أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حامد تركي هيكل - حكاية سعيد الورّاق















المزيد.....

حكاية سعيد الورّاق


حامد تركي هيكل

الحوار المتمدن-العدد: 6865 - 2021 / 4 / 10 - 16:30
المحور: الادب والفن
    


العام 2010
منذ ان أُحيل سعيد الورّاق الى التقاعد قبل خمس سنوات، أو ربما عشر سنوات، أو خمس عشرة سنة، لم يعد متأكداً تماماً، واظب على الحضور الى مقهى سلمان كلَّ صباح، وكلَّ مساء. يجلس على التخت الذي وُضع على الرصيف، تحت شجرة التوت المعمّرة، في شارع الكرادة داخل. يرشف استكان شاي، وينظر الى المارّة الذين لا يعنيه أمرهم.
كلَّ يوم، يأتي الى المقهى بعد تناول الافطار وحيداً أو مع من يصادف وجودُه ضيفاً عنده من أقربائه الذين يسكنون مدينة الحلّة، والذين كثيراً ما يترددون على بغداد للعلاج أو لأسباب أخرى، فهم لا يجدون أفضل من بيت العازب سعيد مكاناً لإقامتهم، فهو مفتوح للجميع دائماً. بعد أن يجلب بعض المشتريات من أجل غداء الضيوف من السوق القريب من بيته، كالخضروات واللحم وما شابه، يجرجر جسمه الذاوي، ويجلس على تخت المقهى، ليترك لهم أمر اعداد الغداء كيفما شاءوا، أما إن لم يكن لديه ضيوف فهو لا يشغل باله بموضوع وجبات الطعام، يكفيه أن يأكل لفة فلافل من باسم الخِبِل، أو شيش معلاگ من شكّوري الكبابجي، هذا يكفي .
كل يوم يجلس على تخته المعتاد حتى صار جزءً من المشهد اليومي لهذا الجزء من شارع الكرادة داخل. رجلٌ نحيف متداعي، يرتدي أيام الصيف قميصاً فضفاضاً لونه سمائي، وبنطال أسود، يضع على رأسه عرقجيناً أبيضاً، ويلبس نعلا من الجلد مفتوحاً أسود اللون . أما في الشتاء فلا يكاد يظهر منه سوى معطفه الرماديّ و سدارة وحذاء وبنطال أسودان. لايهتم كثيراً لحلاقة شعروجهه. من ينظر اليه يشعر إنه أمام رجل حزين، أو محبط.

وسواء كان الوقت صيفاً أم شتاءً، لا يتذكر أحدٌ أنه رآه من دون سحابة الدخان التي تلفّه، ذلك لانه كان يدخن باستمرار، يشعل سجارته التالية من السابقة بيده المرتجفة دون الحاجة الى عود ثقاب أو قدّاحة!
يدهشه تغير المكان بسرعة مذهلة، عمارات جديدة، سيارات جديدة، أناس جدد لا يعرفهم، ولا يعرفونه. أغاني جديدة تتردد، وحتى أشعار حزن دينية جديدة. يفكر ما الذي جرى للمكان؟ ما الذي جرى للناس؟ ما الذي جرى له؟
كل يوم منذ أن تقاعد سعيد كان يفكر بصديقه حقّي عبد الحسن الذي عمل معه في شعبة الذاتية، وصديقه خلف الذي كان يجلس معه هنا ذاك الذي كان يعمل في قسم الصيانة التابعة لدائرة الكهرباء، وزهر الدين أبو حدبة الذي كان مسّاحاً بدائرة الطابو. كانوا يلتقون هنا عصر كلّ يوم يلعبون الدومنه ويشربون الشاي، وقد تعاهدوا على اللقاء هنا بعد التقاعد كل يوم، ولكنّهم اختفوا، جميعهم اختفوا. أما ضيوفه الذين يتوافدون الى بيته ويذهبون، فهو لا يشعر برغبة بالتعرف اليهم، أو الاستماع الى حكاياتهم. هم غرباء عنه رغم أنهم اقرباؤه. لهم عالمهم الخاص، وهمومهم الخاصة التي لا يشعر برغبةٍ للولوج فيها.
لذلك كان يقضي الساعات في تذكّرها هيَ، كان يصبِّ جامَ غضبه عليها، تلك المرأة التي طالما كرهها. تعجّب من مقدار الغضب الذي خلّفتْه تلك المرأة في روحه طوال تلك السنوات، تعجّب من مقدار الكراهية التي زرعتها ونمّتها في قلبه. يا لها من امرأة قاسية، ومكروهة. ترى كيف كانت ستكون حياته لو أنه لم يعرفها؟ كان يتسائل!

العام 1979
يكرهها فحسب، لا إحساس يفوق كرهه لها، لا مشاعر أخرى يمكنها أن تطغى على كراهيته لها، تلك الموظفة التي ناصبته العداء منذ اليوم الأول لهما معاً في دائرة الشؤون الثقافية. لا يعلم هل أحسّت أن عليها أن تنافسه وأن تتفوق عليه دون غيره! هل لأنهما التحقا بالعمل في اليوم ذاته؟
كانت محظوظة أكثر منه، وكانت جميلة جداً، وسعيدة جداً، وكانت مُقدمة عليه في كل شيء. نسَّبَها المديرُ للعمل في العلاقات العامة، فيما نسّبه للعمل في الاضابير. منذ اليوم الأول كانت مثل سكينة إنغرزتْ في خاصرته. يرد اسمُها في كلِّ كتاب مكافآت، وعندما وزعوا للموظفين أراضٍ سكنية ظهر اسمها في اللائحة ولم يظهر اسمه. قالوا له إطمئن، لا تقلق، ستكون ضمن الوجبة الثانية التي انتظرها خمساً وعشرين سنة، ولكن تلك الوجبة لم تُعلن! أخذت منه الترقية الى درجة رئيس ملاحظين والتي انتظرها بفارغ الصبر. واستحوذت على الايفاد الى لبنان الذي بنى عليه آمالاً كبيرة. صارت كابوساً يجثم على صدره. كان يحدِّث اصدقاءه عن مكرها، وعن مؤامراتها الخسيسة، عن ألاعيبها من أجل الوصول الى اهدافها. كان يقول عنها إنها أنانية، وصولية، وانتهازية. كان يمقتها الى أبعد حدٍّ يمكن تصوره.

