أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حامد تركي هيكل - سالم ابن دَهَش -ج2















المزيد.....

سالم ابن دَهَش -ج2


حامد تركي هيكل

الحوار المتمدن-العدد: 6732 - 2020 / 11 / 14 - 01:33
المحور: الادب والفن
    


حكاية القرية

كان أفراد عائلة شهاب الوافي المتكونة من الأب الحاج شهاب وهو في أواخر العقد الرابع من عمره، وزوجته وولديه المتزوجين الذين يعيشان معه في البيت نفسه وهما كل من أحمد وماضي، فضلا عن أمه العجوز (غصن) التي دخلت عقدها السبعين ربما، كانوا أما قد خلدوا الى النوم، أو أنهم ربما كانوا على وشك أن يفعلوا ذلك في تلك الساعة من ليلة شتائية باردة وحالكة الظلام عندما سمعوا طرقا خفيفا على الباب الخشبي العتيق المتداعي. لم يصدقوا باديء الأمر ذلك، فمن ترى يطرق باباً تلك الساعة في كلِّ قرية باب الشمس التي تغطُّ بنومها العميق بعد غروب الشمس. ثم ما الذي يدعو الناس في تلك القرية النائية التي تقع على طرف نهر صغير متفرع من شط العرب ومتوغل في الضفة الشرقية باتجاه البر أن يبقوا يقظين بعد غروب الشمس؟ ففي تلك الأيام لم تكن هذه الأرجاء قد سمعت بالكهرباء. ثم أن العمل الشاق الذي يقوم به الرجال والنساء في الفلاحة والرعي كفيل بأن يهدَّ قواهم. أما الأولاد الصغار في تلك القرية فان اللعب طيلة النهارات الشتوية القصيرة بطبيعتها كفيل بدفعهم الى النوم عاجلاً. ما يشجّع على النوم عند حلول الظلام هو انطفاء مواقد نار كرب النخيل والتي عادة ما توقد عند غروب الشمس، والتي تتحول الى رماد بارد بعد ساعة.
بيت الحاج شهاب الوافي عبارة عن باحة يسيجها سور من الطين، وثمة أربع غرف من الطين مسقفة بجذوع النخيل وحصران القصب، وثمة صريفة وسوباط للبقرات، فضلا عن ركن لخزن اليبيس علف البقرات والحطب. وفي الجهة البعيدة من كومة اليبيس والحطب ثمة تنور للخبز. وفي مكان منعزل هناك يقبع بيت الخلاء. ثمة بيوت أخرى ملاصقة لبيت الحاج شهاب، وبيوت أخرى تقع قبالته، وكلُّ بيوت القرية تقع على زقاق واحد مفتوح النهايتين، نهايته الغربية تقود الى البساتين والشط، ونهايته الشرقية تنفتح صوب الحماد.
مرَّ من هذا الدرب أناسٌ كثيرون، فالعرب الذين يفدون من مناطق الكارون للتبضع بالتمر وللرعي، والكعيبر وهم العمال الذين يتسللون بشكل غير قانونيّ من أيران للعمل في الكويت، والمهربون الذين يتاجرون بالشاي والسكر، وغيرهم كانوا يمرون عبر هذا الزقاق. وسكان قرية باب الشمس قد اعتادوا حركة الناس عبر زقاقهم، فلا يعيرون لها بالا . وفي تلك الأيام لم تكن الحركة بين البلدين قد خضعت بعد لسيطرة الحكومات. ومن بين تلك الحركات حركة الفارّين من بلدهم الى البلد الآخر طلباً للأمان وهرباً من جور السلطات وبطشها. الا أن الأمور بدأت تتغيرمؤخرا.
ومن هذا الزقاق كان سلّوم قد مر باتجاه السهول الفسيحة. ومن بيت شهاب الوافي قبل شهور عدة تجهز ذلك الشاب بهيُّ الطلعة ، أبيض البشرة، ذو العينين الخضراوين، والشعر الأشقر بما يحتاج اليه في رحلته الطويلة. فقد اشتروا له حصاناً قوياً، وزُوِّد بما يحتاج اليه من ملابس تقيه برد السهول المفتوحة، وحمل معه عددا من علب الدخان، وبضع كتب من تلك التي كان يعشقها. واشتروا له بندقية برنو ومسدس. وذات ليلة ركب مثل فارس جميل عطر الرائحة يحيط به ثلاثة من الفرسان من عشيرة الحوافظ وانطلقوا باتجاه الشرق. ومن هذا الزقاق أيضا أعاده الليلة خلسة عودة ومطشر أولاد حمود العجرش انسانا يحتضر ملفوفا بأزار من صوف، تنبعث منه رائحة نتنة. هذا ابنكم، وهذه بندقيته، ومسدسه، وبقية أغراضه.

