أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - أيهم نور الصباح حسن - حضارة القلق و إرادة النَّوَاكة - دفاعاً عن التفاهة و قتل الوعي















المزيد.....



حضارة القلق و إرادة النَّوَاكة - دفاعاً عن التفاهة و قتل الوعي


أيهم نور الصباح حسن
باحث و كاتب

(Ayham Noursabah Hasan)


الحوار المتمدن-العدد: 7350 - 2022 / 8 / 24 - 20:34
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


* مقدمة :
أقصد بالحضارة في مقالي هذا : حضارتنا الإنسانية منذ بداياتها و حتى الآن , أي منذ بداية الثورة الذهنية و تشكل الثقافات لدى نوعنا البشري الحالي " الهوموسابيان " قبل ما يقارب / 70 / ألف سنة , مروراً بالثورة الزراعية قبل / 12 / ألف سنة , ثم الثورة العلمية قبل / 500 / سنة , و حتى اليوم . ( 1 )
أما النَّوَاكَة فهي لفظ عربي يفيد في دمج معنى العَجز و الجهل معاً لتكوين معنى الحماقة , فالنَّوَاكَة هي الحُمْق الناتج عن العجز و الجهل , و يقال رجل أَنْوَك أي أحمق , و الأَنْوَك هو العاجز الجاهل و جمعه النَّوْكَى, و استنوَك الرجل أي صار أَنْوَكاً بمعنى صار أحمقاً فهو مُستنْوِك , و استنوَكتُ فلاناً أي استحمقته ( 2 ) , و قد طابق اللفظ تماماً ما أريده من معنى الحماقة في ورقتي هذه , فاستخدمته مسروراً , شاكراً لغتنا العربية الجميلة و عمالقتها من الفراهيدي و الفيروز أبادي و الزمخشري وصولاً إلى الراحل الكبير يوسف الصيداوي الذي لايزال صوته يصدح في آذاننا و هو يصحح تلفازياً أخطاءنا الشائعة بحق عربيتنا التي نرجمها بها كل يوم .

* مدخل إلى القلق :
الخوف شيء و القلق شيء آخر ..
فالخوف : شعور غريزي بالخطر , غالباً ما يكون آني أو مؤقت ينتهي بزوال مصدره , و الخوف شعور تشترك فيه جميع الحيوانات بما فيهم الإنسان , الإنسان الذي يعتبر نفسه اليوم محور هذا الكون الفسيح و مركز اهتمامه و محل عناية آلهته و خالقه , و لست أعلم يقيناً إذا ما كانت النباتات تشعر بالخوف , إلا أني أرجو ألا تكون كذلك , كونها لا تملك أي وسيلة للتصرف أمامه , فأن تموت دون شعور بالخوف , أفضل بكثير - على ما أعتقد - من أن تموت و أنت تشعر بالخوف الشديد مجرداً من أي وسيلة للدفاع عن نفسك أو من القدرة على الهرب على الأقل .
أما القلق : فهو شعور إنساني وجداني عميق بالاضطراب , مُلازم للوعي الإنساني , لايمكن تحديده أو تحديد سببه بدقة , لكننا نقول كما يقول الفيلسوف مارتن هايدغر أنه ناجم عن إدراكنا لوجود نقص ما في حياتنا و وجودنا , وعن ثقل و عبء الحرية و الاختيار و المسؤولية .
القلق شعور مستمر و ليس آني أو لحظي أو مؤقت كالخوف , يتسبب استمراره هذا بإرهاق و ألم نفسي للإنسان , فيسعى ما أمكنه لتلافيه إما بمواجهته أو بالهروب منه .
و القلق ميزة إنسانية خالصة , فالإنسان كائن قلِق , و هو – و بحسب حدود معرفتنا الحالية - الموجود الوحيد الذي لا يكتفِ بوجوده , و إنما يسعى لفهم هذا الوجود و أسبابه و غاياته و معناه , و يستخرج الأسئلة الوجودية و يطرحها على ذاته , و طالما أن أجوبة هذه الأسئلة لاتزال غير يقينية و ضمن إطار الافتراض و الظَّنّ و الماورائيات , و طالما هناك تساؤل عن صوابية الأفكار و الأفعال و السلوك و كماليته , فالقلق باقٍ و مستمر , رغم كل محاولات الإنسان للخلاص منه إما بالآلهة و الأديان و الفلسفات و الأيديولوجيات و العقائد , أو بالعمل و اللهو و العبث و الجنس و الإنجاب و الاستنواك .
ظهر القلق عندما ظهرت الأسئلة و القضايا الوجودية , و كلما ازدادت احتمالات الأجوبة و الخيارات المتعلقة بالقضايا الوجودية ازداد القلق الإنساني .
يُلازم القلق الإنسان أياً كانت قناعاته و أفكاره , فترى المؤمنين في جهد حثيث لإثبات ما يدعم و يؤكد صحة أديانهم و معتقداتهم , و ترى اللادينيين كذلك في نفس المسعى , " تَطُبُ " النساء فناجين قهوتها في محاولات لتبَصُّرِ مستقبلها , و يُنصِتُ عتاة الرجال بحذر شديد لما سيقوله لهم برجهم اليوم , عساهم ينعمون ببعض المساعدة في حصر خياراتهم أمام قرار ما قادم , بعض المجلات و الجرائد تُشترى لأجل قسم الأبراج و حظك اليوم و الكلمات المتقاطعة التي فيها فقط .
