أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حامد تركي هيكل - هو الذي رأى كل شيء _الجزء السادس















المزيد.....


هو الذي رأى كل شيء _الجزء السادس


حامد تركي هيكل

الحوار المتمدن-العدد: 6773 - 2020 / 12 / 28 - 17:46
المحور: الادب والفن
    


أساطير ونبوءات
الساعة التاسعة مساء

في ساعات المساء الأخيرة شهدت الحديقة حركة غيرعادية. فبدلاً عن أن تبدأ بالسبات كما يحصل كلّ ليلة من ليالي الشتاء الباردة، تجمّع عدد من الناس قرب خيمة المجنونين، وراحوا ينصبون خيمة لهم. يبدو أنهم قرروا المبيت هنا. كان أولئك هم جماعة الشايب، ذلك المهووس بالمسرح، ومريدوه من الفنانين غريبي الأطوار، وهم ثلة من رجال السطح. أما الآخرون الذين تجمعوا قرب الخيمة، فقد كانوا خليطاً من متسولين ومحبطين ومجانين ومدمنين وهم لفيف من رجال ، وفدوا الى الحديقة من أماكن مختلفة من وسط المدينة، جلسوا تحت الأشجار، تلحفَّ بعضهم بأسماله وأغطية بالية متسخة، وراح يتصنع النوم. لقد صار الأمر جنونياً تماماً، هكذا فكر عماد. وكذلك راح يفكر حسن بالطريقة نفسها. فقد اختلطت الأمور عليهما تماماً. فقد ألفا الهلوسات التي كانت تجتاحهما، وتعودا على الأوهام والخيالات التي طالما عصفت برأسيهما، خاصة أثناء الليالي. ألف عماد الأحلام التي كان يراها وقد غادرت قلوب اصحابها الميتين قبل أوانهم كحمامات فزعة تائهة تحوم، والتي راحت تبحث لها عن مأوى بعد أن خطفت يد الموت القاسية التي لا ترحم أصحابها فجأة وهم يسيرون، وهم يعودون من مدارسهم، أو وهم يعودون من لقاء أحبّتهم. واعتاد حسن رؤية نسخ مشوهة ظلّيّة من كل مشهد واقعي أمامه. نسخ مغشوشة، كأن الواقع أصبح بنظره طبقات متوازية متشابهة ومختلفة في الوقت نفسه. ولهذا لم يعودا متأكدين ما اذا كان الذي سمعاه من هذا الرجل واقعاً أم خيالاً، فمن المؤكد أنه كان يتحدث عن مدينة ليس لها وجود. قطعاً، لا يمكن أن تكون هناك مدينة بمثل هذه المواصفات. ولكن الشيء غير المؤكد أيضا هو هل أن هذا الرجل موجود فعلاً في خيمتهما يفتعل القصص والأكاذيب، أم أنه لا وجود له إلا في عالميهما الخياليين؟ أم أنه موجود في خيال عماد ويقصُّه على حسن، أم أنه من اختلاق حسن ويصدّع به رأس عماد؟ كلّ شيء ممكن. ولكن ما قصة هؤلاء المجانين الذين تجمعوا حول خيمتهما لمراقبة الاحداث؟ لماذا قدموا؟ هل لهم علاقة بهذا الرجل؟ أم أن أحدا لم يتجمع، أم أنهم تجمعوا لسبب آخر لا علاقة له بقصة هذا الرجل الغامض؟ حاول عماد التأكد من أنه كان قد أرسل المقاطع الصوتية لأحدهم أم أنه تخيّل ذلك أيضاً، ولكنه عندما حاول التحقق من هذه وجد هاتفه مطفئاً تماماً.
من جانب آخر يبدو أن الناس العاديين لم يلحظوا شيئاً، فقد استمرت حركتهم كما هي دون أن يلتفتوا الى ما استجدَّ من تجمع غريب في حديقة الأمة. في هذه الأثناء قال عماد للرجل الغامض:
- أخبرنا المزيد رجاءً لنعرف ما الذي جرى، وما هي قصة تلك الرموز والحيوانات؟
أما الرجل الغريب فيظنُّ نفسه هذه المرة كما لوأنه ضيف على برنامج تلفزيوني يجيب على أسئلة الصحفيين. قال:
- تسألني لم اختار الكبار تلك الرموز ليضعوها في بيارقهم دون غيرها. أنا أقول لك، لم يكن ذلك عملاً اعتباطيا. بل لأن هذه الرموز كانت متجذرة في إسطورة قديمة. إسطورة كان الناس يعرفونها، وكانوا يحفظونها عن ظهر قلب. يقال أنها كانت مكتوبة على المسلّة التي يقال أنها كانت موجودة في مكان ما قبل أن تختفي بظروف غامضة. تردد في أرجاء المثلث الجنوبي أن سكان مثلث آخر قد سرقوها، وأنهم قد دفنوها في مكان ما تحت الأرض، وأنهم لازالوا عاكفين على إزالة نقوشها الأصلية واستبدالها بنقوش مزيّفة أخرى، نقوش تمجّد مثلثهم دون غيره! يعتقدون أنهم سينجحون بفعلتهم هذه! مستحيل أن يحصل هذا، قال أحدهم. ولكنني سمعت الناس في كل مثلث وهم يتّهمون أصحاب مثلث آخر بسرقة المسلّة. كان ذلك منذ وقت بعيد قبل أن يبدأ الجميع بالاعتقاد أن مسلتنا ليست مسلتنا، وقبل أن ينسوا تماما ذكر المسلّة قي أحاديثهم، ثم نسوها تماما عندما استطالت رقابهم، واحدودبت قاماتهم، وصاروا ينظرون أمام أرجلهم، وبعد أن نسوا الكلام فيما بينهم، لم أعد أعرف ما اذا كانوا لا يزالون يذكرونها أم أنهم فعلا قد نسوها تماما!
