أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حامد تركي هيكل - حكاية موت الدكتور سلمان















المزيد.....



حكاية موت الدكتور سلمان


حامد تركي هيكل

الحوار المتمدن-العدد: 6946 - 2021 / 7 / 2 - 09:06
المحور: الادب والفن
    


(توفيَّ الأستاذ الدكتور سلمان داوود الفرج اليوم بعد صراع طويل مع المرض عن عمرٍ يناهز الثمانين عاماً).
نشرت أحدى الصحف المحلية الصادرة في البصرة هذا الخبر المقتضب في زاوية على إحدى صفحاتها الخلفية. فيما ظهر في الموقع الاليكتروني لجمعية الباحثين الزراعيين نعيٌّ بسيط مع ملخص للسيرة الذاتية للفقيد. عدا هذين الخبرين يبدو أن أحداً لم يهتمَّ لهذا الحدث، إذ ليس للمتوفى أهل، ويبدو أنه غير معروف للأهالي.
السيرة الذاتية
ولد سلمان داوود فرج في البصرة، قضاء شط العرب عام 1940.وأكمل دراسته الابتدائية والمتوسطة والاعدادية في مدارسها، ثم انتقل الى بغداد ليدرس الهندسة الزراعية في جامعتها التي تخرج فيها مهندساً زراعياً. التحق بعدها ببعثة الى إنكلترا للحصول على درجتي الماجستير والدكتوراه في الهندسة الوراثية للنبات. عاد بعدها الى البصرة حيث عمل في دائرة الزراعة مرشداً زراعياً، ثم عمل سنوات عدة باحثاً ومديراً لمركز البحوث الزراعية. حصل على درجة الاستاذية، ونال عددا من الجوائز لعمله البحثي. تقاعد عن العمل عام 2004. وتوفي في العام 2021 في بيته الذي يمتلكه والواقع في حي البراضعية. كان مقعداً في سنواته الأخيرة، يقوم معين بنغالي الجنسية على خدمته، إذ وظّفه أقرباء الدكتور ليقوم بهذه المهمة. لم يتزوج، بل عاش عازباً. وفي سنواته الأخيرة لم يكن له أصدقاء.
السرير
بين النوم واليقظة يراوح سلمان داوود فرج البالغ من العمر نحو ثمانين عاماً وهو مستلقٍ منذ مدة لم يعد يتذكر أمدها على سريره الحديدي الذي علا الصدأُ قضبانه، واختفت ألوانه وانطفأ لمعانه. سرير ذو أرجل سوداء تحمل مستطيلا حديديا ثقيلا له تراكيب تشبه المفاصل، عبارة عن رؤوس تدخل بتجاويف ناتئة من أرجل السرير الأربعة، ربطت في المستطيل حصيرة متكونة من نوابض وسلاسل حديدية لم تعد تعمل، بل تهدّلت وتقطّع بعضها، وفُقدت بعض حلقاتها، لذلك تمَّت الاستعاضة عنها بألواحٍ خشبية ثقيلة من خشب الجاوي الأحمر اللون، فالخشب المستوي أفضل لفقرات الظهر، هكذا كان يُقال دائما، والخشب أحنُّ على الأنسان من المعدن، هكذا قيل أيضاً. فقد رافق الخشبُ الأنسانَ منذ أول يوم في رحلته التي بدأها منذ فجر البشرية الأول، كان يتخيَّل الأنسانَ الأول بهيئة قردٍ حمل غصن شجرة ونزل منها ليجوب الغابة بعد أن سئم بقاءه هناك.
لم يعد يتذكر متى وُضعت ألواح الخشب على السرير، ولكنه يتذكر أن حشرة الأرضة كانت قد هاجمت ألواح الخشب تلك، لذا تم طلاء الألواح بزيت الحوت المسمى زيت الصلّ والذي كان متوفراً دوماً من أجل دهن أخشاب السفن لحمايتها من الماء وديدان الماء. يتذكر سلمان ذلك جيداً. إبان طفولته البعيدة، وحين تظهر العيوب على البلم الذي تمتلكه عائلته، كانت تتم دعوة القلّاف . وقبل مجيئه كان لابد من شراء بضع صفائح من زيت الصلّ ذو الرائحة الكريهة، فضلا عن القطن، ومواد أخرى. وحين يأتي القلّاف، يتم الايعاز باخراج البلم من النهرلإصلاحه.