يفسر القلق أيضاً سرَّ ارتفاع مبيعات كُتب تفسير الأحلام و الأبراج , و انتشار الإدمان بكل أشكاله : الثقافي و الكحولي و المخدراتي و الجنسي و الرقمي التكنولوجي و إلخ .. .
يبني كل إنسان منظومته الخاصة لمكافحة القلق , بغض النظر عن صحتها أو منطقيتها أو عقلانيتها , فالقلق قادر على سحقنا بكل بساطة إذا لم نعرف كيف نناضل ضده , و تخضع هذه المنظومة للتغير و التبدل بحسب قوة أو ضعف الشعور بالقلق لدى الإنسان , تُشكل هذه المنظومة استراتيجية دفاعية متكاملة مهمتها النجاة من القلق , قد تنجح تارة و قد تخفق تارة .
معظم الناس لا تستطيع أن تفهم و تتفهم أسباب ميول الآخرين للاهتمام بشيء آخر مختلف عن اهتماماتها هي , فترى محبي متابعة كرة القدم يستغربون ممن لا يحبون متابعتها , و محب القراءة يستغرب ممن يصرف وقته على الألعاب الإلكترونية , و محب لعب الورق يتضايق من حضور محب النقاشات و الحوارات قبل بدء اللعب بقليل .
يُقسِّمُنا القلق إلى مجموعات و فرق و " شِلل " , فأغلب تصرفاتنا - عاداتنا - هواياتنا , تعود للطريقة التي اخترنا كيف نجابه قلقنا بها , بحيث ينجذب متشابهو منظومة الكفاح ضد القلق لبعضهم البعض و يتنافرون باختلافها .
يختصر الدين الكثير من القلق الوجودي لدى المعتنق و أحياناً كثيرة يكون هو الملجأً للتنصل من محاولة السعي وراء الإجابات التي يطرحها القلق الوجودي , و يهمني هنا الدين الإسلامي كونه الدين الأكثر انتشاراً و تأثيراً في عالمنا العربي , إذ يعطي الإسلام للمسلم أجوبة الأسئلة الوجودية الأساسية بصيغة أوامر و قواعد جاهزة لا تقبل النقد أو الشك :
من أنا : أنا عبد الله .
لماذا خلقت : كي أعبد الله .
الغاية : امتحان الإيمان و الكفر .
المصير : البعث و القيامة و الحساب ثم الخلود إما فائزاً أو خاسراً .
بشكل عام , يرتاح المتدين من كل القلق الوجودي الذي تسببه هذه الأسئلة , و لهذا يصف المؤمنون أو المتدينون عموماً دينهم ( أياً كان ) بأنه يبعث على الراحة و الاطمئنان .
لكن تبقى هناك بعض القضايا الحياتية التي يشعر معها المتدين بالقلق ( لذا أوجد المتدينون مسألة الفتوى و الاستفتاء) فتراه يستفتي شيخه أو رجل الدين بالعديد من المسائل التي قد يراها غيره تافهة ولا تحتاج السؤال ، لكن المسألة هنا لا تتعلق بعمق أو سطحية السؤال بقدر ما تتعلق بمحاولة الهروب من القلق الوجودي للسؤال و محاولة العثور على جواب يعفي السائل من ثقل الحرية المتروكة له في اتخاذ القرار , و بالتالي الهروب أيضاً من ثقل صوابية القرار ومدى ملائمته وتناسبه مع الأحكام الدينية و العقيدة و الشريعة .
فعندما يستفتي المتدين رجل الدين في مسألة ما و يقوم بتنفيذ ما قاله له رجل الدين فإنه يتخلص من قلق وجودي عظيم بالنسبة له ، يتجلى في أمرين :
1- التخلص من الحرية
2- التخلص من ألم الشك حول الصوابية ( الحلال و الحرام )
إن كل ذات إنسانية في مرحلة ما , يتوجب عليها مواجهة قلقها الوجودي وهنا تكون أمام أحد طريقين :
1- مواجهة هذا القلق و السعي لفهم وجودها و كينونتها و صناعة مصيرها كوجود حر مستقل , و هذا أمر يتطلب جهداً و تركيزاً عادة ما يصاحبه ألم و اكتئاب في بعض المراحل .
2- الهروب من المواجهة و التنصل من وعي القلق المؤلم , و عادة ما يكون الهروب من القلق بالمحاكاة حيث يحاكي الإنسان سلوك غيره من الهاربين , مُزيحاً بذلك قلقه من صوابية رأيه و قراره نحو قرار الأكثرية المجتمعية , مُحملاً إياها مسؤولية الصوابية أو عدمها , و غالباً ما يكون رأي الهارب هو صوابية ما تقوم به الأكثرية , لا لشيء إلّا لكونها أكثرية , و هذا السلوك هو ما يطلق عليه " القطيعية " بمعنى انتهاج نفس نهج القطيع في مسألة معينة دون تبرير مقنع , يدعمه المثل الشعبي القائل : " ضع رأسك بين الرؤوس و قل يا قطًّاع الرؤوس " أي تنازل عن حرية اختيارك و اقتل قلقك و " فكها سيرة بقى " باللهجة المصرية الجميلة .

