أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حامد تركي هيكل - كائنات غريبة















المزيد.....

كائنات غريبة


حامد تركي هيكل

الحوار المتمدن-العدد: 6591 - 2020 / 6 / 12 - 09:58
المحور: الادب والفن
    


في وقت ما بدأت أدرك أنني موجود في الوجود، وعرفت أنني كائن في مكان، وأن ثمة كائنات أخرى تشاركني هذا المكان. كانت تلك أول معلومة عرفتها. في ذلك الوقت الذي فتحت أثناءه عينيَّ على العالم، وجدتُه غابةَ نخيل ممتدة بلانهاية. صفوف منتظمة من النخيل متناسقة تقف، واحدة تلو الأخرى. اذا نظرت الى مشرق الشمس، تجدها تقف الى حدود النظر، وإذا توجهت نحو الغرب فالمشهد ذاته يتكرر، واذا استقبلت الجنوب أو الشمال، المنظر ذاته. لا شيء غير الأشجار. أما في الأعلى فثمة سقف متصل من سعف النخيل،أخضر، متشابك، يحجب أشعة الشمس. سعف يموج مع الريح باستمرار، كأنه موج ،وحيث كانت الريح تهب دوما.
أما اذا نظرت الى الأرض فثمة عشب، وثمة نهر يجري، وثمة جداول ، وهناك مئات من السلاحف المعمرة تتشمس.
وبين جذوع النخيل، تحت السقف الأخضر، وخلال السعف المتشابك تطير طيور وبلابل. وفوق الماء يسبح بطٌ، وتشق طريقها زوارقٌ جيئةً وذهاباً. وتحت صفحة الماء تسبح أسماكٌ وسلاحفَ وأفاعي وضفادع. وعلى العشب تدب دواب. وهناك في الأعلى تسافر وتحوم طيور.
ثمة بيت مربع من الطابوق الأصفر. جدرانه من الخارج صماء، له باب واحد، مجوف من الداخل، تنفتح على حوشه أبوبـ وشبابيك. وتجري داخله حياة. ثمة جدٌ وجدة، وعمٌ وعمة، وأمٌ وأب، وأخوةٌ وأخوات. وثمة ضيوفٌ يغدون ويروحون.
وهناك تبدو قرية من بعيد، مبنية من الطين والقصب، متراصة. تخترقها دروب، يخرج منها كل صباح نساء ورجال أحبهم كثيرا، ينتشرون تحت أعمدة النخيل الممتدة الى ما لانهاية. وتخرج منها خرافٌ وأبقارٌ تنتشر هي الأخرى، ثم تعود اليها قبل الغروب. تتجمع أسرابا عند مداخلها، تحتشد هناك، ثم تنفذ إلى صمتها وتختفي هناك.
ليس لدى الناس وقت طيلة النهار ليعطوك معلومات إضافية تساعدك على فهم الكائنات الأخرى. فهم مشغولون دائما. الأم تتحرك باستمرار، إذ ما إن تنتهي من إعداد الفطور، حتى تبدأ بإعداد الغداء، وبعد الغداء تبدأ بإعداد العشاء. وفطورها وغدائها وعشائها يتضمن كل منها عجن العجين وإيقاد التنور وحلب البقرة، وإعداد اللبن، واستخراج الزبد، وطبخ الرز، وفصل الفوح، وأمور أخرى أنت لا تعلم عنها شيئاً، تستغرق النهار كله. تقوم الأم بكل ذلك وهي تكلم العصافير. وتنشد الأشعار الحزينة، وتبكي. ولم يكن لديها وقت لتحدثك عن الكائنات الأخرى التي تشغل بالك.
أما ألأب، فهو يخرج فجرا، ولا يعود إلا ظهرا، يأكل وينام، ثم يسرع بالخروج ، ولا يعود إلا عند الغروب. يعود متعباً، وفي أغلب الأحيان مهموماً. أما الأخوة فهم خارج البيت دوماً. لديهم أعمال سريّة لا يعلم بها أحد. يبدون منفصلين عن الواقع، ومشغولين بواقع آخر بعيد. أما الأخوات فلهنَّ عالمهن الخاص الذي لا يستهويك.
الجدة مشغولة بمهمتين لا ثالث لهما، فهي تنتقد الجميع، وتبدي تذمّرها مما يقوم به الجميع، فضلاً عن انشغالها بالصلاة.
ينتبه إليك الكبار ساعةً بعد الغروب فقط. حين يجنُّ الليل، وتسود العتمة إلا من ضوء فوانيس ضئيلة لا تكاد تضيء. وكيف لهذه المصابيح الخافتة أن تقارع ظلام البيت الفسيح، بغرفه المتعددة، ومطابخه الموحشة، ودهاليزه المخيفة. في مثل هذه الأجواء يتكرم عليك الكباربحكاية قبل النوم.
وحكايات الكبار التي تتكرر قبل النوم تدور حول كائنات تعيش معنا. ولكنك لا تراها. ولأنك لا تراها فقد استحوذت على اهتمامك، وظلت تثير الأسئلة في رأسك. تتمنى أن تراها لتكتمل صورها التي ظلت ناقصة. لم تستطع الحكايات أن ترسم لها صورة ثابتة في ذهنك، فهي تأخذ في كل مرة هيئة.
أنت تسهو عن أحداث الحكاية ذاتها، وتنشغل بلهفة لتكمل الفراغات في صور تلك الكائنات التي تعيش معنا ولا تراها أنت. فهي ليست هنا، وليست هناك، ولكنها قد تكون هنا وهناك وفي كل مكان.
وحين تحدثك الجدّة عنها بعد الغروب، ثم تسبِّح تسبيحاتها المائة، وتقرأ المعوذات، وتنفث في الاتجاهات الستة، عن اليمين واليسار، والأمام والخلف، وفوق وتحت، ثم تغط بنوم عميق. تبقى أنت ردحاً من الليل تفكر في تلك الكائنات حتى يغلبك النوم. فتراها في منامك، ثم تنشغل بالتفكير بها، والبحث عنها، على ضوء النهار، في الغرف، لا تجدها، في الدهاليز، لا وجود لها، في سطح البيت، ليست هناك، في غابة النخل، أو في سقف السعف الأخضر الذي تراقصه الريح، أو في النهر، فلا تجد لها أثراً.