يتذكر سلمان داوود دائماً القلّاف ذلك الشيخ ضئيل البنية، الذي كان يتكور دائماً مقابل البلم وبيديه المعروقتين أسفين ومطرقة صغيرين، وبأصابعه النحيلة الطويلة كان يفتل حبال القطن ويدخلها بطرقات خفيفة بين الألواح وهو يصدر همهمة متواصلة. حاول سلمان منذ كان صغيراً أن يتبيَّن ما الذي كان يقوله القلّاف . ولكنه لم يفلح. كان القلّاف يهمهم، أو يصدر دويّاً متواصلاً رتيباً، طيلة ساعات العمل في النهار كان يئن . وفي ساعات الليل حين يأوي الى فراشه كان يئنُّ أنيناً خافتاً أيضا مثل خلية نحل. هل كان يغني أغنية ما؟ كثيراً ما راقبه من بعيد، وعن قرب متوارياً عن الانظار خلف الأشياء المتناثرة في ورشة اصلاح الزوارق الموقتة تلك التي كانت تحت أشجار النخيل. كان ينظر الى وجه القلّاف علّهُ يفهم منه ما الذي كان يتمتم به باستمرار وسكينة، ولكنه لم ير الا دموعاً كانت تنهمر أحياناً من عيني الرجل المتقرحتين. وحين يكتشف اقتراب الطفل منه، يبتسم له، ثم يعاود حشر القطن بين الألواح.
لا يعلم لِمَ بقيت هذه الذكرى كل تلك السنين، هل بسبب غموض ذلك القلّاف غريب الأطوار، أم لسبب آخر ربما يتعلق بتلك الرائحة التي علقت بذاكرته والتي ما انفكت تحضر بقوة كلما مرض أو ظنَّ أنه يقترب من الموت. أو ربما كان حضور الرائحة الآن كونهم قد دهنوا ألواح سريره بذلك الزيت المقرف.
ولكن سلمان لا يتذكر مَنْ دهن ألواح السرير بزيت الصلّ. يا له من قرار كان من نتائجه أن يظل يشمُّ رائحة الزيت الكريهة كل سنين عجزه الطويلة حتى اللحظات التي سبقت موته. لم يكن يدري أن ذلك القرار كان يتسبب بجعل لحظات موته الأخيرة برائحة السفن. رغم أن أحد أقربائه الذي كان يتردد على زيارته أقسم له أن تلك الألواح قد استُبدلت بأخرى، ورغم أن أحدهم شرح له أن ذلك السرير لم يعد له وجود وأنه الآن ينام على سرير طبي متحرك، الا أن كل تلك المحاولات باءت بالفشل. لأنه ظل مؤمناً حتى لحظة موته أنه كان يستلقي على ذلك السرير البرونزي الصديء الذي تنبعث منه رائحة البحر.
والى جانب الذكرى القديمة جداً للقلاف القلّاف والتي تعود الى سنوات طفولته التي قضاها بين النخيل على ضفة شط العرب ، كان يتذكر أيضا زملاءه في مركز البحوث الزراعية. ذلك المكان الذي قضى فيه ردحاً طويلاً من عمره. أكثر من ثلاثين سنة عاشها مع زملاء له في ذلك المركز كانت كافية لتجعلهم حاضرين في ذهنه في كل ساعة. يتذكرهم،الدكتور الطويل والقصير وآخرون، ويحاورهم، يحبهم، ويكرههم. لا يعلم الآن ما الذي حلَّ بهم، فقد انقطعت أخبارهم عنه منذ سنوات.