* كيف و متى نشأ قلقُنا ؟
لم يكن شعور القلق المزمن يرافقنا عندما كنا مجموعات بسيطة صغيرة تعيش على الصيد و جمع ما يمكنها أكله من فاكهة و خضار و جذور , و كان الوعي ( وعينا بأنفسنا و بمحيطنا ) بسيطاً , هادئاً , رحباً , جميلاً , مدهشاً , لقد كان وعينا مجرد سلوك أساسي مطلوب للاستمرار , أما شعورنا بالخوف فقد كان هو المسيطر عند كل خروج للصيد أو للجمع , إلا أنه كان ينتهي بانتهاء رحلة التغذِّي اليومية , لتبدأ فترة الراحة الجسدية و النفسية حتى فجر اليوم التالي .
نعم لقد كنا نتمتع براحة نفسية يومية لا تعرف القلق , راحة نفسية و طمأنينة لا نعرفها و لايمكن أن نشعر بها اليوم , و لم نعد نستطيع تذكرها حتى , إلا ربما حين نبلغ السبعين أو الثمانين من العمر .
تختلف تلك الراحة البهيمية لنوعنا القديم عن الراحة التي يوفرها النضوج و تمنحها الحكمة لصاحبها , فالأولى موجودة دون عناء و بحكم الطبيعة , و الثانية وجدت بعد صراع و كفاح طويل مع القلق , الأولى غير واعية , و الثانية واعية لذاتها مدركة لحتمية بعض القضايا , مؤمنة بطبيعة عمل العقل و جدليّاته التي لا تنتهي , مستسلمة - تقريباً - لما وصلت إليه من نتائج .
لم يكتفِ وعينا بإحساسه الجميل بالوجود و بدهشته الرائعة من كل ما هو موجود , و أصر على فتح باب السؤال , فتَفتَّقَ الخيال , السؤال و الخيال , هذان الشيطانان اللذان فتحا صندوق باندورا علينا , فانطلقت أباليس الأفكار و آلهتها تلطمنا كأمواج لا نهاية ولا مستقر لها .
و مع بداية السؤال انبلَج الخيال و القدرة على التخيل , فظهرت الأسئلة الوجودية الكبرى , التي لا نزال نسعى للإجابة عنها حتى اليوم , و ظَهرَ معها القلق , و تحولنا من كائن مُطمئِن إلى كائن قلق يحاول أن يكافح قلقه , بانياً أثناء كفاحه هذا كله حضارتنا .. حضارة القلق .
الخيال .. تلك التفاحة التي منعنا أنفسنا عنها دهوراً , حمايةً لأنفسنا , فما استطعنا .. لقد انتصر الحالمون المُتخيِلُون في نهاية الأمر .
لايزال هذا المنع مستقراً في سلوكنا حتى اليوم , لذلك ترانا نُعظِّم القناعة و نحارب المختلف , و نَسّخرُ من أحلام أبنائنا في محاولة منا لثنيهم عن الوصول إليها دون مبرر .
ندمنا أشدَّ الندم على ما فعله خيالنا بنا , فقمنا بتوثيق تلك اللحظة الشنيعة في تاريخنا , لحظة تفُتق الخيال , مُعتَبِرينها الجريمة الكبرى , اللحظة الفاصلة بين الراحة و التعب , بين السلام و الألم , بين ماضٍ هادئ بسيط واضح و مستقبل شاق مرهق و غامض , بين اللاقلق و القلق .
ابتدأ الأمر عندما مللنا حياة الصيد و الجمع و الترحال و الانتقال من مكان لآخر , ثم اكتشفنا الزراعة و تسابقنا إليها , فتركنا الصيد و الجمع اليومي - الذي لايمكن ادخار الفائض منه - و حرثنا الأراضي و بذرنا و حصدنا و أسسنا البيوت للاستقرار ثم دجنّا الدجاج و قطعان الماشية و طوَّرنا الأديان و الآلهة , فكان أن طوعتنا الزراعة و البيوت و الحيوانات للتأقلم مع حوائجها و استمراريتها , و بتنا أسرى القلق الدائم من شح المياه أو فيضانها و من تأمين متطلبات بيوتنا و حاجات مواشينا و من توقِّي غضب آلهتنا .
لقد ظننَّا أننا بهذا الاكتشاف العظيم سنقضي على الجوع و مشقة الترحال و التنقل بين الحين و الآخر , فتسابقنا إلى زراعة القلق و تركنا راحة البال التي كنا ننعم بها تمرح في الغابات معلقة على الأشجار فذبلت و سقطت و ماتت دون أن يجنيها أحد .
وجد العمل طريقه لرضانا كونه يزيح الكثير من القلق عن كاهلنا فألفناه و استحسناه , لكننا كالعادة لا نألف شيئاً إلا و نجعله سيداً علينا .
انغمسنا في الأسر إلى درجة لم يعد بإمكاننا حتى أن نتخيل كم كان ذاك الصياد الجامع حراً و سعيداً و مطمئناً .
منذ أن دجنَنَا خيالنا , بتنا نبحث عن طرق لقتل الوعي كي لا نقلق , لقد أصبح نشاط وعينا يحيلنا تلقائياً للقلق .
في السابق .. لم يكن هناك ما يُرغمنا على تشتيت وعينا هذا أو إغلاقه .. إذ لم يكن هناك ما يقلقنا .
لم يكن هناك حاجة لتخيل و افتراض ذاك العدد الكبير من المحرمات و القوانين و الواجبات , و لم تكن أدمغتنا بحاجة إلى تخزين ذاك الكم الهائل من المعلومات .
عَرفَ دهاة الجشع و التسلط من نوعنا البشري كيف يستثمرون خيالنا , خوفنا , قلقنا , فآلت حياتنا منذ بدايات الزراعة إلى أن يكون هؤلاء هم الأسياد و باقي البشر عبيد , إذ لم يكن هناك سيد و عبد حين كنا صيادين جامعين , ولم يكن لزعيم الجماعة سوى بعض الصلاحيات التي تميزه عن الآخرين يستخدمها في أوقات الشدة فقط , لكن يبدو أن هذا الوضع لم يعجب البعض .
و رويداً رويداً طَوَّرَ هؤلاء مجموعة أفكار و خيالات متعددة هدفها إيجاد الأصل التخيلي في العقول لكل أنواع السلطة و الملكية و الثروة , كجوهر لاستمرار سلطتهم و ثروتهم , فقد عرفوا منذ ذلك الحين كيفية تصنيع الأوهام , فاخترعوا لنا الإله و الآلهة و القوى العليا كنوع متسلط و مالك و مُتحكِم بكل ما هو له و دونه , كي يسهل علينا - نحن العبيد - تقبل فكرة وجود السيد المالك المسيطر المتحكم .
( وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ) آل عمران : 109
( وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) آل عمران : 129
وبدأوا في سن الأديان و الشرائع كأنظمة تؤسس و تحافظ على تراتبية السلطة و الثروة و العبودية :
(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ) الأنعام : 165
( نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ) الزخرف : 32
( انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا ) الإسراء : 21
لماذا لم تجعل الآلهة و أديانها إرث الثروة للجماعة لا للنسل ؟
لماذا لم تُلغَ العبودية و تُحرَّم ؟
لماذا لم تُحَرِّم الغِنى مادام يوجد فقير ؟
لماذا لم توجِد نظاماً أكثر عدلاً يمنع التوارث و الاستعباد و الإثراء في ظل وجود الفقر ؟
و السؤال الأهم : لماذا وضعت شريعة الغاب كنظام مبدئي و أساسي يقوم عليه قانون الحياة ؟
لماذا لم يكن البقاء للأنقى و الأرهف و الأنبل , بدلاً من الأقوى و الأشرس و الأفتك ؟
كل ما بنا و حولنا .. من مجرات الكون إلى المجموعات الشمسية إلى الذرة يقوم على مبدأ القوة , و عبثاً حاولنا و نحاول تهذيب هذا المبدأ و تجميل قبحه و بشاعة تبعاته .

