أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حامد تركي هيكل - الندم














المزيد.....

الندم


حامد تركي هيكل

الحوار المتمدن-العدد: 7312 - 2022 / 7 / 17 - 19:32
المحور: الادب والفن
    


من خلف باب الغرفة (١٧) في دار رعاية المسنين الخيرية كان صوته يعبر واضحاً الى الممرّ، وهو يكلّم نفسه، بحيث يتمكن المعين الفضولي الذي يقف ليسترق السمع من تمييز كلماته. المسنُّ النزيل في الغرفة رقم (١٧) في ساعة متأخرة من الليل كان قد رأى طيفاً. خُيّل اليه أنه سمع صوت والده العجوزوهو يناديه من أجل أن يقدم له خدمة. رأى أن والده كان يستقبل ضيوفاً يبدو أنهم أصدقاؤه، وأنه بحاجة لولده كي يقدم لهم الشاي وما يلزم. فنهض متذمراً كسلاناً. كان بنظر نفسه لمّا يزل شاباً صحيحاً ولكنه كان يود أن يكمل نومه، لذا شعر بالضجر من والده الذي يناديه في هذه الساعة للقيام بأمر بدا له سخيفاً. ولكنه ما أن نهض حتى أدرك أن ذك كان حلماً، وان والده قد مات منذ سنين عديدة، وأنه الآن رجل مسنٌّ يسكن الغرفة رقم (١٧) في دار المسنسن. وقد راح يبكي ويتكلم بصوت عال يمكن للمعين الفضولي أن يسمعه من خلال باب الغرفة الموصد قائلاً:.
فجر اليوم، سمعت نداءك يا أبتِ. فجر اليوم تراءى لي أنك ناديتني يا والدي. فجر اليوم والسكون يخيّم على الوجود تذكرتُك يا أبي الحبيب. نهضتُ من فراشي مع آلام مفاصلي، ودوار رأسي، وحرقة معدتي، وجفاف حلقي، وخفقان قلبي، فكنت أنتَ ماثلاً أمامي! نهضتُ بل ناضلت لاستوي وأنا أتلمّس السطوح التي بدت لي في تلك الساعة مبهمةً، بحثتُ عن نظارتي لتعينني على رؤية المكان قليلا، و عن أقراص أدويتي لتعينني على خفض ضغط دمي قليلاً، وتهدئة خفقان قلبي قليلاً ! و عن عصاي لتعينني على حمل جسمي قليلاً! في تلك الساعة العصيبة تذكرتُك يا أبي!
من المؤكد إنَّكَ مررتَ بلحظاتٍ مؤلمة يا أبي، بل أيام وليالي، بل سنوات، بل عقود من العمر! أبتاه! اليوم فقط اكتشفت انني لم أكن أعلم، هل حقاً كنت تعاني من العجز والشيخوخة وضعف القوى وتدهور الحواس كما أعاني أنا الآن يا ابتِ؟
هل كان يقلقك ضعفُ بصرك؟ هل كنت تخشى اليوم الذي لا تستطيع فيه الحركة؟
الأن فقط تذكرتُك يا أبتِ، ولكنني وقتها لم أكن أظنِّ أنك بحاجة لي، هل مررت يا أبي بليالٍ كهذه التي أمرُّ أنا بها الآن حين كنتُ أنا لاهياً بحياتي، أصولُ وأجول، أسافر وأسعى، وأخوض معاركي، وأهتمُّ بشؤوني! لم يكن يخطر على بالي أنك كنت بحاجة لي! بل بالعكس كنتُ أظنُّ انني أنا من كان بحاجة اليك دوماً، كنتُ أشعر أنك تقف خلفي سنداً متيناً، وبيني وبين مصائب الحياة سدّاً منيعاً ، وأمامي كاسحةً تزيحُ عن دربي المطبّات، ونبراساً تنير لي الظلمات. كنتُ أشعر دوماً انّك قويٌّ مقتدر حتى وأنت طريح الفراش.
هل كنتَ تتوقع مني أن أسندك في سنوات ضعفك يا والدي الحبيب ولم أفعل؟ هل كنتَ بحاجةٍ لي ولم تجدني؟ هل كنتَ تتوقع مني أن أخدمك ولم ألحظ ولم انتبه حتى؟ وأجهش الرجلُ المسنُّ ببكاءٍ مرير. ثم واصل كلامه:
يا إلهي لماذا الآن؟ والآن فقط تبرز داخل عقلي هذه الافكار ُوالهموم؟ أحاول أن أجد تفسيراً لما حصل.
مؤكد انني كنتُ مشغولاً بحياتي التي لم تكن سهلة على أية حال. ولكنني لم يخطر ببالي انّك كنت شيخاً كبيراً يا والدي أكبر بكثير مما أنا عليه الان!

