أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - سعيد الوجاني - من يحكم الله ، أم الشعب ؟















المزيد.....



من يحكم الله ، أم الشعب ؟


سعيد الوجاني
كاتب ، محلل سياسي ، شاعر

(Oujjani Said)


الحوار المتمدن-العدد: 7613 - 2023 / 5 / 16 - 20:10
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


هل الحاكمية لله ، أم للشعب ؟
هل التشبث بالعقل ، أم الاصياع للنقل؟
" مدير البوليس السياسي الجلاد Le tortionnaire et le bourreau ، قطع الكونكسيون عن منزلي حتى لا أرسل هذه الدراسة ، فاضطر للخروج لإرسالها من Cyber " .
مؤخرا سلمني أحد أصدقاء الدراسة والعمل ، كتابا لمحمد الفزازي ، الشيخ التكفيري الذي ثاب ثوبة اللاّرجوع . وطلب منّي ان اقرأه بتمعن ، حتى معرفة درجة الخطورة التي ينادي بها الكتاب ، وحتى معرفة الفكر الداعيشي الذي غُرس في المجتمع ، ويهدده بأشد الاخطار التي لا تزال تهدد المجتمع ، وتهدد الانسان والإنسانية سواء . فطلب مني بعد الانتهاء من القراءة ، انْ أعالج إشكالية الحكم في الإسلام ، على ضوء الرعاة الساهرين بطرق ملتوية ، لخدمة المشروع العام المنتج لجاهلية كل منظمات الإسلام السياسي ، التي تحلم بدولة الخلافة ، التي لم تكن ابدا راشدة حين تم اغتيال زعماءها ، او امراءها بخنجر مسموم حتى في المساجد وهم يؤدون الصلاة . ولو لم يكن هؤلاء جائرين ، ومجرد طغاة وحكام مستبدين ، هل كان لثوار الشعوب المستعمرة ، التي سلبت نساءهم ، واستولوا على ارزاقهم ، وتفقيرهم بفرض الضرائب المجحفة ، ليسعد واسرته الخليفة امير المؤمنين ، خاصة وانّ اول انقلاب سياسي سيحصل في تاريخ الانقلابات السياسية ، كان انقلاب مؤتمر " سقيفة " ، عندما تم سرقة الحكم السياسي ، من أصحاب الحق في تولي شؤون الامارة أهل البيت برئاسة علي . فالانقلاب الذي نظمه ستة ( فقهاء سياسيون ) ، سيعطي الحكم وشؤون الخلافة ، لابي بكر الصديق ، ومنذ ها ، توالت الصراعات بين المتصارعين لكسب الثروة والجاه والنفود ، وامتلاك حب السيطرة طبعا بتخريجات قرآنية توجد احتكار الحكم في الحاكم الجديد .
الكتاب الذي مدني به ذاك الصديق عنوانه " الشورى المفترى عليها والديمقراطية – نظرات في السياسة الشرعية " . وكل من اضطلع على الكتاب وقرأه بتمعن وبالعين البصيرة ، سيجد الفكر الداعشي المتطرف الذي استعمل لتخريب دول الشرق الأوسط بأسماء مختلفة كالقاعدة ، تنظيمات الجهاد ، والدواعيش ، وينتظر نفس الفكر تدمير ما تبقى من دول وشعوب شمال افريقيا ..
وقبل ان ندلي بدلونا في هذا المشروع الذي لا يزال يجتهد للتطبيق بمسميات كثيرة ، ومراجع متعددة ، سنقتبس فقرات دالة من الكتاب ، وما تصبو لتحقيقه ، تتفق عليه جميع منظمات وأحزاب الإسلام السياسي ، التي تنشد نظام الخلافة المتعارض ، بل العدو للديمقراطية ..
إذن هل الحاكمية لله وحده دون غيره ، ام انها للشعب وللجماهير ؟
من يحكم . هل الله أم الشعب ؟
هل يجب التسليم بالعقل ، أم يجب ضرب العقل ، لإفساح المجال والطريق للنقل ؟
إن من أهم الفقرات ، والجمل ، والمصطلحات التي جاءت في الكتاب ، وهي دالة الدلو السياسي الذي لا غبار في حصر دعواته نذكر :
" ان الكفر هو الفكر المشترك بين جل الأحزاب ، والغريب انهم يحسبون انفسهم مسلمين وما هم الاّ حطب جهنم .. ص 30 " .
" ان اكبر موجة في ردة التاريخ هي الديمقراطية . ص 37 " .
" الديمقراطية نحلة بالية في ثوب جديد .. وباعتبارها شيطانا . ص 38 " .
" ان احترام الرأي الاخر ، هو احترام الكفر . ص 40 " .
" لا شك ان الخصم الأكبر للإسلام هو الكفر ، ولا شك في ان جناح الكفر هو الديمقراطية . ص 41 " .
" اذا كانت الديمقراطية هي الإسلام ، فأمريكا اذن دولة مسلمة . ص 52 " .
" ليست الديمقراطية هي الإسلام ، ولا الإسلام هو الديمقراطية . ان الفرق بينهما هو فرق بين الحق والباطل ، والايمان والكفر . ص 52 " .
" اننا حتى ولو كنا على يقين من انّ الشعب الذي سنحتكم اليه ، احتكاما حرا نزيها ديمقراطيا ، سيعطي صوت اغلبيته للإسلام شريعة ، وحكما ،ونظاما ، فان دولة إسلامية آنئذ سوف تقوم – انْ قامت – بطريقة كافرة ووسيلة باطلة . ص 60 " .
" يجب على المسلمين ان يتحاكموا الى شريعة الله لا الى صناديق الكفر و الاشراك . ص 62 " .
" تحكيم الشعب شرك اكبر . ص 63 " .
