أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود شقير - ظل آخر للمدينة53















المزيد.....

ظل آخر للمدينة53


محمود شقير

الحوار المتمدن-العدد: 7357 - 2022 / 8 / 31 - 12:29
المحور: الادب والفن
    


ذات يوم، قبل الغروب، كنت أجلس في شرفة بيتنا، وأنا أتابع الأخبار التي تتحدث عن مؤتمر السلام الذي انعقد في جنيف، لعله يتوصل إلى حل لهذا الصراع، الذي استنزف من دمنا وأعمارنا الشيء الكثير. فجأة، وأنا غارق في تصوراتي، شاهدت رجالاً بملابس مدنية يقتحمون البيت، أدركت أنهم من جهاز المخابرات الإسرائيلية.
طلبوا مني أن أرافقهم إلى سجن المسكوبية. اتجهت معهم إلى ساحة بئرنا الغربية. كانت هناك سيارتا تاكسي لهما لون أبيض، ركبت في إحدى السيارتين، ومضوا بي صاعدين طريق الجبل. راح أحدهم يتحدث عما أقوم به من أنشطة سياسية تحريضية، وأخذ يخيرني بين السجن والإبعاد.
وصلنا المكاتب المجاورة لسجن المسكوبية. جلست أنتظر وأنا متوجس من هذا الاعتقال. بعد نصف ساعة أدخلني الضابط إلى مكتبه، سلمني جواز سفري الذي كان استولى عليه حينما جاء لاعتقالي أثناء الحرب قبل شهرين. أخبرني أنني أستطيع العودة إلى البيت، ثم أتبع كلامه بتحذير غامض.