هل كنتُ أنا أنانيّاً الى هذه الدرجة يا أبتِ؟ هل كنتَ تراني هكذا؟ يا لتعاستي! آلآن أدركُ ذلك وبعد فوات الأوان؟
هل كنتَ أنتَ السبب يا أبتِ؟ فأنت كنتَ من يعطي ولا يأخذ، وكنت عزيز النفس، أبيّاً، شامخاً، قوياً. لم تطلب مني أن أتوقف لحظةً للتفكير بك! لم أكن أظنُّ أنك بحاجة لي، أو بحاجةٍ لانسان آخر! لقد عودتني أن أراك غنياً، معطاءً، وهّاباً، متفضلاً، عالياً، ثابتاً، جبلاً لا يهتزّ. هل مررتَ بأوقاتٍ كهذه التي أمرُّ بها أنا الآن يا أبي؟ ولم أكن أدري؟ يا لخيبتي!
أم انها الظروف التي مررنا بها هي التي شغلتني عنكَ فلم تترك لي فرصة إدراك ما حولي، ومن حولي! حصارٌ يخنق أحلامنا ويدمر وجودنا، وحربٌ رعناء، وقصفٌ لم يرَ الناس مثله، وفوضى عارمة تطيح بنا، وقتلٌ وتهجير وضياعٌ يمزّقنا. هل هي الظروف التي منعتني من التفكير بك يا أبتِ؟ أم انني أحاول فقط أن أجد لنفسي عذراً؟
أم انه حظي العاثر، وقدري المحتوم أن أعاني الأمرّين ما تبقى من عمري! شيخوختي وندمي لتفريطي بنعمة بِرِك ورعايتك حين كنتُ قادراً على ذلك يا أبتِ!
- يا من تسمعُ كلماتي هذه الآن!!
ورفع صوته قدر ما يستطيع، يبدو انه قد فتح النافذة التي تطلُّ على حديقة دار المسنين الخيرية ذات الأشجار الميتة، والتي استخدمت كمستودع مكشوف لخزن الأثاث المحطم، والفرش القديمة المتعفنة، وأكياس النفايات التي مزقتها القطط ونثرت محتوياتها. فقد عبر تيار هواء عفن خلال الغرفة رقم (١٧) وتسرَّب الى الممر ، سمعه المعين الفضولي بوضوح وهو ينادي:
- يا من تسمعُ كلماتي هذه الآن!! دع كلَّ شيء، لا شيء مهم! وسارع لوالديك قبل أن تفقدهما! فأنا أشفق عليك، كائناً من تكون، أن تظلَّ نادماً مثلي.



#حامد_تركي_هيكل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- خيارات محدودة
- زمانان
- بيروقراطية ونفاق
- موقفان
- فنان فطري عجيب
- عطلة العيد
- حكايتا بقرة ووزّة
- اجتماع اللجنة العليا
- ضحايا مجرمون
- حكاية موت الدكتور سلمان
- حكاية سعيد الورّاق
- كاميرات ثلاث -الجزء الثالث
- كاميرات ثلاث -الجزء الثاني
- كاميرات ثلاث -الجزء الأول
- خيالات
- هو الذي رأى كل شيء _الجزء التاسع والأخير
- هو الذي رأى كل شيء _الجزء الثامن
- هو الذي رأى كل شيء _الجزء السابع
- هو الذي رأى كل شيء _الجزء السادس
- هو الذي رأى كل شيء _الجزء الخامس


المزيد.....




- سمية الخشاب تقاضي رامز جلال (فيديو)
- وزير الثقافة الإيراني: نشر أعمال لمفكرين مسيحيين عن أهل البي ...
- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- ألف ليلة وليلة: الجذور التاريخية للكتاب الأكثر سحرا في الشرق ...
- رواية -سيرة الرماد- لخديجة مروازي ضمن القائمة القصيرة لجائزة ...
- الغاوون .قصيدة (إرسم صورتك)الشاعرة روض صدقى.مصر
- صورة الممثل الأميركي ويل سميث في المغرب.. ما حقيقتها؟
- بوتين: من يتحدث عن إلغاء الثقافة الروسية هم فقط عديمو الذكاء ...
- -كنوز هوليوود-.. بيع باب فيلم -تايتانيك- المثير للجدل بمبلغ ...
- حديث عن الاندماج والانصهار والذوبان اللغوي… والترياق المطلوب ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حامد تركي هيكل - الندم