أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبدالكريم ابراهيم - فراسة (عذافة الحوّاف) وفطنة (شارلوك هولمز)















المزيد.....

فراسة (عذافة الحوّاف) وفطنة (شارلوك هولمز)


عبدالكريم ابراهيم

الحوار المتمدن-العدد: 7617 - 2023 / 5 / 20 - 01:25
المحور: الادب والفن
    


الفقر داءٌ لا يرحم الإنسان؛ وأغلبُ البشر منذ القدم هزتهم ازلته، ونالوا حقهم من كرمهِ حتى التخمة. برغم أن الأنبياء والمصلحين حاولوا محاربة هذا الفاتك كل ما أتوا من القوة، فإنه حتى يومنا هذا نجده يسرح ويمرح، يحرك الدنيا كيفما يشاء مقسماً العالم إلى مناطق غنية وأخرى فقيرة.
العربُ من الشعوب التي حاول بعض رجالها انتهاج طرق خاصة بهم في محاربة الفقر، وكل حسب مفهومه، ولاسيما في مجتمع يؤمن بالقوة، ويعاني من قلة الموارد الطبيعية، لذا كانت علميات السلب والنهب على القوافل ومضارب القبائل تجري على قدم وساق، حتى ظهرت طائفة من الفتاك العرب عرفت بالصعاليك، تسعى إلى تحقيق مفهوم العدالة الاجتماعية بين الأفراد، واستمر الحال حتى ظهور الإسلام .
تعدُ(الحْوافة) إلى حد قريب نوعاً من الرجولة في الريف العراقي، إيماناً من الفلاحين أن الأشياء لا يؤخذ إلا بقوة السلاح، والذي لا يتقن هذا النوع من الفن قد تلصق به صفة الجبن، حتى أن بعضهم لا يزوجونه من بناتهم، لأن ناعم اليد لا مكان له في مجتمع خشن يتصارع فيه الأقوياء للحصول على لقمة العيش. الريف العراقي مليء بقصص (الحوّافين) وأساليبهم في المباغتة وخفة الحركة والفراسة وتحليل الأمور وقراءة الأفكار. يبقى (عذافة الحّواف) من الشخصيات التي نُسجت حولها أساطير خارقة لدرجة المبالغة. ربما أسهَم نفسه في صناعة هذه الهالة من خلال سرده لحكاياته ومغامراته الشيقة، فهو يعدُ من امهر (الحوّافين) الذين عرفهم التاريخ المعاصر – حسب ما يقول – فهو صاحب نظرية خاصة في تعريف مفهوم السرقة، فيعدها نوعاً من الشطارة التي يتميز بها عن بقية أقرانه من (الحوّافين). (عذافة) ليس معسراٌ، بل انه ورث عن أبيه ثروة حيوانية تجعله في غنىٍ عن المخاطرة بحياته في سبيل الحصول على غنيمة ما، ولكنه يريد أن يؤسس مفهوماً للحْوافة يعود بالعرب إلى ايام جاهليتها، حيث كانت تتفاخر على بعضها بغاراتها وسلبها للقوافل بحد السيف، وربما يريد استنساخ تجربة جدته أمير الصعاليك عروة بن الورد.
(الحّواف) لابد أن يتميز بصفات عن أقرانه، لاسيما سرعة البديهة وخفة الحركة والشجاعة الخارقة وكيفية التخلص من المأزق، فضلاً على قوة البصر، لان اغلب عمليات (الحوافة) كانت تُقام في الليل، إلاّ أن (عذافة) عكس هذا الشرط، فهو مصاب بالعشو الليلي، إلاّ انه مع كل هذا العيب فإنه لا يخطئ في معظم غزواته الليلة والنهارية. لا يمكن أن نطلق على (عذافة) مصطلح لص، لأنه من النادر أن يحتفظ لنفسه بما سرق، بل أن لديه يد (فلتة) يجود بما يملك من المال والحلال. ربما يكون هذا الرجل اقرب إلى مفهوم الصعلوك منهُ إلى اللص، فهو يمارس هذا الفعل من باب الهواية وليس الاحتراف، وأحياناً يعدهُ نوعاً من التحدي في مجتمع يحترم (الحواف).
خلقَ (عذافة الحوّاف) لنفسهِ عالماً أسطورياً فريداً من نوعه. قد يكون لقدرته على سرد الحكايات وإضافة نوع من التشويق الممتع إليها، ما تجعل المقابل يصاب بالدهشة والانبهار لمثل هذه الخوارق الملحمية. وان من يقوم بهذه المغامرات لابدّ أن يكون ذا قدرات جسمانية كي يصدقها السامع. ولكن (عدافة) بجسمه النحيل، وعينيه العمشاوين ،وحاجبيه الكثيفين ،وشاربه المفتول وشعره المجعد كأنهُ وبر القنفذ، لا يستطيع أن يحقق له بعض طموحاته البطولية. مع هذا عوّض كل ما سبق بصفات حسية محكمة، فهو حذر كالغراب، وشجاع كالأسد، مقدام كالنسر على طريدته. ربما يكون شعره الكثيف وصوته الأجش هما ما يبعث الرعب في نفس المقابل حيث يستخدم هذه الخاصية في إفزاع الخصم، ولاسيما عندما يُفاجأ أحدهم ليلاً بهذه الهيئة