***
أمطار كثيرة هطلت في ذلك العام.
أخرج في الصباح تحت المطر، أنتظر باص "أيجد" رقم 44 ، التابع لشركة الباصات الإسرائيلية غير بعيد من بيوت المستوطنة الجديدة التي شرع الإسرائيليون في بنائها على قمة جبل المكبر وعلى أطرافه الجنوبية (لم يكن مسموحاً للباصات التابعة للشركات العربية بالسير على هذا الشارع، وظل الأمر كذلك حتى اندلعت الإنتفاضة، فتوقفت الشركة الإسرائيلية عن تسيير باصاتها على الشارع مرغمة، بسبب ما كانت تتعرض له من حجارة يقذفها نحوها الفتية والشباب). أمضي في الباص إلى المحطة المركزية بالقرب من باب العامود.
أجلس في مقهى الشعب، أحتسي الشاي، وأنتظر فرصة لانقطاع المطر، أتأمل سور المدينة المواجه للمقهى، وتعبر سيارة لجيش الاحتلال بين الحين والآخر فضاء الشارع، تشق بعجلاتها ما تجمع فيه من ماء المطر، فأشعر بالحزن، ثم أعود للتحديق في السور الذي يجثم ساكناً مبللاً تحت المطر، وأدرك أن السور وحيد رغم ما يحيط به من حركة وضجيج، وأنه لم يعد قادراً على حماية المدينة من الغزو في زمن الطائرات، لذلك، فإنه يبدو كما لو أنه يعاني من ذل فادح، بعد أن تحول إلى مجرد أثر تاريخي متروك للتأمل.
يستمر هطول المطر، وأتذكر أغنية الطفولة ونحن نلعب تحت المطر في ساحة بئرنا الغربية: "أمطري وزيدي.. بيتنا حديدي.. عمنا عبد الله.. ورزقنا على الله". فأبدو، للحظة، منفصلاً عن المقهى، وعن الشارع وعن سور المدينة.
أغادر المقهى في لحظة صحو مؤقتة.
أمضي إلى البلدة القديمة عبر باب العامود، يبدأ المطر عزفه من جديد. أجتاز البوابة التي تسح من قوسها خيوط رفيعة من المياه كأنها الدموع، أنعطف نحو طريق الجبشة، متجهاً إلى خان الأقباط. هذا اليوم، تصل جريدة "الوطن" السرية التي يصدرها الحزب، وعلي أن أستلم حصتي منها. أمضي وقتاً غير قليل في الخان، حيث الدفء وأحاديث الرفاق الذين جاءوا لاستلام حصتهم من الجريدة.
أغادر الخان إلى سوق حارة النصارى، أنعطف يميناً نحو طريق أفتيموس القريبة من كنيسة القيامة. لا أرى في الطريق سوى قلة من الناس الذين يسيرون محاذرين من المطر، أدخل سوق الدباغة، أتجاوز كنيسة الفادي الإنجيلية التي يضرب المطر واجهتها المشيدة من حجر أبيض صقيل، أصل سوق باب خان الزيت من جهته المواجهة لسوق العطارين، أمشي في السوق المسقوفة مستشعراً الحماية والأمن، أنعطف يميناً نحو درب الآلام، التي لا ينفذ إليها المطر إلا من فتحات قليلة هنا وهناك. أمضي نحو طريق الواد، أدخل مطعماً شعبياً، يشوي صاحبه أسياخ اللحم على نار الفحم، التي تتوهج في كانون مركون في زاوية قرب مدخل المطعم. أتناول غدائي، وأستمتع بالدفء بعض الوقت ثم أخرج إلى شارع صلاح الدين.
ينهمر المطر بغزارة، أجلس في محل جروبي، أتبادل مع "أبو عطا" الصامت المتأمل دائماً، بضع كلمات. أشعر بأن مواجهات قادمة ستقع بيننا وبين الغزاة. قبل أيام، أبعدوا ثمانية من قادة الجبهة الوطنية. مشاعر عديدة تتنامى في صدري، أفكر بكتابة مسرحية أضمنها ما أشعر به من حزن يستثيره المطر، أبلور بعض أفكار ومواقف لتضمينها في النص المنتظر. بقي النص حلماً، ولم ير النور، فقد غطت عليه انشغالات آنية كثيرة. يأتي عدد من الأصدقاء إلى "جروبي"، نمضي فيه وقتاً غير قليل والحديث يأخذنا من فضاء إلى فضاء.
وكان لا بد من إجراء وقائي ما، ففي ضوء عمليات الإبعاد التي طالت عدداً من قادة الحزب العاملين في إطار الجبهة الوطنية، والاعتقالات التي شملت بعض النشطاء الذين شاركوا في تنظيم التظاهرات والإضرابات، قدرت قيادة الحزب أن سلطات الاحتلال لن تكتفي بما اتخذته من إجراءات، ولا بد من أنها ستقدم على عمليات تعسفية أخرى. لذلك، قررت توفير عدد من البيوت السرية في مختلف مناطق البلاد، واقترحت أسماء مجموعة من الرفاق، للاختفاء في هذه البيوت، لضمان استمرار نشاط الحزب، حتى لو تعرضت كوادره الرئيسة العاملة في أوساط الناس إلى النفي أو الاعتقال.
وكان يتعين علي إزاء هذا القرار أن أختفي في مدينة نابلس، ثمة أسرة من الأسر المنتمية للحزب، وليس لها ملف أمني لدى سلطات الاحتلال، تتأهب للانتقال إلى البيت السري الذي سأختفي فيه باعتباري أحد أفرادها. لم يكن البيت جاهزاً بعد، وصاحبه طلب فترة شهرين لإجراء التشطيبات النهائية عليه.
شكلت تجربة الإختفاء بالنسبة لي تحدياً كبيراً، فأن تكون موجوداً بين الناس وغير موجود في الوقت نفسه، أمر قد يبدو ممتعاً من بعض الوجوه، وهو باهظ الوقع على النفس من وجوه أخرى. لاحظت ذلك، حينما ماتت أم سليمان النجاب وهو منخرط في العمل السري. ذهبنا إلى جنازتها في قرية جيبيا التي تبعد عن بلدة بير زيت عدة كيلومترات، ولم يكن هو قادراً على ذلك. وحينما ذهبت إليه في أحد البيوت التي اعتدنا عقد اجتماعاتنا السرية فيها (في مخيم الدهيشة بالقرب من مدينة بيت لحم)، وجدته حزيناً إلى حد يفوق الوصف.
وأن تختفي في بيت سري، فهذا يتطلب منك أن تمارس انضباطاً شديداً، بحيث تتمنى في بعض الأحيان، لو أنك موجود في السجن، فهو أهون عليك. ولقد ظهر في تاريخ البيوت السرية التي أشرف عليها الحزب في سنوات العمل السري الطويلة، رفاق لم يستطيعوا الاستمرار في هذا النمط القاسي من الحياة، فاضطروا إلى مغادرتها، ما عرضهم لفقدان عضوية الحزب وهم غير راغبين في ذلك.
صرت أهيء نفسي كل صباح لتجربة العمل السري الذي قد يستمر سنين طويلة، ولن يكون بوسعي الظهور مرة أخرى إلى العلن إلا بعد زوال الاحتلال. شعرت بأنني أقف أمام منعطف جديد في حياتي، مغاير تماماً لمنعطف آخر ظهر لي حينما اقترحت علي قيادة الحزب أواخر العام 1972، السفر إلى تشيكوسلوفاكيا لتمثيل الحزب في قيادة اتحاد الطلاب العالمي، الذي اتخذ من براغ مقراً له. ترددت في بداية الأمر، ثم وافقت على السفر، ثم أعادت القيادة النظر في اقتراحها وعدلت عنه، على اعتبار أن وجودي في الوطن أفضل من الذهاب إلى الخارج. كان هذا صحيحاً، وشعرت بالحرج لأنني وافقت على السفر.
لم أسافر إلى براغ آنذاك، ولم أنخرط في تجربة الإختفاء، لأنني اعتقلت من جديد بتاريخ 19/ 4/ 1974، أي قبل أن يكون البيت السري جاهزاً للسكن بشهر واحد فقط.
يتبع...