المجدُ لكَ أيها الجدّ، فقد سخرتِ السماءُ لكَ كلَّ أنواعِ الضواري لتحميك، هكذا كنّا نغني سابقاً. ولكن النشيد المحفور على مسلتنا التي صارت مسلتهم مؤخراً لم يذكر أيَّ نوع من الضواري تلك التي سخّرتها الأقدار لمساعدة الرضيع جدنا كي ينجو. ولكن الحكايات كانت تحكي منذ زمن بعيد عن ضواري. هكذا من أجل اضفاء المزيد من التشويق. قبل آلاف السنين، احتل الجنُّ النهمون المتعطشون للدماء المدينة التي كانت مزدهرة وآمنة، كما تقول الأسطورة، نهبوا كل شيء، وأحرقوا كل شيء، وقتلوا كل السكان. هكذا قيل لنا. ولم ينجُ سوى طفل رضيع كان مختفيا بين الأنقاض. ولكن الآلهة القديمة سخَّرت أربعأً من مخلوقاتها لانقاذ ذلك الطفل. ومن ثم تهيئته للانتقام من الغزاة. فقد عثرت ضبعة بريّة عليه، فأرضعته وحملته تحت جنح الظلام الى شاطيء البحر بعيداً عن هواء المدينة الملوث بروائح نتنة، وبعيداعن أنظار العفاريت. ومن هناك ألتقمه حوت عظيم وحمله الى جزيرة بعيدة في عرض البحر، حيث تركه على شاطئها. وفي تلك الجزيرة تقول الأساطير التي لم تكتب على المسلّة تبناه نمرٌ أبيض. وتكفَّل بتعليمه فنون القتال. وبعد أن صار شاباً قوياً مفتول العضلات، قرّر العودة الى مدينة آبائه وأجداده ليحرّرها، وليعيد اليها مجدها، تقول الأغاني التي كنّا ننشدها بعد أوقات المدرسة! وقبل أن يغادر الجزيرة، اعترض طريقه عقرب عملاق فأهداه غدّة السمّ خاصته التي كانت تزن عشرة أرطال! وقال له إن ذلك سيعينه في كفاحه ضد أعدائه، كانت تقول الجدّات للاطفال قبل موعد نومهم. ثم أن الشاب انتظر على شاطيء الجزيرة يوماً وليلةً وهو يفكر بطريقة لاجتياز البحر. وهناك ظهر له مجدداً ذلك الحوت القديم، الحوت الذي جاء به قبل سنوات الى هذه الجزيرة، فالتقمه مرةً أخرى، وحمله الى وادي الأنهار الأربعة، وألقاه عند مصبّاتها، تقول بعض الحكايات التي نسيناها. ومن هناك عاد الى آثار مدينته، وحارب بشجاعة، واستخدم سمَّ العقرب لينتقم من أعدائه، وأسس المدينة التي ازدهرت من جديد عندما تزوج وأنجب شعبه. وروى لشعبه قصته التي اتخذوها تاريخاً لهم، وبدأوا بتناقلها الى جانب تقديم الشكر للآلهة القديمة الـتي شملتهم بعنايتها. وحظيت رموز تلك المخلوقات الأسطورية باحترام الأجداد. فأقيمت النصب التذكارية الرائعة التصميم في المواقع التي أعتقدنا بحصول الأحداث الأسطورية فيها، والتي تمثل علامات فارقة في تلك الرحلة العظيمة. فقد تم نصب مسلّة عظيمة من المرمر الأبيض في المكان عينه حيث وجدت الضبعة المبجلة الطفل المبجل. والتي أصبحت مركزا لمدينتنا فيما بعد. وبُنيَّ هرمٌ عظيم على ساحل البحر عند مصبات الأنهار حيث ألتقمه الحوت المبجل. ولعدم وجود جزيرة يمكن الوصول اليها في البحر القريب من وادي الأنهار الأربعة، فقد أعتبرنا أن تلك الجزيرة كانت نائية جداً، ولتخليد ذكراها أنشئت فنارتان في بحرنا، تمثل أحداها النمر المبجل، وتمثل الأخرى العقرب المبجل.
واصل الرجل الغامض حديثه :
- حظيت كل تلك الحيوانات بالاحترام لكونها مسخّرة من الآلهة لانقاذ الطفل جدنا. ولكن ذلك تغير في مرحلة لاحقة . فقد احتدم نقاش حول أدوار تلك المخلوقات. لم تجز المكتبة الوطنية سنوات طويلة طبع وتداول تلك القصص لكونها تفتقر الى المنهج العلمي! فضلا عن أن أيَّ دليل على هذه الحكاية لم يتم العثور عليه، ولم يكن شيئ من ذلك قد كتب على المسلّة، التي لم يعد أحد متأكداً ما اذا كانت موجودة بالفعل هي الأخرى أم أنها مجرد أوهام عاشت في الرؤوس! ولكنها في السنوات التي اعقبت اقتحام مركز المدينة من قبل الغاضبين بسبب فقدان المسلّة، صارت تطبع. ثم في النهاية تم الغاء المكتبة الوطنية، وتم الغاء إجازة الكتب قبل طبعها، قبل أن تتوقف ماكنات الطباعة عن الدوران عندما تم التحذير من كل أنواع القراءة والكتابة في زمن لاحق. وتم إحراق الكتب من قبل الجموع الخائفة!
عندما فكّر الكبار برموز وبيارق ذهبوا الى هذا الخيار لأنهم كانوا متأكدين أن ما من رمز آخر سيكون له عمق تاريخي أفضل من تلك الرموز الموغلة في القدم. ولم يجد المصممون غير تلك الحكايات القديمة غير الدقيقة ليتخذوا منها فكرة البيرق! لا يعلم أحد في أي مثلث انبثقت فكرة الرموز الحيوانية أول مرة. ذلك لأن الجميع كان يتجسس على الجميع. ربما أَطلع أحد الكبار الأربعة بقية الكبار على نيته اتخاذ صورة ضبع شعارا له، ربما من أجل أن يحجز هذا الرمز حتى لا يتجرأ أحد آخر على اتخاذه. طبعا التنسيق مهم، تصور لو أن الجميع أتخذوا النمر شعارا، وحضرنا جميعاً للمفاوضات حاملين البيرق نفسه! سنكون عرضة للسخرية . آخرون أدّعوا أن هؤلاء الكبار الأربعة قد عقدوا العزم منذ أن كانوا يعملون سراً ضمن منطقة السخام على ذلك، وقد اتفقوا على كل شيء. الا ان ذلك كان كلاماً لا دليل عليه بالمرة.