" ان كلمات عبد السلام ياسين ترفض الإسلام كله وتطلب الكفر كله ص 67 " .
" ان عبد السلام ياسين استطرد عبارات الردة . ص 69 " .
" الشعب فاسق ملحد . ص 70 و 71 " .
" من القضايا الجوهرية في المذهب الديمقراطي التي تتعارض مع الإسلام : التصويت . ص 75 و 76 . " .
" ثم اليس من المفروض وانتم مسلمون وأصحاب سلطان – يخاطب عبد السلام ياسين – ان تقيموا حد الله على المرتدين وحد المرتد هو القتل . ص 91 " .
" وهب ان هؤلاء الملاحدة – أي الأحزاب السياسية – لم يتبعهم احد ، وانهم ما جنوا من حملتهم ودعايتهم الانتخابية الاّ الخزي والخيبة . اليس هؤلاء الملاحدة ناسا يجب ان تجري عليهم احكام الإسلام بالقتل والاعدام . ص 91 و 92 " .
" كيف تفهم الحكومة التناوب في الإسلام فكرة باطلة من أساسها . ص 98 " .
" ان من لا دين له يهدر دمه وماله . ومن كان له دين غير الإسلام ، فهو أيضا حلال الدم والمال ، الاّ ان يرضى بحكم تعالى ويعطي الجزية وهو صاغر . ص 114 " .
" فما هو الاّ الإسلام او السيف . ص 115 و 116 " .
" ان البرلمان ليس مكانا للمشورة .. هذه البرلمانات معتدية على حق الله تعالى . ص 118 " .
" الديمقراطية باطل نكفر به . ص 119 " .
" فليس في الإسلام مجلس شورى من العلماء بالكتاب والسنة والعلوم الشرعية ، ملتحين ومعممين مجلبين ، وحكومة ( عصرية ) إفرنجية ثقافة واخلاقا ، حالقة الوجوه ، عارية الرؤوس ، بلباس القومية الغربية ... وقضاة ومحامون بلباس الرهبان غرابيب سود .. وعسكريون لا يحسنون غير انضباط الجندية . انه لا مكان في الإسلام لما يسمى عندهم فصل السلط . ص 120 و 121 " .
" الفكر الديمقراطي يجعل حرية التعبير ، واستقلالية الفكر ، والرأي باللسان والقلم ، حقا من حقوق الانسان . اما في الإسلام فللحرية ضوابط شرعية : فلا حرية للإلحاد والردة ، و لا حرية للمحرمات والموبقات معاقرة وترويجا . فسب الدين مثلا ، والاستهزاء به وباهله ، سواء في الشارع العام ، ام في وسائل الاعلام مكتوبة كانت ام مرئية ، يستوجب القتل والاعدام ، لا الحرية والاكرام .. ص 130 " .
"فمن يخرجنا من الجور ، والتسلط ، والاستعباد ، والاستبداد : الإسلام ام الديمقراطية ؟ الله ام الشعب ؟ ص 161 " .
" ان كلمة واجبه الانتخابي ، لغة دخيلة مستوردة ، وهي لا تكون غير واجبة فقط ، بل الادلاء بها محرما شرعا . بل هو يفضي الى الردة والخروج عن الإسلام . ص 171 و 172 " .. الخ ..
اذن بعد هذا العرض الذي حاولنا فيه ان نعطي نظرة عن طبيعة الأفكار التي روج لها الكتاب ، وعلى اكثر من صعيد ، اجد من الضروري بدأ المناقشة لإبطال ما جاء من أفكار متطرفة وخطيرة ، بمجموعة من الأسئلة ستكون الإجابة عنها إجابة رزينة عن أفكار هذا التيار الهدام الذي يكفر كل المجتمع ، وليس فقط النظام ..
-- هل يجوز التسليم بالاختلاف والاجتهاد في الإسلام ، واستعمال العقل بدل النقل ، ام يجب ان نسلم بفكرة الهيمنة الإلهية على الانسان والكون والطبيعة ؟
-- هل يجوز شرعا نفي شرعية السلطة السياسية التي لا تقيم شرعيتها على الشرعية الإلهية ؟
-- هل شرعية السلطة السياسية في الأرض تتحدد بمعيار انقيادها لله ، ام لمعيار الشورى ، ام لنتائج صناديق الاقتراع ؟
-- هل تطبيق السلطة السياسية للشريعة في الحكم ، هو دليل على إسلامية السلطة ، ام انه دليل على شرعيتها المفقودة ؟
-- وأخيرا وليس آخرا . هل الحاكمية ، أي الحكم ، هو لله أم للشعب والجماهير ؟.
ان الإجابة عن هذه التساؤلات ، ليست ترفا فكريا ، او سجالا بيزنطيا ، وانما تشكل حوارا عقلانيا مع أولئك الذين ينبتون كالفقاقيع في الاحياء الشعبية ، بسبب انتشار الجهل ، والفقر ، والامية ، والظلم الاجتماعي الصارخ ، أولئك الذين كفروا حتى المنتسبين والمشتغلين للحقل الإسلامي ، وهم كثيرون موجودون بمختلف البلاد العربية .. ففي فهم ونظر هذا الخطر الداهم ، وفي صمت . اذا كنت مسلما تطبق تعاليم الإسلام بالحرف ، ولكن وجهك لا يحمل لحية ، او يحمل شاربا من دون لحية ، فأنت كافر . اذا استعملت نظارات تقي من اشعة الشمس ، فانت كافر تقتدي بالأمريكان . واذا كنت تتردد على دور السينما ، وتشاهد الشاشة الصغيرة ، فانت كافر . ربطة العنق كفر ، الكمبيوتر كفر ، عمل المرأة كفر ، الهاتف النقال كفر.... الخ .
