أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حامد تركي هيكل - سلسلة فنارات -ج4- الرائد والمقدم-الحلقة الثالثة















المزيد.....

سلسلة فنارات -ج4- الرائد والمقدم-الحلقة الثالثة


حامد تركي هيكل

الحوار المتمدن-العدد: 6687 - 2020 / 9 / 25 - 02:42
المحور: الادب والفن
    


تنويه:
هذه السلسلة من المقالات تحكي عن أحداث عمرها يناهز الأربعين عاما، وشخوصها ربما قد غادروا هذه الحياة. تلك الفنارات التي تحاول هذه المقالات بعث الروح في ذكراها العطرة عرفانا بفضلها،( الرائد والمقدم)، ربما لن تدري أن كتابات ما قد ذكرتهما بخير. والأشخاص الذين ذكرتهم هذه السطور بمواقفهم السيئة، لم تذكر أسماءهم أيضا، لأنها بالأساس ليست مدحا ولا ذمّا، بل هي تحاول أن تركّز على العبر والدروس.
ليس في نية هذه المقالات توجيه النقد لحقبة ما، فقد كتب الكثيرون عن تلك حقبة. ما تحاول هذه المقالات التركيز عليه هو تسليط الضوء على مواقف الرجال الفرسان من جهة، والخصال الذميمة كالنفاق والدسائس والمكائد من جهة أخرى، وهي خصال موجودة في كل العصور.
الأذى الذي تعرض له شخوص هذه القصة لم يكن بالدرجة الأساس بسبب اختلاف الموقف السياسي، رغم أنه قد وُظَفَ بشكل واضح، إذ لو كان ذلك حقاً لكانت الأمور قد جرت بشكل مختلف. ولكنها دسائس من لا يستطيعون النجاح في حياتهم فيتحولون الى حاقدين على من ينجح كنجاح الرائد والمقدم، فيصبّوا عليه جام غضبهم، ويتآمرون عليه، ويحصل أن يُسحق عرضاً في ذلك الصراع أناسٌ بسطاء كشخوص هذه القصة. وهذا ما يحصل دائماً.

