أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبدالكريم العبيدي - صانع أحلام.. فصل من رواية -جمجمة تشرين-















المزيد.....

صانع أحلام.. فصل من رواية -جمجمة تشرين-


عبدالكريم العبيدي

الحوار المتمدن-العدد: 7616 - 2023 / 5 / 19 - 21:37
المحور: الادب والفن
    


وضعت يارا يديها فوق حافة الطاولة وانحنت قليلاً، وأخذت تنظر إلى الكيس الشفّاف مليّاً. حَدَّقْتُ مُطولاً في عينيها الزرقاوين، ولمحت على شفتيها ابتسامة غامضة، ظلت ترافق حديثها المتحدِّر من ذاكرة عاطفية شفيفة متوهجة:"
ما زلت أرى أن معايير رحلته الشاقة تتجدد، وأن زِنَتَه للأمور صنعت أداءً "classy" طيلة أيام التظاهر. انه يعالج اللحظات الحرجة بتعقل وروية. يقترح ولا يفرض، يصوِّر شتى النهايات ويلوذ بصمت الحكمة، وينشر منظومة من الاحترازات والتدابير، بصفة "unknown soldier".
هو مخلوق مجنونٌ بالأمل، مهووس بعشق البلاد، مهمومٌ بتصميم خريطتها الجديدة. هذه ثلاثية توأم الروح، الحلم الذي انغرس في قلبه، وتماهى هو معه، حتى باتا معاً أشبه بمحلول متجانس، لا يمكن تمييز أحدهما عن الآخر. طالما كان يردد على مسامعي أنه لا يسعى إلى خلق تصورات منغلقة خاصة به، بل هو منشغل بصنع رؤية اجتهادية منفتحة على عقم الراهن، تحاول فض اشتباكاته والتباساته. هو يصر على أن عصر الأجيال اليائسة المكبَّلة بذكريات الحروب والحصار انتهى، وأن السبيل الوحيد لإيقاظها، وبث روح الأمل فيها، هو ثورة سلمية بيضاء من صنع جيل العجائب، قد يراها البعض حلماً طوباوياً صعب المنال، لكنها قادمة لا محالة.
أحياناً، كان يلجأ إلى الصمت أو يتوارى، يبدو لي متقشفاً، ولديه نزوعاً للتَّزَهُّد، أراه وجوديَّاً، ميّالاً للعبث، وشبه عدمي، هكذا يظهر وجوده الخفي عن قرب، سطور عقيمة مبعثرة، من قصيدة غائمة لم تكتمل بعد، تُخيِّم عليها رموز وإشارات مبهمة. هو فرد حائر، متألم، مُنطوٍ على نفسه، يتسلل إلى عزلته، بذات الخفة التي يتحرر منها، وهي عزلة خلّاقة، مكنته من إيجاد صفاء النفس، والتخلص من عبث الأوهام، والعثور على الإشارات المبشرة الأولى لرحلته الحُلُمِيَّة".
صمتت يارا مرة أخرى وبلعت ريقها، ثم أردفت:"
دفعني اللقاء الأول به إلى تجديد نظرتي إلى نفسي. شعرت بأول نافذة تنفتح في هذا البيت المنعزل فسارعت إلى الوقوف أمامها، ورحتُ أطلُّ منها أتأملُ ما حولي، وأعيد صياغة نفسي، وأصنع نظرة مُتفتحة لما هو خارج الدار. كان فرحاً بتحوِّل هذه اليرقة إلى فراشة بيضاء ترفرف بجناحيها، وتعبر أسوار البيت، وتحط على كتفه. أسعدته رؤية هذه الـ "butterfly"، فأخذ ينسج دقائق الوقت بكلماته الرقيقة، ويُمهِّد لعلاقة ظلَّت ثابتة، عسيرة على الفهم، لم تزد ولم تنقص، لأنه كان يخطو خطوة إلى الأمام، ويتبعها بأخرى إلى الوراء. هكذا ظلّ يراوح ويتملص بطريقة سحرية عجيبة، كأنه كان مصمماً على منحها مساحة مُضَلِّلَة، توحي بأنها ضيقة وواسعة في آن واحد، هكذا أرادها إلى الأبد. كان شخصاً غامضاً خجولاً ومتردداً، لا يفصح أبداً عن مراميه، رغم أنه كان عاقد العزم على إيقاد شعلة الـ...، بارعاً في إزالة أي مسافة فوقية بينينا، مِمّا جعل القصة تقترب حثيثاً من نقطة الاستقرار. ولكن حالما ارتدت فصول الحكاية حُلَّة قشيبة من الزينة، واقتربت من شواطئ خلّابة آمنة، أخذت تسير في خطوط مُتعرجة ومُنحنيّة يصعب وصفها، حتى أن القرب والبعد اختلطا ببعضهما، وباتت لهما صفة باهتة واحدة هي "meaningless"، وهي صفة خدّاعة مُحيِّرة، أُريد للبطلة أن تقف على عتبتها، وأن تتآلف مع غرابتها، لأنها اختيرت بدقة لما يتناسب والحالة الغامضة للبطل الغريب، كي يتقاسمان معاً تكاليف تأجيج تحولات القصة، داخل صندوق مغلق ضاع مفتاحه، ولا سبيل إلى فتحه، وليس ثمة مهرب منه. آنذاك، فقط، ستكون للبطل حظوظ أوفر في الفوز بخليلته، والاكتفاء برؤيتها فراشة تطير مرفرفة، وهو أمر استثنائي ليس بالهَيِّن، إيقاعاته مرسومة بدقة ومتقاطعة بدقة، ومخطط لها سلفاً".
أغمضت يارا عينيها وتنهدت بحسرة، ثم قالت بنبرة متوترة:" أخيراً اكتمل مشروع يارا، ووصل إلى نهايته المرجوَّة، نهاية لا تبتعد كثيراً عن صفّارة بدايته، رغم أن كل شيء فيه كان جديداً وجذاباً، يبشر بصحبة رفيعة، ومفاجآت سارة، وحلول عصر جديد. كأنَّه شراكة نقيَّة، سلكت أشد المسارات وعورة، باحثة عن نمط غير معهود من الوجد، مُكلَّف بإضافة الكثير من البريق لفهارس ألفاظ الهوى.
