أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حامد تركي هيكل - هو الذي رأى كل شيء _الجزء السابع















المزيد.....


هو الذي رأى كل شيء _الجزء السابع


حامد تركي هيكل

الحوار المتمدن-العدد: 6775 - 2020 / 12 / 30 - 17:07
المحور: الادب والفن
    


الحرب
الساعة الخامسة صباحا

لم ينم المجنونان الصغيران الا سويعات معدودة منذ انتهاء الجلسة السابقة التي دامت حتى منتصف الليل، لم يتبادلا أي كلام بعدها، ولم يعلما السبب الكامن وراء صمتهما ذلك، كانا يستمعان كل تلك المدة الى رجل مهووس، تسكنه قصة غريبة ربما سمعها ذات يوم، أو ربما شاهدها بفلم، أو ربما قرأها. أم أنهما لم يعودا متأكدين من حقيقة هذا الذي سمعاه. فتركا الأمر لتقييم الأصدقاء، وردات أفعالهم حين يشاهدون ويسمعون. فقد بدا لعماد أنه كان قد أرسل مقاطع تسجيلية الى كل الأصدقاء في المرات السابقة، وقد لاحظ ان هناك من الذين توافدوا الى الحديقة مؤخرا من كان يستمع بحرص شديد لما كان الرجل المجنون يرويه، أو هكذا خُيَّل له على الأقل، وتراءى له أيضا أن بعضهم ربما كان يصوّر بهاتفه المحمول ما كان يجري. نام الصديقان المتعبان ليلتهما دون أن يتبادلا حديثا مع بعضهما.
بغداد مثل قطعة موسيقية، سيمفونيّة فريدة، بامكانك أن تغمض عينيك وتنسى كل شيء، وتستمتع بالاصوات والنغمات وهي تحكي قصة مدينة ليس لها مثيل، مدينة عتيقة، حيّة، متجددة، مدينة يصعب فهمها، ويصعب هضمها، ويصعب نسيانها. فجراً وكعادتها دوماً، يكسر سكونَها دعاءُ المساجد التي تصحو، رويداً رويداً، يبدأ الدعاء من أحد الجوامع البعيدة، صوت خافت لايكاد يسمع، ثم يعلو، ويعلو، ويزداد، وتضجُّ السماء والأرض بالتلاوات، متداخلة، تعلو وتهبط مثل موسيقى كونية، فتوقظ النائمين، وتسلب الكرى من الغافين. ثم تخفت تلك الأصوات ليحل محلها أصوات الحركة المبكرة، حركة السيارات والباعة وأصحاب العربات التي يبيع أصحابها كل شيء، ثم يعلو نفير السيارات، وصفير شرطة المرور، ثم أصوات المتشاجرين، وتذمّر المتذمرين، يتخلل تلك الفوضى بين الحين والآخر أذان المساجد، وقرع أجراس الكنائس، مثل تبادل الأدوار بين الروح والجسد، تسمع أصوات الجوامع والكنائس مرة، ثم أصوات الصراخ والسعي والضجيج مرة. ثم تهدأ وتيرة الأصوات قليلاً، فتسمع زغاريد من مكان ما، ودفوف، ثم عود، وناي، ثم تسمع غناء المطربين، والعاشقين، وهم يندبون حظهم العاثر! ثم تنام بغداد رويداً رويداً، ما تلبث حتى تصحو من جديد لتعيد تلك الجلبة دورتها الأبدية، وتلك الموسيقى عزفها المتكرر.
