أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حامد تركي هيكل - صورتان وأربعة وجوه















المزيد.....

صورتان وأربعة وجوه


حامد تركي هيكل

الحوار المتمدن-العدد: 6596 - 2020 / 6 / 18 - 12:46
المحور: الادب والفن
    


سَّير ذاتية مختصرة جداً:
1. سعاد السالم، طبيبة عراقية من البصرة، تبلغ من العمر ستين عاماً، هاجرت مع ابنتها بشرى وابنها عادل، واستقرت في المهجر.
2. تزوجت بشرى من شاب عراقي، رُزقا بطفلة إسمها جنَّة.
3. تشبه فهيمة سعاد تماما، هي عمتها التي كانت تبلغ من العمرستین عاماً عندما كانت سعاد في الخامسة. توفيت فهيمة في آذار 1980 قبل اندلاع الحرب.
4. جنَّة طفلة تشبه سعاد، هي أبنة بشرى، تبلغ الآن من العمر خمس سنوات.
الحكاية :
تجلس سعاد السالم في شقتها وحيدة هذا الصباح. تنظر عبر زجاج النافذة إلى الشارع. يبدو المشهد مضجرا اليوم. حاولت سعاد أن تستمع للموسيقى، لم يعجبها شيء. حاولت أن تبحث في رفّ مكتبتها الصغيرة عن كتاب، ولكنها وجدت أن القراءة فكرة غير ملائمة اليوم. أعدت لنفسها كوباً من الشاي، وجلست. لم تستطع الإفلات من ذكرياتها التي طالما باتت تحاصرها هذه الأيام.
منذ أن تفشت جائحة كورونا اللعينة هذه، وتغيَّر العالم، انشغلت سعاد السالم بالقلق والاشتياق والذكريات. القلق من الأصابة بالمرض، والاشتياق لأحبتها، وذكريات الماضي القريب والبعيد. لم يعد بإمكانها السفر، ولم يكن لأحد أن يأتِ لزيارتها وقد توزع أفراد أسرتها على الكوكب. صورتان كانتا تتبادلان الاستحواذ على مخيلتها، صورتان وأربعة وجوه، كل صورة فيها طفلة وامرأة. في الصورتين ثمة طفلتان متشابهتان، بعمر خمس سنين، ولكل منهما ضفيرة. أحداهما حفيدتها جنَّة، والثانية هي سعاد عندما كانت طفلة. وفي الصورتين أيضا ثمة أمرأتان متشابهتان بعمر الستين عاما. أحداهما بملابس تقليدية، عباءة وشيلة ونفنوف، تعبق منها رائحة ماء الورد، على صدغها وحنكها وشم، وعلى وجهها تجاعيد وابتسامة. والثانية هي سعاد السالم ذاتها، أمرأة بعمر الستين، بملابس سيدة عصرية، طبيبة، بقصة شعر قصيرة، ونظارات طبية، على وجهها حزن وحيرة. بدأت سعاد تتحسس ورق دفتر صغير بأصابعها المعروقة، قرَّبت الدفتر من وجهها، أغمضت عينيها. فتحت درجاً صغيراً وأخرجت قلماً، وبدا أنها على وشك أن تكتب. تمتمت، ترددت كلماتها غير المترابطة في فضاء الشقة، أختلطت الصور وتداخلت. ما عادت تسيطر على انزياح المشاهد وتبدلها، وتقلب الأدوار واندماجها. تتداخل صورتا الطفلتين الجميلتين والمرأتين المتعبتين.
تتراكب الأزمان وتمتزج الأماكن. بيت شرقي ذو طابق واحد مبني من الطابوق الأصفر والأحمرغير مكتمل الحرق، حوش تتوسطه نخلة تتمايل مع الريح. الأبواب خشبية مصبوغة بلون أزرق تصدر صريرا عند حركتها. كل باب ذو مصراعين له صوته الخاص به، هي وحدها تعرف أصوات الأبواب. ثمة مقبض عاجي كأنه كرة بيضاء مفصصة مثبت بغير إحكام على كل باب. الشبابيك الخشبية زرقاء اللون هي الأخرى مشرعة لإدخال الهواء إلى الغرف نصف المظلمة. السماء زرقاء صافية. أرضية البيت مبلطة بطابوق فرشي مربع مائل إلى الصفار. تنبعث منه رائحة محببة حين يرش بالماء. وثمة حصران من البردي هنا وهناك، و بساط أحمرمع وسادتين. تتردد من مكان ما أصوات مختلفة، صياح ديك، صوت رتيب لماكنة سقي زراعية. تك تم، تك تم، تك تم، صوت نفير مركب كبير يمر عبر الشط باتجاه البحر، طووووووط.