نبوءات
مع سيطرة الكبار الأربعة على المثلثات، يعاونهم عدد من العرّافين والمشعوذين والسحرة وقرّاء الطالع وقارئات الفنجان والمتبحّرين بالنجوم وحركاتها والمطّلعين على القصص القديمة وعلومها والحافظين ما كان مكتوباً على مسلّتنا التي أختفت بصورة غامضة ومفسري الأحلام ومصممي الرقى والأحراز ومؤلفي الطلاسم والتعاويذ السحرية، صار الناسُ على موعدٍ في كلِّ شهرٍ، أو في كلِّ سنةٍ مع نبوءةٍ جديدةٍ. وبات الناس ينتظرون النبوءات بشغف. صارت خبزنا اليومي. كنت أعجب كيف كنا نعيش بدون نبوءات سابقا يا أخي ؟ سأل أحد الرجال الذين كانوا يستريحون على قارعة الطريق من مشقة البحث عن السلع التي كانوا يودون شرائها ولكنهم لم يجدوها، أو ربما نسوا ما كانوا يبحثون عنه. كيف كنا مغفّلين لا نعرف عن النجوم؟ ولم نسأل أنفسنا يوماً لماذا كانت الرياح تهبُّ ؟ لماذا تعبر الشهب السماء؟ لماذا تهاجر الطيور؟ ولماذا تموت الأسماك في الأنهار؟ قال رجل آخر وهو يفتح لفافة من خرق بالية كان يضعها على قدميه المتقرحتين. وقف أحد المخلصين على منصته خطيباً في الزاوية حيث يتقاطع شارعان. وقد تطوّر عمل المخلصين في الآونة الأخيرة فصاروا يجوبون الشوارع وهم فريق يتكون من ثلاثة أشخاص. ثلاثة مخلصين من الرجال حسني الهندام. أحدهم هو المخلص الأول وهو الذي يؤدي دور الخطيب بعد أن يصعد على المنصّة، أما الثاني كانت وظيفته حمل المنصّة التي هي عبارة عن سلم متحرك ربط عليه كرسي صغير. أما المخلص الثالث الذي يرافقهما فهو شخص غريب الأطوار. شخص غامض، لا يتكلم، ولا يحمل شيئاً، ولا يقوم بأي عمل ظاهر، الا أنه ربما كان أهم واحد بينهم. فقد كان يُشاهد غالباً وهو يقف على جنب، صامتاً يراقب الجمهور المنصت لخطبة المخلص الأول. وشوهد أكثر من مرة وكأنه يذكّر المخلص الأول بفكرة ما، أو ربما يبلغه بضرورة التوقف أو الاستمرار، أو شيء من هذا القبيل. ولأنه كان يضع نظارة شمسية سوداء دائما فلم يستطع الناس من معرفة الاتجاه الذي كان ينظر اليه. بعض الناس كانوا يعتقدون أنه كان يتّصل من خلال جهاز لاسلكي كان يخفيه تحت ملابسه بأشخاص آخرين. والبعض كان يعتقد أنه يحمل في نظارته كاميرا خفيّة تستطيع تسجيل وجوه المستمعين للخطاب ليتم عرضها لاحقاً هناك أمام الكبير ليتأكد من مدى اخلاص الناس له. بينما جادل آخرون بتسخيف هذه الفكرة لأن الكبير لا يحتاج الى تسجيلات ليعرف ما الذي تفكّر به. وقف ذلك المخلص محذراً.