* النواكة و التفاهة كأسلحة في مواجهة القلق :
ملايين فيديوهات اليوتيوب يومياً , ملايين مقاطع التيك توك يومياً , ملايين المنشورات الفيسبوكية و التغريدات التويترية يومياً , مليارات التعليقات و الانتقادات .. تتبارى جميعها لجذبك و معرفة طرق تفضيلاتك و ميولك كي تتابعها أو كي تسوق لك فكرةً أو منتجاً جديداً .
هل سمعت ما قاله فلان ؟ هل رأيت ذاك الفيديو الذي .... ؟ هل قرأت ما كتبه فلان ؟ سأرسل لك رابط خبرٍ ما , رابط مقال ما , رابط مسلسل ما , رابط كتاب ما , رابط فيديو ما , رابط أغنية ما , رابط صفحة ما , رابط فيلم ما , رابط موقع ما ..
من الرابط و من المربوط ؟
ما هو الرابط بيننا و بين مشاركتنا لهذه الروابط ؟
أهو حب الاطلاع و المعرفة ؟ أم هو حب المشاركة ؟ أم رسم البسمة على وجوه من نحب ؟ أم و أم و أم ... ؟
في النهاية الإجابة الوحيدة هي : محاولة إثبات ذاتنا لذواتنا و الرد على قلقنا الوجودي بأننا لانزال موجودين .
عشرات ملايين الكتب , ملايين المقالات , ملايين الآراء و الأفكار , آلاف المدارس الفكرية و المذاهب و الاتجاهات , مئات الأديان و العبادات .. فما اليقين و إلى أين المسير ؟
مليارات و مليارات المعلومات يتم ضخها يومياً لعقول لا تملك سوى عينان اثنتان و أذنين اثنتان و يدين اثنتان و جسد بروح هزيلة يحاول جاهداً النجاة بنفسه من الجوع و القلق .
" كثرة المرعى تعمي قلب الدابة " مثل سوري يطلق على الدابة التي تمتنع عن الرعي عندما ترى المروج الخضراء الوفيرة مما يوقعها في الحيرة من أمرها و تستشكل عليها نقطة البداية فتقعد عن الرعي , و يتطابق مثلنا هنا مع بيت الشعر القائل :
تكاثرت الظباءُ على خراش *** فما يدري خراش ما يصيدُ
هذا تماماً ما يحصل للإنسان اليوم .. المراعي وفيرة و الظباء كثيرة لكننا جياع جداً .
إننا نغرق في الكثرة .. و نتوه في الكثافة .. فتَشُلُّنا كثرة الخيارات ..
أنا أحب الشوكولا .. لكني لن أستطيع أكلها إذا ما دفعتني إلى مسبح من الشوكولا , سوف أنسى عشقي للاستمتاع بطعمها و أحاول أن أنجو .
لقد بات كل شيء متاحاً بسهولة .. نعم , جميع المصادر و الطرق متوفرة و سالكة .. نعم , لكن إشكاليتنا اليوم باتت في الاختيار و المباشرة و الاستمرار .
لا يستطيع العقل البشري تحمل هذا الضخ الهائل من المعلومات يومياً , و في نفس الوقت يريد أن يثبت نفسه و أن يكون عارفاً بما يدور و مشاركاً فيه , فينغمس في التفاهة و النواكة محاولاً قتل وعيه المودي إلى القلق , غير ملومٍ على ذلك .
هل سبق و أن تساءلت لماذا لم تعد الإنسانية اليوم تلِد مفكرين موسوعيين يكتبون و يبحثون في جميع المجالات و العلوم , طب , فلك , فلسفة , فيزياء , طبيعة , كيمياء , إلخ ... كالمفكرين القدماء ؟
لم يعد الكوجيتو الديكارتي " أنا أُفكر إذاً أنا موجود " صالحاً للاستعمال و التطبيق , لأن اعترافنا الشخصي بوجود أنفسنا لم يعد كافياً بالنسبة لنا , إذ لا بد لنا من أن نحقق وجودنا على الصعيد الرقمي كي نكون موجودين , فيصبح الكوجيتو الفعّال اليوم " أنا متصل إذا أنا موجود " , أو " أنا فيسبوكي إذاً أنا موجود " , أو " أنا تويتري – تيك توكي – يوتيوبي - ... إذاً أنا موجود " .
اعتاد المفكرون القدماء إذا ما أرادوا البحث أو الكتابة اعتزال الناس أو الاعتكاف في بقعة ما كي يتفرغوا لنشاطهم , اليوم لم يعد بمقدورنا حتى أن نعتكف , إننا نعيش عزلة بلا عزل , أو كما تقول عالمة الاجتماع و النفس في جامعة هارفارد الأمريكية شيري توركل : " إنني مع الجميع لكنني وحدي " .
تُقرِر اعتزال الاتصال بالشبكة و التفرغ لإحدى مهامك أو نشاطاتك .. تعود متلهفاً بعد شهر ( إن استطعت ) , فتجد نفسك كالقادم من العصر الحجري أو كأحد المبعوثين من أهل الكهف .. تغييرات هائلة قد حصلت لا تعرف كيف تجاريها و تسايرها .. تندم .. و تعلن توبتك عن الانقطاع مجدداً .
لقد كانت لمعاني الحياة و لمفاهيم السعادة و لكسر القلق الوجودي دروب كثيرة , يختار الإنسان منها ما يشاء و يسلكه بروية و هدوء , اليوم بات لمعنى الحياة و لمفهوم السعادة و لكسر القلق الوجودي , طريق واحد : هاتف ذكي , و أتحداك أن تُقنع يافعاً أو مراهقاً بغير ذلك .
و أمام هذه المستجدات و الانقلابات المتسارعة الحاصلة في دنيانا , لم يعد من المجدي الاكتفاء بالتساؤل عن سبب هذه التفاهة التي نقبع بها , و عن سبب الردة إلى الأصولية , و عن أسباب العبودية , و عن أسباب انعدام الوعي , فالأجوبة معروفة و الطريق واضح إذا ما أردنا الثأر و الثورة , و لكن هل نستطيع ؟ !
من وجهة نظر مقابلة : ما الذي أنتجناه كبشر عندما التزمنا معيار مكافحة القلق بزيادة الوعي و مواجهة القلق بمحاولة البحث عن خياراتنا الوجودية و تحقيق ذواتنا و عدم التهرب منه ؟
أليس كل هذا البؤس و الخراب الذي نقبع به هو نتاج تلك المرحلة ؟
ألم تكن أعظم اختراعاتنا أكثرها وبالاً على البشر و النفس البشرية ؟
يقول الفيلسوف الروماني إميل سيوران " ليس بمقدورنا التملص من الوجود بإعطاء التفسيرات ، يمكننا تحمله فقط ، أن نحبه أو نكرهه ، أن نعبده أو ننفر منه ، وهذا التناوب بين البهجة والرعب يكشف عن جوهر ما تعنيه الكينونة ، تذبذباتها ، نشازها ولا انسجامها ، إشراقاتها وتمزقاتها المريرة . "
يدعونا سيوران إلى تقبل الحياة و الوجود كما هو , و فهم مفارقات الحياة و تناقضاتها على أنها طبيعة أصيلة فيها , بدلاً من تعذيب أنفسنا بمحاولة تفسير هذه التناقضات و المفارقات , فالفلسفة و التفلسف بالبحث عن الأجوبة و الأسئلة الجديدة لم ينفعنا و لم تستطع الفلسفة طيلة عهدها إنقاذ النفس البشرية من معاناتها , بينما استطاع ذلك كل من الموسيقا – الأدب – التصوف : " ونحن قادرون على ملاحظة كم هي ضئيلة العذابات الإنسانية التي تمكنت من أن تجد لها مكاناً في الفلسفة . الممارسة الفلسفية ليست فقط لا جدوى منها ، بل تكاد تكون مشينة. نحن على الدوام فلاسفة بحصانة : نمتهن مهنة بلا أفق تصب كميات هائلة من الأفكار في ساعاتنا الشاغرة والمحايدة ، تلك الساعات التي لم تستجب للعهد القديم ، لباخ ، لشكسبير . و لي أن أسأل : هل من بين كل تلك الأفكار التي تضج بها جماجمنا والتي تجسدت على ورق ، هل من بينها ما يمكن أن يكافئ صرخة واحدة من صرخات أيوب ، هول واحد من الأهوال التي عرفها ماكبث ، أو سمو واحدة من كانتانات باخ ؟ "
