|
إغــفـــاءة - قـصـة قـصـيـرة
أحمد الخميسي
الحوار المتمدن-العدد: 7427 - 2022 / 11 / 9 - 10:01
المحور:
الادب والفن
أحيانا يبقي الضيف العجول وراءه سيجارة متوهجة عند حافة مطفأة، أحيانا ينسى الراحلون شعورا في غور النفس ولا يعودون لإطفائه . في التاسعة من عمري كنت صغيرا في عالم عجوز ، جديدا في دنيا قديمة . وكنت نحيفا بسروال قصير وقميص خفيف حين أسندت رأسي على ذراع أمي ونحن جالسين متلاصقين على دكة خشبية بغرفة مأمور السجن . كان الطريق الطويل والانتظار قد أرهقاني عندما دخل علينا والدي من الباب المقابل لنا . كانت يده اليمني مقيدة بحديد ليد الحارس اليسرى ، لكنه ما أن رآنا حتى تهلل وجه ، ثم ضحك بفرحة من حلق بوثبة واحدة في سماء عالية. رفع معصمه ومعصم الحارس المقيدين لأعلى في الهواء يقول لى: " لقد سجنت هذا الرجل لأنه شقي " . وتطلع للشاويش بجدية سائلا إياه: "أليس كذلك يا شاويش؟ ".أجابه الرجل الطيب : " مضبوط يا بك". وسألني وهو يزحزحني ليجلس قربي: " شفت ؟ " . كنت صغيرا جدا ولكني كنت أعلم أنه محبوس ، مع ذلك أحنيت له رأسي بالإيجاب قاصدا أنني صدقته ، فابتسم أنه أشاع طمأنينة في نفسي ، وابتسمت أنني أرحته . وكنت محبوسا فيما بعد ، وكان طليقا . زارني وجلسنا في غرفة مأمور آخر، بسجن آخر. هذه المرة لم تسعفه حيل الكبار الأولى ولم تسعفني براءة السنوات الأولى . راح يتطلع فيما حوله بقلق مفتشا في الغرفة المقبضة عن ريشة من طائر البهجة ، ثم وكأنما عثر عليها أخرج كيسا كبيرا دفع به تحت أنف المأمور قائلا : " وضعتُ هنا كل الممنوعات معا الشاي والبن والورق والأقلام لتسمح بمرورها كلها دفعة واحدة " . ودارى المأمور ضحكته بيده . فابتسم وضمني بعينيه يسألني دون كلام : " شفت ؟ ". مرة ثالثة قدر لنا أن نكون معا وأن نرحل في السر من القاهرة إلى الإسكندرية ، لنغادر إلى بيروت على ظهر باخرة، ولم يكن معنا مليم واحد . وكان البوفيه مفتوحا على سطح الباخرة طيلة اليوم ونحن جالسين أمامه في هواء البحر نتطلع صوبه ونشتهي قدح شاي كاليتامى . وعندما حل الغروب ضاقت فسحة الأمل وسألت نفسي : " ألن نجد حلا؟". ولم يحرك ساكنا حتى التاسعة مساء عندما أغلق البوفيه أبوابه وتلون الجو من ليل مبكر حولنا فوجدته ينتفض واقفا نافخا : " الحمد لله الآن سنأكل ونشرب كل ما نشتهي " . ولم أفهم إلا بعد أن اتجه إلى قبطان الباخرة يحتج على إغلاق البوفيه مبكرا ! وتعرف إليه القبطان ففاض بالترحاب به وأقام لنا وليمة حافلة بمختلف الأطعمة والمشروبات اللذيذة . وحينما غادرنا غرفة القبطان كان الليل سارحا في خواطره. ووقفنا معا تحت ضوء قمر واضح على سطح الباخرة المتأرجح ، وموج لا نراه يرشنا من تحت السور برذاذ خفيف. تطلع حوله يستوثق أننا وحدنا ، ثم راح يكتم ضحكاته المتدافعة وهو ينحني على هامسا : " شبعت ؟ " . عندما غادرني للمرة الأخيرة ، أخذت أتردد عليه في محبسه الأبدي ، وكان يأتيني من حين لآخر في حبسي المؤقت ، وكنت حين نلتقي أحكي له بعضا مما يطرأ على حياتي من حوادث و طرائف ، أما هو فكان يتألم لأنه كان يضطر للاكتفاء برواية نتف من أحداث قديمة . كنت أقطع له بأن حكاياته ممتعة مهما تكررت ، فأراه يسدد نحوي نظرة شك وتعب . ومع ذلك كنا نحاول بإخلاص أن نحمي كل مرة ما وعته الذاكرة من رذاذ الوجود الوهم . وكان إذا أحس حرارة المحاولة من جانبي يبتسم بأسى مجتهدا أن يحتفظ بعينيه مفتوحتين ، ثم ما يلبث أن ينعس ، وصوتي يتحدر إليه بالحكايات رتيبا أليفاً. أقص ما استجد من أحداث في الحي ، والشجارات التي وقعت ، وما قالته عمتي عن بناتها ، وحكاية عم زهران في حدائق القبة حين هام بهدى التي أرخت ضفيرتين غليظتين وشرعت نهديها وفتحت في الدنيا عينيها الواسعتين . أتركه ينعس قليلا ، وأعود إليه .