المقدم

دخلا على مكتب المقدم الواسع الجميل، منضدة فخمة مع طخم أرائك مريحة وراقية، منضدة تلفزيون وصورة كبيرة للرئيس وهو يرتدي الزيّ العسكري احتلت إحدى زوايا الغرفة.
أدّيا التحية العسكرية، ووقفا بالاستعداد. استريحا قال لهما. لم يصدقا ذلك، لابد أنها مزحة. فهما يعرفان أنه لا يحق للمكلف الجلوس في حضرة المقدم. استريحا. قال. سيدي ولكن. لا يهم استريحا نحن كلنا مهندسون. امتثلا للامر، جلسا على طرف الأريكة بوضعية كوضعية الاستعداد جلوسا!
دخل مراسل بهيُّ الطلعة أزرق العينين، حسن المظهر. ماذا تشربان؟ نشرب؟ قال له المقدم:هات لهما شاي.
قال: أولادي لا تخافا، فقط قولا لي ما الذي عملتماه؟ سيدي لم نعمل شيئا. السيد الرائد على مقربة بامكانك أن تساله، لقد انجزنا ثلاثة مشاريع في غاية الروعة. ولا ندري لماذا تم نقلنا.
أنا أعرف أولادي. لكن أضبارتيكما (سودة مصخمة). ولكن لا عليكما، أنتما في حمايتي. أنا أعرف هذه النفوس المريضة التي تكره النجاح. واسترسل بكلامه،ربط الأمور بعقلية الخبير الذي عركته التجارب، فخبر معادن الرجال. كل ما نطق به المقدم في تلك الجلسة كان تحليلا عميقا وصحيحا ينم عن فكر شخصي متحرر.
لابد أنه فخ. فكرا في نفسيهما، لابد أنها محاولة من هذا الضابط لكي يجرهما بالكلام ، يريد أن يوقع بهما.كان ذلك قد تبادر الى ذهنيهما أولا.
- سيدي.....
كان أحدهما يريد أن يتكلم. قاطعه المقدم. لا عليكما. سأقوم بتأسيس قسم أسميه قسم التنسيق، وسأضعكما فيه. سيكون ذلك القسم بمثابة العقل المدبر للمركز، سيكون مسئولا عن جداول الدورات، وتنظيم المحاضرات، كذلك أريد منكما تصاميم معمارية للمقر، ولمطعم نواب الضباط، ومطعم المراتب. أريد أبداعا. أريد تصميما لباب النظام. أريد حلولا غير مسبوقة. أريد أن نتعاون لبناء المركز بطريقة مبهرة. أما أمانكما فهو في رقبتتي. لن يصل اليكما أحد. وسأعمل على ازالة كل شيء عليكما. حتى اذا ما تم نقلكما أو تسريحكما فستكونان آمنين تماما.
زالت كل مخاوفهما بلحظة واحدة. فقد كانا يخشيان أن تكون تلك النقلة غير المفهومة سببا لاثارة الشك حولهما، واتهامهما بتهم أخرى. خافا من سوء الفهم. ولكنهما الآن شعرا أنهما مزهوين، فخورين. شعرا أنهما بطلين. أحسّا في تلك اللحظة من خلال كلام المقدم معهما أنها مميزين. ولم يعد بعد ذلك هناك ما يقلقهما. حتى الموت لم يعد مخيفا.
كان المقدم شخصا كريما وشهما وباسلا حقا. كان غامضا للجميع، لا يستطيع أحد أن يتبين على وجه الدقة إن كان سعيدا أو كئيبا. فقد كان يشاع عنه أن شضية قد استقرت في رأسه. وأن آثار تلك الشضية كانت تظهر عليه بسلوكيات عصبية لا يمكن التنبؤ بها. ولكنني اعتقدت انه كان يختفي وراء هذه الصفة لكي لا يظهر رفضه وعدم قناعته بما كان يجري في البلاد. أيقنت أنه كان مناهضا للحرب، وكان مؤمنا بقدرات الشباب وقدرات العراق للنهوض. كان طيبا وانسانا بكل ما للكلمة من معنى. لقد خلق المقدم البيئة المناسبة للعمل والابداع.

انجازات معمارية

نفذ المقدم ما وعد. أسس قسم التنسيق وضمَّ في ذلك القسم عدداً من المهندسين المبدعين، بعضهم كان يقضي خدمة الاحتياط، وبعضهم كان مكلفا. وقد كان من بين منتسبي هذا القسم أسماء لامعة لا مجال لذكرها. وقد وفرَّ المقدم لهم بيئة آمنة ومريحة للعمل ولتمضية الوقت. كان الجميع ينصرف بعد الدوام الى البيت. أما أحدهما فقد فضّل المبيت في المعسكر، اذ كان ذلك أفضل بكثير من المبيت في الفنادق الشعبية في ساحة الميدان.
صمما وانجزا معاً بناية لمقر جديد، وابتكرا حلول لبناء بهو للمراتب بطرقة جديدة لم يسبق لأحد أن فكر بها. وصمما بوابة نصبية للمركز باستخدام فضلات قطع الحديد التي كانت تنتج عن معمل الملاجيء التابع للمركز، حيث كان ذلك المركز يصنع آلاف الملاجيء القوسية من الحديد والخشب والتي كانت تشحن الى جبهات القتال يوميا.