يتابع سيوران : " نحن لا نجادل الكون ، نحن نعكسه ونعبر عنه ، والفلسفة لا تعبر عنه . تبدأ المشاكل الحقيقية بعد أن تكون جبت الفلسفة طولاً وعرضاً ، أو بعد أن تستنفذها . بعد قراءة الفصل الأخير من مجلد ضخم ، يمثل ذلك المرحلة الأخيرة لتراجعنا قبل أن نُترَك للمجهول حيث تقيم لحظاتنا ، وحيث علينا أن نكافح ، فهو بطبيعة الحال أكثر إلحاحاً ، وأكثر أهمية من خبزنا اليومي " . و أقول ليس لمثلي أن يقارع قامة كسيوران و لكن أليست الفلسفة بحث و تفكر في المجهول , أليست الفلسفة كفاح ضد الثابت و المعروف و المسلم به ؟ ثم ما قيمة لحظاتنا إن نحن عرفنا المجهول ؟ أين المتعة فيها ؟ أين ألم الشك و متعة الانتصار بالانتقاء من بين خيارات أحلاها مرُ أو التعلم من الندم ؟ كيف لنا أن نسلم بطبيعة الحياة المتناقضة و مفارقاتها ثم نُصِرُّ على الكفاح ضد المجهول ؟ !
يحاول سيوران جاهداً البحث عن مخرج من القلق لكنه لا يجد " الجهل وطن و الوعي منفى " , و بالرغم من أنه يتلمس ماهية بعض لحظات الخروج و الطمأنينة التي نمر فيها من خلال بعض انفعالاتنا بالموسيقا و البكاء و ما بعد الصراخ , و التي يصعب التعبير عن الشعور فيها , لكنه يستسلم و يعود و يقرر إعدام كل شيء " نحن عالقون في كون لا لزوم له ، بحيث أن الأسئلة والأجوبة فيه تساوي الشيء ذاته " .
هل نستطيع أن ننسب سبب هذا الهروب من الوعي و النباهة إلى كثرة محاولات الإجابة و تعددها ؟ إلى تحطيم العلم لثوابت الأديان و محاولات الأخيرة العبثية احتواؤه ؟ إلى ندرة فهم الرياضيات و الفلسفة ؟ إلى كثرة الطرق التي توصلنا لفرضية معينة حول معنى الحياة و معنى الوجود ؟
هل يؤدي كل ما سبق إلى تشتت القدرة على اختيار طريق ما ؟
ألا يبدو الوعي محقاً في رغبته بالغياب أمام كل هذه الاحتمالات و الخيارات ؟ !
شخصياً .. يردني الكثير من المقاطع " المضحكة " فلا أفهم بعضها إلا كمقاطع مبكية أو على الأقل مزعجة , لكني أرد عليها بسمايل ضاحك ! نعم .. فقد بِتُّ أخشى من أن أخسر جميع أصدقائي و معارفي و حتى أقربائي بسبب غبائي أو عدم انسجامي في الرؤية مع الآخرين , لم أعد أستطيع التعبير عن رأيي في مقطع فيديو , و صرت أخاف من السؤال حول المضحك في الموضوع كوني سأشكل حالة من " النكد " للمرسل يتبعها شتائم بينه و بين نفسه من قبيل : ( شقفة حمار بدو يتفهمن علينا , خرا عليك و عاللي بقى بيبعتلك شي , خود بقى بدو يقعد يتفلسف على طيزنا , ... و إلخ ... )
إننا نتسطح يا سادة .. لم يعد هناك رغبة في سبر العمق .. فالمشي كثير و الحفر قليل .
إشكالية أخرى تظهر على السطح و هي الملل من أي عمل مُنتِج , إذ لم يعد لإشباع رغبتنا في إنجاز شيء ما و الفرح بهذا الإنجاز نفس الطعم , لقد باتت ساعة من الضحك على مقاطع تيك توك , ألذ بكثير من أي عمل منتج مهما كان صغيراً حتى لو كان قراءة قصة أو رواية .
لقد تعودنا على أن تمر علينا يومياً مئات الأفكار القصيرة السريعة العامة , فبتنا نهرب من الأفكار العميقة الطويلة الشرح .
يتخلل تعودنا ذاك , الحملات الإعلانية الموجودة في ما نقرأه أو نشاهده , و الانتباه الضروري إلى كمية الشحن المتبقي في الهاتف , رسالة واتساب , رسالة نصية دعائية من شركة الاتصالات التي تستثمر في هوائنا و غبائنا , فنعتاد عادة أخرى مع تلك السابقة : التشتت , لم نعد نستطيع التركيز على أي شيء , لقد أصبح حصر تفكيرنا في أمر معين صعباً جداً إن لم يكن مستحيلاً .
ليس الأمر أن الناس لم تعد تُطيق التعمق في الرؤية و تُحب السطحية و التسطح في النظر للأشياء و القضايا , بل إن الناس كانت منذ القدم كذلك و لا تزال .. و إلا فكيف وصلنا إلى ما نحن فيه من قرف ؟
كل ما في الأمر أننا نتطور بسرعة هائلة في تسطحنا و تشتتنا , و ربما قريباً جداً لن نعود قادرين على قراءة بوست يتجاوز السطر .
" في البداية نصنع عاداتنا ثم تصنعنا العادات " ستيفن كوفي
فهل من بديل شعبوي سوى التفاهة و النواكة أمام تسونامي السطحية و التشتت هذا الذي لا يرحم ؟
في البدء كانت حياتنا كلها بحث عن الطعام و الأمان ثم جنس و نوم .
اليوم استحوذت الشعوب التي استطاعت بناء دول قوية على الطعام و الأمان و بدأت بتصدير خوائها ( أو خرائها , لا فرق ) إلينا بواقع طن خواء مع كل كيلوغرام منفعة , انشغلنا بالتمتع بخوائهم اللذيذ و اعتدنا عليه .
هم أيضاً لديهم منشغلين كُثُر بالخواء لكنهم يختلفون عنا بأن لديهم طبقة – صحيح أنها تسرقهم أيضاً - لكنها تدير المجتمع بحكمة و اختصاص فتعيد تدوير خواء مجتمعاتها و تقدمه للدول الأقل مرتبة - لنا - علفاً طيباً .
أما نحن فالمدهش في حالتنا هو هذه القدرة المذهلة على الاستيعاب , أمة مثقلة أساساً بخرائها الذي تجتره منذ ألف و أربعمائة عام .. تستقبل خراء أمم أخرى !
لا أقول أن ليس هناك ماهو نافع و مهم و مفيد لكن الإشكالية تكمن في أن هذا النافع و المفيد لا يأتي إلا مع شحنة ضخمة من الخراء الإجباري التناول .
يجري الضخ اليومي لكل هذه التفاهات و المعلومات المفيدة و التافهة و الشخصية و نمارس الاطلاع عليها بكل شغف و لذة , نحِنُّ لأيام ولَّت , أيام لم نكن فيها مُقيدي اليدين بهاتف يسمى ذكياً كونه استطاع اعتقالنا , أيام كانت حكايا جداتنا هي مصادر المعلومات الغير مدرسية و الـ سوشيال ميديا الخاص بنا , و بعد ثانيتي حنين و نوستالجيا نمسك الذكي الذي بين يدينا و نعود لاجترار ما سبق أن تم تقيؤه علينا كي يظهر على شاشات ذكيِّنا .
لم نؤمن فقط بمركزيتنا الكونية من حيث النوع و المكان - كنوع بشري يقطن الكرة الأرضية , بل اعتدنا أن نؤمن أيضاً بمركزيتنا الزمانية , فترانا نُقنع أنفسنا بشكل تلقائي أن حياتنا الآن أفضل بكثير من حياة أسلافنا في الماضي , و نندهش إذا ما مر علينا توثيق تاريخي يخلخل قناعتنا هذه , مثلاً لقد كان السفر لمسافة مائة كيلومتر يحتاج لخمسة أيام سيراً أو ركوباً على دابة , اليوم نقطع هذه المسافة في ساعة .. نتذكر مشقة الجسد و أهوال السفر في الماضي لكن لا يخطر في بالنا حجم الراحة النفسية و العقلية التي كان يوفرها بطء ذاك الزمن و بساطته .

