أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حامد تركي هيكل - سلسلة فنارات -ج4- الرائد والمقدم-الحلقة الأولى















المزيد.....

سلسلة فنارات -ج4- الرائد والمقدم-الحلقة الأولى


حامد تركي هيكل

الحوار المتمدن-العدد: 6683 - 2020 / 9 / 21 - 00:25
المحور: الادب والفن
    


لشاب من ريف شمال البصرة، تعتبر بداية كل مراحل حياته بمثابة مغامرة واكتشاف، قد ترقى بأهميتها وإثارتها الى مستوى اكتشاف قارة جديدة!
لن أتحدث اليوم عن تجربة ذهابي الى مدرسة في المعقل لخوض امتحان البكالوريا للصف الثالث المتوسط، وقد كانت من أولى تجاربي الشخصية مع المدينة الحديثة الكبيرة. كانت تلك المدرسة أو القاعة الامتحانية على مقربة من ملعب الميناء. حين شاهدت لأول مرة ذلك البناء المهيب عن قرب، والذي عجزت مداركي حينها عن استيعاب كنه وجوده المتجاوز لكل الأبعاد المألوفة و المتخيلة. كان بناءً مهولاً عجيباً وصامتاً ونبيلا يجثم بوقار على تلك البقعة من الأرض. لست متأكدا ما الذي هالني على وجه الدقة. أهو البناء أم الفراغ، أم كلاهما. أغلب ظني أنه الفراغ الهائل الحجم، الفراغ الممتد. ذلك الوجود الخارج عن مقاييس البشر. وثمة أربعة أبراج فضيّة عملاقة تحمل مصابيح كبيرة الحجم تحرسه من جهاته الأربع. كانت تلك الأبراج أطول من أطول نخلة في بستاننا، وتحمل من المهابة والغموض ما لم تره عيني من قبل.
ولن أتحدث اليوم عن التحاقي بكلية الهندسة في باب المعظم. كان دليلي اليها أول يوم خزان ماء كروي الشكل فضيّ اللون لامع يستند على عمود اسطواني فيشكلان معا تكوينا غريبا وكأنه فطر أسطوري انبثق من الأرض، أو كائن خرافي من المستقبل انتصب هناك بانتظار حدث ما لينفلق عن أعاجيب لم يسمع بها أحد. أو كأنه مركبة فضائية حطّت هناك على غفلة من سكان بغداد المشغولين بالحركة والانتقال الدائب من منطقة الى أخرى. اعتبرته شاخصا يقود خطاي نحو ذلك المجمع الفسيح، كلية الهندسة في باب المعظم.
سأتحدث اليوم عن فنارين عاليين، شخصين رائعين كان لهما أثر في حياتي لن أنساه. سوف أستذكر اليوم تجربة أخرى من تجارب اكتشافاتي لعالم جديد وغريب وقاسي. تلك هي تجربة التحاقي بالخدمة العسكرية بعد تخرجي عام ١٩٨٢.

الالتحاق بخان بني سعد

كنت من الملتحقين الأوائل في معسكر خان بني سعد، فمثلي لا يتأخر عن تنفيذ القانون بكل حذافيره. وأهلي لايسمحون لي حتى بالتفكير بمثل هذا التأخر. فوالدي طيلة سنيّ خدمتي العسكرية التي قاربت السنوات الأربع كان لا يفرح باجازتي قدر القلق الذي ينتابه طيلة الايام السبعة التي أقضيها في البيت مجازا. فهو كل يوم يطلب ورقة الأجازة (ورقة عدم التعرض) ويتأكد من التاريخ ليطمئن أنني لم أتجاوز المدة. وهو في كل مرة يتفحص أختام الاجازة وأرقامها وجودة ورقها والبيانات المثبّتة فيها خوفا من أن تكون غير أصولية! وهو محقّ في ذلك كل الحق. فهي ورقة تقيني شر التعرض، وذلك واضح من اسمها ( عدم التعرض). وإن كانت غير فعالة أو مغشوشة فويلي من التعرضات التي سأواجهها. وأي تعرضات قاسية لا ترحم، وليس لها حدود. هذه الورقة الملونة الصغيرة اذن هي وقائي ودرعي وحصني الذي يقيبني الشرور والأهوال. ووالدي كان يريد أن يبقينا في مأمن من التعرضات التي لا تبقي ولا تذر. فمنذ سنوات طويلة، ووالدي يسعى للابتعاد قدر الامكان عن طريق الحكومة التي ما انفكت تتحول منذ أمد طويل الى عدائية وظالمة لا ترى ولا تسمع ، كما كان يقول.
التحقت بمركز التدريب المهني للهندسة العسكرية، وهو عالم جديد ومجهول آخر عليَّ اكتشافه، ومغامرة جديدة ليس لي بها معرفة سابقة. هذا العالم ليس عالمي مرةً أخرى، فهو، مثل غيره من العوالم التي اقتحمها سواء بمحض اختياري أو رغما عني، عالم ليس لي ولست منه. أشعر أنني غريب يتطفل على عوالم الآخرين. ومع احساس بالخوف والتوجس من المجهول مختلط برغبة في التحدي عادة ما أبدأ مشواري.
مصادر ذلك التوجس كثيرة لا مجال للحديث عنها الآن. ولكنني أستطيع القول أنها حصيلة الاحباطات المتراكمة. فمن امتنع عن الاندماج كليا مع سياسة الحكم السائد لسبب أو لآخر ظل يشعر بالاغتراب والقلق، وظل يشعر بأنه عرضة للتعرض في أي لحظة من لحظات حياته، سواء حمل ورقة عدم التعرض أم لم يحمل! هذا هو الوضع دائما.