موت الكتابة
شاعت بين الناس نبوءةٌ مفادُها أنَّ شخصاً ما سيقرأُ يوماً ما في كتابٍ ما بضعَ كلمات دسَّها الأعداءُ عنوةً، كلماتٍ تحملُ قوىً سحريةً عجيبةً، تجعلُه بعدَ قراءتِها مباشرةً يتجه الى قتلِ كبيره، أو إحداثِ تغييرٍ خطيرٍ ما، أو افشاءِ سرٍّ خطيرٍ من أسرارِ المثلث. ستفعل تلك الكلمات فعلها العجيب في عقله، ستغيّره دون أن يشعر، ستزرع السواد والحقد والكراهية في قلبه. سيصبح شخصا آخر دون أرادته، ودون أن يعلم حتى ما الذي جرى له. وسيورث العار الأبدي لأبنائه وأحفاده حتى نهاية العالم، وسيحتقرهم الناس، ولا يريد أحد أن يقترب منهم، سيكونون منبوذين. هكذا كانت المسلّة تقول، قال أحد المخلصين. ولكنهم سرقوها، الآن عرفنا لماذا سرقها الاعداء! صار السؤال الأكثر أهمية هو كيف لنا أن نتجنب الوقوع ضحية تلك المؤامرة الخسيسة؟ قد تكون أنت، وقد أكون أنا، يا للعار! يا للخزي! كيف أرضى أن أكون جسدا بلا روح، كيف أسمح لهم أن يتمكنوا من استغلال جسدي للاساءة الينا؟ لابد من عمل ما يجنبنا تلك الفضيحة. خطب أحد المخلصين بالناس قائلا: أنجوا بأنفسكم، أدفعوا عنكم الخزي والعار، سدّوا الباب الذي يجلب لكم الويل والثبور! كيف؟ أرجوك دلّنا كيف نعمل ذلك؟ سأله الجمع وهم ينتحبون. انها المكتبات، انها الكتب، ذلك البيت الذي خُبئت به تلك الكلمات بانتظار من يقرأها! وهكذا اجتاحتْ الجموعُ الغاضبةُ ما كان يوما مكتباتٍ ومخازن كتب، فأحرقوا الكتب خوفاً من وجود تلك الكلمات فيها. وأحرقوا القرّاءِ الذين صادف وجودهم هناك عن طريق الخطأ أيضا. وعمّت الفوضى. تخلصوا من السموم المكتوبة يا أخواني. سمعت أحدهم ينادي. تخلصوا من الشرّ المخبّأ، تخلّصوا من السمّ الزعاف المدسوس عنوة. سمعته ينصح الناس باخلاص ويكاد قلبه يتقطع خوفاً عليهم من المصير الأسود.

