أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حامد تركي هيكل - الحَمَر















المزيد.....

الحَمَر


حامد تركي هيكل

الحوار المتمدن-العدد: 6604 - 2020 / 6 / 28 - 10:21
المحور: الادب والفن
    


يكبرني أخي محفوظ بعشر سنين. عندما كنت في الرابعة كان هو في الرابعة عشرة من عمره. كان أطول مني، وأسرع مني، ولديه قدرات عجيبة لا أمتلكها. فهو يستطيع الخروج من البيت، وهو أمرٌ كنت أغبطه عليه، و أحسدُهُ عليه، و أُكبرُهُ فيه. فضلا عن ذلك فهو يستطيع ركوب الدراجة الهوائية. ليس هذا فحسب، بل أنه يمتلك دراجته الهوائية الخاصة به. يركبها متى شاء، ويطير عليها في الهواء متى شاء.
لا أعلم بالضبط ما الذي يعمله محفوظ في الخارج، وأيّ أمور خارقة يستطيع فعلها لوحده. ولأي غرضٍ يرسله والدي إلى الجهات الأربع؟ وما هي المهام التي يستطيع هو وحده القيام بها؟ ظلت تلك ألغازا تؤرقني. ولكنه في تلك الساعة قبل غروب شمس ذلك النهار الذي لن أنساه،حين كانت أشعة الشمس البرتقالية تصبغ كل شيء بلون دافيء، قام محفوظ بعمل مذهل أمام عينيَّ هذه المرة. لم أكن أعلم أين كان عصر ذلك اليوم، وأيَّ مخاطرة قد خاض، وأيَّ مغامرة قد إجتاز ليأتي إلى البيت في تلك الساعة قبيل الغروب حاملاً كيساً (گونية)، يتحرك بداخله شيءٌ مجهول، يصدر ذلك الشيءُ أصواتاً هي مزيج من صراخ وبكاء وأصوات أخرى لم أسمع مثلها من قبل. ركن دراجته الهوائية خارج البيت، وحمل الكيس، وعوضاً عن دخول البيت، دخل بيت البقر الذي يقع بجانب دارنا.
تبعتُه إلى هناك، وقفت على بعد أمتار مندهشاً، مختلساً النظر لما يجري. تجمَّع عددٌ من أفراد العائلة حوله معجبين بإنجازه، مستغربين من فعلته، فرحين. كان محفوظ واثقاً ومتحمساً وهو ينزل ذلك الكيس من كتفه. تُرى أيَّ مزيّة أخرى يضيفها اليوم محفوظ إلى رصيده فضلا عن مزاياه الأخرى العديدة ليجعلني أشعر بالمزيد من النقص والعجز والضعف مقارنة بقدراته الخارقة!
ما إن فكَّ الحبلَ الذي يربط عنقَ الكيس حتى خرج منه كائنٌ صغير، لونه قهوائي مائل للحمرة، عيناه حمراوان، وأنفه أسود، وأذناه تتدليان على جانبي رأسه. كان يتذلّل لمحفوظ ويلعق قدميه ويتمسح بأذياله.
إنه كلب صغير!
بقيّ محفوظ بعد غروب الشمس مع الجروّ في بيت البقر ساعة أو أكثر. فيما تراجعنا نحن جميعا ودخلنا الدار. كان الجميع تلك الليلة يتحدثون عن (عمايل) محفوظ ومفاجآته، ويبتسمون، الجميع سواي. فقد كانت الأسئلة تحيُّرني، وباتت تقضُّ مضجعي تلك الليلة. فمن أين جاء محفوظ بهذا الجروّ؟ كيف أمسك به؟ من علمَّهُ فعلَ تلك الأمور؟ كيف ستكون الأوضاعُ مع وجود كلب؟ هل سيبقى الكلبُ كلبَ محفوظ؟ أم أنه سيكون كلبنا؟ ما الذي سيجلبه محفوظ في المرة القادمة؟
تكفَّل محفوظ بكلبه مدة من الزمن. ثم صرنا نسميه كلبنا، ثم صار اسمه الكلب. ثم صار اسمه "الحَمَر". أي الأحمرتسهيلاً وتدليلاً.
عاش "الحَمَر" عندنا، وصار جزءً من الدار. كان الدرب الذي يقود إلى دارنا يحاذيها، فأنت عندما تكون مقبلا على الدار لا ترى أبوابها، بل ترى جانبها فقط، وجانبها أصمّ إلّا من شبّاك صغير يقع عند (البقچة) الحديقة الجانبية.
عندما تعبر الجسر وتستدير بزاوية قائمة عند رأس الجسر مباشرة، تكون قد دخلت عالم جديد، عالم بيتنا، رغم أنه ما زال أمامك ربما مائة متر لتصل إلى البيت. تستقبلك (بقچة) حديقة النخيل حال عبورك الجسر. وهي مختلفة عن كل نخيل العالم. ففيها نخلات معروفات، لكل واحدة منها أسم محدد، ولون محدد. فيما نخيل العالم مجرد نخيل. ترحب بك عند عبورك الجسر الحلّاويّات الرشيقات المرحات اللواتي يتراقصن عند هبوب الريح، ثم تستقبلك السايرات ذوات الجذوع السمر، واللواتي يبدون أكثر رزانة من غيرهن. ثم تمرُّ أمام أمهات البخور السود الباسقات الوقورات ، ثم تشاهد الشوَّيثيّات الحَمراوات المدلّلات اللواتي ينعمن بقربهن من الدار دون غيرهن.
ما إن تعبر الساقية حيث شجرة الموز، حتى ترحب بك البرحيّات ذوات الجذوع البيض الممتلئة. عند ذلك يمكنك القول أنك قد وصلت.
على يمينك الديوانية بشبابيكها الأربعة الكبيرة وبابها، والتي تصطف بانتظام ورشاقة. فتحات غائرة عن وجه الجدار يعلو كل منها عقد نصف دائري، يصطف فوق كل عقد مشطٌ من مثلثات طابوقية تحت ستارة السطح المزيّنة بنقوش آجرية وفتحات الميازيب الحديدية، فضلا عن فتحات المراقبة. أما إذا أردت أن تصل إلى باب الدار فذلك شأن آخر.