الرجال من مجتمع السطح غريبو الأطوار من المسرحيين والرسامين الذين لا يهتمون كثيرا لهندامهم تكاثروا في الليلة السابقة على يمين خيمة المجنونين المتذبذبين عماد وحسن، فبنوا لهم ما يشبه الخيام، ملاجيء تقيهم البرد كي يستطيعوا الاستمرار بالنقاش الذي بدأ، ويبدو أنه لن يتوقف! أما المتسولون والمجذوبون فقد تجمعوا على يسار خيمة عماد وحسن، وراحوا يحملقون بالفراغ صامتين. أو ربما تصدر عن بعضهم بين الحين والآخر هلوسات غير مفهومة، وهمهمات لا تعني شيئاً! أو ربما هي لا تعني شيئا لنا، ولكنّها ربما تكون مفهومة عندهم. يتواصلون من خلالها، أو ربما يتواصلون مع كائنات أخرى، أشباح، أرواح يرونها هم ولا نراها نحن. هل يعنيهم وجودُ هذا الرجل؟ هل يمثل وجوده شيئاً مهما لهم؟ اكتشف المجانين أن شيئاً خاطئاً كان يحصل منذ مدة، تناقض ربما أو شيء من هذا القبيل، اذ يصعب عليهم وصف الاشياء، ويصعب عليهم التعبير عنها. والخطأ الجوهري الذي تفاجأ مجتمع القاع باكتشافه، العيب الكبير الذي عرفوا بوجوده بينهم مؤخراً وبعد مناقشات مستفيضة حول قصة هذا الرجل الغامض، هو أنهم كانوا يكلّفون أنفسهم فوق طاقتها. فالجنون هو بالحقيقة ممارسة أو إختيار فردي، هكذا اعتقدوا، ينسحب الفرد بموجبه ويتقوقع في عزلته، يتخلى عن كل شيء، فيصير ببساطة مجنوناً. بيد أن مجانين وسط بغداد اكتشفوا أنهم لم يتخلّوا عن التفكير بالجماعة، أرادوا أن يتّحدوا! أن يحافظوا على وجودهم. وهذا ما لم يكن بمقدورهم فعله. توهّموا أنهم جماعة! وتوهّموا أن الرجل الضئيل ذا الجلد الشفاف يمكن أن يكون كبيراً لهم! وتوهّم الشفافُ أنه يمكن أن يلعب هذا الدور. ظهور الرجل كان اختباراً لهم، اختباراً كشف عن هشاشة مجتمع القاع، وضعفه، وعدم قدرة أفراده أن يكونوا مجتمعاُ اصلاً. لذلك راحوا يحملقون في الفراغ. وقرّر بعضهم العودة الى عزلته الفردية. بحثاً عن سلامه الخاص. بيد أن الأمر الذي بات واضحاً أن الفنانين والمجانين قرروا التواجد قرب خيمة عماد وحسن ليقفوا على مستجدات الرجل الغامض، فقد توهموا أنه يتحدث عن قضيةٍ مهمة! فهؤلاء يسعدون باهتمامهم الجماعي، وهمهم الجماعي، أو ربما بأوهامهم الجماعية! لا يكفون عن التفكير بها، ولا يتمنون غير الاندكاك بها!
أما عماد وحسن، المجنونان الصغيران، فقد أحسّا أن ذلك الوضع كان أكثر مما يستطيعان احتماله. بدأ حسن يظنُّ أن هروبه الى عالم القاع ربما كان عملاً طائشاً، فقد استرق السمعَ للمحاكمة التي أقامها الفنانون للرجل الغامض! التقط بعض ما كان يدور في نقاش المهووسين حوله أولئك الذين كانت أصواتهم تعلو، وحوارهم يحتدم بين الحين والآخر هنا في الحديقة. وشكَّ أنه ربما لن يكون بمقدوره بعد الآن أن يستمر بلعبة الجنون! خاصة بعد تجمع عدد كبير من المجانين قرب خيمتهم، كانت الساعات السابقة ساعات تأمل بالنسبة له. لأول مرة ينظر الى الوضع بهدوء، ويرى أمامه العالمين معاً، عالم السطح، وعالم القاع. أما عماد، فقد بدأ يشكُّ أكثر فأكثر أنه ما زال يحبُّ بسمة، وأن الأحلام ليست عصافيراً! ما الذي جرى لي ؟ كان يتساءل. شيء غريب كان يحصل له. ليس له فحسب، بل للجميع، ولكل الناس! في ذلك الوقت بدأ الرجل يتحرك، الرجل المجنون، الرجل الغامض، يتقلَّبُ في نومه، ثم يصحو. ينهض من رقدته، ويجلس. واضعاً يديه بين ساقيه، يحملق بنقطة ما في الفراغ.