الطريق الى المعسكر

ومن أجل الالتحاق بمعسكر خان بني سعد عليك ان تسافر من البصرة حيث مسكنك الى بغداد بالقطار الذي صار الحصول على تذكرته امراً بعيد المنال، وإن تعذر عليك ركوب القطار، وهو ما كان يحصل غالباً، عليك ان تركب باصاً من تلك الباصات التي تنقل الجنود والركاب بين البصرة وبغداد من نوع ريم حمراء إن حالفك الحظ، أو حتى بيضاء غير مريحة المقاعد. وان تعذر ذلك، فليس أمامك إلا باص فولفو (دگ النجف). وعليك أن تجد لك فندقاً شعبياً رخيصا يكون قريباً من ساحات النقل العام كساحة باب المعظم، لتتمكن من الوصول اليها مشيا قبل ان تبزغ شمس الفجر. ومن هناك عليك أن تنتقل الى المشتل حيث يقع كراج بعقوبة، ومن هناك عليك أن تركب سيارات خان بني سعد لتنزل مقابل باب النظام لمعسكر خان بني سعد.
عندما تجتاز البوابة المهيبة المليئة بحرس شداد غلاظ لا تعرف ما هي القوانين التي يطبقون، والذين كنت تخشاهم، فهم يمثلون الدولة بكل تشكيلاتها العسكرية الغامضة بالنسبة لك. عليك بعد اجتيازك لباب النظام أن تسير بضع كيلومترات على حافة طريق ترابي كي تصل لباب نظام مركز التدريب المهني للهندسة العسكرية.
الجيش عالم جديد عليك، فلم يلتحق من عائلتك أحد قبلك في الجيش لا ضابطا ولا جنديا. ولم يكن لديك متسع من الوقت لتجمع معلومات عنه.
بموجب خطة أو ربما تقاليد، لست متأكدا، يساق خريجو كلية الهندسة من أقسام الهندسة المدنية والمعمارية والمساحة الى هذا المركز. ليتدربوا على أمرين، إما قيادة الجرّافات والحفّارات أو التدريب على زرع الألغام ونزعها. وكلا العملين ستكون الأرض الحرام أو السواتر الأمامية ميدانهما!
قيل لنا إننا سنكون محظوظين، ذلك لأننا سنغلط غلطةً واحدة فقط لا غير. غلطة جسيمة لا نحاكم عليها، ولا نحاسب بسببها، ولا نلوم أنفسنا عليها. غلطة يتيمة ونكون في عداد الشهداء. فمهنة زرع الألغام ونزعها لا تقبل خطأين.
للمركز مقر إداري يقع شرقا، وقاعات لمبيت الجنود حسنة البناء والتنظيم والتأثيث الى الجنوب مع مجموعة مرافق صحية وحمامات عمومية. والى الغرب يقع المطبخ حيث توزع القصعة صباحا وظهرا. والى الشمال تقع بعد صف أشجار الأثل العالية المعمّرة ساحة العرضات الواسعة والتي يحدّها سياح المركز.وفي القلب من كل ذلك قاعات الدراسة.