* كيف أصبحنا نصارع لأجل عبوديتنا بعدما كنا نصارع لأجل سعادتنا ؟
هل تشعر بأنك حي ؟
هل سبق و أن تساءلت : هل أنا حي ؟
لم نعد نشعر بأنفسنا , و باتت هبة الحياة و الوجود التي نتميز بها عمَّن رحل و عمَّن هو قادم , غير مقدرة , غير مُعاشة , غير محسوس بها .
لم تَستَعبِد التقنية أجسادنا و أدمغتنا فقط , بل تدخلت حتى في مشاعرنا و أحاسيسنا , لقد قضت على مشاعر و أحاسيس كانت تشعرنا بالبهجة بين الحين و الآخر .
أعطِ يافعاً موبايلاً متصلاً بالانترنت , و كشكاً يقيم فيه في الصحراء , قدم له وجبة طعام كل ست ساعات , و انظر متى قد يسأل عن والديه ؟ متى قد يشتاق لأخيه أو أخته ؟ متى قد يطلب الخروج من شرنقته ؟ !
و كما ظننا في الماضي السحيق أن ثورتنا الزراعية ستجعلنا سعداء أكثر , ظننا في القرن التاسع عشر أن ثورتنا العلمية و التقنية ستجعلنا سعداء أكثر , لكن للأسف لقد استعبدتنا التقنية كما سبق أن استعبدتنا الزراعة و الصناعة .
يسلبنا أسياد التكنولوجيا اليوم ما تبقى من حريتنا و يحولوننا لعبيد للتقنية مطوَّقين بقلادات شاحن الهاتف "الذكي" متسمرين أمام شاشات هواتفنا النقالة .
يريد لنا أسياد الجشع و السلطة أن نتوهم أننا نخطو نحو المستقبل بثقة و بعينين مبصرتين , و أن نتفاءل بالقادم فقد صرنا أسياد الأرض و الفضاء , و ألَّا نشعر ( و هو الأهم ) بأننا ننسلخ من أنفسنا و من إنسانيتنا كما تنسلخ و تتعرى سلحفاة من دَرَقَتِها .
لقد حدثت عملية الاستبدال هذه , استبدال السعادة الحقيقية بالعبودية , ببطء شديد , لم نستطع أن نعيّه في حينه , حيث تم استبدال غايات السعي الإنساني من غايات الشعور و العواطف إلى غايات اقتناء الأشياء و التملك , فتم ربط السعادة التي نسعى إليها بعبوديتنا للأشياء , و حين تنبه بعضنا للأمر كان الربط الاستعبادي قد تكرس فينا عميقاً بحيث صار الانعتاق مستحيلاً .
هل فكرتَ في عمرك القصير المنتهي بالموت ؟ هل فكرتَ في حفنة الدراهم التي يمنحونك إياها مقابل أثمن ما في وجودك : وقتك و حريتك ؟
لقد سلبوا منا وقتنا و حريتنا مقابل قوت يومنا , و استعبدونا بزرع الرغبة و الحاجة فينا لامتلاك الأشياء التي أوهمونا مسبقاً بأنها ستحقق سعادتنا .
كان هدف كفاحنا في الماضي أن نعيش لحظات من المشاعر و العواطف الصادقة , الحب , الجنس , الأمومة , الأبوة , الطمأنينة , فأصبحنا نكافح لأجل تملك و استحواذ الأشياء المادية , ظناً منا أنها ستهبنا السعادة , و ما إن امتلكنا شيئاً جديداً و شعرنا ببهجته قليلاً , حتى تحولنا لامتلاك غيره , و هكذا نقضي حياتنا في سعي حثيث للامتلاك بُغية سعادة وهمية , و ننسى أن نعيش وجودنا و نشعر به كلذة بحد ذاته .
لا يتفق أسلوب حياة الصياد الجامع مع ديناميكية السلطة و التسلط و دورة رأس مال أصحاب الهيافة و النيافة و الجشع , فأن تعيش صياداً جامعاً يعني أنك تهدم أساس التسلط و التحكم بك و بحياتك , ألا و هو العوز و الحاجة , فالعَوَز و الحاجة أصل الاستبداد و البَغي كما أفادنا العبقري نيقولا مكيافيلي أبو النفعية السياسية في كتابه الفريد " الأمير " , و كي نخرج من الطغيان علينا ألا ندخل في العوز , و أن لا ندخل في العوز يعني أن نصبح حكماء كما يخبرنا " إنجيل " الحكمة الصينية " التاو " : الحكيم يرغب في أن لا يرغب .
لقد تقاسم الأسياد الأرض فيما بينهم و أقاموا حدوداً و لم يعد بوسعنا كبشر أن نَهيم على وجوهنا إذا ما أردنا ذلك .. أليست هذه مأساة حقيقية ؟ ! لقد أصبح انتقالنا من مرعى فقير إلى مرعى آخر أكثر كلأً و ماءً و حرية , يحتاج جواز سفر و تأشيرة خروج و دخول و تذكرة مواصلات , يا إلهي كم تطورنا و تقدمنا !
هل نستطيع كأفراد فك ارتباطنا بالمنظومة العالمية الآن في حال أردنا ذلك ؟
هل أستطيع أن أعيش حياتي دون هوية , و دون انتماء , دون شراء , و دون أن أبيع نفسي في سوق العمل ؟
كيف استعبدتنا تلك المفاهيم التي اخترعناها ؟ دولة و حدود و مال و عمل و قوانين و محرمات و واجبات !!!
يعلم الأسياد أن بعض بني الإنسان في صراع دائم مع حاجاتهم و رغباتهم , يحاولون ما استطاعوا تحجيمها و الإقلال منها و اختصارها ما أمكن , لذلك يجتهد الأسياد باستحداث حاجات و رغبات جديدة للبشرية كل يوم , بل كل ساعة , ثم يتركون الأمر لخوفنا و كسلنا و خيالنا كي يخلقوا لدينا الحاجة و الرغبة في الحاجات و الرغبات الجديدة .
ألا يُشبه هذا التحول عن الماضي السِحر ؟ ! إنها الحرفية العالية للأسياد في تحريك لاوعي العبيد بالوعي .
إذ كيف يمكن أن نفهم و أن نقبل , برضوخ و استسلام , بأن يمتلك واحد في المائة من سكان الأرض ثمانين بالمائة من ثروة العالم بينما تعيش بقية التسع و تسعون في المائة على عشرين بالمائة من ثروة العالم المتبقية ؟ !
اليوم .. أصبح فقراء العالم يطمحون للوصول للطبقة الوسطى و الطبقة الوسطى تطمح للحفاظ على مستواها المعيشي فقط , و الأثرياء يجِدُّون السير كي يصبحوا أكثر ثراءً إما بأكل بعضهم البعض أو بافتراس و طحن ما يستطيعون من أبناء الطبقة الوسطى و الفقيرة .
يقول الكاتب الفرنسي إيمانويل كارير : " القانون الجنائي هو ما يمنع الفقراء من سرقة الأغنياء , و القانون المدني هو ما يسمح للأغنياء بسرقة الفقراء . "
شيء جميل أن ترتفع نسبة متعلمي القراءة عما كانت عليه عندما كان الكهنة و رجال الدين فقط من يحتكرون القراءة , و شيء جميل أيضاً أن تغدو المعلومات سهلة الوصول بالمرئي و المسموع حتى لمن لا يعرف القراءة , و لكن هل حقاً حققنا أو وصلنا للغاية ؟
هل حقاً علمونا كي نعرف ؟ أم علمونا كي يسهل قيادنا و تسهل السيطرة علينا ؟
في الماضي كانت الدول المتربعة على سيادة العالم تتسابق لصنع الأسلحة النووية و الكيميائية , اليوم لم يعد هناك من داعٍ لها , فقط امنح الجميع قدرة وصول إلى الشبكة و دعهم يعبرون عما في أدمغتهم و أعماقهم , أو اسأل بماذا تفكر ؟ و بلمح البصر سيغرق العالم في مزيج هُلامي من الضياع و العبثية و التفاهة يصعب الخروج منه .
لم يعد هناك حاجة لبث الشائعات أو لتمويلات إعلامية ضخمة لحرف الحقائق و تشويهها , فالجماهير باتت تفعل ذلك من تلقاء نفسها .