- حسن! حسن! أنهض. جلس عماد قبالة الرجل. فيما بدأ حسن بالتململ، يحتاج حسن وقتاً أطول للنهوض، كانت أصوات الأذان تعلو. هل تريد أن تكمل الحكاية؟ توهّم الراوي الغريب أنه يتحدث لجمهور، وبدأ يسرد فيما تكاثر المستمعون حول الخيمة، بل تجرأ البعض لرفع جوانبها ليتمكن من الرؤية والسماع. بدا للمجانين أن خيمة عماد وحسن لم تعد لهما، صارت للجميع. تكلم الرجل قائلا:
سيطر الكبار على كل مقدرات الناس كلٌّ ضمن حدود مثلثه. وانقسم الناس الى طبقات أو جماعات أو فئات. فجماعة السحرة والعرّافين التي كانت تحيط بالكبير وتخدمه كانوا قلة قليلة. أغنياء أكثر من غيرهم، وأصحّاء أكثر من غيرهم، مخلصون، وأذكياء، وغامضون. لديهم قدرات سحرية عجيبة، فهم يستطيعون أن يعرفوا بالضبط ما الذي يدور في رأسك! هكذا قال عنهم المخلصون الذين يجوبون الشوارع ويخطبون بالناس. وبإمكانهم أن يعرفوا ما الذي خطر ببالك قبل لحظات. أخطر قدراتهم وأكثرها إبداعاً هي قدرتهم على التسلل خفية الى كل حلم، ومعرفة ما الذي دار هناك. هذا ما سمعته، ولم يكن لدي امكانية للتأكد منه. ولكنك لن تكون متأكدا من وجود أحدهم في الحلم خاصتك. لأنه وبفعل القدرات العجيبة التي اكتسبوها، وبفعل القدر الكبير من الحب والاخلاص للكبير الذي تشرب قلوبهم، صار بامكانهم أن يختاروا الهيئة التي يكمنون فيها داخل حلمك دون أن تشعر. هكذا كان الناس یقولون. هل سمعت قصة ذلك الشاب المنكود الذي حلم حلماً سيئاً ؟ سأل الإسكافي الجالس أمام دكانه في السوق وهو يخيط حذاءً قديماً . كانت القصة التي تداولها الجميع تقول أنه ذات ليلة حلم شاب حاقدٌ، شاب مريض، شاب مأخوذ بقوى ظلامية شريرة، أنه قد تسوَّر جدران قصر الكبير، رغم أنه لم يكن للقصر جدران ، فالجميع يعلم أنه بناء منفوخ. وزحف على الثيل الصناعي الذي غطّى أرض الحديقة، وتسلّق الجدار الخلفيّ، وصعد الى سطح القصر، وتسلل عبر السلالم، وكمن للكبير في أحد ممرات القصر. وهناك سمعه من خلال أحد الأبواب وهو يصدر أوامره للجنود، ويقودهم لتحقيق النصر، سمعه وهو يوجه كل جندي بصوت واضح كي ينبطح، وكي يتقدم خطوة، وكي يلتفت يميناً، أو شمالاً، ويصوب بندقيته الى جهة محددة، وأن يطلق رصاصة. تعجَّب وهو كامن خلف شجرة ظل بلاستيكية عند باب غرفة الكبير حين كان الكبير وحده، يا للروعة، يدير المعركة بحكمةٍ وقدرةٍ عجيبتين. وعند ذاك ندم على حقده الذي كان قد تملك قلبه. وشعر بالعار حين أدرك أنه كان يقضي الليالي الطويلة يكره الكبير، في الوقت الذي ينهمك الكبير بأداء عمله العظيم في إدارة شوؤن الحرب وتحقيق النصر. كيف سيكون مصير الجنود في ساحات المعارك عندما ينقطع سيل التوجيهات الضرورية عنهم؟ أجهش بالبكاء صامتاً. وتخيَّل كيف سيُتركون في ظلام جبهات القتال، هناك في الخنادق يتخبطون بلا تعليمات واضحة. لاشك أنهم سيصوبون بنادقهم لأخوانهم، وسيقتلون أشقائهم، وسيصطادهم أعداؤهم كطيور عمياء غبيّة. شعر بالندم والذلّ والعار. وعندها قرر التوبة. قرر أن ينسحب. فتسلّل عبر السلالم، ونفذ من خلال الثقوب عينها التي مر منها قبل قليل، وهبط الجدران عينها التي تسلّقها. كل الأشياء التي مر بها صاعداً متسلّلاً حانقاً عازماً على تنفيذ خطته الخسيسة باغتيال الكبير في قصره، مرَّ بها منسحباً، كان كل شيء شاهده وهو يتسلل منسحباً كما كان قد شاهده وهو يتسلل مقتحماً، بيد أن شيئاً واحداً قد تغيّر! كان ذلك الشيء هو. فقد صار شخصاً آخر تماماً. تخلّص من حقده ضد الكبير هناك عند شجرة الظلّ المصنوعة من البلاستك. حلم أنه عاد الى عربته التي كان يتخذها بيتاً نادماً. واستيقظ صباح اليوم التالي وهو يتصبب عرقاً، فقد أيقن أن حقده وكراهيته للكبير قد تمخض عنها حلمٌ مشين، ولكن حظه السعيد قد قاده لمعرفة الحقيقة، فتاب، وتغيرت فكرته عن الكبير. ولكنه أعتقل في اليوم ذاته. وقد واجهه المحققون بالدليل القاطع على جريمته. فقد كان أحد الرجال المخلصين في الحلم قد تنكر بهيئة نبتة ظل مصنوعة من البلاستيك! فلم يستطع الشاب المنكود من انكتر جريمته!