الحياة في المركز

بعد أن تنهض من نومك في القاعة الطويلة التي تضم ربما 30 جنديا، وترتّب سريرك وتغتسل وتلبس بدلة العرضات خاصتك، تذهب الى ساحة العرضات حيث التعداد وتقديم الموجود للآمر شخصيا في مراسم مهيبة أقرب الى طقوس كهنوتية منها لعمل يخص البشر العاديين. نقف بكراديس بصمت وكأن على رؤوسنا الطير، يستدير رئيس عرفاء المركز ليقدم للآمر (الموجود)، وهي ورقة، أو قصاصة ورق. أو يقرأها أمامه. والآمر يقف منتصبا صامتا طويلا رشيقا مهيبا هناك، والجميع يقف بحضرته بخشوع وصمت. كما لو كان قطباً تدور حوله وبأمره وبرضاه هذه الرحى العظيمة.
له وحده وليس للآمر كانت عيوننا في تلك اللحظات تغرورق بالدموع، وقلوبنا تُغمر بالخشوع، وجلودنا تكتنفها قشعريرة. كلا ليس للآمر، بل له وحده الذي تنبض من أجله قلوبنا ونحن نراه عاليا خفاقا في تلك اللحظات، تشخص اليه أبصارنا، وتهفو اليه أفئدتنا. أنه علم العراق. وطننا، الذي نشأنا على حبه، والذي يشعرنا بالوجود وجودُه، وبالخير سلامتُه. رغم أننا لم نشعر بالأمان يوما فيه! ليس بسببه، بل بسبب الذين حولوا حياتنا الى عذاب دائم. لست أدري كيف تمتزج مشاعرنا في تلك اللحظات بتعدد وتناقض غريبين. أنذرف الدموع خشوعا للعلم حبيبنا؟ أم لمستقبلنا الشخصي الذي تبدى من بين أيدينا، وغاب عنا؟ أم للشباب الذين يموتون؟ أم لمستقبل بلادنا المجهول؟ يتبع ذلك حصة تدريب ثم ننصرف لتناول الفطور، وهو حساء العدس وبيض مسلوق وشاي وصمون جيش.
نعاود بعدها نحن المستجدون التمرينَ في ساحة العرضات حتى موعد الغداء. حيث تقدم وجبة الغداء الدسمة وهي رز ومرق عادة ما يكون فاصوليا ونصف دجاجة ، أو نصف كيلو من اللحم مع صمونة. وكل تلك المكونات مسكوبة في قصعة ابعادها 30* 40 سم تكفي لأربعة جنود.
أما الآخرون فيذهبون بعد التعداد والرياضة الصباحية التي تستمر حتى العاشرة صباحا، وبعد تناول الفطور الى أعمالهم المختلفة. فمنهم معلمون يدرّسون شتى أنواع المهن من سباكة وخراطة وحدادة ونجارة وتصليح وادامة السيارات والمركبات المتخصصة الاخرى. ومنهم طلبة يدرسون وهم الجنود الذين انهوا التدريب الاساسي ولما يتم توزيعهم بعد على فيالق الجيش وفرقه.
ولما كان التحاقنا في شهر آب، فقد كان الجو حاراً وأثناء الليل يهجم علينا البعوض من الحقول والمزارع القريبة فيحرمنا النوم، لولا أنهم نصحونا بشراء (الكِك) وهو علبة زرقاء تحتوي على سائل رائحته نفّاذة، تدهن به جلدك فلا يقترب منك البعوض! وله مضار مستقبلية، كما قالوا، إن كنت ممن يفكر في أن يكون له أبناء! وقد جرّبتُه، ولكنه لم يمنع البعوض الشرس من مهاجمتي ليلة بعد أخرى.
كنا نحن المستجدون فصيلين لاغير، فصيل المهندسين، وفصيل المواليد، وهم ممن بلغ سن الثامنة عشرة ولم يكونوا طلبة بل هم أميون في الغالب أو تركوا الدراسة مبكرا. وقد بان الفرق الشاسع بيننا في وقت مبكر. فتشجّع الملازم الأول، فراح يتفنّن في تدريبنا على الحركات الفنية في المسير، كتلك التي تتحول فيها تشكيلتنا من مستطيل الى معين، من النسق الى الرتل، ثم ينقسم الرتل ويتداخل ويدور حول نفسه ثم ينشطر بزوايا متناظرة يمينا ويسارا، ثم يعود ليظهر بشكله الأول المستطيل. صرنا فرجة للضباط، اذ كنا نلاحظهم يصطفون تحت ظلال الأثل المعمّر ليتفرجوا علينا ونحن نرقص رقصة الباليه تلك.
أما فصيل المواليد فقد تعثروا بال(يس، يم)، ولم يضبطوها، وفقد الملازم المكلف بتدريبهم أعصابه، وجرّب معهم شتى أنواع العقوبات التي لم نعرفها نحن والحمد لله، من الزحف الى القرفصاء الى الإلقاء بالمستنقع الى الركض الى السياج والعودة دون توقف. ولم يجدِ كل ذلك.



#حامد_تركي_هيكل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سلسلة فنارات- الجزء الثالث- جاسم جليل
- البصرة عام 2075
- بوادر الفساد في البصرة
- حتى الهواء يا أمي
- صديقي صالح
- سلسلة فنارات - ج2 - الحاج سعود الفالح
- الحَمَر
- لوحة گلگامش التي ستهزّ العالم
- صورتان وأربعة وجوه
- كائنات غريبة
- سلسلة فنارات - ج1 - علي قاسم
- القسم رقم 8 - الحلقة الثالثة - همس الفتيان
- أم سالم
- الانتصار على الألم
- السيرة الذاتية لعراقي- قصيدة
- ليلة قدر
- القسم رقم 8- الحلقة الثانية - همس الجيران
- القسم رقم 8 - الحلقة الأولى - همس الجدران
- لوحة ( الشمس الساطعة)
- ذكرى قديمة جدا


المزيد.....




- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حامد تركي هيكل - سلسلة فنارات -ج4- الرائد والمقدم-الحلقة الأولى