غرفته التي يستلقي فيها على سريره واسعة لها باب وشباك يفتحان على الحديقة من جهة الجنوب حيث كانت فيما مضى شمسُ الضحى تتسرب شتاءً لتدفيء عظامه ومفاصله، قبل أن يغلق جدارٌ أصمٌّ من البلوك منظر حديقته الجميل، تلك الحديقة التي بذل فيها جهده وخبرته لتكون مصدر سعادته. أما من جهة الشمال فثمة باب يؤدي الى ممر يؤدي الى باقي غرف البيت. وثمة باب أيضا يفتح من هذا الممر على حمامه الخاص، لكنه لم يعد يتذكر تفاصيل الحمام الذي لم يدخله منذ سنوات. وعلى الجدار المقابل له عُلقت أطر خشبية بشكل متناسق هي لوحات تحمل شهاداته ووثائق حضوره للمؤتمرات، والشهادات التقديرية والجوائز الكثيرة التي نالها عبر مسيرته العلمية التي امتدت عقوداً عديدة. ولكنه لم يعد يتذكرها. بل ما عادت تسترعي انتباهه. فبدأ النسيان يطويها. أصفرَّ ورقها، وطمست حروفها بسبب رطوبة الجدار، أو بسبب ضعف بصره.
بيته هذا هو الشيء الوحيد الذي يمتلكه، فقد حثه زملاؤه منذ زمن بعيد على ضرورة أن يكون له بيت يعيش فيه. كان طوال حياته الماضية وبعد أن أتت الحرب على بيت العائلة وبستانها الواسع الكبير يعيش وحيداً في إحدى غرف مركز البحوث الزراعية. كان هو الوحيد الذي يعمل ويعيش في المركز لا يغادره أبدا. ولكنه إقتنع في وقت سابق بضرورة امتلاك مسكن، فاشترى قطعة أرض كبيرة في البراضعية، هي تقريباً بستان، تضمُّ بضع نخلات وبضع أشجار أخرى، وبنى لنفسه بمساعدة الزملاء مسكناً صغيراً جداً، وترك معظم مساحة الأرض كحديقة. كان يجري فيها تجاربه الزراعية بعد تقاعده، وقبل أن يقعده المرض. كانت حديقته ومنزله الصغير ملتقى الباحثين والمهتمين بعلم النبات. فمن لا يجد المعلومة في مكتبة الدكتور الغنية يجدها في نماذج النباتات الغريبة التي زرعها في حديقته، سواء في أصص أو في بيوت زجاجية صغيرة، أو تلك التي علقها على الجدران، أو تلك النماذج المحنطة المجففة من الزهور والاعشاب والجذور والفواكه المحفوظة يعناية فائقة في مجلدات أو في علب زجاجية. وان لم يجد ضالته لا هنا ولا هناك، وجدها في ذاكرة الدكتور الغنية بالمعلومات. هذه الحديقة التي كان يعلم أنها بقدر ما وفرت له مسكناً آمنا يقضي فيه آخر سنوات عمره، الا أنها في الوقت نفسه كانت وبالاً عليه. فقد ظهر له أقارب بسببها. أقارب لم يكن يعرفهم سابقاً، ولا يريد أن يعرفهم. هم ثلاثة رجال مزعجون، ملابسهم قذرة تفوح منهم روائح نتنة حين ياتون اليه، الا أنهم كانوا يتقرّبون اليه، ويظهرون له حبهم، وحرصهم عليه. اضطر لعمل وكالة لأحدهم لاستلام راتبه التقاعدي الذي لم يعد يعلم مقداره، ولكنهم كانوا يصرفون عليه من ذلك المبلغ لشراء كهرباء، ولدفع راتب كومار البنغالي الذي وظّفوه هم لخدمته، ولشراء بعض المواد الغذائية، وبعض الأدوية ربما.