وقبل ان نجيب عن السؤال . من يحكم الله ام البشر ، نشير بادئ ذي بدء ، الى ان الإسلام كعقيدة ، من المفروض ان يترفع عن التطرف والغلو ، لان الدين وايّ دين بالقناعة ، وليس بالجبر ، والضبط ، والسيف . فالإسلام من خلال البعض من آياته ، لان آيات اخرى تنفر الناس من الإسلام ، يقر بمبدأ الاختلاف والاجتهاد ، في الأمور التي تهم الشؤون العامة في الحكم . وبرجوعنا هنا الى القرآن ، نجد الآية في سورة " هود " تقول " لو شاء ربك لجعل الناس امة واحدة ولا يزالون مختلفين الا من رحم ربك ولذلك خلقهم " ، ثم قوله " وشاورهم في الامر " ، و " امرهم شورى بينهم " . ثم ثابت الحديث النبوي الذي رواه مسلم ، وابن باجة ، وابن حنبل ، عن طلحة بن عبيد الله ، والسيدة عائشة ، وانس بن مالك ... الخ ، عن قول صلعم " ما كان من امر دينكم فاليّ مرجعه ، وما كان من امر دنياكم فانتم اعلم به " . ومن هنا فان المتطرفين حين يعمدون الى القول ، بان الحاكمية لله وليست للبشر ، فانهم يخلطون بين أمرين أساسيين هما :
أولا ، جهلهم بالسياق الذي وردت فيه الآيات القرآنية .
ثانيا ، عدم معرفتهم وجهلهم لأسباب النزول ، أي نزول الآيات عند الاستشهاد بها . وهذا شيء مهم ، لان الحاصل هو انّ بناء الاحكام عليها ، يؤدي الى نتيجة مغايرة ، وهذا تحصيل حاصل لهذه النظرة الضيقة والخاطئة .
وقبل ان نحدد مفهوم " الحاكمية لله " ، خاصة عند ابي الأعلى المودودي ، الذي ركز على هذه الدعوة كثيرا في فلسفته ، لإقامة نظام إسلامي فاشي ، نشير الى ملاحظة هامة ، وهي ان " الحاكمية لله " ، هي دعوة قامت أيام الامام علي بن ابي طالب ، " الاّ ان الحكم لله " فقال " كلمة حق يراد بها باطل " .
الحقيقة ان أصحاب هذه الدعوة ، ينطلقون من منطلق خاطئ ، حيث يتصورون انّ الدين الإسلامي ، او القرآن والسنة ، لم يترك كبيرة او صغيرة الاّ ونظمها ، وهذا طبعا غير صحيح اطلاقا ، لان سر خلود الدين الإسلامي في الزمان وعبر المكان ، انه حدد العقائد والعبادات والتوجهات الرئيسية في المعاملات ، وهذا شيء مسلم به ، وفي عذا ذلك تركه للعقل البشري .
فاذا كنا نسلم بالآيات المحكمة جميعا .. ان القاتل يقتل ، وان الزاني يرجم الى غير ذلك ، فان الحياة اليوم ليست فقط قتلا ، ورجما ، وبتر الايدي والأرجل ، وليست فقط بزنى ، وليست حدودا .
ان الحدود محصورة ، والوسائل الواردة في الدين الإسلامي في الزمان وعبر المكان محدودة ، والدين جاء لكي يواكب العصور والازمنة ، حتى يفني الله الأرض بما عليها .
كانت الديانات تأتي عندما ينتشر الفساد ، فيأتي نبي برسالة جديدة ، وثورة إنسانية جديدة ، تمحو هذا الفساد المستشري والضار .. وتبدأ الكرة من جديد ، وأيضا يتغير المجتمع ، وتختلف عاداته ، وينحرف الى حد كبير ، فتأتي رسالة جديدة وهكذا .. بينما لما جاء الإسلام ، جاء كآخر الرسالات ، وكآخر الأديان . وقد تبثث صحة هذا ، لأنه لم يأت أي دين من بعده ، لأنه ترك مساحة ضخمة للعقل البشري ، كي يتدبر أموره .
ان كل ما جاء في الدين الإسلامي عبارة عن توجهات وقضايا كلية . فمثلا . " واذا حكمتم بين الناس فاحكموا بالعدل " . ان جوهر المسألة هنا هو ان نحكم بالعدل . انما كيف نحكم بالعدل ؟ ومن الذي يحكم بالعدل ؟ هل محكمة ابتدائية ام محكمة استئنافية ، ام محكمة إدارية ، ام محكمة تجارية ام المجلس الأعلى للقضاء ؟ هل قاض واحد او قاضيان او ثلاثة قضاة ؟ هل هؤلاء القضاة يعينون او ينتخبون ؟ .... الخ . فهذه المسائل متروكة للعقل البشري ، لأنها مرتبطة بظروف المجتمعات وتطور الأزمنة المسترسلة . فلا نستطيع في عصرنا الحالي إحضار الملك ليحكم بين الناس ، لان هناك آلاف القضايا المختلفة والمتعددة تطرح اليوم ، وكل يوم .
اذن السؤال سيصبح هو . كيف نشكل النظام القضائي في هذا الظرف المحدد ؟ .
فما كان يتم منذ الف سنة ، غير صالح الآن . امّا الجوهر فلا بد من الحفاظ عليه . انّ الدين الإسلامي دين جوهر . اما الأنظمة ، فهي تشكل أسلوب المعالجة لكي نصل الى هذا الجوهر . فليس المطلوب من الملك محمد السادس اليوم ، ان يمشي بجلابة ، او سِلْهام ( بُرْنس ) فيه مائة رقعة ، وينام تحت شجرة ، ويتغدى بثمرة ، ويركب بغلا ، او جملا ، او حمارا .. ولكن المطلوب هو الحفاظ على الجوهر ، لان التركيبة النفسية للإنسان المغربي مكونة في غالبها من دين ( الطقوس ، والتقاليد المرعية في الدولة الرعوية ، البطريركية ، البتريمونيالية ، والثيوقراطية ... ) ، وعليه يجب معالجة القضايا دون اصطدام بالدين .