الشبابيك الزجاجية عريضة والستائر مخملية. أرضية من بلاط رصاصي كأنه مرمر، جدران الشقة مصبوغة بلونين دافئين هادئين، لون الحمّص، ولون الجوز. تتردد موسيقى متكررة لسيارة بائع الخضروات الجوّال، ترن ترن، تن تن ترن. السطوح الطابوقية حيث تلقي النخلة ظلها الطويل خشنة، وثمة سطوح مصقولة برّاقة. منظر من داخل الحوش باتجاه السماء الزرقاء، وآخر من داخل الشقة إلى الأسفل حيث الشارع.
بدأت سعاد السالم بالكتابة، أو كانت تنوي أن تكتب، لا شيء مؤكد. على أية حال خُيّل أليها أنها تقول :
حين تأتي العمة فهيمة يصير للوقت طعم آخر. أشعر أن روحاً جديدة قد دبَّت في بيتنا، وأن حماساً من نوع جديد تملكني. يصير للوقت بعداً جديداً. ويحلُّ عالمٌ من الدهشة. يختفي إيقاع بيتنا الرتيب وتحلُّ محله مفاجآت لا يمكن توقعها. يتملكني الفرح مصحوباً بقلق بسبب سرعة انقضاء اللحظات والساعات والنهارات والليالي. أتمنى أن أهدأ قليلا، أن أنسى تفلّت الزمن، وأن يكفَّ هو عن تدفقه، بل أتمنى في قرارة نفسي أن يتوقف كي لا يحين وقت مغادرتها مرة أخرى.
ترافق جنّة عوالمُها المدهشةُ حين تأتي اليَّ، عوالم ممتعة، طريفة، عوالم أعشق تواجدي فيها. تظن جنَّة أن الشخصيات الكرتونية حقيقية! تجذبني حكاياتها المختصرة بمفردات بسيطة، مفردات هي مزيج غير متجانس من لغات عدة، تجذبني رغم إرادتي لولوج عالمها الصغير الجميل. فأجد نفسي سعيدة مرة أخرى وأنا أعيش عالمها، عالم جنَّة، بل عالمي. حين تأتي إلينا عمة فهيمة، وينشغل الكبار بالسلام عليها، والسؤال عن أحوالها، وأحوال المكان الذي أتت منه، وأحوال الذين تركتهم وراءها، أجلس أنا صامتة أنظر اليها بانتظار أن ينتهي الكبار من أسئلتهم الفجّة تلك. وبينما هي تجيب عن أسئلتهم بصبر، تنظر إلي خلسةً بين الحين والآخر، تلتقي عيوننا، أستطيع أن أعرف ماذا تعني تلك النظرة المليئة بالمعاني، وبالضوء. كأنها تقول لي( لا عليك صغيرتي، سأنتهي من هؤلاء قريباً، وسأتفرغ لك).فأبتسم لها. وهي تعرف أنني أريد أن أقول لها (يا الله بسرعة!).
تطير جنَّة مثل طائر في بيتي، تختفي الرتابة والملل ويحل محلها الدهشة والحبور. يخرج طعم الضجر الممزوج بطعم الأدوية المرّة من الشبابيك المشرعة للضوء القادم مع جنَّة، ويحلُّ محله طعم الحامض حلو والجكليت. حين تأتي جنَّة تلتقي نظراتنا، أسمعها تناديني (بيبي). وحين تأتي جنَّة إلى بيتي فإنها تود أن تبق إلى الأبد. وأتمنى أن تبقى إلى الأبد.
تصبح للأشياء أشكالاً جديدة حين تأتي العمة فهيمة، وتنبض بوهج جديد. تكتسب الفضاءات أبعادا جديدة، وتتدفق في البيت موسيقى جديدة، موسيقى تكتنف كل شيء من داخل قلبي حتى الحدود التي لا تدركها عيني ولا يستطيع تخيلها عقلي. تشعرني العمّة فهيمة حين تأتي إلى بيتنا بامتدادي. يغمرني إحساس بالحب، حب من نوع آخر لا أستطيع وصفه حتى بعد كل تلك السنين. تجلب معها عوالم جديدة لا أعرفها. عوالم طعم أكتشافها لذيذ، وسبر أغوارها ممتع، عوالم لا تنتهي أسرارها أبداً، ولا تتكرر تفاصيلها مطلقاً. عوالم حكاياتها الشيقة، أتيهُ فيها، وأتمنى ألّا أخرج منها أبداً.
أرى الفرح في عينيّ جنَّة. أشعر أنها تريد أن تستكشف غموض عالمي. تدهشها أغراضي، تريد أن تدخل في كل الزوايا، تنقّب عن الأسرار. متعتها حين تفتح الأدراج والخزانات، وحين تعثر على العلب المغلقة، حين تجد الصناديق القديمة التي تنبعث منها رائحة الماضي. تريد جنَّة أن تلمس بيديها الصغيرتين كل شيء، وأن تعبث بكل شيء. حين تدخل جنَّة خزانتي، تختفي هناك، وتتلمس الملابس بخدها الناعم، تشم عطراً علق بها منذ عقود. ولهدايا العمّة فهيمة التي تجلبها لي معها سحر خاص. هي أشياء، لكنها ليست كالأشياء، هي أشياء من عالم آخر، من عصر آخر، أشياء تثير اهتمامي، تستحوذ على فكري، تتحدى ادراكي، تلامس قلبي، أشياء أعجز عن وصفها، فهي بسيطة، ومثيرة. تبقى معي تلك الهدايا حتى بعد أن تغادر عمتي. منديل مطرز يدويا بدون إنتظام، خبز السكر المثقب الذي ما زال طعمه في فمي. حُصيّات ملونة صغيرة، صدف محارملون بألوان مدهشة. خضرمة زرقاء صغيرة دائرية مثقوبة بسبعة ثقوب، (سبع عيون)، صيغت عليها "دناديش" فضيّة على شكل قلوب صغيرة تخرخش حين أحرّكها. خيط أحمر انتظمت عليه بضع خرزات كأنها لآليء ملونة.