القتال
واصل الرجل الغريب حديثه: كان الشبان على اختلاف انقسامهم شجعانا مندفعين، لذلك فقد تقاتلوا في الخنادق التي تفصل بيبن المثلثات ببسالة. كرهوا بعضهم الى درجة باتوا يحلمون بقتل بعضهم. كانت أحاديثهم تدور حول موضوعين اثنين، حب كبيرهم وبيرقهم، وكراهية أخوانهم وجيرانهم ومواطنيهم من المثلثات الأخرى. كانوا شجعاناً، لذلك كانوا مستعدين دوما لخوض الحرب والموت في الخنادق سعداء. كان الشباب عند المواجهات يحاربون بكل شجاعة، ويتلذذون بالجروح، ويعشقون الألم. يفرحون حين يرون أن دماءهم تسيل، وحين يعرفون أن أرواحهم تزهق. ويفرحون حين يرون أنهم قد سفكوا دماء أعدائهم وأزهقوا أرواحهم. كان لا يشغل بال الشاب شيء سوى القتال. فكان يتدرب على القتال، ويحمل أدوات القتال، ويلعب بحركات القتال، ويلبس زيّ القتال. ويحلق شعره كما يفعل المقاتلون.
واستعجل الأطفال الانخراط بأجواء القتال، فاتخذوا من القتال لعبة لهم. فهم يتقاتلون في غرف النوم. ويتقاتلون في أحضان أمهاتهم وهم يرضعون الحليب الممزوج بالكراهية. ويتقاتلون في منازل أهلهم. وأمام منازلهم الكرفانية المنصوبة على عجلات، وفي الأزقة الضيقة التي تتخلل عرباتهم أو خيامهم أو أعشاشهم التي يبيتون فيها. يتقاتلون في الساحات وفي الشوارع وفي كل مكان وصولا الى ساحات التدريب القتالية، وانتهاءً بساحات الوغى الحقيقية عند الخنادق التي تفصل المثلثات.