كأنها (الطنطل) أو (السعلوة). يواجه (عذافة الحوّاف) بهذه الصفات الجسمانية سخرة واستهزاء الآخرين الذين سمعوا عنه ولم يشاهدوه جرياً على عادة العرب في هذا الموضوع " تسمع بالمعيدي خيرٌ من أن تراه"، فيحاول تعويض هذا النقص من خلال مشية خاصة يعرفها الجميع، من خلال اطلاق العنان ليديه كأنه ديك يتهيأ للصياح متحزماً بخنجره الذي لا يفارقه مطلقاً والذي استخدمه في اغلب معاركه، وقد زينه برسوم متفردة صنعته أنامل امهر صُنّاع العمارة. ربما يكون هذا الحوّاف المتمرس يؤمن أن الخنجر سلاح يفي بالغرض بعيداً عن (الورور) و(التفكة)، حيث يعدهما من الأسلحة التي تريق الدماء في أي لحظة غضب أو تهور.
قد يسأل احدهم كيف يستطيع رجل قصير القامة وناحل الجسم من التفوق على خصوم اكبر منه حجماً؟ أنّ حيث اغلب المعارك غير المتكافئة يكون مصيرها الفشل والخسارة، وتكون المصارعة كمصارع من الوزن الثقيل مع آخر من وزن الذبابة. ولكن (عذافة) لا يقحم نفسه في معركة خاسرة، بل يقرأ الإحداثيات ويحاول ان يرسم خطة تجعله في منتصراً. ولعل سرعة الحركة ومبالغة الخصم وعدم التردد تصب في صالحه، ولاسيما عندما يرى علامات الاحتقار والاستخفاف في عيون الخصم، فيحاول استثمار هذه النقطة لصالحه، ومن دون تردد ينقض على خصمه كأنه الليث الجسور، عندها يذهل المقابل وتنهار قواه، ويتحول العصفور الصغير إلى نسر جارح!
ذات مرة دخل مع احد الأشخاص الميسورين في مراهنة في دخول (چلعته) المحصنة، استطاع بكل أريحية دخول عرين هذا الشخص وأخذ خنجره الذي وضعه تحت رأسه، وعندما رأى المراهن أن سلاحه في يد (عذافة) أقرّ بعبقريته وليجود عليه بفرس أصيلة احتراماً وقديراً لشجاعته التي استطاع بها تخطي الحواجز وعيون العسس. للعمر حوبة كما يقال؛ فقد كبُر(عذافة ) ولمْ يستطع ممارسة هوايته المفضلة في الكر والفر، فقرر الاعتزال قبل أن يحال إلى التقاعد مرغماً، ليعيش في بغداد مكتفياً بسرد حكاياته لجيرانه وأصدقائه. ويُحكى أن احد اللصوص من قليلي البخت داهم بيت (عذافة) الجديد، حيث استغل وجوده وحيداً في هذا اليوم. ومن خلال خبرته المتراكمة وفراسته الماضية التي امتدت لأكثر من نصف قرن، احس بحركة غريبة في البيت، فعرفَ انه لص غشيم أراد أن يحوف بيت (عذافة الحواف)- وهي من مفارقات الدهر-! كمن الشيخ الأعمش للص، وبكل خفة وأريحية ألقى القبض على اللص متلبساً بالجرم المشهود، لينتزع منه سلاحه ويربطه بغترته، مخاطباً اللص الأغبر الذي لم يجد سوى بيت (عذافة) ليسرقه وفي وضح النهار"حرامي مخربط، واثول، إذا انته ما تعرف ليش تحوف؟!" ثم بصق في وجه اللص الاسير الذي اخذ يبكي ويبرر قيامه بهذا العمل العوز المالي" . انكسر خاطر شيخ (عذافة) على اللص برغم بما امتاز به من شكيمة ورباطة جأش، فانه صاحب قلب حنون ودمعة تتساقط على ابسط الأشياء، ليطلق سراحه بعد أن قدم له وجبة عشاء دسمة مع حديث سمر استمر طوال الليل، محدثاً أياهُ عن مغامراته، وكيف كانت (الحوافة) مرجلة وشجاعة قبل ان تكون لصوصية.
من طرائف القدر أن يدخل احد أحفاده سلك الشرطة، وكان الحفيد يسرد لجده عمليات إلقاء القبض على اللصوص والمجرمين، وكيف يتم انتزاع الاعترافات بطرق مختلفة تصل إلى التعمق بالتحقيق وغيرها، فكان يرد عليه (عذافة) "بويه، لوچنت مكانك، اشم ريحة الحرامي من بعد 100 كليو، واعرفه من نظرة وحدة ". فيمازحه الحفيد الضابط "جدو، بس انته ماتشوف" عندما يضحك (عذافة) من قلبه ،ويقول "الشوف بالگلب مو بالعين". ثم يبدأ بسرد حكاية من أيام زمان عن عالم الحوّافين ومغامراته العديدة ،عن حواف اسمه (عذافة) دوّخ المنطقة، وقد يتذكره بعض اهالي المنطقة اليوم ، ولكنه يملك مزاجاً خاصاً وتحليلاً دقيقاُ يقترب من شارلوك هولمز.
"""""""""""""""""""""""""""""
• الحّواف: اللقب الذي يُطلق على اللص في الريف .
• الچلعة: القلعة .
• غشيم: قليلة الخبرة .
• يد فلتة : كريم .
"""""""""""""""""""""""



#عبدالكريم_ابراهيم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عندما يَسرقُ الجفافُ من ميسان اسمها
- بلد الرطب في زمن طباخات الرطب
- قوطية حليب النيدو خزانة ذاكرة الطفولة
- حسين كصبة وسترة رابح درياسة
- من (دمعة ساري) إلى ( حريم السلطان)
- من (دمعة ساري) الى ( حريم السلطان)
- يا عيد يا بو نمنمه ،خذنا وياك للسينما
- رقعة المشاكسة على دشداشة وبجامة (البازة)
- ألفاظ الألعاب الأطفال الشعبية العراقية
- الألعاب الشعبية تودع ذاكرة الأطفال
- أفلام كارتون من ( السندباد ) إلى (غامبول )
- سحر (فرح فاوست) وقصة (دلاس) وبساطة (البيت الصغير)
- (خياط الفرفوري ) يصلح الأواني الخزفية وهموم نساء الحي
- (هدية قطن ) و بعير (أبو ملح)
- (الكاريه ) و(بوردا ) وتسريحة عبدالحليم حافظ
- تقاليد الزواج على أهازيج الماضي
- عيون زبيدة ثروت وغمزة سميرة توفيق
- سمفونية (جمالة العمية) على أنغام (يا أم عيون حراقه )
- بائعو الحلويات .. ذكرى من الزمن الجميل
- مقاهي الثورة ومقرات فرق كرة القدم الشعبية


المزيد.....




- المؤسس عثمان الموسم 5.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 158 باللغة ...
- تردد قناة تنة ورنة الجديد 2024 على النايل سات وتابع أفلام ال ...
- وفاة الكاتب والمخرج الأميركي بول أوستر صاحب -ثلاثية نيويورك- ...
- “عيد الرّعاة” بجبل سمامة: الثقافة آليّة فعّالة في مواجهة الإ ...
- مراكش.. المدينة الحمراء تجمع شعراء العالم وتعبر بهم إلى عالم ...
- حرمان مغني الراب الإيراني المحكوم عليه بالإعدام من الهاتف
- فيلم -العار- يفوز بالجائزة الكبرى في مهرجان موسكو السينمائي ...
- محكمة استئناف تؤيد أمرا للكشف عن نفقات مشاهدة الأفلام وتناول ...
- مصر.. الفنانة دينا الشربيني تحسم الجدل حول ارتباطها بالإعلام ...
- -مرّوكِية حارة-لهشام العسري في القاعات السينمائية المغربية ب ...


المزيد.....

- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبدالكريم ابراهيم - فراسة (عذافة الحوّاف) وفطنة (شارلوك هولمز)