*** أحمد الخميسي. قاص وكاتب صحفي مصري
#أحمد_الخميسي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تكفير الفن والثقافة
-
ضـــــوء فــــي الــشــرفـــة - قـصـة قـصـيـرة
-
حـمـايـة الـتـعـلــيــم .. تــلامــيــذ ومــدرســيــن
-
اللا أمــــكـــنــــة .. أوجــيـــه مـــارك
-
- أفندم - قصة قصيرة . أحمد الخميسي
-
أشـــــواق شـــاقــــة
-
بـــوتـــيـــن .. حـــديــث عــن مــصــــر
-
شنودة .. لمن ؟
-
الــتــجــأرة بــالــمــرأة وشــعــارات الــحــريــة
-
دراجات نارية - قصة قصيرة
-
حــديـــث حـــول جـــوربـــاتـــشــوف
-
علي الغاياتي .. الشعر والوطنية
-
ربـاط عــنــق بــيــن الــقــاهــرة ومــدريـــد
-
كــنــيــســة إمــبــابــة .. الــحــرائـــق الـــتـــي تـــ
...
-
دكـتــور عــطــيــة .. مــزيــــل لــلــروائـــع !
-
حــجــرة ثـــالـــثـــة داخـــل الــقــلـــب
-
الــطــرف الآخــر عــنــد تــشــيــخــوف
-
تــوفــيــق الــحــكــيــم .. الــنــخــبــة والــجــمــاهــ
...
-
الـمـثـقـفـون والإخــوان فــي يــونــيــو
-
المرأة المصرية وحديث القفة
المزيد.....
-
تضارب الروايات حول إعادة فتح معبر كرم أبو سالم أمام دخول الش
...
-
فرح الأولاد وثبتها.. تردد قناة توم وجيري 2024 أفضل أفلام الك
...
-
“استقبلها الان” تردد قناة الفجر الجزائرية لمتابعة مسلسل قيام
...
-
مونيا بن فغول: لماذا تراجعت الممثلة الجزائرية عن دفاعها عن ت
...
-
المؤسس عثمان 159 مترجمة.. قيامة عثمان الحلقة 159 الموسم الخا
...
-
آل الشيخ يكشف عن اتفاقية بين -موسم الرياض- واتحاد -UFC- للفن
...
-
-طقوس شيطانية وسحر وتعري- في مسابقة -يوروفيجن- تثير غضب المت
...
-
الحرب على غزة تلقي بظلالها على انطلاق مسابقة يوروفجين للأغني
...
-
أخلاقيات ثقافية وآفاق زمنية.. تباين تصورات الغد بين معمار ال
...
-
المدارس العتيقة في المغرب.. منارات علمية تنهل من عبق التاريخ
...
المزيد.....
-
أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية
/ رضا الظاهر
-
السلام على محمود درويش " شعر"
/ محمود شاهين
-
صغار لكن..
/ سليمان جبران
-
لا ميّةُ العراق
/ نزار ماضي
-
تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي
/ لمى محمد
-
علي السوري -الحب بالأزرق-
/ لمى محمد
-
صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ
...
/ عبد الحسين شعبان
-
غابة ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
اسبوع الآلام "عشر روايات قصار
/ محمود شاهين
-
أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي
/ بدري حسون فريد
المزيد.....
|