اذا كان الدين الإسلامي يحث على الاجتهاد ، ويشجع على الاختلاف ، ويُمكّن من التسيير.. فاين الاختلاف اذن والتقاطع مع ، أولئك الذين يلهثون وراء دعوة " الحاكمية لله " ، ونفيها عن البشر الأولى بها بنص الدين نفسه .
قبل مناقشة هذه الاطروحة الثيوقراطية ، أجد من الأنسب ان نعالج ولو نسبيا دعوة " الحاكمية لله " كما دعا اليها كثيرا أبو الأعلى المودودي .
يعتبر أبو الأعلى المودودي ، من المفكرين الإسلاميين المتطرفين ، والمتزمتين ، الذي استعمل هذه الدعوة ليبرر بها الانفصال عن الهند ، ولتبرير الانفصال والدعوة الى نصرة دولة باكستان ( الإسلامية ) . لذا فان تلويح المودودي بمفهوم الحاكمية ، كان غطاء للانفصال ، وبناء دولة باكستان ( الإسلامية ) .
وبرجوعنا لتحليل مضمون دعوة المودودي المتطرفة ، نكتشف انه يجعل من مفهوم الحاكمية مفتاح نظريته السياسية الكونية ، لأنها تمثل الأساس الذي يرتكز عليه نظام الحكم الثيوقراطي ، الذي ينبغي ان يسود المجتمعات الإسلامية كافة ، بل والكون باسره . لذا يثبت المودودي كأول بند في الدستور ، انّ الحاكمية لله ، ولا يعني هذا الامر إثبات مسألة دينية ، الغرض منها اثبات نوعية عقيدة الدولة ، وإنما يعني ان كل مؤسسات الدولة قائمة على شرائع وقوانين لاهوتية . بل ان المعاملات الفردية والجماعية ، تضبطها المعايير الدينية ، دون غيرها من المراجع الأيديولوجية او المذهبية .
وعليه تقتصر مهمة الفرد في تعمير الأرض وفق هذا التعاقد .. فليس الامر يجري كما في المجتمعات الغربية ، حيث ينظم الانسان حياته تبعا لتعاقد مجتمعي ، ومن ثم إقامة سلطة خاضعة لقوانين وضعية .
ان السلطة السياسية الحقيقية كما يرى المودودي ، إنما هي من اختصاص الله ، ومنه تستمد كل القوانين . فلا حاكم الاّ الله ، ولا خضوع لحكومة ، ولا اعتراف بدستور ، ولا انقياد لقانون ، ولا لسلطان على الفرد لمحكمة من المحاكم الدنيوية . وليس هناك من صاحب سيادة ، فالسيادة كلها مقتبسة من شرعه ، ولا مشرع من دونه ، فالقانون قانونه ، ولا يليق التشريع الاّ بشأنه ، ولا يستحقه الاّ هو ، وحسب فلسفة المودودي ، انّ الله وحده الله اصل كل إصلاح وأساسه .. فكر داعيشي وقاعدي بامتياز ..
اما حاكمية الانسان في نظر المودودي ، فهي أصل الظلم ، والفساد ، والجور ، والاعتداء ، والتسلط ، ونهب الثروة .. ويمثل الرسول وسيلة ذاك التعاقد المتحدث عنه أعلاه . لذا كان على الفرد والافراد ، طاعة رسول الله ، وعدم الانسياق وراء العقل ، وما يتطلع اليه من حرية . ففي نظر المودودي انّ حرية الفكر والعمل ، تتناقض مع التمدن والحضارة ، وعليه وجب انتقال الحكم السياسي من العقل الإنساني ، الى الله ورسوله ...
المودودي يذهب الى انه بالإمكان استعمال العقل في الحياة الدينية والسياسية ، لكنه سرعان ما يقيد هذا الاستعمال في مجال الفهم ، ويحرمه في الشك والتساؤل ، وسواء تم التطابق بين احكام العقل ، وبين الأوامر الإلهية ، وسنة الرسول ، أم لم يتم .
فالنظام السياسي حسب المودودي يقوم على الطاعة والتسليم ، وانّ الشك والتساؤل لا يؤدي الاّ الى الفوضى والبغي . فلا مكان اذن للعقل عند المودودي ، ومن هم في عشيرته . انه لا يلعب أي دور في العملية الإصلاحية ، ولا غرابة في ذلك ما دام المودودي لا ينظر الى الانسان صانع الاحداث والتاريخ ، الاّ نظرة ناقصة . فالإنسان " ما خلق الاّ على العبودية ، وهو فقير محتاج ضعيف من حيث الفطرة " و " ان البشر قد خلقهم الله على ضعف فطري " .
ان المودودي وهو يستهل دستوره بتحديد لمن الحاكمية ، انما يعتمد في ذلك ، أ حد أهم أركان الإسلام ، وهو التوحيد ، ليخرجه من مجال الايمان ، ويستعمله استعمالا سياسيا . فهو يرى ، انّ صرح الحياة الإسلامية ، لا يمكن بتاتا ان ينهض ، دون الإقرار بمبدأ التوحيد ، الذي يحيط بجميع نواحي الحياة الإنسانية ، الفردية والجماعية .
ان القول بمبدأ نظرية الحاكمية ، كان الهدف منه ، اقامة دولة ثيوقراطية فاشية ورجعية ، لا يكون فيها الحكم للإنسان ، او لطبقة ، او لحزب ، وانما لله وحده دون غيره . ان الفلسفة المودودية لا تعترف ، الاّ بحزبين . حزب الله وحزب الشيطان الذي يجب محاربته . ويخلص المودودي الى القول " ان الإسلام يأبى ان يتحزب أهل المشورة " .