يقع باب الدار في نهاية الجدار، عند المجاز. ولكنك لا تراه. إذ يخنق الباب تكوينٌ عجيب غير مفهوم وغير مبرر. وهنا مفارقة عجيبة. فأنت في الفضاء الرحب، حيث البساتين تمتد إلى ما لا نهاية. ولكنك قبل دخولك باب الدار لابد أن تُحشر وتشعر بالضيق. وعليك أن تستدير بمساحة صغيرة لا تتجاوز المتر المربع الواحد! إذ عليك أن تمرَّ من قوس مبني من الطابوق كأنه قوس النصر الباريسي ولكنه أصغر بكثير! كان فيما مضى له باب، لكن الباب اقتُلع على ما يبدو ولم يبق منه إلّا إطاره.
ما إن تدخل ذلك القوس حتى يواجهك قاطع من الصفيح المضلع محاط بأطار خشبي مغروس في الأرض. وفي هذا المتر المربع تجد نفسك محشورا وعليك أن تستدير بزاوية قائمة نحو الشمال، ليواجهك خصٌّ من القصب على بعد متر واحد من أنفك! ليجبرك على أن تستدير بزاوبة قائمة مرة أخرى نحو الشرق، لتجد نفسك بمواجهة خصٍّ آخر يجبرك على الاستدارة بزاوية قائمة نحو الجنوب، لتجد نفسك تقف وجهاً لوجه أمام باب كبير ذي مصراعين كُحليِّ اللون تعلوه مطرقة برونزية ثقيلة.
في المتر المربع الأول عند القوس تماماً ينام "الحَمَر"، وعند موضع أنفه تماما بجوار الجدار هناك يوجد القحف. والقحف هو قاعدة حِب( زير) مكسور تستخدم كوعاء يوضع فيه غداءُ "الحَمَر" وعشاءُه.
حين كان "الحَمَر" جرواً نشطاً، وحين كان كلباً يافعاً كان يستقبل أهل الدار مرحباً بهم بعد عبورهم الجسر هناك عند الحلّاويّات. وعندما كانوا يقطعون الأمتار المائة متجهين للدار، يكون هو قد قطع تلك المسافة خمس أو ست مرات ذهاباً وأياباً، هازاً ذيله، جاثياً مرة، قافزاً مرة، راكضاً زاحفاً مصدراً أصواتاً. يتفنن بالحركات.
ولكنه عندما كبر كثيراً، صار يكتفي بالوقوف وهزّ ذيله مرات قبل أن يعاود الاضطجاع عند القوس. وبعد أن شاخ "الحَمَر"، صار يكتفي برفع رأسه برهة مرحبّاً قبل أن يعود الى وضع الاستراحة ورأسه فوق يديه.
ولكنه في أيامه الأخيرة كان يكتفي بفتح عينيه مرحبّاً قبل أن يعاود غلقهما.
كان "الحَمَر" ذكياً جداً، فهو يعرف جميع الذين يمرون أمام الدار ذاهبين إلى أعمالهم أو عائدين منها. وهو مسالم جداً فلم يؤذ أحداً قط. وهو يعرف واجبه، فاذا جاء ضيفٌ إلينا ينبح. لا ليطرد الضيف، بل لينبه أهل الدار أن ضيفاً قد وصل، فيهبّوا لخدمته والترحيب به. وهو بسيط جداً، فلم يطلب لنفسه شيئاً أبداً. إن تذكّرناه، وجلبنا له شيئا ليأكله ووضعناه في قحفه، شكر مُصدراً أصوات خافتة، هازاً ذيله تعبيراً عن الأمتنان. وإن لم نفعل، بات بلا عشاء.
وكان "الحَمَر" أميناً. فلم يغادر مربضه يوماً أبداً. طيلة خمسة عشر عاما كان "الحَمَر" ماكثاً هناك يؤدي عمله بإخلاص قلَّ نظيره.
وكان "الحَمَر" نظيفاً، فرغم أننا كنّا نجوب تلك الأرجاء، نبحث فيها عن كل شيء، إلّا أن أحداً طيلة خمسة عشر عاماً لم يعثر على مخلفات "الحَمَر" يوماً. أين كان يقضي حاجته بعيداً عنّا؟ ومتى يقوم بذلك سراً كي لا يزعجنا؟ لا أحد يعرف.
بعد خمسة عشر عاما، صار محفوظ أطول بكثير مما كان. وقد سافر محفوظ إلى العاصمة، وعاش خارج الدار سنيناً وعاد، وتبدَّلت طباعه، وازداد غموضاً. جاء محفوظ لينهي قصة "الحَمَر" الذي بدأها. جاء عند غروب يوم صيفي غاضباً من أمرٍ ما. أمر "الحَمَر" بالنهوض. نهض "الحَمَر" بتثاقل، قطع تلك المسافة التي بين مربضه والموضع حيث يقف محفوظ والتي لا تزيد عن خمسة أمتار ببطء شديد، فقد كان "الحَمَر" متعباً. كان يرفع رجلاً ثم يضعها، ليلتقط أنفاسه، قبل أن يرفع الرجل الأخرى. إستغرقت رحلته وقتاً طويلاً خلته بقدر عمر "الحَمَر" كله. تحت جذع البرحيّة الأبيض الممتليء كان يقف محفوظ ذو الساقين الطويلتين. خطرت على ذهني تلك الصورة القديمة في ساعة الغروب تلك. حين كانت أشعة الشمس البرتقالية تصبغ كل شيء بلون دافيء. تماما كما تفعل الآن. كان محفوظ يقف وكان "الحَمَر" عند قدميه. تماماً كما هما الآن. ولكن محفوظ كان صغيرا، مليئا بالثقة والحماس، وكان "الحَمَر" جروّاً غرّاً يبدأ حياته للتو. أما الآن، فمحفوظ رجل طويل جداً، وغاضب جداً، و"الحَمَر" عند قدميه متعباً جداً. كان بالكاد يلتقط أنفاسه، بالكاد ينقل جسمه المتهالك بضع خطوات. أما أنا فقد كنت أقف على مبعدة أشاهد هذا الحدث السوريالي فاغرا فمي وعينيَّ. ذلك الحدث الذي تذكرته اليوم بعد مرور بضع وأربعين عاماً. وقد انتابني الخوف. فلست أدري لمَ استيقظت تلك الأحداث دفعة واحدة؟ ألسبب ما؟ أم بلا سبب؟





