أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حامد تركي هيكل - كاميرات ثلاث -الجزء الأول















المزيد.....

كاميرات ثلاث -الجزء الأول


حامد تركي هيكل

الحوار المتمدن-العدد: 6845 - 2021 / 3 / 19 - 09:23
المحور: الادب والفن
    


كان بينه وبين التصوير حبٌ من جانب واحد على ما بدى له. حبٌ لم يتكلل بالنجاح رغم تعدد محاولات التودد والتقرب والتضحيات. فعلى مدى سنوات كان يحبُّ أن يكون مصوّرا فوتوغرافياً. ولا يعرف هو لماذا أحبَّ التصوير. ولكن ظروفاً قاهرة حالت بينه وبين تحقيق حلمه. حتى أنه بات مقتنعاً أنه لم يُخلق للتصوير، وأن الكاميرا تأبى أن تكون الى جانبه. فأقلع عن فكرة التصوير. وله مع الكاميرات وعشقها قصصٌ ثلاث.

الكاميرا الأولى

كان في الثالثة عشرة من عمره، عندما تملكته رغبة عارمة في الحصول على كاميرا.لا يتذكر الآن بعد مرور نصف قرن كيف تسللت الفكرة الى رأسه. ربما سمع عنها، ربما شاع في القرية حينها كلام عن كاميرات. ولكنه متأكد أن تلك الفكرة لم يكن سببها أنه شاهد واحدة. ففي تلك القرية الوادعة، تلك القرية الجميلة التي تغفو على نهر خضابو، والتي خرجت للتو من محنة الفيضان الكبير عام 1969 الذي أتى على كل شيء، لم يكن أحد يمتلك كاميرا، بالتأكيد.

ولكن الفكرة التي قضّت مضجعه وألجأته الى التفكير الجدي لامتلاك كاميرا ربما كانت بسبب تلك الكاميرا الصندوقية العجيبة التي تلتقط الصور الشمسية. حيث تطلب دخوله إمتحان البكلوريا للصف السادس الابتدائي أن يجلب لادارة المدرسة صورة شمسية لتسلمه بدورها بطاقة. ومن دون تلك البطاقة لم يكن بمقدوره دخول قاعة الامتحان المهيبة. جلس على كرسي حديدي أمام حائط، خلفه ستارة سوداء معلقة بمسمارين، وأمامه ذلك الصندوق الخشبي العجيب المرتكز على ثلاث أرجل، يتدلى من خلف الصندوق كمٌّ أسود طويل من قماش ثقيل كأنه اقتطع من سروال رجل عملاق. كان المصور يمارس حركات مريبة لا يعرفها أحد. فكان يطلُّ مرةً بعين واحدة من فتحةٍ جانبيةٍ ناتئة ليرى ما يجري في قلب ذلك الصندوق، ومرةً كان يمد يده من خلال الكمّ الأسود ليعالج أشياء لا يعلمها إلّا هو في أحشاء ذلك الصندوق. أما هو فكان عليه أن يجلس متسمّراً على ذلك الكرسي الحديدي المؤلم، ينظر الى عين الصندوق مدة من الزمن. وبشكل سحري يخرج المصور من قلب الصندوق بعد طقوس يمارسها بصمت شريطاً مبللاً، يجففه تحت أشعة الشمس، ثم يقطّعه بمقصّ، ثم يضع القطع بكيس ورقيّ، تفضل عمي، هاي هيه صورك.
أيمكن أن تكون هذه الحادثة هي من زرع بذرة الميل لامتلاك كاميرا في قلبه؟ أم تلك الأحاديث التي راجت في القرية وانتشرت كانتشار النار في الهشيم عن عباس حمد؟ هو لم يرَ عباس حمد، ولا يعرفه. ولكنه سمع عنه أنه كان يجلب الاشياء ويبيعها. وكان أهل القرية يكلفونه بشراء الأشياء العجيبة، فيجلبها لهم. وسمع أيضاً، ربما، أن عباس حمد قد قال أن سعر الكاميرا في أربد ثلاثمائة فلس. عباس حمد كان جندياً مكلفاً، وكانت وحدته قد نقلت الى الأردن واستقرت في مدينة أربد بعد حرب حزيران.