كنت كثيراً ما أقترب من "crowning moment"، هكذا كنتُ أظن، لكنه كان يهرب من تقاسم تلك اللحظة معي، ينكمش على نفسه، ويتراجع خطوة إلى الوراء، ثم يعاود الإقامة في غموض الكلام، في وَهْدَة غامضةٌ بعيدة القرار، ويشرع في الدندنة والغناء، وتطويع أصابعه لعزف كوردات موسيقية مثيرة، لنبدأ دوراننا الغريب حول محورنا السحري مرة أخرى.
من المؤكد أن سيرة حياته الغامضة لا تخلو من بؤس وشقاء، لكني لم أكن فضولية لمعرفة الـ "CV"، ولستُ ميّالة للتعرف على مفاجآت جديدة في حياته. يكفيه أنه وحده من أزاح الغشاوة عن عيني، وجعلني اقتربُ من الآخرين، وأرى الوجود الآخر الذي اكتشفته بنفسي، وليس المُتوارَث. يكفيني أني صرتُ فراشة أحلامه، أثمن ما في جيوب ذاكرته، وعروسة صفحات دفتره السري الذي أورثني إياه، ديوانه الذي لا أحدَ بمقدوره أنْ يتصور هول الآهات التي انفجرت فيه إلّا فاقدو الأوطان. هو دفتر مدرسي "200" ورقة، دَوَّنَ في صفحاته أشجانَ الحبِّ، وصفوة رؤاه وأحلامه وآماله، وحكايات ووقائعَ أيام الميدان. وَعَدْتَهُ بطبع هذا المخطوط ونشره وتسويقه، فنظر بتمعنٍ إلى وجهي، وقال بنبرة الواثق من نفسه: هذا الصندوقُ الأسودَ لكِ، أنتِ الوريثةُ الوحيدةُ له، الوليُّ الوصيُّ القيِّم عليه. إن قتلوني فسينتصر هذا، سينتصر هذ...، سينـ...". قال جملته الأخيرة بحزم، رَدَّدَها ثلاثاً وهو يهزُّ دفتره أمام وجهي.
ارتعشت شفتا يارا، وانحدرت دمعة على خدها، وأخذت يداها ترتجفان. مشهد مثير ومفاجئ، تغيرت فيه ملامح وجهها، وارتجف جسدها بالكامل. ربما الإحساس بالمشاعر القوية أدى إلى احمرار وجهها المفاجئ، وظهور أعراض التوتر العصبي، فاستدارت الأيقونة الجريحة نحو أبيها، وواجهته وجهاً لوجه، وضعت كفيها على كتفيه، وأمطرته بوابل من الأسئلة المتداخلة السريعة:" هل قتلوه فعلاً؟ هل قتلوه يا أبي؟ ألم تنقذ حياته؟ أتظن أن هذا الفتى سيمو...؟ هل ينجو...؟ وكيف يمـ...؟ لا، لن يموت، سوف يموت، أليس كذلك؟ لا، لا، سينجو. أتظن أن موته سيتركني في سلام؟".
لا يعرفُ يارا
إلّا مَنْ ناح طويلاً.
تأوهتُ، تألمتُ يا قاتلي وتوجعت، بينما استيقظ الطبيب فزعاً على وخز سهام يارا، وأخذته رعشة شديدة، وظلَّ مُستسلماً عاجزاً عن الرد. حاول أن يتمالك نفسه لكنه لم يستطع، ردَّة فعله المفاجئة كشفت عن ملامح وجه رجل مُحطَّم، تتقاذفه أمواج حزن عاتية، ربما رفقت به سهام الأسئلة المتلاحقة، وانتشلته من الفوضى.
لأول مرة يظهر الطبيب في نسخة حزن تالفة. لم أره بهذه الصورة حين وجدتُ نفسي مُحاطاً بقفّازٍ طبي، محاصراً بخمسة أصابع، قُبالة وجهه الشاحب وعينيه الغائرتين. لا لم أره على صورته التي ظهر فيها وقفاً أمام الطاولة، ينقر بأطراف أصابعه على سطحها، ويقرأ اسمي بصوت خافت، ويتأملني للحظات بدت غريبة شديدة الغموض. لا، لا أظنَّه يبدو شبيهاً بذلك الطبيب الذي ظلَّ واقفاً مشدوهاً للحظات، رفع خلالها حاجبيه الكثَّين، ولوى شفته السفلى، وأخذ يطالعني بنظرات مُدققِّة مُتأمِّلة، اقْشعرَّ لها جسمي.
لا فائدة من التريُّث، لا بد من إيقاف هذه المعزوفة. الفتاة على حافة الإنهيار النفسي، ولا تريد مغادرة لحظتها الراهنة، وعلى الطبيب البارع أن يبعدني عن يارا، أن يفعل ما يكفي لاحتواء الصدمة.
سارع الأب الحاني إلى الظهور بصورته العقلانية المتحفظة، حفَّزَهُ على اختيارها موتي، أنا ميِّت بنظره، لم أعد أشكِّل خطراً داهماً على ابنته. هذا ما يعنيه صمت الرجل، وتكشفه ملامح وجهه. سيلجأ في هذه الحالة إلـى قطع دابر المشكلة من جذورها. سيسعى إلـى التقليل من خطورة ما جرى، ويتقرب من يارا، ويحاول ارضائها. "الزمن كفيل برتق الجراح، ستقتنع الفتاة بمقتله عاجلاً أم آجلاً، وستنشغل في طبع المخطوط وتوزيعه، ربما يستغرق تنفيذ هذه المَهَمَّة شهوراً، وهي فترة كافية لتجاوز هذه المحنة، وإعادة تشغيل أسطوانة الهجرة، وإقناع يارا بمغادرة البلاد".
بَلَعَ الطبيب ريقه وقال بنبرة متلعثمة أقرب إلى الهمس: "سأعطي لأمه عبوة الغاز الفارغة"، ثم نهض بصعوبة، واحتضن ابنته بين ذراعيه، ودمعت عيناه.
وضعت يارا رأسها على صدره، ونَظَرَتْ إلَيَّ وتساءلت بصوت خافت متقطع: أريد... أن... أراه.
ألقى الرجل المنهك نظرة نحوي، مصحوبة بهزَّةِ رأسٍ خفيفةٍ وقال:" تركته في غيبوبة".
-: في غيبوبة!