فهل من يحكم الله ، ام الشعب والجماهير ؟
هناك جزم وقطع ، وهو جزم وقطع توصلنا له منذ بداية ثمانينات القرن الماضي ، وبالدليل الملموس ، من ان منظمات الإسلام السياسي بمختلف مشاربها ، وبمختلف صورها ، في طرحها الحاكمية لله ، وانّ اصل الحكم ، وأصل السلطة السياسية كلهم مستمدون من الله ، وانّ أي نظام سياسي لا يحكم بالتشريع ، هو نظام غير شرعي ، استنادا الى هذه الدعوة التي يرجعون تفسيرها الى بعض الآيات الواردة في القرآن " من لم يحكم بما انزل الله فأولئك هم الكافرون " ، " و من لم يحكم بما انزل الله فأولئك هم الظالمون " ، " ومن لم يحكم بما انزل الله فأولئك هم الفاسقون ، افحكم الجاهلية يبتغون ، ومن احسن من الله حكما لقوم يوقنون ... " ..
ان هذه الآيات وغيرها ، عندما نسمعها لأول مرة ، تبدو لنا مهمة . لكن عند تمحيص هذا الامر ، فإننا سندرك ، ان المقصود بها ، غير الذي تطرحه كل منظمات الإسلام السياسي التي تشتغل على الحكم بالسيطرة عليه ، لتغيير شكل الدولة من نظام دولة ، الى نظام الخلافة الفاشية التي ينعتونها الراشدة . والاّ كيف يمكننا انْ نوازن بين مجموع الآيات القرآنية ، او نقارن بينها وبين آيات أخرى تطرح مثلا " وشاورهم في الامر " ، و " امرهم شورى بينهم " . وكيف نقارن بين هذا الامر وبين ( ثابت ) الحديث النبوي الذي يقول " ما كان من امر دينكم فاليّ مرجعه ، وما كان من امر دنياكم فانتم اعلم به " . فهذا تحديد واضح ، قاطع ، وشامل ، اذا افترضنا ان ( الاحاديث ) باسم الرسول ثابتة وصحيحة ..
ان اكبر خلل في فهم وتفسير الثيوقراطيين الفاشيين ، يعود كما أسلفنا أعلاه ، الى أمرين يفسران التغول في إصدار الفتاوى ، وفي الكثرة بطرح الاحاديث المشكوك في صحتها ، لأننا نحن نستعمل العقل ، ولسنا ببغاوات نردد ما يثقل مسامعنا ، باسم النبي ، وباسم الرسول ، وتُعدّ بالآلاف ، سيما وانّ النبي كان أمياً ، يجهل القراءة كما الكتابة ، ومع ذلك سنساير هذه الاقاويل فرضاً انها صحيحة ولا شك في اصلها ..
-- الامر الأول : ويتعلق بعدم مراعاة السياق الذي ( وردت ) فيه الآيات القرآنية .
-- الامر الثاني ، هو عدم معرفة أسباب النزول عند الاستشهاد بالآيات ، وعليه فان بناء الاحكام عليها يؤدي الى نتيجة مغايرة .
فمثلا تقول الآية في سورة المائدة . " يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله " ، المعنى الأصيل للآية ، انّ الله يقصد بها بنو إسرائيل وفلسطين ..
لكن اذا جارينا منطق أصحاب الحاكمية لله ، وإنْ نحن جارينا الفاشية الإسلامية في احسن صورها ، فهذا معناه تبرير للحركة الصهيونية ، واعطائها شرعية الوجود في فلسطين . بينما لو رجعنا الى قصد القرآن ، فإننا نجد ان الآية تسرد واقعة تاريخية قبل 2000 سنة ، عندما كانت تخاطب بني إسرائيل في ذاك الوقت .
ولذلك فان معرفة أسباب النزول ، والظروف التاريخية التي أدت لذلك ، مهم جدا في تفسير الآية او ( الحديث ) ، وعلى ذلك طبعا يجمع كل مفسري القرآن .
ومن جهة أخرى ، فان الثيوقراطيين جماعات الإسلام السياسي ، عندما يقولون بحكم الله ، فانهم يظنون ويعتقدون ، انّ القرآن و ( السنة ) ، والفكر السياسي الإسلامي ، يستخدمون الحكم للدلالة على النظام السياسي في الحكم ، وتسيير الدولة . لكن الحقيقة ، أنّ هذا المفهوم كانت له دلالة أخرى . فلو رجعنا مثلا للاستخدامات القرآنية ، سنجد ان كلمة حكم ، قد وردت ضمن معنيين لا علاقة لهما بما ذهب اليه الفكر السياسي في الفهم الاستيعاب .
-- المعنى الأول ، بمعنى القضاء والفصل في المنازعات . أي الحكم والتحكيم ، وكما ورد في الآية " ثم اليّ مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون " . وفي العصر الحالي الحديث Le temps moderne ، فان كلمة حكم تعني نوعية النظام السياسي القائم ، و السائد في الدولة .
-- المعنى الثاني ، هو معنى الفقه والعلم . فمثلا يقول القرآن في وصف النبي يحيى " وآتيناه الحكم صبيا " . وبالطبع لم يكن المقصود بالآية ، إعطاءه الحكم ليحكم البلد وهو صبي ، فهذا لا يقبله العقل السليم ، وانما اعطيناه الفقه ، والعلم ، والحكمة ، والمعرفة صبيا .
كذلك يدعو النبي إبراهيم ربه فيقول . " ربي هب لي حكما والحقني بالصالحين " . وطبعا فالمعنى والقصد هنا ، ليس أعطيني السلطة السياسية لأحكم البلد ، وانما القصد والمعنى المستخرج ، هو اعطيني العلم ، والفقه ، والحكمة " .