موت الكلام
وما ان التقط الناسُ أنفاسَهم بعدَ موجةِ اِحراقِ الكتابةِ، وتخلصوا من كل حرف مكتوب، وما أن اطمأنوا بعد أن تأكدوا من اتلاف آخر ورقة يمكن أن تكون قد حملت ذلك الشرَّ سراً، حتى سَرَتْ في الأوساطِ مجددا نبوءةٌ أخرى أكثر خطورة من سابقتها، لم تترك الناس ليستريحوا يومين، لم تتركهم لينعموا بالأمن ليومين، آه يا أصحاب الحظ النكد! عليكم أن تنهضوا من جديد، لا وقت للاسترخاء، لابد من التيقظ، أبداً لا تغفلوا عمّا يحذّركم منه الكبير، استمعوا اليه، فهو خلاصكم الوحيد، استمعوا اليه والا هلكتم. كانت النبوءة الجديدة تقولُ ان الاعداءَ سيقومون قريباً بارسالِ شخصٍ يندسُّ بين الناس، شخص عادي لن يلحظه أحد، شخص مثلنا تماما، يمشي بيننا ولا نشعر بأنه عدو لنا، يجلس بيننا، وربما يأكل معنا، شخص مألوف تماماً، يا لتعاستنا! ولكن له مهمة خطيرة، ويلنا مما ينتظرنا من العذاب! يأتي ذلك الغريب المندسّ ويتلفظ بمفرداتٍ معينةٍ، ما إن يسمعُها أحدٌ منا حتى ينقلب ضد كبيره، فيتبدل الحبُ في قلبِه الى كراهية، ويتحوَّلُ بلمح ِالبصرِ من حامٍ لكبيره، حاملٍ لبيرقه، مستعدٍ للموت من أجله، الى عدوٍّ عنيدٍ يسعى لقتلِه بلا وعيٍّ منه. وحيث أن لا أحد يرتضي لنفسه مثلِ ذلك العار، لذا أقدم الناسُ على ثَقْبِ أذانِهم خوفاً من الوقوع ضحيةَ تلك المؤامرة الخبيثة. وقطع بعضُهم ألسنتَهم خوفا من استغلالهم من قبل الأعداء بشكل أو بآخر لهذه المهمة القذرة. وهكذا بدأتْ اللغةُ تموتُ في مدينتِنا. ثم عمَّتْ فكرةٌ عجيبةٌ، وهي ان التواصلَ أصبحَ حكراً على الكبير وجماعته المقربين، ولأغراض المحافظة على الأمن وسلامة البيرق فقط. بعد ذلك تطور عمل المخلصين الخطباء فقد أُضيف للمجموعة الجوالة شخصٌ رابعٌ مهمته تحويل خطاب المخلص الأول الى لغة الاشارة ليتمكن أولئك الذين ثقبوا آذانهم من معرفة ما كان يجري. بينما بقي أعضاء فريق الارشاد الآخرين الخطيب وحامل المنصّة والشخص الآخر الذي يضع نظارات على ما كانوا عليه دون تغيير. فصار عددهم أربعة.