أما في السنوات التي استلقى إبّانها على سريره، فقد علت طبقة من السخام جدران البيت، واختفت مقابض الأبواب، وانخلعت بلاطات الأرضية، وصدأت أنابيب المياه، وما عادت الحنفيات تعمل، فتركت تقطر على أرضيات الحمام والمرحاض والمطبخ كلما ضخَّ مشروع ماء البراضعية في الشبكة ماءً. ولكون أرضية الحديقة والبيت عموما كانت منخفضة قياساً لأرضيات البيوت الجديدة المحيطة، فقد وجدت جذور نباتات الحدائق المجاورة في أرضية البيت مرتعاً خصباً، فراحت تنسج شبكاتها المتداخلة تحت الجدران، وتتوغل داخل الجدران فتدفع الطابوق الى الخارج، وترفع خرسانة الارضيات الى الأعلى لتفسح لنفسها مزيداً من المجال لتنمو وتتوسع. والتفّت الجذور العنيدة في وقت لاحق على الأبواب لتشرب الرطوبة المحبوسة داخل أخشابها، وشوهدت وهي تتمدد داخل السقوف لتشرب ماء المطر المتجمع فيها. فيما عشعشت العناكب في الزوايا، وراحت تنصب شراكها للبعوض والذباب المتكاثر في هذا البيت بشكل وفير. وراحت الصراصر والجرذان تمرح ليل نهار في أرجاء البيت. ولم يكن البنغالي يجد هذا الوضع غريباً اذ ربما يكون قد جاء من بيئة مشابهة، أو ربما تمنعه معتقداته من قتل الفئران والحشرات، فسمح لها أن تشاركه فراشه وزاده. و راحت السقوف تنزُّ ماءً عند هطول المطر شتاءً، فترسم خرائط على الجدران التي انتفخ ملاطها وتقشّر، وراح ينثر مزيداً من الجصّ الرطب والعفن أيام الصيف على الأرضيات، وعلى أكتاف ورؤوس أقربائه الثلاثة الذين كانوا يفدون اليه للاطمئنان على صحته مرة كل شهرين أو ثلاثة أشهر. والذين كان يقرأ في عيونهم الطمع والجشع. كان يعرف أنهم يترقبون يوم وفاته بفارغ الصبر، ولكنه كان ممتنّاً منهم أيضاً لعدم إقدامهم على خنقه للتخلص منه. وهو ممتن كذلك لجيرانه الطيبين أصحاب الدور الثلاثة التي تحيط بمسكنه لأنهم هم من دافع عنه وعن بيته عندما حاول صاحب الجاموس أن يتّخذه حضيرة لجاموسه. قالوا له: لا يمكنه فعل ذلك طالما نحن هنا، وبشهامة منقطعة النظير دفعوا قطيع الجاموس بعيداً عن حديقته الواسعة التي كانت تضم بضع نخلات وعدد من الأشجار والزهور . ولكنهم فيما بعد قالوا لسلمان: لقد وقفنا بوجه صاحب الجاموس وكان ذلك موقفا خطيراً كاد يكلّفنا كثيراً. قالوا له: أنه كان ينوي اطلاق النار علينا، ولكنه لم يفعل هذه المرة والحمد لله، وقالوا له :أنهم لن يستطيعوا مرة أخرى المجازفة بحياتهم من أجله. وقالوا له: أن عليه أن يتصرف لدرء خطر المتطفلين والطامعين. رغم أنه لم ير مربي الجاموس وهو يدفع بقطيعه داخل حديقته، ولم يكن البنغالي موجوداً ليشهد. الا انه اقتنع بمقولة جيرانه الطيبين الذين قالوا له أن مساحة الحديقة الكبيرة واحتوائها على القصب بسبب انخفاضها قد حولها الى ما يشبه الهور. وأنهم كانوا يعانون بسبب ذلك من البعوض والأفاعي. وقد تبرعوا لمعالجة الموقف على نفقتهم الخاصة. فقد وسّعوا بيوتهم على الحديقة من جهات ثلاث، هدموا سياجها الواطيء المتهالك، واقتلعوا النخيل، واجتثوا الاشجار الغريبة التي لا يعرف احد أسماءها حتى، وحطموا أصص الزهزر الجافة، ورفعوا هياكل البيوت الزجاجية الصدئة