ترسم حكايات العمة فهيمة أماكن لم أكن أعلم بوجودها، أماكن رحبة، تغسلها أشعة الشمس، ويبللها المطر وتنشفها الريح، وتتدفق فيها الأنهار، تبني الطيور على الأشجار أعشاشها، وتسرح القطعان في المروج بسلام. ويأتي مع حكايات العمّة فهيمة أشخاص آخرون. يتردد ذكرهم دوماً، صرت أعرف لون عيونهم، وصرت أعرف ما الذي يجعلهم يفرحون، وما الذي يجعلهم يزعلون.
ولا تقتصر حكايات العمة فهيمة على الأماكن والأشخاص والحيوانات والطيور والأشجار فحسب، بل إن أجمل ما في تلك الحكايات حين تمتد إلى عالم الجنَّ، الطنطل الغبيّ والسعلوة سيئة الطباع، و(الخنفسانة المخططانة، القاعدة على عتبة باب الدريبانة، تنتظر العريس القادم من بحار لا يعرفها السفّانة!). عندها يصير العالم سحراً مطلقاً، فتتحول الأشكال وتتغير الهيئات باستمرار، لا شيء يقيّد حريّة الأشكال في التبدل، عالم مدهش لا أودُّ الخروج منه.
أشعر أنها تنغمس بطقس فرح حين تأتي، وأشعر أنها تحتاج إلى ذلك الفرح، فلا تصبر على فقده، فتسرع مرةً بعد مرة لتفرح من كل قلبها الصغير. تشعرني جنَّة أنني لازلت مقبلة على الحياة، تشعرني أنني سأبقى لعيش حياة جديدة، حياتها، تمنحني إحساسا بالاستمرار.
أفتقد عمتي فهيمة، التي ارتبطت صورتها بالأمان، والهدوء، والسلام، والوطن، والحريّة. أحتاج اليها الآن أكثر من أيِّ وقت آخر. أتوق لرؤيتها والجلوس معها والاستماع لحكاياتها. أتمنى أن أنام بحضنها لمرة أخيرة، وأن أشم ماء الورد، عطرها.
أفتقد جنَّة التي ارتبطت صورتها بالسعادة، والأمل، والمستقبل، والبراءة. لا أجد معنى للوقت دون جنّة. أشتاق إليها، أشعر كأنني خاوية بدونها، مكسورة أنا بدونها، مثل نهر جاف، مثل عيون لا تبصر، مثل كتاب بلا حروف. أريد أن أحتضنها، أن أشمَّها.
أجد نفسي فيهما، عمّتي وجنّتي. روحي مشطورة إلى نصفين. نصف هناك مع عمتي، ونصف هناك مع جنَّتي. أنا لست هناك حيث تفقد الأشياء وزنها، ولست هناك، بل في مكان ما. معلقة من قلبي في منتصف طريق. كم أتمنى أن أسافر اليوم إلى ذلك البيت الذي يتوسط البساتين على ضفة شطِّ العرب. أن نجلسَ أنا وعمتي وجنَّة في ذلك الحوش المبلّط بالطابوق الفرشي المرشوش بالماء حيث تعبق رائحة التراب، ننظر إلى السماء الزرقاء.



#حامد_تركي_هيكل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كائنات غريبة
- سلسلة فنارات - ج1 - علي قاسم
- القسم رقم 8 - الحلقة الثالثة - همس الفتيان
- أم سالم
- الانتصار على الألم
- السيرة الذاتية لعراقي- قصيدة
- ليلة قدر
- القسم رقم 8- الحلقة الثانية - همس الجيران
- القسم رقم 8 - الحلقة الأولى - همس الجدران
- لوحة ( الشمس الساطعة)
- ذكرى قديمة جدا
- حكاية لا يعلم بها أحد
- سلسلة قصص الجنون - تنويه ختامي
- سلسلة قصص الجنون 8- -عقل- المجنونة
- سلسلة قصص الجنون 7- سيد عودة
- سلسلة قصص الجنون 6- سامي المجنون
- سلسلة قصص الجنون 5- شهاب
- سلسلة قصص الجنون 4- حمادووه
- سلسلة قصص الجنون 3- عبود المجنون
- سلسلة قصص الجنون 2- غنوم المجنونة


المزيد.....




- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حامد تركي هيكل - صورتان وأربعة وجوه