تثيرك أسماؤها، فتود أن تتخيل شكلها، "خضرة أم الليف" مثلا تستفز خيالك، فهي من أسمها خضراء اللون، يكسو جلدها ليف. شعرها الذي يغطي جسمها عبارة عن ليف. أنت تعرف الليف. فهو أبيض كليفة الحمام مثلا. وهو ربما أسمر بلون الخشب كليف النخل التي تستخدم أحيانا لتنظيف الأواني الفخارية. ثم أنك تحتار أهو أسمر بلون الخشب ذلك الليف الذي يغطي جسم الخضراء تلك أم إنه أبيض، أم ربما هو خليط من هذا وذاك.
ثم كيف يكون بمقدورنا رؤية جلدها لنعرف أنه أخضر في حين يغطيه ليفٌ أبيض أو أسمر؟
هل ينبت شعرها الليفي في أماكن محددة فيما تبقى مساحات من جسمها عارية بحيث يظهر اللون الأخضر للجلد؟ ثم ما هو ملمس ذلك الجلد الأخضر؟ أهو مثل جلد السحالي أم هو مثل جلد الضفادع؟ هل هو جافٌّ أم رطب؟ حرشفي أم ناعم؟ لا توفر لك الحكايا إجابات واضحة.
تخبرك الحكايات عن خطورة الخضرأء أم الليف، ولكنها لا تفصّل أكثر من ذلك . لا تخبرك الحكايات طبيعة خطر "الخضرة أم الليف". وكيف يمكنها أن تؤذي الصغار؟ هل تحملهم بعيدا ؟ هل تسرقهم؟ لا أحد يجيب عن تلك الأسئلة. وكيف تمشي تلك الخضراء التي يكسو جسمها شعر كأنه ليف. هل تمشي على أربع؟ أم أنها تسير مثلنا على أثنتين؟ ثم كيف هو وجهها؟ عيناها؟ أنفها؟ لا تساعدك الحكايات على رسم صورة واضحة عنها.
ليست الخضراء أم الليف وحدها التي تشغل بالك طيلة الوقت، بل ثمة كائنات أخرى تتحدث عنها حكايات تلك الساعة التي تلي العشاء. فثمة وحش ثانٍ غير الخضراء أكثر غموضا منها. تلك هي "أم المساحي". تلك التي أقدامها كالمساحي. إذن حين تمشي "أم المساحي" تحفر الأرض، وتترك آثارها. تنغرزأقدامها بالتربة حين تسير. وتقطِّع الأشياء التي تعترض طريقها. مرةً أخرى ، تركز الحكايات على أقدام هذه الوحش ولكنها لا تساعدك على تخيّل جسمها. أهي تمشي على رجلين ينتهيان بمساحاتين، أم تمشي على أربع مساحي؟ ما هو طولها، وما هو عرضها؟
ليست "أم المساحي" فحسب ما يشغل بالك، بل هناك المزيد من الكائنات التي تعيش معنا ولكننا نجهل أشكالها. فعلى حافة نهر خضابوه هناك ثمة سدرة قديمة، عمرها ربما ألف سنة. تتكون من ثلاثة جذوع متراصة كل منها بقطر جذع نخلة. الجذع الأوسط كبير ومجوف. تجويفه مظلم، وغائر بعمق التربة وأسود. يلقي القرويون النقودَ والنذورَ هناك. وتعلق النساءُ خيوطاً خضراً على أغصان تلك السدرة. وقد صار للسدرة أسم غريب، فاسمها هو "الحضرة". أو ربما هو اسم مختصرلحضرة كائن ما. وتقول الحكايا أن هناك من يسكن الحضرة، وقد نذر نفسه لخدمتها، وتعهد بحمايتها من أي اعتداء. ولكن الحكايات لم تفصّل ولم تبيّن ما الذي يعمل ذلك الحارس عندما لا يكون هناك خطر يتهدد "الحضرة"؟ ما الذي يقوم به طيلة الليل والنهار ذلك الحارس؟ كيف يعيش؟ أين ينام؟ كم عمره؟ هل يموت أو يمرض؟ كيف هو شكله بالضبط؟ لا أحد يخبرك شيئاً.
تستمر حياة الكبار بوتيرة ثابتة ، تخرج الكائنات ذات الأشكال المعروفة التي لا تثير اهتمامك من ثقوب القرية كل صباح وتعود اليها كل مساء. ولكن تلك الكائنات الغامضة وحدها تحتل رأسك ليل نهار.
هناك أيضا حارس الشط. ذلك القويُّ العنيد الغاضب الذي تكفَّل بحماية الشط. وهنا تصير الأسئلة أكبر وأخطر. ترى كيف لهذا الحارس أن يحمي الشط. هل يسبح من ضفة الى أخرى. أم يغوص . ثم من ذا الذي يهدد الشط؟ وكيف يمكن لأحد أن يؤذي الشط؟
أمام غرابة وغموض تلك الكائنات العجيبة التي تعيش بالقرب منا ولا ندرك ماهيتها، ولا نعرف على وجه الدقة أمكاناتها وقدراتها على إيذائنا، تبدو الطناطل والسعالي كائنات تافهة. ذلك لأن الطناطل كثيرة ومتعددة، وهذا ما يجعلها اعتيادية غير مخيفة بما فيه الكفاية. بيد أن تفرد تلك الكائنات وواحديتها ما يجعلها مثيرة للاهتمام، فهناك "خضرة أم الليف" واحدة، و"أم مساحي" واحدة، ليس لها أخت، وهناك حارسان غريبان أحدهما مكلف بخدمة "الحضرة" ،والآخر يهتم لأمر الشط!
الآن وبعد مضيّ كل تلك العقود من السنين، أتوق للذهاب هناك. أبحث عن بقايا الحضرة لأعرف ما إذا استطاع حارسها الحفاظ عليها أم لم يستطع. وأتمنى أن أجلس هناك على سدة الشط عند غروب الشمس لأسأل الحارس الذي تكفل بحميايته، ما الذي جعله يغفل عنه؟ وكيف سولت له نفسه أن يتخلى عن مهمته؟
أتوق للذهاب هناك لأخبر" خضرة أم الليف" إن استطعت هذه المرة العثور عليها، أنني لم أكفّ يوما عن التفكير بها. ولأعتذر منها لأنني نسيت أن أحدث أطفالي عنها ، وتركتهم يكبرون دون أن يعرفوا شيئا عنها. أعتذر منها لأن أحدا من الصغارلم يعد يحلم بها أو يخشاها.
أحلم أن تنتهي جائحة كورونا اللعينة هذه، وتعود إلينا حريتنا في الحركة والسفر التي افتقدناها، لأسافر الى نهر خضابوه مرة أخرى، مرة أخيرة ربما، لأطلب العفو منه.