#محمود_شقير (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ظل آخر للمدينة52
- ظل آخر للمدينة 51
- ظل آخر للمدينة50
- ظل آخر للمدينة49
- ظل آخر للمدينة48
- ظل آخر للمدينة 47
- ظل آخر للمدينة46
- ظل آخر للمدينة45
- ظل آخر للمدينة44
- ظل آخر للمدينة43
- ظل آخر للمدينة42
- ظل آخر للمدينة41
- ظل آخر للمدينة40
- ظل آخر للمدينة39
- ظل آخر للمدينة38
- ظل آخر للمدينة37
- ظل آخر للمدينة36
- ظل آخر للمدينة35
- ظل آخر للمدينة 34
- ظل آخر للمدينة33


المزيد.....




- ماذا قالت الممثلة الإباحية ستورمي دانيالز بشهادتها ضد ترامب؟ ...
- فيلم وندوة عن القضية الفلسطينية
- شجرة زيتون المهراس المعمر.. سفير جديد للأردن بانتظار الانضما ...
- -نبض الريشة-.. -رواق عالية للفنون- بسلطنة عمان يستضيف معرضا ...
- فيديو.. الممثل ستيفن سيغال في استقبال ضيوف حفل تنصيب بوتين
- من هي ستورمي دانيلز ممثلة الأفلام الإباحية التي ستدلي بشهادت ...
- تابِع مسلسل صلاح الدين الايوبي الحلقة 23 مترجمة على قناة الف ...
- قيامة عثمان 159 .. مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 159 مترجمة تابع ...
- -روائع الموسيقى الروسية-.. حفل موسيقي روسي في مالي
- تكريم مكتب قناة RT العربية في الجزائر


المزيد.....

- أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية / رضا الظاهر
- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود شقير - ظل آخر للمدينة53