العام 2020
يجلس على طاولته في المقهى يومياً، ليس معه اصدقاء، ولا يعلم تماما أين ذهبوا. ذاك ماذا كان اسمه؟ حيدر؟ نعم ربما كان اسمه حيدر عبد الحسن، موظف الذاتية، سمع أنه يقيم الآن في تركيا. وذاك الطويل الغبيّ ماذا كان اسمه، عليه اللعنه، نسيَّه، ذلك الذي كان يعمل في قسم الصيانة، يمكن أن يكون قد عاد الى قريته. طالما كان يتمنى ذلك.

وذاك الآخر الذي كان يسعل دائماً بفعل السجائر الرديئة التي كان يدخّنها، ماذا كانوا يلقّبونه؟ أبو حدبة! تباً له! يقولون أنه مات. تباً لهم جميعاً.
ها هو يجلس على تخته وحيدا يرشف استكان شاي ثم يغفو، ثم يصحو، ثم يغفو، مراراً وتكراراً. كان يراها كل يوم في غفواته شابةً جميلةً، ترتدي تنورة تُظهر ساقيها العاجيين، وقميصا ملوناً بأوراق زرقاء وازهار بيضاء بكمين قصيرين يُظهران زنديها البيضاوين. حين تمشي أمامه تتطاير زهور القميص فجأة في الهواء، تتحول مشيتها الى رقص، تنمو أغصان القميص فتلتفُّ حوالقُها فجأةً على الجدران، وعلى أغصان شجرة التوت المعمّرة، وعلى تخت المقهى، وحول الحصير المفروش تحته، وتزحف الأغصانُ بكل الاتجاهات وتصير عريشةً تحجب قرص الشمس، و فراشاً وفيراً تتمتد هي عليه فيما يتطاير شعرُها الكستنائي فيبلغ الافاق، وتتردد ضحكتُها المفعمة بالسعادة بين سفوح الجبال، وتداعب أصابع قدميها اسماكَ البني اللاهية في الأهوار . تنموالازهارُ البريّة حول رقبتها، وتتفجرُ العطورُ في الارجاء. ويظلُّ هو فاغراً فاهُ.
نعم إنها هي، هي الوحيدة التي ظلّتْ تؤنس وحشته، وتمنحه السعادة. يشعر بعنفوان الشباب، ويزداد نبض قلبه، تتدفق الدماء في جسده المتوثب الطافح بالقوة والرغبة، يعودُ شابّاً، ويشعر أنه يحبُّها منذ زمن بعيد، منذ اليوم الذي التحقا فيه معاً بتلك المديرية، ماذا كان اسمها تلك الدائرة؟ سحقاً، لا يهمُّ. المهم أنه لا زال يحبُّها هيَ بجنون، ويشعر أنه على وشك الاندلاق حباً.
عندما يهزّه سلمان صاحب المقهى لايقاظه من غفوته، يعرف كم كان كريهاً ومعادياً هذا السلمان الحقير الذي يقصد حرمانه من سعادته معها، تلك السعادة التي لم يعد له في هذه الحياة شيءٌ سواها. ويتعمد سلمان دوماً دفعَه الى حضيض الشيخوخة المرّ.



#حامد_تركي_هيكل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كاميرات ثلاث -الجزء الثالث
- كاميرات ثلاث -الجزء الثاني
- كاميرات ثلاث -الجزء الأول
- خيالات
- هو الذي رأى كل شيء _الجزء التاسع والأخير
- هو الذي رأى كل شيء _الجزء الثامن
- هو الذي رأى كل شيء _الجزء السابع
- هو الذي رأى كل شيء _الجزء السادس
- هو الذي رأى كل شيء _الجزء الخامس
- هو الذي رأى كل شيء _الجزء الرابع
- هو الذي رأى كل شيء _الجزء الثالث
- هو الذي رأى كل شيء _الجزء الثاني
- هو الذي رأى كل شيء _الجزء الأول
- سالم ابن دَهَش -ج4 والأخير
- سالم ابن دَهَش -ج3
- سالم ابن دَهَش -ج2
- سالم ابن دَهَش- ج1
- دوامة الأوراق
- حلم بورجوازي سخيف
- جريمة قتل


المزيد.....




- -بنات ألفة- و-رحلة 404? أبرز الفائزين في مهرجان أسوان لأفلام ...
- تابع HD. مسلسل الطائر الرفراف الحلقه 67 مترجمة للعربية وجمي ...
- -حالة توتر وجو مشحون- يخيم على مهرجان الفيلم العربي في برلين ...
- -خاتم سُليمى-: رواية حب واقعية تحكمها الأحلام والأمكنة
- موعد امتحانات البكالوريا 2024 الجزائر القسمين العلمي والأدبي ...
- التمثيل الضوئي للنبات يلهم باحثين لتصنيع بطارية ورقية
- 1.8 مليار دولار، قيمة صادرات الخدمات الفنية والهندسية الايرا ...
- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حامد تركي هيكل - حكاية سعيد الورّاق