واذا رجعنا الى الادب السياسي للإسلام ، والى الفكر السياسي الإسلامي ، سنجد انّ المعنى والقصد من المصلح المستخدم ، هو مصلح الامر ، ومن كلمة الامر اشتقت كلمة الأمير، الذي هو على رأس السلطة السياسية في الدولة ( أمير المؤمنين ) .
انّ الامر كلمة لها اتصال مباشر بالائتمار وبالتشاور ، التي هي في الحقيقة تجسد فلسفة الحكم في الإسلام . ومن هنا نجد الآية تقول " وشاورهم في الامر " ، " وامرهم شورى بينهم " ، " واطيعوا الله والرسول وأولي الامر منكم " ... الخ ..
نعم ان المسلم الحقيقي هو من سلم بكلمة الحاكمية لله ، كما جاء في ( سنة ) الرسول ، لمّا ارسل صلعم معاذ بن جبل قاضيا على اليمن ، فقال له " بماذا تحكم يا معاذ " ؟ . أجاب " إذا عرضت عليّ قضية ، أحكم فيها بما جاء في كتاب الله " . وزاد قائلا له " واذا لم تجد " ، إذن هنا نستفيد ان القرآن لم يأت بحلول نهائية شاملة لكل كبيرة وصغيرة .. رد عليه معاذ قائلا " احكم بسنة رسول الله " ، وهنا كذلك نستفيد ان حتى السنة ظلت ناقصة ، ولم تأت بحلول لجميع القضايا المطروحة . فقال له مضيفا " اجتهد رأيي ولا آلوا " . أي لا اتوقف . فقال صلعم " الحمد لله الذي ارشد مندوب رسول الله الى ما يحبه و يرضاه " ..
ان مكمن الخلاف ، هو انّ الفاشيست المتطرفة ، ينفون ويعدمون كل شيء ، في حين انّ دعاة استعمال العقل يأخذون الجانب الديني في مجمله ، وبما اجتمع عليه ، فلا يجزئونه ، ولا يفرقونه . فلا يمكن مثلا التفريق بين الصلاة ، وبين طريقة استخدام مال الشعب المفقر ، والدولة ، ولا بين العقيدة وبين صلاح الانسان ، وسعادته ، وسعيه بغير استغلال ، وبغير نهب وافتراس للثروة ، وبغير ظلم . ان الدين الإسلامي كغيره من الديانات الاخريات ، يقوم على أبعاد اجتماعية هامة ، يجهلها او يتجاهلها الإسلام السياسي المتطرف ، ولم يكشف عنها عن قصد ، او عن اهمال بوعي او بدون وعي .
نحن نؤمن بعدة حقائق أساسية مثل ، إنّ الدين الإسلامي يقوم في بعده الشامل على حقيقة تقول ، بانه لا يصح ، ولا يجوز لأحد انْ يعيش مترفا في ترف باذخ في دار الإسلام ، وهناك في هذه الدار مسلم او انسان ، لم يصل الى حد الكفاية ، وليس الى حد الكفاف . وينبغي انْ نعلم انّ حد الكفاية يعني مسكن مناسب ، ملبس مناسب ، مأكل مناسب ، مأوى مناسب ، ووسيلة نقل مناسبة ... الخ ، وانه الى ان يتحقق ذلك ، ليس من حق أحد ان يعيش مترفا في ترف وتبذير ، والاّ كانت حياته سحقا وظلما " يأكلون في بطونهم نارا " .
نحن نؤمن انّ الإسلام جاء كعقيدة عامة ، لا تتعرض للتفاصيل الجزئية ، وانما للقضايا الكلية التي نستهدي بها . ومن ضمن القضايا الكلية التي نستهدي بها ، أنه ليس من حق احد ، سلطان ، او ملك ، او امير ، او حاكم .. الخ ، ان يعيش مترفا ، والناس لم تصل الى حد الكفاف دون الكفاية ، بل وصلت تقتات من فضلات حاويات الازبال ، بل وصلت حد الموت .
ان الحقيقة الدينية الأخرى التي نؤمن بها ، إضافة للجانب الفلسفي الذي حدده الدين كحقائق مطلقة ، انه لا يجوز و لا يصح لاحد في دار الإسلام ، ان يمتلك شيئا دون حاجة ضرورية . والقرآن يقول " خذ العف وامر بالمعروف واعرض عن الجاهلين " . ومعنى خذ العف ، أي خذ ما يسد حاجة الانسان الضرورية . وقد اختلف الفقهاء في المدى الزماني للحاجة الضرورية . هل هو يوم واحد ، او ثلاثة أيام ، او سنة كاملة ... بل حتى وفق أضيق التفسيرات توسعا ، لا يصح لاحد ان يمسك لديه من مال خاص ، ما يزيد عن حاجته الضرورية . بل حتى الحاجة الضرورية يستطيع الملك او الحاكم ان يأخذ منها ، ليرد على انسان لم يصل الى حد الكفاف او الى حد الكفاية .
في النهاية إننا نؤمن بجميع الديانات دون تمييز بينها ، لأننا لا نفرق بين الأديان ، وما الإسلام الاّ لبنة أخرى وأخيرة في الأديان كلها .
كذلك إننا نؤمن أشد الايمان أنّ الدين الإسلامي والديانات الاخريات ، لا يصادم ما ينبغي ان نتخذه من أنظمة تفصيلية في حياتنا ، وتقرير مصيرنا ، لأننا نحن اعرف بأمور قضايانا ومشاكلنا .
