أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حامد تركي هيكل - سلسلة فنارات - ج1 - علي قاسم















المزيد.....

سلسلة فنارات - ج1 - علي قاسم


حامد تركي هيكل

الحوار المتمدن-العدد: 6589 - 2020 / 6 / 10 - 04:04
المحور: الادب والفن
    


يجلس الأستاذ فاضل العطية في غرفته التي تقع في الطابق الأول من داره الواقعة في حي زيونة ببغداد وحيداً هذه الساعة. يشعر بالإنهاك، فالأدوية التي يتعاطاها يوميا باتت أكثر من قابيلة جسمه على احتمالها. أقراص للضغط، والقلب، وللحساسية، وللآلام، ولإلتهاب البروستات، فضلا عن الفيتامينات والأوميغا 3 من أجل ذاكرته.
العام الدراسي يوشك على الإنتهاء، فاليوم هو التاسع من شهر حزيران، وهذه السنة الدراسية قد أصابها الكثير من التشوه والإرباك بسبب تفشي جائحة كورونا. ليس للبروفسور التزامات مهمة مع طلبة الدراسات الأولية. لديه مجموعتان من طلبة الدراسات العليا في كلية العلوم. وهو يعرف أن التزاماته مع طلبته سوف تستمر بكل الأحوال، سواء فرض الحظر أم لم يفرض، وسواء بدأت العطلة أم لم تبدأ.
يطلُّ شباك غرفته على حديقة داره المهملة، حيث نبت القصب والنسل، والعاقول ونباتات برية أخرى بشكل عشوائي. طالما أيقظ منظر الحديقة هذا في نفسه ذكريات قديمة، ذكريات عن قريته الواقعة على ضفاف نهر خضابوه الذي يتفرع من شط الغرب شمال البصرة.
كل يوم ومنذ سنوات، يتذكر الأستاذ فاضل العطية مرحلة صباه. كل يوم دونما انقطاع حتى بات يدمن استحضار تلك الأيام، يعيد تقليبها، يتفحصها، يتلذذ باكتشاف معانٍ جديدة كانت كامنة فيها ولكنه لم يكن يدرك كنهها حينها، ربما لأن إيقاع الزمن وسرعة التحولات لم تكن تدع مجالا للتعمق، أو أن إمكانيات العقل في ذلك الوقت، وانشغال القلب بأمور أخرى كانت وراء إهمال تلك المعاني. الآن وقد أصبح إيقاع الزمن بطيئا بسبب تقدمه بالعمر، الآن وقد تمرس بالنظر إلى الأشياء والأحداث وسبر أغوارها، صار بإمكانه أن يسيح في أحداث تلك الأيام ويستنطقها، وأن يصغي إليها بعمق.
كان فاضل في الصف الثاني المتوسط، مراهقا لا يعلم للحياة معنى. كان يصعب عليه فهم المغزى من إصرار والده على إيقاظه صباح كل يوم، وحرمانه من لذة نوم الصباح اللذيذ، وإجباره على الذهاب إلى المدرسة المتوسطة.
لم يكن يحب المدرسة، ولم يكن يحب الدروس، ولم يكن يحب المدرسين. كان عليه أن يغسل وجهه، ويرتدي ملابسه، ويحمل كتبه، ويسير عبر البساتين، ويعبر القناطر التي كانت من جذوع النخيل والتي تجسّر الأنهار الصغيرة، يمرُّ بالفلاحين والفلّاحات وهم يحبرون سعداء في تلك البساتين الغنّاء وكأنها قطعٌ من الجنّة. كان عليه أن ينتظر على الشارع العام حيث تمرُّ السيارات مسرعة مجنونة، ينتظر باص سيد سلمان المتهالك، أو باص سبتي المتداعي ليقلّه هو ومجموعة من الطلبة إلى كرمة علي، إلى المدرسة الثانوية التي تقع عند أجمل بقعة في العالم حيث تلتقي الأنهار.