قوانين
بموجب قوانين الحرب المتشابهة التي شرّعها الكبار، والتي دخلت حيز التنفيذ في وقت واحد منذ أن تسيدوا في مثلثاتهم، ومنذ ان انطفأت نيران الخندق التي لوثت رئاتنا بالكاربون، صار لزاما على كل شاب يبلغ من العمر ثماني عشرة سنة أن يلتحق بخدمة البيرق. وعليه أن يقضي مدة سنة في التدريب العسكري، وعليه أن يخدم في جبهات القتال مدة غير محدودة تزيد وتنقص على وفق الأوضاع الحربية المتغيرة. وقد بات الشبّان ينتظرون بفارغ الصبر الالتحاق بخدمة البيرق ليتأكدوا أنهم قد صاروا بالغين. وكثيرا ما تم سوق الأطفال الصغار الى المعسكرات لتعويض النقص الحاصل في اعداد الجنود. ولذلك يتم اسكانهم بمعسكرات منفصلة عن معسكرات الرجال البالغين! الا أن ذلك ربما يتغير حسب الأوضاع المختلفة. فقد جرى دمج الأطفال والجنود المستجدين في معسكرات مؤقتة عندما حصل هجوم على المعسكرات القديمة. وعندها اختلط الحابل بالنابل. فقد حصلت أمور غريبة، وساد الهرج والمرج ، ولم يستطع أحد في غضون تلك الأيام من النوم مطلقاً. فقد بقي الضباط وضباط الصف والمدربون يراقبون الوضع عن كثب لمنع حصول حالات غير قانونية. ولكنهم فقدوا التركيز بعد مدة بسبب السهر والأعياء. لذلك انخرط هؤلاء أيضا دون أن يلاحظوا ذلك بأعمال يحاسب عليها القانون. وعندما رفع المراقبون السريّون تقارير فورية الى مقر الكبير متوقعين أن يتخذ الكبير أجراءات سريعة لفصل الجنود من أجل المحافظة على النظام. تفاجأ الجميع بأن الكبير قد أقرَّ هذه الممارسات! واعتبرها قانونية! لا بل اعتُبرت دليلاً اضافياً على حب الكبير والاستعداد لخدمته وتنفيذ أوامره! ومنذ تلك الحادثة صارت الحرب حدثاً ماجناً. الا أن هناك فئة من الشباب لم تستطع إخفاء تذمّرها ورفضها لذلك. بيد أن التصريح لم يكن مسموحاً به على أية حال. كما أن عدداً من الجنود قد تم إعدامهم لأن المخلصين أكتشفوا أن أفكاراً سلبية كانت تدور في رؤوسهم سراً، أفكارا سلبية عن الحرب، وعن المبيت في معسكرات الحبّ. حيث تم منذ ذلك الوقت تبديل أسماء معسكرات الحرب فصارت معسكرات الحب. واختلطت فكرة حب الكبير والفكرة التقليدية للحب كما تعرفها الطبيعة البشرية في أذهان الناس بطريقة يصعب فصلها! ويصعب فهمها! فقد لاحظ الشباب أنهم يعانون من توترات غريبة عند مشاهدتهم صور الكبير. وصارت التضحية بالنفس في ساحات القتال من أجل الكبير ترافقها لحظات من الإندماج النفسي والتوحد مع الكبير. وتسلل حب الكبير الى الغرف الخاصة أيضاً، فلم يعد المرء قادراً على التمييز بين ماهو خاص وبين ما هو عام. فقد تداخلت الأمور مع بعضها بطريقة يصعب فصلها. هكذا هو القتال في مدينتنا.

التحقيق
وحيث أن أفراد العسس المسئولين عن مراقبة المثلثات من الداخل بعيدا عن خطوط المواجهة مع العدو محرومون من ممارسة القتال البطولي. فعملهم لا يتضمن قتال الأعداء بل يتضمن التحقيق مع المشتبه بهم بجريمة كراهية الكبير، أو محاولة قلب نظام الحكم، أو التخابر مع العدو. لذلك كان عليهم ابتكار طرق جديدة تشعرهم بالأهمية والسعادة، وتعوّضهم عن الحرمان الذي كانوا يعانونه حين وجدوا أن دورهم في الخدمة دور ثانوي لا يتضمن الفروسية الحقّة. فعدوهم الذي بين أيديهم غالباً ما يكون عاري الجسد، معصوب العينين، مقيد اليدين والرجلين. وواجبهم ينحصر بانتزاع اعترافات منه تمهيدا لتنفيذ حكم الاعدام به فقط. ولا يتضمن واجبهم المناورة والتخفي والرصد والاستمكان والهجوم والانسحاب والانقضاض وصبّ النيران على العدو، وما الى ذلك من الأعمال المثيرة الجميلة. فكيف لهم أن يمارسوا مع المسجون فنون القتال؟ وكيف لهم أن يعبروا عن رغباتهم المكبوتة لممارسة القتال؟ ومع هذا فلم تمنع تلك الأوضاع الغريبة المحققين المخلصين. ولم تمنعهم القوانين التي وضعوها في أدراج مكاتبهم والتي لا تجيز استخدام العنف والتعذيب ضد السجناء الا في حالات خاصة. فقد اعتبروا أن كل عملهم يندرج ضمن الحالات الخاصة. فقد قاتلوا السجناء معصوبي الأعين ومقيدي الأيدي والأرجل بكل بسالة. وثبوا عليهم وداسوا على أفواههم بالأحذية، فسالت الدماء منهم. وطرحوهم أرضاً، وكسروا أضلاعهم، وكسروا إعمدتهم الفقرية. وأدخلوا أسياخ حديد التسليح المحززة الصدئة في مؤخراتهم. شاهدوهم وهم يتألمون. وشعروا بالسعادة الغامرة وهم يمارسون فنون القتال أسوة بأقرانهم المقاتلين الحقيقيين الذين كانوا يخوضون المعارك في الخنادق وفي جبهات القتال. وبدلاً من البنادق الآلية استخدموا المزارف الكهربائية. فثقبوا بها أرجل المعتقلين الذين كانوا يصرخون ألماً. وحفروا بها أفخاذهم وأكتافهم وأيديهم وصولاً الى عيونهم وجباههم. كانت سعادة هؤلاء المحققين الشجعان الذين لا تخيفهم تلك المشاهد تتجلى بأعلى صورها حين يقصّون على زوجاتهم وهم في غرف النوم، وفي أكثر اللحظات حميميةً قصص التعذيب تلك. فيمتزج الحقيقي مع المتخيل في مشاهد نادرة يسعد بها الرجال والنساء معا في لحظات الحب تلك!