* فصل من رواية "جُمجُمة تشرين" صدرت مؤخرًا للأديب العراقي عبدالكريم العبيدي



#عبدالكريم_العبيدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الى أين تتجه الرواية العراقية الجديدة؟
- على ضفاف حل
- أتذكرُ لأنسى!
- هل ينبغي اعادة تعريف -المكان العراقي-؟
- كم أكره القرن العشرين – معلقة بلوشي
- -كامل شياع-.. معزوفة وطن
- قصة قصيرة.. صدمات مرحة
- قتلك حلال شرعا
- أسردُ وطنا حتى لا أموت
- في الآذار الشيوعي العراقي
- بيوت شيوعية مشبوهة
- نكتة سياسية
- لهذا.. أنا بصراوي للأبد!
- مسيرة بغداد
- المترجم -چِكَّه-
- الحلم السردي.. سياحة من الغرائبي إلى الواقعي
- عيد كوليرا
- خريج يبحث عن وظيفة
- خمس قصص باكية جدا
- في لحظات رحيله.. في بدء الفراق -عادل قاسم-.. صورة عراقية لمس ...


المزيد.....




- حضور وازن للتراث الموسيقي الإفريقي والعربي في مهرجان -كناوة- ...
- رواية -سماء القدس السابعة-.. المكان بوصفه حكايات متوالدة بلا ...
- فنانون إسرائيليون يرفضون جنون القتل في غزة
- “شاهد قبل أي حد أهم الأحداث المثيرة” من مسلسل طائر الرفراف ا ...
- تطهير المصطلحات.. في قاموس الشأن الفلسطيني!
- رحيل -الترجمان الثقافي-.. أبرز إصدارات الناشر السعودي يوسف ا ...
- “فرح عيالك ونزلها خليهم يزقططوا” .. تردد قناة طيور الجنة بيب ...
- إنتفاضة طلاب جامعات-أمريكا والعالم-تهدم الرواية الإسرائيلية ...
- في مهرجان بردية السينمائي.. تقدير من الفنانين للدعم الروسي ل ...
- أوبرا زرقاء اليمامة.. -الأولى- سعوديا و-الأكبر- باللغة العرب ...


المزيد.....

- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبدالكريم العبيدي - صانع أحلام.. فصل من رواية -جمجمة تشرين-