أما إذا فاته كلا الباصين، فعليه أن يركب أيَّ باص آخر متجه إلى البصرة، وعليه عندئذ أن ينزل قرب قهوة كاطع ليقطع الطريق الملتوي الذي يمر بالبدران، ومنازل بني أسد، ثم يمر بمحاذاة المدارس الإبتدائية إلى أن يصل قرب مركز الناحية حيث تقع المدرسة مقابل دكان شندي.
لم تكن المدرسة بناية نظامية بل هي عبارة عن أربع دور متلاصقة ذات طابق واحد، أحيطت بسياج. دور متشابهة مبنية بالطابوق تعود ملكيتها لأحدى العوائل الغنيّة. استأجرتها الحكومة وفتحت بينها فتحات لتكون متصلة مع بعضها ولتصير مدرسة ثانوية الهارثة للبنين. يصل فاضل أغلب الأيام متأخراً. ولم يكن أمامه عندئذ سوى خيارين أثنين لا ثالث لهما. فإما أن يطرق الباب فيفتح له ليُقتاد الى غرفة المدير مباشرة من أجل العقوبة. أو أن ينتظر إنتهاء الدرس الأول وإكتظاظ الساحة بالطلاب، ليعتلي سياجها بخفة، ليجد نفسه بين الطلاب، فلا يعثر عليه أحد، أو أن يُعثر عليه فيُقتاد الى غرفة المدير للعقوبة.
لم يكن لدى فاضل البالغ من العمر ثلاثة عشر عاما في العام 1970 أي رغبة في الدراسة، وكان همُّه منصباً على كيفية إخفاء درجاته المتدنية عن أنظار والده. ولكن عمليات الإخفاء تلك لم تكن ناجحة دوما، ففي نهاية المطاف لم يكن بمقدوره إخفاء نتيجة العام الدراسي عن والده، والتي كانت ببساطة (راسب بجميع الدروس).
كانت تجربة رسوبه في الصف الثاني المتوسط تجربة قاسية،ولكنها كانت مفيدة أيضا، فقد إستيقظ من غفلته، وشعر بالندم حين وجد زملاءه قد نجحوا وانتقلوا إلى الصف الثالث المتوسط، أما هو فعليه أن يعيد السنة مع طلاب جدد.
كان إحساسا مؤلما ومزعجا، تخيّل أنه سيكون طيلة العام القادم يحمل صفة الراسب. وسيظهر يوميا أمام الطلاب وأمام المدرسين بصفة الغبي المهمل الكسول. وهو ما كان يقضُّ مضجعه ويضعه أمام أسئلة صعبة. كيف له أن يخرج من هذا الوصف الذي لا يحبُّه ولا يرتضيه لنفسه. ثم أنه لم يكن بمقدوره أمام إصرار والده على الدراسة أن يترك المدرسة كلها ليتحرر من هذه الأمور دفعة واحدة.
لكن أمرين غير متوقعين قد حدثا منذ الأيام الأُوَل للعام الدراسي الجديد. فقد تمت إضافة مادة الفيزياء لأول مرة كمادة مستقلة في الصف الثاني بدل مادة العلوم. ثم أن مدرساً جديدا قد التحق بالمدرسة وكُلِّف بتدريس مادة الفيزياء لطلبة الصف الثاني المتوسط اسمه الأستاذ علي قاسم.
كان الأستاذ علي قاسم شاباً صغيراً يبدو أنه قد تخرج قبل عام واحد فحسب. كان ضئيل الجسم، باسم الوجه، محباً لطيفاً. في الأسبوع الأول درس الأستاذ علي قاسم فصل العتلات. بدت العتلات لفاضل مادة سخيفة وبسيطة. ولذلك عندما طلب علي قاسم من الطلاب الخضوع لامتحان مفاجيء في مادة العتلات عند نهاية الأسبوع، كانت درجة فاضل لأول مرة 100. لم يعلم ما الذي حصل له كي يتفوق بمادة الفيزياء، هل لأنها مادة جديدة ؟ لم يكن هذا السبب مقنعاً. ذلك لأن كل المواد هي جديدة عليه لأنه لم يكن ينتبه إلى أيٍّ منها العام الماضي. هل لأن المادة بطبيعتها لذيذة؟ أم لأن عقله ينبغ بالفيزياء وحدها دون غيرها من الدروس؟ أم لأنه أستاذ علي قاسم الذي حبَّب اليه الدرس؟ لم يكن يعلم.