موت الرسم
كل ذلك كان أمرا طبيعيا حتى الآن، الا ان النبوءةَ الثالثةَ كانتْ الأكثرَ فتكاً وتدميراً. فقد سرتْ بين الناسِ أن الاعداء من المثلثات الأخرى سيقومون بارسالِ شخصٍ مُتَخَفٍ يحمل رسماً طلسمياً له قوى خارقة، وكل من يرى ذلك الرسمَ ينقلب على كبيره. وخوفاً من حصول ذلك الأمر الفضيع، فقد تم تحريم كل أنواع الرسومات. من يدري ربما يكون أحدها هو ذلك الرسم الطلسمي المشئوم. وعمَدَ البعضُ على فقئ عيونِهم خوفاً من الوقوع في الخطيئة. فيما أكتفى أكثر الناس بالتقيّد بحدودٍ مقننةٍ للنظر، والاكتفاء بمجالات محددة يسمحون لأنفسهم فيها استعمال عيونهم، فصاروا نادراً ما يرفعون رؤوسهم. فاستطالت رقابُهم شيئاً فشيئاً، وانحنتْ ظهورُهم، واتَّخذتْ هيئاتُهم صورَ خرافٍ أو بقر. حتى أصبحَ من لديه هذه الهيئةِ يُعَّدُّ من أكثر المواطنين حرصاً وولاءً لجهته وبيرقه وكبيره. وهكذا فَقَدَ الناسُ القدرةَ على التواصل.واقتصرتْ حريةُ السمعِ والنظرِ على الكبير وجماعته، ثم صارَ لهم وحدهم الحقُ في استراقِ السمعِ على كلِّ الأماكن، والنظرِ في كل شيءٍ بما في ذلك غرف نوم المواطنين، حتى في أكثر الأوقات خصوصية!