المشكلة التي كانت تواجهه هي في الكيفية التي سيحصل بها على المبلغ المطلوب، وهو مبلغ ليس ياليسير، ذلك لأن أكبر مبلغ كان قد أمسكه بيده حتى تلك اللحظة هو الدرهم (خمسون فلساً) الذي كان يستلمه من والده كل صباح، والذي كان يدفع منه للسيد سلمان عشرين فلساً للذهاب ومثلها للإياب كأجرة ركوب باصه المتهالك من أجل الذهاب الى المدرسة. أما العشرة الباقية فكان يشتري بها لفّة لبلبي. أما اذا رغب بشراء قنينة بيبسي كولا باردة، أو قنينة سينالكو، فكان عليه أن يوفر العشرة يومين لشراءها، لأن ثمنها عشرين فلساً.
لم يكن أمامه الا أن يتحايل على أمه، التي لم يكن أقناعها بالأمر الصعب، رغم أنه يعلم أنها لا تمتلك المبلغ، ولكنه يعلم أيضاً أنها لن تردَّ له طلباً، ولن تعييها الوسيلة. فقد تلجأ لبيع بطّة لأم قويدر، التي تكون جاهزة دائما لشراء الأشياء بأبّخس الأثمان من المضطرين والمستعجلين!
حصل على المبلغ، وذهب برفقة صديقه حمزة الى عباس حمد وسلمه المبلغ على أن يجلب الكاميرا أثناء إجازته القادمة. كان ذلك الجندي حليق الرأس، شكله مخيف، ووضعه غامض، قليل الكلام، وغريب الأطوار، وكيف لايكون كذلك وهو يسافر الى أبعد مكان، ويشترك بالحروب، ويعبر الحدود، وبأمكانه أن يعيش خارج البيت مدة طويلة من الزمن، ويشتري أشياء عجيبة وغريبة ليس في أسواق البلد مثيل لها.

كان حال الجنود الذين يلتحقون بالخدمة العسكرية في القرية غريباً، كما كان يراقبهم. فهم يتحولون بسرعة ملفتة للنظر. فحين يأتي الى القرية الشرطي أبو ريشة على دراجته الهوائية حاملاً لائحة بأسماء الذين عليهم الدور ليُساقوا الى الجندية، يسارعون حزانى مكسوري الخاطر، تترقق الدموع من مآقيهم، وتتكسر العبرات في صدورهم، فهم مقبلون على فراق أهلهم، والذهاب الى المجهول، حيث الحروب مستعرة أو على وشك الاستعار، يسارعون الى الالتحاق بها دون إبطاء. يطوون فراشهم، ويحزمون أغراضهم ويغيبون. وحين يأتون مجازين بعد شهر، يبدون أشخاصاً آخرين، حليقي الرؤوس، نظيفي الملابس، ينتعلون النعال، مبتسمين، يضعون عطوراً، يحملون جهاز تسجيل يصدح بالأغاني أينما ذهبوا، وغالباً ما يلعبون بمسبحة حمراء ذات حبات كبيرة، لا يعملون في البساتين، بل يتنزهزن فحسب! كلّهم يتصرفون هكذا دون استثناء!
انتظرطويلا، انتظر بفارغ الصبر. كان أحياناً يتطلع الى الأطلس المدرسي، ويحدّق في خريطة تظهر فيها أربد والبصرة. يقيس المسافات، ويتخيل الصحراء، ويسافر بمخيلته عبر تلك الطرق ، يمرُّ بأماكن لا يملك أي فكرة عنها، مناطق تظهر على الخريطة مبهمة، أج ثري! كي تو! من هناك سوف تأتي الكاميرا، وينتابه الشكُّ، وتتقاذفه الظنون، هل سيبرّ عباس حمد بوعده؟ هل سيتعرض الى حادث سير، فتنقلب الحافلة، وتضيع الكاميرا بين رمال الكثبان أو بين النباتات البرية على جانب الطريق؟ هل سيتعرض المعسكر لقصف من طائرات العدو، فتحترق الخيام وتلتهم النار الكاميرا؟ كم كانت تلك المدة طويلة.