لأول مرة في حياته يحصل فاضل الطالب الكسول المهمل غير المؤمن بالدراسة على درجة عالية ، ليس هذا فحسب بل أن الاستاذ علي قاسم راح يمتدحه في طول المدرسة وعرضها، وراح ينظر اليه نظرة حب واهتمام. كان لعلي قاسم أعظم الأثر في نفس فاضل، فقد تحوَّل بنظر مجتمع المدرسة من راسب إلى عبقري بالفيزياء. وصار الجميع يتوقع لهذا الذكي المتميز مستقبلا باهرا. ليس هذا فحسب بل أن الأستاذ علي قاسم راح يشيع في أوساط المدرسة أنه هو من أكتشف فاضل!
أيقظ علي قاسم في داخل فاضل إنسانا جديدا، ورفع عن كاهله حملا كبيرا، ووضع عليه مسئولية عظيمة، مسئولية أن يحافظ على تفوقه كي لا يخسر هذه المكانة التي استساغتها نفسه، وكي لا يسبب الإحباط لهذا والأب الرائع، والمعلم الفذّ.
صارت الفيزياء مادة فاضل المحبّبة طيلة السنوات اللاحقة في الثانوية. صارت مصدر سعادته. وبشكل غريب صار بإمكان فاضل حلُّ أصعب المسائل الفيزيائية دون أية صعوبة. لم يجد صعوبة في فهم معادلات الفيزياء. إذ تكفي نظرةٌ خاطفة منه على الفصل الجديد لفهم كلِّ ما يتعلق به. أشتُهر فاضل بين طلبة المدارس الأخرى، فقد كانت تصل أليه الأسئلة الصعبة التي كان يضعها مدرسو الفيزياء في ثانوية العشار والإعدادية المركزية وإعداديات البنات. فكان يحلّها بلمح البصر، يحلّها وهو يسير في الطريق. وإذا لم يجد ورقةً كان يحلّها مشافهةً أو على ورق الأكياس، أو على الحافات المتروكة من صفحات الجرائد.
كل يوم ومنذ نحو خمسين عاما، يتذكر أستاذ الفيزياء فاضل العطية معلمه الحبيب علي قاسم، وكل يوم يتمنى أن يزوره ويسأل عنه، ويقبّل رأسه ويده. فقد إستطاع علي قاسم أن يرمم مراهق محطم ويحوله إلى طالب نجيب، إستطاع علي قاسم أن يضيء طريق فاضل المعتم الوعر، فيصيّره ممهدا نيّرا. ترى كم معلم أدى مهمته كما فعل علي قاسم. علي قاسم ليس مدرس فيزياء فحسب، بل هو رجل عظيم.



#حامد_تركي_هيكل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- القسم رقم 8 - الحلقة الثالثة - همس الفتيان
- أم سالم
- الانتصار على الألم
- السيرة الذاتية لعراقي- قصيدة
- ليلة قدر
- القسم رقم 8- الحلقة الثانية - همس الجيران
- القسم رقم 8 - الحلقة الأولى - همس الجدران
- لوحة ( الشمس الساطعة)
- ذكرى قديمة جدا
- حكاية لا يعلم بها أحد
- سلسلة قصص الجنون - تنويه ختامي
- سلسلة قصص الجنون 8- -عقل- المجنونة
- سلسلة قصص الجنون 7- سيد عودة
- سلسلة قصص الجنون 6- سامي المجنون
- سلسلة قصص الجنون 5- شهاب
- سلسلة قصص الجنون 4- حمادووه
- سلسلة قصص الجنون 3- عبود المجنون
- سلسلة قصص الجنون 2- غنوم المجنونة
- سلسلة قصص الجنون 1- قاسم المجنون
- رفعة الجادرجي


المزيد.....




- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حامد تركي هيكل - سلسلة فنارات - ج1 - علي قاسم