غصن أم شهاب هي أهم شخص في بيت شهاب الوافي. هي أمرأة قديمة تعود الى ذلك الزمن الذي تأسست أبانه هذه العائلة واكتسبت هويتها. وهي الأخت الكبرى التي تمثل النقيض لأختها الصغرى نبع، تلك المرأة التي لم يتمكن أحد من سبر أغوار روحها، ولم يدرك أحد ممن عاش معها، كنه شخصيتها العجيبة. ورغم أن غصن هي امرأة بسيطة للغاية واعتيادية تماما بحيث لا يمكن التمييز بينها وبين أي امرأة أخرى من جيلها، الا انها اكتسبت تلك الاهمية في عائلتها فقط لأنها أخت نبع تلك المرأة الاسطورة.
عندما طرق الشابان حمود ومطشر الباب تلك الساعة وسلّما شهاب وولديه جسداً ملفوفاً بأزار من صوف هو كل ما تبقى من سالم ابن دهش، لم يجد الرجال الثلاثة بدا من أن يفرشوا له فراشا وسط غرفة العجوز غصن. الصباح رباح. قال شهاب، وهو يهز رأسه أسفاً على الحال التي صار اليها سلّوم. بعد ساعة من جلوسهم حوله حائرين لا يعرفون ما الذي يصنعون، قرروا تركه مع العجوز غصن حتى الصباح ليروا ما الذي يمكنهم فعله. فهي أقرب الناس اليه لأنها هي أخت جدته نبع. كانوا قلقين على حياته فهو بوضع ربما لا يصمد حتى الصباح، وكانوا قلقين عليه لأنه ينتمي اليهم. وهم قلقون على سلامته لأنه هو سلّوم الشاب الذي يأسر قلب كلَّ من يعرفه بدماثة خلقه و بابتسامته التي تسلب الألباب، وبجمال وجهه اليوسفي الذي ليس له نظير، و ببهاء طلعته. وهم قلقون على سلامتهم جميعاً، فمن يدري قد يشي بهم أحد سكان القرية لدى السلطات التي صارت أكثر قسوة، وأوسع نشاطا، وأطول ذراعاً. وباتت تسلط عيونها وتصغي لدبيب النمل في طول البلاد وعرضها. فقد عمَّ الخوف وتملكت الريبة قلوب الناس. وهم قلقون بخصوص الطريقة التي سيوصلون سلّوم الى أهله وسط مدينة البصرة سالماً. أسئلة كثيرة، وطريق شاق محفوف بالمخاطر. بعبارة أخرى هي مصيبة حلَّت بهم.
أما العجوز غصن فلم يكن نظرها يسعفها لرؤية الوجه المتهدم والجسد الذابل المسجى وسط غرفتها، ولم يكن الضوء المنبعث من فتيل السراج النفطي الذي كان يصدر دخانا يكفي لإبراز هيئة ذلك الولد الذي راح يصدر أنيناً خافتاً ، لذلك استعاضت عن المشهد الواقعي بما كانت تختزنه ذاكرتها عن سلّوم، ووجهه الأبيض الجميل، وعينيه الخضراوين اللتين تشعان تفاؤلا.
وعلى صوت أنين الولد المسجى في غرفتها، انفجرت القصائد الحزينة من أعماق روحها المتعبة.
يما يا يمه يا يمه
كانت تجري حوارا مع أختها نبع في نفسها مع النعاوي التي كانت ترددها في قلبها. كانت تكلم طيف أختها الغائبة، وكان ذلك الطيف يتخذ أشكالا مختلفة من طفلة صغيرة ذات جدائل مرةً، الى شابة فاتنة الجمال مرة، الى عجوز مهدمة مرة أخرى. كنتُ أعلمُ ذلك يانبع يا خيّة! دولاب دوّار من المصائب والنكبات هي حياتك يا نبعة الريحان. أليس هذا ما كنتِ تسعين أليه؟ لقد خدعك وهج الذهب فرحتِ تسعين اليه، ولكنه صار ناراً تحرق قلبك يا أختي.
خيّه قلبي وفطرتيه! والله قلبي وفطرتيه!