( كان الرسول صلعم قد امر الناس الاّ يؤبروا النخل ، ففعلوا ولم يثمر النخل في السنة الموالية فسألوه . لقد امرتنا يا رسول الله الاّ نؤبر النخل ، وها هو النخل لم يثمر في هذا العام . فرد عليهم بان أبروه او لا تؤبروه انتم اعلم بشؤون دنياكم . )
( وفي معركة بدر ، عندما أشار عليهم الرسول بالنزول في مكان معين ، فسأله احدهم . هل هذا منزل انزلك إياه الله ، ام هي الحرب والرأي والمكيدة ؟ . أجاب : بل هي الحرب والرأي والمكيدة . فقال له : اذا فهذا ليس بمنزل ، واصطف المسلمون امام عين الماء حتى يحاربوا ووراءهم الماء يمنعونه عن المشركين ، وانتصر المسلمون في تلك المعركة . ) .
ورغم تشكيكنا في هذه الاحداث أعلاه ، تغاضينا عليها وسلمنا بها لتثبيت حقيقة في العقائد والعبادات ، وهي ان الإسلام نؤمن به كغيره من الديانات ، لكن في القضايا الشخصية ، فقد جاءنا بعموميات كلية ، ولم يأت بأنظمة تفصيلية ، تاركا للعقل البشري القدرة على ان يجتهد ، ليحقق لنفسه سعادته وسكينة حياته .
انه مطلوب شرعا وفرضا ، ان نضع النظام الذي يستطيع في مكان معين ، وفي فترة زمانية محددة ، مواجهة مشكلات معينة ، أهمها الظلم الاجتماعي الصارخ ، والفقر ، والتفقير ، والجهل ، والتسلط ،والتخلف ، وانْ نضع من الأنظمة والنظريات ومن المناهج والاسس ، ما نستطيع به ان نعيش كرماء ، أعزاء ، أحرارا لا عبيدا ، لان الله خلق الناس أعزة أحرارا ، وخلق ابن آدم خليفته في الأرض . فإذا كان الله قد قال في القرآن . و" لقد كرمنا بني آدم " ، فاين نحن من هذا التكريم لابن آدم ، وهو جائع ، حافي القدمين ، لا مأوى له ولا لباس يستر به عورته ، ومعرض للظلم ، وللاستبداد ، والطغيان والدوس على حقوقه ... ؟
ان الله لم يخلقنا ليقدر لنا الجوع ، والعراء ، والتشرد ، وهضم الحقوق .. وإنما الانسان هو من فعل ذلك كله ، وعليه ، فلا بد من مواجهته وبكل الوسائل الممكنة والغير الممكنة ، اذا اقتضى الامر ذلك ، لإحقاق كلمة الله بانْ يكون الانسان مكرما .
واذا كان " فريديريك انجلز " محقا حين قال ، بان الانسان لا بد ان يأكل ، ويشرب ، ويلبس ، و ينام تحت سقف وفي مأوى محترم .. لكي يفكر ويتفلسف ويتدين ، فإننا نقول للحكام المرضى الخائفين ، وللثيوقراطيين المتعصبين الفاشيين ، لا بد ان نأكل ، ونشرب ، وان نتحرر ، وان نعيش أعزاء كرماء ، وانْ نسكن تحت سقف محترم ، ومأوى مناسبا ، وليس في أعماق الدهاليز كالخفافيش والفئران ، وذلك لكي نفكر ونتفلسف ونتدين بدون ذل السؤال .
وبخلاف الثيوقراطيين المتعصبين ، فإننا اذا كنا نؤمن بان الشريعة شأن الهي ، فإننا نؤمن كذلك بان الفقه ، أي الفهم والتفسير ، هو شأن بشري ، الاختلاف عليه وحوله هو شرط صحة .
ان الشريعة واحدة والفقه متعدد . الشريعة ثابتة ، والفقه متغير ، فهو نسبي وناقص ، لأنه بشري ، وحيث انّ لِ الله وحده صفة الاطلاق والكمال ، الامر الذي يسهل علينا إقامة الفرق بين سلطة الشرع ( الله ) ، وسلطة الفقيه ( البشر ) . فالأولى مطلقة وتتضمن عنصر الالزام بذاتها ، أي بما هي أوامر الهية ، والثانية نسبية ، استمرارها او عدم استمرارها يتوقف على طبيعة العقد الاجتماعي بين الفقيه وبين المجتمع .
الملاحظ انّ اختلاف التفسيرات والتأويل بخصوص التعامل مع النصوص ، تبقى مسألة مسلمة ،لأنها ترجع لتشرذم الإسلام السياسي ، حيث ان أصحابه يؤمنون ( بحديث ) لم تثبت صحته يقول " ستنتهي امتي في آخر الزمان الى ثلاثة وسبعين فرقة ، اثنان وسبعون منها في النار ، وواحدة فقط في الجنة ، حيث ان كل فرقة تتصور انها وحدها الناجية ، والباقي في النار ( تكفير المجتمع والدعوة لقتله ) . ان هذا التشتت طبيعي لانهم يتفقون على العموميات ، لكن عند الدخول في التفاصيل ، يختلفون اختلافا شديدا ، كما يقول المثل الألماني " في التفاصيل يدخل الشيطان " .