قصة النيزك
ثم شاعت نبوءةُ النيزك. هكذا أشيع الخبر بين الناس. تعرفون لماذا تم أخفاء المسلّة؟ آه أيها المخادعون المجرمون! كانوا يعلمون جيداً ما الذي كان مكتوباً على أحجارها. كانوا يخافون أن نقرأه يوماً ما. خدعونا، ولكن الحقيقة قد ظهرت أخيراً، فليحتفظوا بالأحجار التي سرقوها. لا يهمنا طالما أن الأخبار التي كانوا ينوون اخفائها قد وصلت الينا. قال مخلص. تقول تلك النبوءةُ أن نيزكاً سيهبط، وسيكون علامة لحدث ما. بعد هبوطه ستحدث أمور غريبة وكبيرة وعديدة في جميعَ أرجاءِ وادي الأنهار الأربعة. وتلك الأمور عديدة وتفصيلية ومعقدة الى درجة تعذّر معها أن يحفظها الناس. فقد تعبت ذاكرتهم، وفقدوا إثر الخوف القدرةَ على الاحتفاظ بالتفاصيل. صاروا ينسون ما قيل لهم بالأمس، وبالكاد يتذكرون ما قيل لهم اليوم. فبدون الكلمة والصورة والكتابة التي صدرت بحقها جميعا أحكام إعدام قاسية وضرورية، صارت المعرفة أمراً شاقاً. كل الذي استطاع الناس تذكره في تلك المدة العصيبة من تاريخ شعبي أن تلك النبوءة كانت مكتوبة بوضوح على أحجار المسلّة. لم يسأل أحد عن الدليل على وجود هذه النبوءة على أحجار المسلّة التي اختفت بظروف غامضة منذ زمن بعيد. وقد ذكرت النبوءة كما أُشيع بين الناس أوصاف النيزك الذي سيهبط عندما يكون القمر بدراً، كانت أوصافه معقدة الى درجة لم يكن بالامكان تذكرها، وكانت مختلفة بل كانت تتغير كل يوم تقريباً. وعوضاً عن تذكرها، وهو الأمر الذي كان مستحيلاً تقريباً، أكتفى الناس بمعرفة كونه نيزكاً فحسب. فبغض النظر عن اختلاف تفاصيل الصفات التي ذكرتها الأخبار المختلفة، لكن الشائعات كانت تجمع على أنه سيكون نيزكاً. اختلطت الأمور على الناس وما عاد أحد متأكداً من شيء، فقد شعر الناس في كل المثلثات بالتيه والحيرة. ولم يعودوا متأكدين ما اذا كانوا يودون فعلاً أن يحصلوا على النيزك، أم أنهم كانوا يخافون أن يسقط عليهم! مثلما طمست الصورة لديهم حول المصير الذي ينتظرهم بعد هبوط النيزك. وما الذي ستؤول اليه الأحوال والظروف! الأمر الثابت الذي آمن الناس به هو أنهم يعيشون زماناً غريباً، زماناً مؤقتاً قلقاً غير مستقر، وكان كل شيء سيتغير تماماً بانتظار حدث سيأتي، حدث ليس لنا دور فيه، حدث مرتبط بحركة الأجرام السماوية، وعدد دوراتها، والعلاقات الهندسية بين الكواكب والأبراج، والتي لايمكن لأحد تصورها أو فهمها أو التنبؤ بها. ليس بمقدورنا عمل شيء.
بقي أن أقول شيئاً آخراً، عذرا فقد قررت أن لا أقول الا ما رأيت وما عرفت، وقررت أن لا أقول ما تراءى لي أنني رأيت. ولكنني سأكسر هذه القاعدة هنا فقط. فقد علمت أن أفراداً من جميع المثلثات على السواء، كانوا ينكرون كل تلك النبوءات، ويسخرون منها سراً، وكانوا يضحكون عليها، وأحيانا كثيرة كانوا يغضبون منها، وكانوا يتألمون حين يرون الناس قد استُغفلوا، فحرقوا كتبهم، وثقبوا آذانهم، وتركوا عادة النظر في الأشياء، وحرّموا على أنفسهم طرح الأسئلة. كانوا يتذمّرون من كل ذلك، ولكنهم كانوا لا يصرّحون بهذه الأفكار. أو ربما كانوا يصرّحون، فيُعتقلون، ويُعذبون، ويُقتلون، ولكنني شخصياً لم أر ذلك بعيني، ولكنني علمت أن هذه الأمور كانت تحصل.
بدا وكأن الكلام قد أتعبه، والساعة قد تجاوزت منتصف الليل. فتكوّر، وسحب البطانية على رأسه، وصدر عنه شخير. فيما راح كل من عماد وحسن يحدّقان ببعضهما دون أن يجدا قدرة أو رغبة في الكلام بعد ما سمعاه توا من هذا الدجال! أو هذا المجنون.

للحكاية تتمة



#حامد_تركي_هيكل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هو الذي رأى كل شيء _الجزء الخامس
- هو الذي رأى كل شيء _الجزء الرابع
- هو الذي رأى كل شيء _الجزء الثالث
- هو الذي رأى كل شيء _الجزء الثاني
- هو الذي رأى كل شيء _الجزء الأول
- سالم ابن دَهَش -ج4 والأخير
- سالم ابن دَهَش -ج3
- سالم ابن دَهَش -ج2
- سالم ابن دَهَش- ج1
- دوامة الأوراق
- حلم بورجوازي سخيف
- جريمة قتل
- سلسلة فنارات -ج4- الرائد والمقدم-الحلقة الثالثة
- سلسلة فنارات -ج4- الرائد والمقدم-الحلقة الثانية
- سلسلة فنارات -ج4- الرائد والمقدم-الحلقة الأولى
- سلسلة فنارات- الجزء الثالث- جاسم جليل
- البصرة عام 2075
- بوادر الفساد في البصرة
- حتى الهواء يا أمي
- صديقي صالح


المزيد.....




- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...
- -بنات ألفة- و-رحلة 404? أبرز الفائزين في مهرجان أسوان لأفلام ...
- تابع HD. مسلسل الطائر الرفراف الحلقه 67 مترجمة للعربية وجمي ...
- -حالة توتر وجو مشحون- يخيم على مهرجان الفيلم العربي في برلين ...
- -خاتم سُليمى-: رواية حب واقعية تحكمها الأحلام والأمكنة


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حامد تركي هيكل - هو الذي رأى كل شيء _الجزء السادس