#حامد_تركي_هيكل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سلسلة فنارات - ج1 - علي قاسم
- القسم رقم 8 - الحلقة الثالثة - همس الفتيان
- أم سالم
- الانتصار على الألم
- السيرة الذاتية لعراقي- قصيدة
- ليلة قدر
- القسم رقم 8- الحلقة الثانية - همس الجيران
- القسم رقم 8 - الحلقة الأولى - همس الجدران
- لوحة ( الشمس الساطعة)
- ذكرى قديمة جدا
- حكاية لا يعلم بها أحد
- سلسلة قصص الجنون - تنويه ختامي
- سلسلة قصص الجنون 8- -عقل- المجنونة
- سلسلة قصص الجنون 7- سيد عودة
- سلسلة قصص الجنون 6- سامي المجنون
- سلسلة قصص الجنون 5- شهاب
- سلسلة قصص الجنون 4- حمادووه
- سلسلة قصص الجنون 3- عبود المجنون
- سلسلة قصص الجنون 2- غنوم المجنونة
- سلسلة قصص الجنون 1- قاسم المجنون


المزيد.....




- -باهبل مكة-.. سيرة مكة روائيا في حكايات عائلة السردار
- فنان خليجي شهير يتعرض لجلطة في الدماغ
- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حامد تركي هيكل - كائنات غريبة