وأخيراً وصلت الكاميرا. صندوق صغير أسود ذو ملمس محبب. مصنوع من مادة بلاستيكية صلبة، ولها عدسة ثابتة. عند فتحها يوجد بداخلها تجويف للفلم. ينطبق غطاؤها بضغطة، طق، ولها حزام يمكن أن يعلّقها على كتفه، أو برقبته. كم هو سعيد.
أشترى فلماً، وضعه له صاحب المختبر، وصوَّر صوراً، صوَّر قطاف التمر، واليواخين، والطواشات، والمعيديات بائعات السمك، والزوارق والأبلام، والنهر، والجسر. وصور قصر الحميضي الجميل، وقصر العنيزي، وصور القصر بيته. وصوَّر الطيور والسلاحف.وصوَّر تشييع الشاب الوسيم الفارع الطول خير الله العاشور الذي توفي بحادث سيارة. وصور الناس الغرباء الذين حضروا الجنازة، حيث أمتلأت طرقات القرية بالسيارات من كل صنف ولون. وبعد ذلك سلّم الكاميرا لمختبر التصوير من أجل إخراج الفلم منها، وإظهار الصور. وانتظر أياماً ليستلم الصور. كانت بالأبيض والأسود طبعاً إذ لم يكن التصوير الملون قد أخترع بعد، ولكون عدسة الكاميرا ثابتة فقد كانت الصور مشوشة قليلاً. فرح بانجازه، وحزن في الوقت نفسه. لم يشتري فلماً ثانٍ. ذلك لأن صاحب المختبر الذي ركّب له الفلم الوحيد أخبره وهو يسلمه الصور أن هذه الكاميرا مجرد (لعابة). فقد انكسر اللسان الذي يغلق غطاءها على الفلم بضغطة. ثم أنه تبين أن الكاميرا مكلفة بشكل مستمر. فكلفة شراء فلم وتحميض ست وثلاثون صورة لم يكن بالشيء الهيّن. لذا غضّ نظره عن التصوير مؤقتاً. ولكنه لم يكفّ عن الحلم بالحصول على كاميرا حقيقية ذات يوم. سوف ينتظر سنوات أخرى ليحصل على الكاميرا الثانية.
ِ



#حامد_تركي_هيكل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- خيالات
- هو الذي رأى كل شيء _الجزء التاسع والأخير
- هو الذي رأى كل شيء _الجزء الثامن
- هو الذي رأى كل شيء _الجزء السابع
- هو الذي رأى كل شيء _الجزء السادس
- هو الذي رأى كل شيء _الجزء الخامس
- هو الذي رأى كل شيء _الجزء الرابع
- هو الذي رأى كل شيء _الجزء الثالث
- هو الذي رأى كل شيء _الجزء الثاني
- هو الذي رأى كل شيء _الجزء الأول
- سالم ابن دَهَش -ج4 والأخير
- سالم ابن دَهَش -ج3
- سالم ابن دَهَش -ج2
- سالم ابن دَهَش- ج1
- دوامة الأوراق
- حلم بورجوازي سخيف
- جريمة قتل
- سلسلة فنارات -ج4- الرائد والمقدم-الحلقة الثالثة
- سلسلة فنارات -ج4- الرائد والمقدم-الحلقة الثانية
- سلسلة فنارات -ج4- الرائد والمقدم-الحلقة الأولى


المزيد.....




- “العيال هتطير من الفرحة” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- مسابقة جديدة للسينما التجريبية بمهرجان كان في دورته الـ77
- المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي: إسرائيل تعامل الفنانين كإرهاب ...
- نيويورك: الممثل الأمريكي أليك بالدوين يضرب الهاتف من يد ناشط ...
- تواصل فعاليات مهرجان بريكس للأفلام
- السعودية تتصدر جوائز مهرجان هوليوود للفيلم العربي
- فنانون أيرلنديون يطالبون مواطنتهم بمقاطعة -يوروفيجن- والوقوف ...
- بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ ...
- مظفر النَّواب.. الذَّوبان بجُهيمان وخمينيّ
- روسيا.. إقامة معرض لمسرح عرائس مذهل من إندونيسيا


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حامد تركي هيكل - كاميرات ثلاث -الجزء الأول