أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حامد تركي هيكل - سلسلة فنارات- الجزء الثالث- جاسم جليل














المزيد.....

سلسلة فنارات- الجزء الثالث- جاسم جليل


حامد تركي هيكل

الحوار المتمدن-العدد: 6671 - 2020 / 9 / 8 - 22:31
المحور: الادب والفن
    


في أواخر عام ١٩٨٦، ورغم أنني كنت حديث العهد بالوظيفة العامة، اذ لم تمضِ على توظيفي سنة كاملة بعد، كُلِّفتُ بادارة دائرة التخطيط العمراني في البصرة، وهي تشكيل جديد ليس له مكان ولا موظفين ولا أثاث، ولم يسبق لأحد أن سمع به أو عرف عنه.
ليس هذا وقت الكلام عن الصعوبات في زمن الحرب وتعرض المدينة الى قصف مدفعي. وليس هذا وقت الكلام عن صعوبات التأسيس وما رافقها من مفارقات. لكنّي اليوم سأكتب عن فنار آخر، وقامة عالية، وأنسان رائع، وأب لن أوفيه حقه بكتابة سطور عنه.
فبعد أن تدربت في الموصل الجميلة الكريمة في دائرة التخطيط العمراني لمدة أسبوع، وبعد أن هيأنا الحد الأدنى من المتطلبات، باشرنا العمل. ووردتني أول قضية تطلب بها بلدية المْدَيْنة رأياً تخطيطيًا.
عملت بموجب الصلاحيات والتعليمات و رفعت تلك القضية الى المديرية العامة في بغداد، وكنت أظن أن تلك القضيّةَ شيئاً تافهاً، لذلك ضمنتها رأيي لتسهيل الأمر على متخذ القرار في بغداد.
لكنني فوجئت بقدوم رجل كبير، أشيب الرأس، أسمر حنطيّ، رشيق القوام، خفيف الحركة، نشيط رغم أنه في الستين من عمره ربما، جنوبيّ السحنة، فقد كان واضحاً من دماثة خلقه ولهجته أنه من أهل العمارة ( ميسان الرائعة)، جاء موفداً من بغداد الى البصرة، وحين وصل دائرتنا المتواضعة صباحاً، طلب مني اصطحابه الى قضاء المْدَيْنة للاطلاع على الحالة عن كثب.
اصطحبته بسيارتي البيكب الصغيرة الى المْدَيْنة، عبرنا الجسورو القرى، ومررنا بالحقول، اجتازت سيارتنا الضئيلة فاونات تحمل على ظهورها دبابات، وزيلات معبئة بجنود، وسبقتنا سيارات تحمل توابيتاً ملفوفةً بأعلام. مررنا على نساء يعرضن سمك القطّان والبُنّي على كتف الطريق، وشاهدنا الطلاب والطالبات وهم يقطعون المسافات صوب مدارسهم أو صوب بيوتهم بعد (الحلّة) مرتدين زيَّ الطلبة الموحّد الجميل. وعرجنا جهة الغرب باتجاه المْدَيْنة سالكين طريق بني منصور، ذلك الطريق الضيق الملتوي الجميل المحاط بالبساتين والبيوت والذي يشبه طريق أبي الخصيب. حين وصلنا مبنى البلدية طلبنا من المسّاح المغفور له طيب الذكر يوسف الدنين أن يرافقنا للكشف عن الحالة. حين وصلنا المكان المقصود، فَرَدَ صاحبُنا الخرائط وجال في الموقع، وتفحص المكان بعينيّ صقر، وتلمس الجدران، وذرع الأرض، وشمَّ رائحة الأبواب، وقرأ الخرائط بصبرٍ وتمعن.
كنت أشاهد كل ذلك وأنا بين مصدّق ومكذّب. ترى ما الذي يفعله هذا الشايب؟ أنا المستجد لم يتطلب مني الأمر سوى النظر في تلك الأوراق دقائق معدودات لأفهم الحالة، ولأعطي رأياً بها. أهو يمثل أمامنا ويتقمص دور الخبير؟ أيحسب نفسه شارلوك هولمز؟ ثم أنها ليست إلا قضية بسيطة في زقاق منسي، في مدينة هامشية تقع على حافة الهور، لا يعلم بها أحد. ترى لو اننا بصدد اختيار موقع لجامعة مثلا! ما الذي يتعين علينا فعله ساعتها إذن؟
ورجعنا. في طريق العودة متعبين، سألني، ماذا كنا نعمل هناك؟ قلت له: أجرينا كشفاً موقعياً.
قال: صحيح، ومن غيرنا يعمل الكشوفات؟ الأطباء، قلت.
أعطاني ذلك الشيخ في طريق عودتنا الذي بدا طويلاً ومهلكاً درسا بليغاً. قال لي أياك أن تعطي رأياً دون أن ترى الموقع بعينك. قال: لي لا تكتفي بالخرائط فقد تكون مُظلِّلة. قال لي: لتكون منصفاً، ولتكون عادلاً، ولتكون بمأمن من الخطأ، عليك أن تكشف على مريضك، وتعاين حالته بحواسك. قال لي ونحن عائدين في ذلك البيكب الصغير أنا وهو فقط: صحة الناس أمانة بيد الأطباء، وأموال الناس وأراضيهم وحقوقهم ومستقبلهم أمانة بيد المخططين. فصنّْ أمانتك يا ولدي تنجو.
بعد ذلك بوقت قصير تقاعد ذلك الرجل، وعلمت أنه قد فُجِعَ بولده الطبيب الذي وافته المنيّة بعد عام واحد من تخرجه. حزنتُ من أجله. ولكن دولاب حياتنا الغاشم فائق السرعة بتغيراته الكارثية التي أطاحت بنا، أنسانا زملاءَ وأصدقاء ، نساءً ورجال أفذاذ لا يتكررون.
شكراً للاستاذ العظيم، والمعلم الكبير المهندس جاسم جليل. لقد كانت نصيحتك يا أبا بُراء دستوري طيلة سنيّ عملي. كنتُ أتذكرها كل يوم. وقد نفعتني ليس في عملي في البلديات فحسب، بل في كل أموري.



#حامد_تركي_هيكل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- البصرة عام 2075
- بوادر الفساد في البصرة
- حتى الهواء يا أمي
- صديقي صالح
- سلسلة فنارات - ج2 - الحاج سعود الفالح
- الحَمَر
- لوحة گلگامش التي ستهزّ العالم
- صورتان وأربعة وجوه
- كائنات غريبة
- سلسلة فنارات - ج1 - علي قاسم
- القسم رقم 8 - الحلقة الثالثة - همس الفتيان
- أم سالم
- الانتصار على الألم
- السيرة الذاتية لعراقي- قصيدة
- ليلة قدر
- القسم رقم 8- الحلقة الثانية - همس الجيران
- القسم رقم 8 - الحلقة الأولى - همس الجدران
- لوحة ( الشمس الساطعة)
- ذكرى قديمة جدا
- حكاية لا يعلم بها أحد


المزيد.....




- وفاة الفنان المصري المعروف صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما ...
- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حامد تركي هيكل - سلسلة فنارات- الجزء الثالث- جاسم جليل