أما كان يكفيكِ لو أنكِ عشتِ حياتكِ بهدوء يا نبعة الريحان يا أختي!؟ وتذكرتْ كلَّ تلك السنين الطويلة التي امتدت أكثر من نصف قرن. كانت نبع طموحة بشكل غريب، كانت مشغولة منذ صباها بالترقي وامتلاك الأموال والأملاك. لم تكن فتاة عادية. لا بمقاييس زمانها كفتاة مولودة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ولا بمقاييس أي زمان. قبل أن تقبل بالزواج من ضيغم ابن دهش ذلك الفارس المغوار الذي أحبَّها حباً جماً، وهام بجمالها الفريد، اشترطتْ عليه شرطاً عجيباً لم يكن ممكناً ولا مفهوماً في ذلك الزمان. أن يتعلم القراءة والكتابة! وقد قبل ذلك الشرط. كانت ترى أن اقتحام عالم الاعمال يحتاج فطنةً وذكاءً، وهو ما كانت متأكدةً من امتلاكهما، ولكنها كانت بحاجة الى رجل يقرأ ويكتب، ويحتفظ بالسجلّات والحسابات. رسمت نبع في عقلها صورة كاملة لما يجب أن تكون عليه عائلتها المستقبلية. لم ترغب أن تعيش كما كانت تعيش بنات جيلها من سكان القرى والبوادي. كانت ترى نفسها وهي تسكن بيتا عاليا من بيوت الولاية، بل قصراً من قصور الباشوات في البصرة. وقد حققت كلَّ ذلك.
أردتِ المدينة يا نبع؟ هاي المدينة يا أختي، ما الذي أعطته لكِ غير التعب؟ ما الذي اعطته لكِ البصرة غير الهموم؟ ها هو حفيدكِ سلّوم الذي أحببتِ، لقد أفسدته المدينة وانخرط بالسياسة، وطاردته الشرطة، ها هو ذا يوشك أن يموت يا نبع.
لو أنكِ قبلتِ بالزواج من فلّاح؟ لو أنك رضيتِ بمهرّب شاي وسكر حتى؟ لو أنك قبلتِ ببلشتي أو قاطع طريق حتى؟ أما كان أكثر راحة لقلبكِ يا أختي؟ لو أنكِ تزوجتِ ضيغم وتركتِه على حاله، أما كان خيراً لك من كل هذا؟ لقد فطرتِ قلبي منذ صغرك، وها أنت اليوم بعد أن صار لك أولاد وأحفاد لا زلت تفطرين قلبي يا نبع يا أختي.

نبع يا أختي الحلوة، لم يخلق الله على ضفتي الشطّ من هي بجمالك، ولم يخلق لا في الولاية ولا في الجرف ولا في الهور ولا في البادية مثلك يا اختي. لقد اتعبكِ عقلك واتعبتِني معكِ. ها هو حفيدك سلّوم الجميل الذي أفسدتْه المدينة ولعبت بعقله الكتب، والذي أرسلته الى السهول النائية حفاظا على حياته من أيدي الشرّ، ومن بطش الحكومة، ها هو يعود اليك جسدا يحتضر! فما أنتِ فاعلة يا نبع؟ أخاف أن يموت وتموتين معه. لقد أحرق قلبكِ لهيب الذهب.
حين أشرقت الشمس، اجتمع الرجال الثلاثة ، شهاب الوافي، وولديه أحمد وماضي، مع العجوز غصن، حول جسد سلّوم . لقد هالهم ما رأوه للتو على ضوء الفجر، كان وجهه أصفرا، عيناه غائرتين، وعظام وجهه بارزة بشكل مخيف، كان يغط بنوم فاغر الفاه وكأنه ميت. وراحوا يفكرون بطريقة بارسال الولد الى قصر أهله في البصرة.

للحكاية تتمة



#حامد_تركي_هيكل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سالم ابن دَهَش- ج1
- دوامة الأوراق
- حلم بورجوازي سخيف
- جريمة قتل
- سلسلة فنارات -ج4- الرائد والمقدم-الحلقة الثالثة
- سلسلة فنارات -ج4- الرائد والمقدم-الحلقة الثانية
- سلسلة فنارات -ج4- الرائد والمقدم-الحلقة الأولى
- سلسلة فنارات- الجزء الثالث- جاسم جليل
- البصرة عام 2075
- بوادر الفساد في البصرة
- حتى الهواء يا أمي
- صديقي صالح
- سلسلة فنارات - ج2 - الحاج سعود الفالح
- الحَمَر
- لوحة گلگامش التي ستهزّ العالم
- صورتان وأربعة وجوه
- كائنات غريبة
- سلسلة فنارات - ج1 - علي قاسم
- القسم رقم 8 - الحلقة الثالثة - همس الفتيان
- أم سالم


المزيد.....




- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حامد تركي هيكل - سالم ابن دَهَش -ج2