* خاتمة :
لم تكن كل قراراتنا كبشر جيدة , خاصة من ناحية مستقبل أكثر سعادة , بل على العكس , لقد بات واضحاً لمراقب بعيد , يرانا منذ بداياتنا و حتى الآن , أن كل ما اعتبرناه ثورة في عالمنا , إنما قادنا نحو التدني في إنسانيتنا و أورثنا قلقاً زائداً على قلقنا الأصيل , و أعتقد أننا نبدو لذاك المراقب و كأننا عقرب يتوهم أنه على صفيح ساخن فيدور مذعوراً حول نفسه محاولاً لسع نفسه للتخلص من ألم الشواء .
قد يوحي طرحي هذا بأنني من الجماعات الأصولية السلفية التي تجاهد في سبيل إعادة الحياة إلى عصر الطهر و النقاء " عصر النبوة " , أو بأنني من جماعة " الهيبيز " أو " الهومليس " التي تفضل حياة التشرد على ما نسميه " الحياة المدنية الحضارية المنتظمة " , لكن هذا ليس مسعاي , و كل ما أطلبه هو أن نحاول أن نأخذ إنسانيتنا و سعادتنا و طمأنينتنا كبشر على محمل الجد أثناء سيرنا في هذا التقدم الأعمى المتسارع الغير محسوب العواقب أو النهاية .
المزعج في النظر لتاريخ مسيرتنا البشرية , هو إصرارنا الشديد على إعادة تكرار أخطائنا القاتلة عبر التاريخ , و كأننا مجموعة بهائم في حفلة جنون جماعي لا تنتهي , تمارس الحروب و القتل الجماعي و استعباد بعضها البعض , تثقب طبقة الأوزون و تجتهد في توسيع الثقب , تُدمّر البيئة و الطبيعة و الغابات , تُلوِّث البحار و الأنهار و الهواء , تُصنِّع القنابل و الصواريخ النووية , تلقي بقمامتها في الفضاء , و بعد كل هذا الإجرام بحق نفسها و بحق محيطها , تُسلِّم مصيرها لخوارزميات الذكاء الصناعي , الذي سيرانا في قادم الأيام - كما أعتقد - مجرد كائنات مُخرِّبة و مُدمِّرة للكوكب , مُنتِجة للفضلات لا لزوم لها , و عبثاً سنحاول إقناعه بمحورية و مركزية وجودنا في هذا الكون , و أفضل سيناريوهات بقائنا هو أن يقوم الذكاء الصناعي بوضعنا في محميات طبيعية , كنوع من مساهمته في حماية البيئة لا كُرمى لسمو مقامنا كما اعتدنا كبشر أن نؤمن .
و ما يدعو للعَجب حقيقةً هو إصرارنا أيضاً - بعد كل هذا الذي اقترفناه و نقترفه - على تسمية نوعنا بـ " الهوموسابيان - Homo sapiens " و هي مفردة لاتينية تعني حرفياً : الرجل الحكيم ! ( 3 )
ليس من السهل إدراك فكرة أننا ميتون لا محالة والتعايش معها , لذلك نرى أن غالبية البشر تقلق من الفكرة لكنها ترفض مواصلة التفكير فيها .
يحولنا إدراك فكرة حتمية الموت إلى كائنات انتحارية بالفطرة , كائنات نرجسية تحاول قطاف ما أمكنها من متعة قبل الرحيل ما استطاعت إلى ذلك سبيلا .
يدفعنا القلق نحو المتعة حيناً و يحول بيننا و بينها حيناً , يدفعنا لإثبات ذواتنا حيناً و لتغييبها حيناً , إنه العدو الصديق .
لم نفلح حتى اليوم في علاج قلقنا , و كل ما قمنا به لا يعدو عن أن يكون معالجة الداء بالداء , مداواة القلق بقلق جديد نخترعه , الهروب من قلق إلى آخر , و كل ذلك في محاولة بشرية جمعية لا شعورية هدفها إتلاف جهازنا العصبي و التفكيري الواعي كحل أخير و نهائي لعلاج القلق , و إلى أن نتحول إلى آلات لا قيمة لها أو لوجودها .. أمنياتي لكم بدوام الوعي و دوام القلق .