الاحتجاز

في يوم من الأيام بعث المقدم بطلبهما. وسلَّم كل منهما ورقة اجازة طويلة. قال لهما المقدم أنه سيسافر الى ألمانيا موفدا، وقد يغيب فترة أطول من المدة المقررة للا يفاد. وإنه يخشى عليهما من هولاء الحاسدين إن هم وجدوا أن الفرصة مناسبة لأيذائهما. أحدهما رفض التمتع بالاجازة. قال له المقدم: أنت حرّ، فإذا جرى لك شيء فأنت المسئول عن ذلك. قال له : ألا تخاف؟ قال : لا سيدي! لم أعد أخشى شيئا. ثم انني أريد أن أكمل عملي.
عندما عاد المقدم من الأيفاد بعد مدة اسبوع ، بعث بطلبه. كان يبتسم ابتسامة المنتصر. وكأنه عرف كل شيء حصل أثناء غيابه. قال: ها هل أنجزت أعمالك؟ لا سيدي. أجاب. ألم أقل لك ؟ ألم أحذرك؟ عموماَ الآن بإمكانك أن تذهب باجازة لترتاح.
عندما سافر المقدم الى المانيا، أبلغنه نائب ضابط أن عليه أن يذهب الى مقر أمني داخل المعسكر وخارج مركز التدريب غدا صباحا. في الصباح وبعد التعداد ذهب الى هناك . عندما وصل استقبله شخص يبدو أنه كان بانتظاره، ادخله غرفة وقال له انتظر هنا سيقابلك المسئول لاحقا. كانت غرفة فارغة تماما الا من كرسي واحد فقط. جلس على ذلك الكرسي وأغلق الرجل الباب، بل أقفله بالمفتاح. جلس ينتظر حتى الساعة الثالثة عصرا. من الساعة التاسعة صباحا حتى الثالثة عصرا وهو يجلس هناك وحيدا. أكثر ما آذاه هو عدم قدرته على قضاء حاجته، فقد كادت مثانته تنفجر. عند الثالثة فُتح الباب وطُلب منه الانصراف على أن يعود غدا بوقت مبكر لان المسئول عنده أعمال مهمة. وهكذا لمدة أسبوع. احتاط هو للأمر، فقد امتنع عن شرب السوائل لكي لا يتعرض مرة أخرى لما تعرض اليه أول يوم. ستة أيام لم يسأله أحد. ولم يستجوبه أحد. في آخر يوم جلبوا له مجموعة من الأوراق وقلم، وطلبوا منه أن يدون اعترافاته. قالوا له: لا عليك فقط نريد مطابقة معلوماتك. ماذا أكتب؟ قالوا أكتب فقط عن انتمائك السياسي! ثم طلبوا منه الانصراف وأبلغوه أن لا حاجة لمجيئه غدا فقد انتهى الأمر. انتهى الأمر لأن المقدم قد عاد من ألمانيا! وهؤلاء الجبناء يخشون غضبة المقدم.
أما هو فقد شعر بالزهو والفخار. اذن هو ليس مجرد جندي بسيط. بل هو يقف وحده في مواجهة قوى شرسة وقوية وكبيرة. قوى أرادت أن تنال منه ولكنها لم تستطع. انهزمت أمام صبره وعناده وقوة شكيمته. مرت بمخياله وهو جالس في تلك الغرفة الصغيرة المقفلة عليه في معسكر خان بني سعد ذكريات عديدة.
شعر في تلك الغرفة الصغيرة المغلقة أن الله يراقبه، ويرعاه. وأنه لن يمسّه ضرر. كان يمكن أن يخاف من احتمالات كثيرة كان يمكن أن تحدث. كان يجب أن يرتعب وأن يرتجف خوفا. كان لابد له أن يشعر بضآلته وتفاهته وضعف حيلته وهوانه. كان يمكن أن يجلس هناك في تلك الغرفة المقفلة التي أريد لها أن تكون أداة لإذلاله يبكي. ولكنه لم يفعل. بل تحولت تلك الغرفة الصغيرة التي أُريد لها أن تكون سجنا لجسده الى فضاء رحب لروحه. فقد ساحت روحه بالزمان والمكان، وهيمنت على المشهد من مكان عالٍ، واستمتعت بما شاهدت أيَّما استمتاع. كانت له خلوة لم يكن ليحصل عليها. كانت فرصة عظيمة للسكون، وللتأمل وللنظر في جوهر الأشياء وليس لقشورها. وانقضت الساعات وكأنها دقائق.
تذكر كيف أنه قبل ذلك بأسابيع فقط عندما تمتع باجازته الدورية حين اصطحبه صديقه المهندس المعماري الكردي الذي يعمل في المصايف الى جبال كردستان، وتوغلا بعيدا حتى خرجا من منطقة تواجد قوات الحكومة ودخلا في مناطق البيشمركة. قال له من هنا تستطيع أن تسير حتى تصل حدود تركيا. ولكنه لم يفعل. كلا لن أخذل المقدم. ولن أسبب لأهلي أذى.قال وقفل راجعا.
تذكربكل وضوح كل ما مر به في سنيّ دراسته في القسم المعماري، حلوه ومرّه. تذكر كل المواقف. تذكر المراسم، وتذكر المشاريع، وتذكر الأساتذة.
تذكر أيام طفولته، ومراهقته، وشبابه، الأزقة والدروب، والشواطيء والأنهار، تذكر النخيل، والفلاحين والفلاحات، والعمال والعاملات. كانت تلك الغرفة خلوة مع النفس تكشفت فيها الأمور بشكل واضح. كان يخرج من ذلك الاعتقال اليومي عند الثالثة عصراً منتصرا مبتهجا فرِحاً، حتى ظنَّ سجّانوه أن عقله ليس على ما يرام. اذ كان من يفتح له الباب المقفل يتوقع أن يرى غير ذلك.
ذات يوم وبعد تلك الحادثة باشهر، أرسل المقدم بطلبه. قال له سأنقلك الى مكان أقرب الى سكناك. فقد صدر أمر بتعييني مديرا لصنف الهندسة العسكرية. لا عليك ستكون الأمور بخير. أما زميله الآخر فقد ساعده المقدم بعد تسريحه من الجيش بالحصول على بعثة الى موسكو، هكذا قيل. وقد سافر الى هناك، ولم يعد.