وقد كانت أتعس اللحظات التي يمر بها هؤلاء المحققون الأبطال هي تلك اللحظات التي يفقد المعتقل فيها وعيه فلا يعود يتألم. يكفُّ عن الصراخ ويهوي جثة هامدة لا حراك فيها. فتبدأ عمليات الإفاقة مرة بالماء البارد، ومرة بالحقن الطبية. تتوقف حفلات التعذيب عند توقف الأحساس بالألم. ويتوقف الاحساس بالنشوة عند توقف الاحساس بالألم. يا له من حظ عاثر! قال الضابط المحقق عندما سقط السجين مغمياً عليه بلا حراك تحت قدميه. يعاد المعتقلون الى زنزاناتهم، وربما يعالجون على أيدي أطباء وممرضين، وغالباً ما يقدم لهم العلاج والطعام من أجل استعادة عافيتهم مرة أخرى، ليس حباً بهم، ولا عطفاً عليهم، ولا تنفيذا للوائح القانونية الملزمة الموضوعة على الرفوف ربما والتي تنصّ على حسن معاملة السجناء. بل من أجل أن يكونوا قادرين مرة أخرى على الأحساس العميق بالألم حين تنزل عليهم العصي، والكابلات، وحين تنتزعُ الأدواتُ أظافرَهم. وحين يمر التيار الكهربائي عبر أسلاك تربط بأعضائهم التناسلية في ساحات القتال المغلقة تلك. وامتزج حب الكبير هنا في قاعات التعذيب بممارسات التعذيب المبتكرة فاكتسبت نكهة لذيذة هي الأخرى، لذلك فقد ابتكر المحققون طرقا جديدة لاغتصاب السجناء والسجينات تعبيرا عن التوحد مع الكبير!
واصل الرجل حديثه: ولم تكن ساحات القتال الحقيقية المغلقة أقل أثارة من ساحات القتال المفتوحة. بل أن بعض المحققين المبدعين اخترعوا ساحات قتال أشبه بالحقيقية. فقد تم نقل السجناء معصوبي الأعين ومقيدين وعراة الى أرض قاحلة تحيط بها التلال الجرداء. هناك وتحت شمس النهار الحارقة، وفي الليالي الباردة المظلمة، تم ممارسة أجمل فنون القتال معهم. ولم يفت هؤلاء المقاتلين الغيارى التقاط بعض الصور التذكارية التي عرضوها على نسائهم في غرف النوم، وعلى أصدقائهم ، وربما عرض بعضهم تلك الصور على المستشارين والمخلصين المقربين من الكبير على أمل الحصول على ترقية أو مكافأة. عندما فقد السجناء حياتهم هناك، تم اطلاق سراحهم. فنزعت القيود من معاصمهم، والحبال والسلاسل من أرجلهم. وتم رفع عصابات أعينهم. وزودهم المحققون الأبطال بشتى أنواع البنادق التي وضعت في أيديهم وهم موتى. ثم تم أطلاق النار عليهم تماماً كما يتم اطلاق النار على اعداء حاولوا التسلل الى داخل مثلثنا. وغالبا ما كانت تنشر مثل تلك الصور على صفحات الجرائد في اليوم التالي كأخبار عن تحقيق انتصار كبير وذلك من خلال احباط محاولة غزو دنيئة قام بها الأعداء بمساعدة العملاء. وهكذا استمرت المعارك بين الجماعات الأربع زمناً طويلاً. وسالت الدماء. وسُمِّمتْ الأنهار، وهُدِمتْ المباني الرائعة الموغلة في القدم، وجفتْ الحقول. صار الهواء مشبعاً برائحة الكراهية والموت والدخان.