-----------------------------------

( 1 ) : كتاب العاقل - تاريخ مختصر للنوع البشري - يوفال نوح هراري – ترجمة حسين العبري و صالح الفلاحي
( 2 ) : معجم لسان العرب لابن منظور
( 3 ) : كتاب البشر - موجز تاريخ الفشل و كيف أفسدنا كل شيء – توم فيليبس – ترجمة يارا برازي (HUMANS : A Brief History of How We Fucked It All Up )



#أيهم_نور_الصباح_حسن (هاشتاغ)       Ayham_Noursabah_Hasan#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كِباشُ الشامتِين
- أما من عتقٍ من هذا النكاح ؟
- التعري و الفرج المُتخيَّل كسلاح احتجاج
- مئذنة يعرب العيسى البيضاء
- الدوغماطيقية إرثنا المانع للفهم – نحو دوغماطيقية أقل عنفية
- المزرعة السورية السكسونية
- قانون الجريمة المعلوماتية السوري الجديد .. مسخ جديد في المزر ...
- لماذا روسيا هي الحليف لا غيرها ؟
- المؤيدون السوريون بين قمع السلطة و حقد المعارضة
- إرهاب غويران - بين ملحمة تلفزيون سوريا و قومجية بثينة شعبان
- عربٌ .. ولا أَنعَمْ
- سورية و القتلُ كَمَدَاً
- عبقرية الحمار
- مبحث في النفاق - نظرة مُغايرة
- - الاسترقاق - الرئاسي في سورية و متلازمة ستوكهولم
- سورية : عشرُ سنينٍ من الأنين
- هل حقاً دفعنا كسوريين الثمن ؟
- نحو فهم السوري المدافع عن الحليف باستماتة
- السوريون و ضبابية الهوية
- أوغل خازوقك فينا


المزيد.....




- مكالمة هاتفية حدثت خلال لقاء محمد بن سلمان والسيناتور غراهام ...
- السعودية توقف المالكي لتحرشه بمواطن في مكة وتشهّر باسمه كامل ...
- دراسة: كل ذكرى جديدة نكوّنها تسبب ضررا لخلايا أدمغتنا
- كلب آلي أمريكي مزود بقاذف لهب (فيديو)
- -شياطين الغبار- تثير الفزع في المدينة المنورة (فيديو)
- مصادر فرنسية تكشف عن صفقة أسلحة لتجهيز عدد من الكتائب في الج ...
- ضابط استخبارات سابق يكشف عن آثار تورط فرنسي في معارك ماريوبو ...
- بولندا تنوي إعادة الأوكرانيين المتهربين من الخدمة العسكرية إ ...
- سوية الاستقبال في الولايات المتحدة لا تناسب أردوغان
- الغرب يثير هستيريا عسكرية ونووية


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - أيهم نور الصباح حسن - حضارة القلق و إرادة النَّوَاكة - دفاعاً عن التفاهة و قتل الوعي