

كريستيان لوندبري ص 111



#عبد_الستار_نورعلي (هاشتاغ)       Abdulsattar_Noorali#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ديوان ثلاث روايات
- سعدي عبد الكريم و-الملائكة تهبط في بغداد-
- لا أنام...
- الخارطة...
- خَبوْنا، أيُّها النائي...
- ديوان (ثلاث روايات)
- ديوان (مزامير آل الملا نزار)
- (موتُ رفيقةٍ) للشاعر السويدي أبَهْ ليندَهْ
- الشاعر أ. د. عادل الحنظل بين الغربة والجراح
- شذرات من الأرشيف 1
- قلْ لِمَنْ يبكي...
- السيفُ أصدقُ أنباءً
- الوَردُ يسحرُ مثلَهُ الوَردا
- قصيدتان
- سلاماً...
- الأسطورة بين الاستلهام والواقع في ديوان -فراديس إينانا- ليحي ...
- نوفمبر للشاعر توماس ترانسترومر
- أوكراينا...
- قطار الشرق السريع...
- الستارُ الحديديُّ


المزيد.....




- أحزان أكبر مدينة عربية.. سردية تحولات -القاهرة المتنازع عليه ...
- سلطنة عمان تستضيف الدورة الـ15 لمهرجان المسرح العربي
- “لولو بتعيط الحرامي سرقها” .. تردد قناة وناسة الجديد لمشاهدة ...
- معرض -بث حي-.. لوحات فنية تجسد -كل أنواع الموت- في حرب إسرائ ...
- فرقة بريطانية تجعل المسرح منبرا للاجئين يتيح لهم التعبير عن ...
- أول حكم على ترامب في قضية -الممثلة الإباحية-
- الموت يفجع بطل الفنون القتالية المختلطة فرانسيس نغانو
- وينك يا لولو! تردد قناة وناسة أطفال الجديد 2024 لمشاهدة لولو ...
- فنانو الشارع يُحوِّلون العاصمة الإسبانية مدريد إلى رواق للفن ...
- مغن كندي يتبرع بـ18 مليون رغيف لسكان غزة


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الستار نورعلي - شعراء سويديون - دراسات ونصوص