ثمة حرب أخرى أكثر إيلاما من كل الحروب، واصل حديثه، فقد اكتسب المخلصون مكانة مهمة في كل المثلثات. وصاروا بمرور الزمن طبقة نافذة، فهم يتقاضون أعلى الأجور، وينالون أكبر قدر من الاحترام، كونهم مقربون من الكبار. بامكانهم وحدهم أن يقولوا للناس ما يريد الكبير قوله. وقد سمعتُ أحدَ المخلصين يقول ذات مرة عندما كنت متخفياً، ولم يكن يعلم بوجودي، أو ربما كان يعلم ولكنه لم يعر لوجود حقير مثلي اهتماماً، سمعته يقول: نحن المخلصون لا نقول للناس ما يريدنا الكبير أن نقوله، فهذه مهمة بسيطة أن يقول لك أحدهم قل كذا فتقول أنت كذا. إذن فأنت لست أكثر من بوق، أو مكبر صوت على الأكثر. الذي لا يعرفه الكثيرون هو أن الكبير لا يعرف ما يجب أن يُقال. نحن المخلصون الأفذاذ الاذكياء، نحن فقط بامكاننا أن نعرف ما يود الكبير قوله، فنقوله بطرق أكثر ذكاء، وأبلغ مما كان يتمنى هو. نحن نلعب دورا مهما يا صديقي. قال يحدث رفيقه. علينا نحن أن نفهم ما يدور في عقله من خلال تقلصات عضلات وجهه، من شكل امتعاضه، من طريقة غضبه، من زمجرته، من طبيعة الكلمات البذيئة التي تتدفق منه في هذا الموقف أو ذاك، من خوفه الذي لا يعرفه أحد غيرنا، من تردده، من خطواته حين يذرع القاعة جيئةً وذهاباً، من دون أن يلفظ كلمة واحدة، من طبيعة اهتزاز حباله الصوتية حين يقول، من تلك الاشارات الصغيرة نعلم ما يودُّ أن يكون الخطاب للناس. فنقوله، وأحيانا نعرضه عليه قبل قوله للناس، فنرى اندهاشه، وفي كثير من الأحيان يستطيع الذهاب الى النوم مرتاحاً عند سماعه لمقترحات الخطاب. لا بل تعدَّتْ خبراتنا الى درجات لا يستطيع أحد التصريح بها. أحيانا لا يُسمحُ لنا بمقابلة الكبير لنعلم ما يريدنا أن نقول للجماهير التي تنتظر. أحيانا يكون وضعه سيئاً جداً بحيث لا يجوز أن يطّلع على حالته أحدٌ الا المقربون جداً. لذلك طوَّرنا ملكاتنا لنعلم ما يريد قوله من خلال رائحة برازه! هل تصدق ذلك؟ أو من خلال رائحة عرق جسمه حين يتم القاء ملابسه لتؤخذ الى قسم الغسيل والتعقيم المركزي الملحق بالقصر. طبعا فنحن نمتلك قدرات هائلة. نحن عماد النظام وأساسه. بجهودنا نحن يسير كل شيء. تمكنّا من معرفة ما يصلح أن يُقال. كنا نتتبع آثارا لا يعلمها غيرُنا ياصديقي. الحق اننا نؤدي دوراً أهم من الكبير نفسه! قال المخلص المتذمر. واصل الرجل الغامض روايته، وفي مراحل لاحقة، رأيتُ بعض المخلصين يعبرون الأرض الحرام ليلاً، يتخفون، ويتسللون عبر خنادق القتال غير المحروسة جيداً، صاروا يتبعون أساليبي في التخفي والمرور. فعبروا من مثلث الى آخر، عبروا من خلال مزارع الموت الشاسعة، وعبروا بعد أن توغلوا في مجاري الأنهار القديمة المليئة بالرمال المتحركة. بعضهم أدعى الموت، فلما حمله أهله الى المقبرة ودفنوه، نتق من القبر عند حلول الظلام، وقصد مثلث الأعداء. رأيتُهم بعينيّ، وسمعتُ كلامهم بأذنيّ هاتين، ورأيتُ كيف تم شحن بعضهم بصناديق، وتم تسليمهم الى كبيرهم القديم بعد أن تم في وقت ما عقد اتفاقية صلح وصداقة وتعاون بين كبيرين متنازعين! كانت أحدى شروط الاتفاقية تنصُّ على تسليم لزوم الأسرى وتبادل السجناء، وقد وجد القانونيون المخضرمون الذين لا يصعب عليهم شيء في هذه المادة مدخلاً لاعتبار المخلصين المرتدّين، والخونة الهاربين من مثلثهم والملتجئين الى مثلث آخر كأسرى. وحيث أن الكبار الأربعة في حالة تنافس وحرب، فقد سعى كل منهم لتعظيم موارده، وسعى كل كبير لتقليل موارد خصمه بشتى الطرق. وهكذا تم بيع الأنهار للجيران، وتم التنازل عن الأراضي، والشواطيء والبحار. الا ان ذلك كان يتم بسريّة عالية. ويتم إشاعة أخبار أخرى بين الناس مختلفة عما كان يجري على أرض الواقع. فقد أشيع أن الضباع قد باعوا نهر الزيتون، اذ قطّعوه الى قطع صغيرة، ووضعوها في علب وشحنوها الى جهة مجهولة! وأُشيع أيضا في مثلث آخر أن النمور قد شدّوا ضفاف نهرالنخيل بحبال طويلة، وجروه الى جهة مجهولة! أما العقارب فقد حفروا خنادق تحت نهرالتين، وأوقدوا النيران فيها فأخذ النهر بالغليان ثم تبخر! واستخدم الحيتان قواهم السحرية الرهيبة التي جعلت نهر البرتقال يختفي ببساطة! ولم يبق في وادي الأنهار الأربعة نهر. وللحقيقة فأنا لم أشهد بنفسي ما فعلت المجموعات المتقاتلة بالأنهار، ولكن تلك الأخبار كان يتم تداولها بين الناس. الأمر المؤكد هو أنني رأيت الأنهار قد أختفت من الوادي.
كان المجانين والفنانين غريبو الأطوار خارج الخيمة يستمعون، كانوا ينصتون بصمت لما يقول، ثم تنفجر موجة من الاضطراب بينهم. ردّات فعل غريبة كانت تحصل. البعض كان يناقش، والبعض كان يتأوه، وبعضهم كان يجهش ببكاء مرير. في تلك الساعة كانت بغداد تستعيد نشاطها اليومي المحموم الاعتيادي، وكأن شيئا لم يكن. عندما كانت أشعة الشمس الذهبية تدفئ الشوارع والأبنية والناس.



#حامد_تركي_هيكل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هو الذي رأى كل شيء _الجزء السادس
- هو الذي رأى كل شيء _الجزء الخامس
- هو الذي رأى كل شيء _الجزء الرابع
- هو الذي رأى كل شيء _الجزء الثالث
- هو الذي رأى كل شيء _الجزء الثاني
- هو الذي رأى كل شيء _الجزء الأول
- سالم ابن دَهَش -ج4 والأخير
- سالم ابن دَهَش -ج3
- سالم ابن دَهَش -ج2
- سالم ابن دَهَش- ج1
- دوامة الأوراق
- حلم بورجوازي سخيف
- جريمة قتل
- سلسلة فنارات -ج4- الرائد والمقدم-الحلقة الثالثة
- سلسلة فنارات -ج4- الرائد والمقدم-الحلقة الثانية
- سلسلة فنارات -ج4- الرائد والمقدم-الحلقة الأولى
- سلسلة فنارات- الجزء الثالث- جاسم جليل
- البصرة عام 2075
- بوادر الفساد في البصرة
- حتى الهواء يا أمي


المزيد.....




- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حامد تركي هيكل - هو الذي رأى كل شيء _الجزء السابع