التتمة في الحلقة التالية



#حامد_تركي_هيكل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سلسلة فنارات -ج4- الرائد والمقدم-الحلقة الثانية
- سلسلة فنارات -ج4- الرائد والمقدم-الحلقة الأولى
- سلسلة فنارات- الجزء الثالث- جاسم جليل
- البصرة عام 2075
- بوادر الفساد في البصرة
- حتى الهواء يا أمي
- صديقي صالح
- سلسلة فنارات - ج2 - الحاج سعود الفالح
- الحَمَر
- لوحة گلگامش التي ستهزّ العالم
- صورتان وأربعة وجوه
- كائنات غريبة
- سلسلة فنارات - ج1 - علي قاسم
- القسم رقم 8 - الحلقة الثالثة - همس الفتيان
- أم سالم
- الانتصار على الألم
- السيرة الذاتية لعراقي- قصيدة
- ليلة قدر
- القسم رقم 8- الحلقة الثانية - همس الجيران
- القسم رقم 8 - الحلقة الأولى - همس الجدران


المزيد.....




- تابع HD. مسلسل الطائر الرفراف الحلقه 67 مترجمة للعربية وجمي ...
- -حالة توتر وجو مشحون- يخيم على مهرجان الفيلم العربي في برلين ...
- -خاتم سُليمى-: رواية حب واقعية تحكمها الأحلام والأمكنة
- موعد امتحانات البكالوريا 2024 الجزائر القسمين العلمي والأدبي ...
- التمثيل الضوئي للنبات يلهم باحثين لتصنيع بطارية ورقية
- 1.8 مليار دولار، قيمة صادرات الخدمات الفنية والهندسية الايرا ...
- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حامد تركي هيكل - سلسلة فنارات -ج4- الرائد والمقدم-الحلقة الثالثة