ان تشرذم الإسلام السياسي لا يستند الى الخلاف على الثوابت ، او على النصوص ، وانما على تفسيرها وفهمها ، أي على المتغيرات المرتبطة بغير الظروف . فليس هناك خلاف بين ( السني ) و ( الشيعي ) ، او بين ( الحنبلي ) و ( المالكي ) و ( الشافعي ) او بين المسلم في المغرب والمسلم في الصين مثلا ، حول وحدانية الله ، والعدل والقصاص السماوي ، او حول العبادات والصلوات ، او على العقيدة كعقيدة . لكن عندما يتم الانتقال الى المسائل الدنيوية ، وخاصة مسألة السلطة والحكم السياسيين ، هنا يحدث الاختلاف والخلاف . فبعضهم يقول ان الملك مسؤول امام الرعية ، والبعض الاخر يقول بمسؤولية الملك امام الله فقط . بعضهم يذهب الى ان الشورى ملزمة ، وبعضهم الاخر يقول انها ليست ملزمة . بعضهم يذهب الى ان الخلافة ركن أساسي في النظام الإسلامي ، وبعضهم يقول بانها ليست كذلك ... الخ . ، ومن هنا فعندما يوضع الإسلام موضع الحكم ، فيصبح متغيرا بتغير الزمان والمكان ، فإننا نقر بالاختلاف والخلاف ، وبالاجتهاد في الإسلام . وضمن هذا الفهم ، ليس غريبا ان يتولى ابوبكر الصديق خلافة صلعم بطريقة معينة ، ويتولى عمر الحكم بطريقة أخرى ، ويتولى عثمان الخلافة بأسلوب اخر .... وهكذا ..
اعتقد ان ما يجب استخراجه واستلهامه من هذا الحال ، رغم خناجر المعارضة المغروسة في جسد ( الخلفاء ) ، انهم يريدون ان يعلموا الامة ، ان الحكم السياسي ، أي مصدر السلطة السياسية في الإسلام ، متروك للعقل البشري ، أي ( للاجتهاد – انقلاب مؤتمر سقيفة ) يرتبه كما شاء ، وفق مصلحة الخليفة ، ومصلحة عائلته ، واتباعه .. فهؤلاء ( الخلفاء ) تمايزوا واختلفوا مع النظرة الشمولية في الحكم الإسلامي ، بإضفاء طابع المصلحة في الصراع حول الثروة ، والمال ، والجاه ، والنفوذ ... الخ . الى ان وصلنا واصبحنا الى ما نحن عليه وفيه ، من انحطاط شمل الدولة كما شمل الرعايا ..
نعم الجميع يتفق على الصورة المأساوية لواقعنا ، ولحالنا ومجتمعنا ، حيث عثا المنافقون والعملاء في الأرض فسادا ، واهلكوا الحرث والنسل ، واستأسد الجبناء ، واستعبدوا الشباب ، وذبحوا على قارعة كل ماله صلة بالحياء والعفاف ، فصرت لا ترى في شوارعنا ، الاّ قطعانا من الفساق والمومسات يغازل بعضهم بعضا ، ويعانق بعضهم بعضا على مرأى ومسمع من الجميع ..
نعم نحن الذين رضينا بالسير خلف الناس على عادة الكلاب ، ونحن الذين كان الناس لنا تبعا في يوم من الأيام ، فصرنا تبعا لأحقر وأخبث الناس هذه الأيام .
واذا كان الواقع المعاش مفضوحا ، والجميع يشهد على حالنا المشفق عليه ، فان الحل لإيجاد مخرج لازمتنا ، لا يكمن في نظام الخلافة ، او نظام العمامة ، اوفي نظام الجمهورية الإسلامية. أي الارتماء في حضن الدولة الثيوقراطية ، كما لا يكمن في تطبيق الديمقراطية ( الغربية ) التحتية ، التي تنتهي بالكوارث الإنسانية .. بل يكمن في ديمقراطية تجمع بين إيجابيات الديمقراطية الغربية ، لكن بلباس الجلاّبة والسّلهام المغربيين .. تلك الديمقراطية التي تأخذ بعين الاعتبار العقلية ، والتركيبة النفسية والسيكولوكية للكائن المغربي..



#سعيد_الوجاني (هاشتاغ)       Oujjani_Said#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المفوضية الاوربية تدعو الاتحاد الأوربي ، الى عدم تجديد اتفاق ...
- هل النظام السياسي المغربي قابل للإصلاح
- السياسة الثقافية واللغوية بالمغرب
- إدارة تويتر وإدارة الفيسبوك
- جبهة البوليساريو
- البنية السرية
- هل هناك شيء يدبر ضد شخص الملك محمد السادس ؟
- قوة الأشياء وقوة الأفكار
- الاتحاد المغربي للشغل
- اليسار الجديد والعمل النقابي
- تاريخ المقاومة المغربية الشعبية لقبائل زيان المجاهدة أبناء خ ...
- تحليل الدولة العلوية ( 6 )
- تحليل الدولة العلوية ( 4 )
- تحليل الدولة العلوية ( 3 )
- تفكيك الدولة العلوية ( 2 )
- تفكيك الدولة العلوية
- الاحلاف .
- وجهة نظر في الديمقراطية ( الفصل الثالث )
- وجهة نظر في الديمقراطية ( 2 )
- وجهة نظر في الديمقراطية


المزيد.....




- مطاردة بسرعات عالية ورضيع بالسيارة.. شاهد مصير المشتبه به وك ...
- السفير الروسي لدى واشنطن: الولايات المتحدة اختارت الحرب ووضع ...
- الشرطة الأسترالية تعتقل 7 مراهقين متطرفين على صلة بطعن أسقف ...
- انتقادات لرئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي بسبب تصريحات -مع ...
- انهيار سقف مدرسة جزائرية يخلف 6 ضحايا وتساؤلات حول الأسباب
- محملا بـ 60 كغ من الشاورما.. الرئيس الألماني يزور تركيا
- هل أججت نعمت شفيق رئيسة جامعة كولومبيا مظاهرات الجامعات في أ ...
- مصدر في حماس: السنوار ليس معزولًا في الأنفاق ويمارس عمله كقا ...
- الكشف عن تطوير سلاح جديد.. تعاون ألماني بريطاني في مجالي الأ ...
- ماذا وراء الاحتجاجات الطلابية ضد حرب غزة في جامعات أمريكية؟ ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - سعيد الوجاني - من يحكم الله ، أم الشعب ؟