#حامد_تركي_هيكل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- لوحة گلگامش التي ستهزّ العالم
- صورتان وأربعة وجوه
- كائنات غريبة
- سلسلة فنارات - ج1 - علي قاسم
- القسم رقم 8 - الحلقة الثالثة - همس الفتيان
- أم سالم
- الانتصار على الألم
- السيرة الذاتية لعراقي- قصيدة
- ليلة قدر
- القسم رقم 8- الحلقة الثانية - همس الجيران
- القسم رقم 8 - الحلقة الأولى - همس الجدران
- لوحة ( الشمس الساطعة)
- ذكرى قديمة جدا
- حكاية لا يعلم بها أحد
- سلسلة قصص الجنون - تنويه ختامي
- سلسلة قصص الجنون 8- -عقل- المجنونة
- سلسلة قصص الجنون 7- سيد عودة
- سلسلة قصص الجنون 6- سامي المجنون
- سلسلة قصص الجنون 5- شهاب
- سلسلة قصص الجنون 4- حمادووه


المزيد.....




- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...
- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...
- رسميًا.. جدول امتحانات الدبلومات الفنية 2024 لجميع التخصصات ...
- بعد إصابتها بمرض عصبي نادر.. سيلين ديون: لا أعرف متى سأعود إ ...
- مصر.. الفنان أحمد عبد العزيز يفاجئ شابا بعد فيديو مثير للجدل ...
- الأطفال هتستمتع.. تردد قناة تنة ورنة 2024 على نايل سات وتابع ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حامد تركي هيكل - الحَمَر