من مواقعها، واقتلعوا شبكات الري بالتنقيط وتلك التي كانت تعمل بالرش، وتلك التي كانت تعمل بطرق عجيبة لا يعلم بها أحد، والتي كان يجري الدكتور تجاربه عليها منذ زمن بعيد قبل أن يقعده المرض. ثم أنهم دفنوا الأرض بالحصى والرمل والتراب، وضغطوا ذلك المزيج الصحراوي بآلات ضخمة كادت تطيح بمسكنه المتهالك حين كانت تهتز ضاغطةً مزيج التربة تحتها، ثم بنوا عليه غرفاً مرتبطة ببيوتهم، وبيوتاً أخرى لأولادهم. وتركوا له حديقة أمامية صغيرةعمقها مترين ونصف المتر، بدت كأنها بئر عميقة تحيط بمسكنه الصغير المتداعي، تحيط بها أبنيتهم المنيفة الشاهقة. ولكنه كان ممتناً من جيرانه الطيبين لأنهم لم يهدموا بيته على عظامه النخرة. كان بإمكانهم فعل ذلك، وكان بإمكانهم أن يحملوه هو وسريره على ظهر أحدى تلك السيارات التي نقلت الرمل والحصى، وكان بإمكانهم تركه في العراء وحيداً يموت دون أن يعلم بخبره أحد. ولكنهم أكتفوا فقط بالحديقة التي لم تكن له بها حاجة. رغم أن كومار البنغالي قال له ذات مرة ان أقربائه قد قبضوا ثمن الأرض من الجيران، ولكنه لم يكن راغباً بالتفكير بمثل هذه الأمور التافهة، فهو فلم يعد يولي المكان أي اهتمام يذكر، حتى أنه لم يعد يتذكر شكل غرف البيت وشكل الحديقة القديم، فهو لا يريد التفكير بها حتى. لكنه كثيراً ما كان يتوهم أن سريره بل أن غرفته هذه ليست هنا، بل هناك في ذلك البيت القديم الذي نشأ فيه، والذي لم يعد له وجود.
في وقت سابق عندما كان لازال قادراً على الكلام، طلب من أحد أقربائه الغرباء أن يأخذه ليرى بيت طفولته. لم يكن بمقدور أحد الوصول الى هناك. فقد أتت الحرب على كلّ شيء. البساتين جُرّفت بالكامل، والسواقي اندثرت، والارض زرعت بالألغام التي ما انفكت تحصد الأرواح رغم أن الحرب قد انتهت. ولكنه لم يكن يعلم. أو ربما كان يعلم ما حلَّ بأرضه وبيته، ولكنه ربما كان قد نسي ذلك كما نسي أحداثاً أخرى، أو ربما تناسى. لكنه في السنوات الأخيرة عندما استلقى على سريره كان يقضي جلَّ وقته بفكره هناك. كان يسرع الى تلك البساتين الغنّاء، يتجول بين أشجار النخيل والبمبر والحنّاء. يستمع للبلابل، ولوشوشة الريح وهي تحرك سعف النخيل. ويستمع لهدير محركات المراكب وهي تمخر عباب شط العرب. لم يحصل للمكان تغير كبير، كان يحب أن يسير على تلك الدروب التي تسيجها جدران الطين.
لم يعد بمقدور زوّاره من أقربائه الغرباء البقاء معه لفترات طويلة في السنوات الأخيرة عندما فقد القدرة على النطق. ما الذي يمكن أن يفعلوه. فهو قد فقد الذاكرة أيضاً، ولم يعد يعرف الوجوه. هكذا كانوا يقولون. استعانوا بالتكنولولوجيا فربطوا كاميرا وميكريفون مع جهاز موبايل وعبر تطبيق اليكتروني صار بامكانهم مشاهدته وسماع ما كان يجري في غرفته متى شاءوا ليطمئنوا على أن الخادم البنغالي يقوم بالواجب على أكمل وجه. صحيح انهم لم ينقطعوا عنه، ولكنهم كانوا يمرون عليه بأوقات متباعدة، يبتسمون بوجهه، ويتطلعون الى اليوم الذي يرثونه فيه. أما هو، فلم يكن بحاجة الى مثل تلك الزيارات التي تقطع عليه سلسلة أفكاره.
شريط الأحداث
بالنسبة لأقربائه يبدو الوضع مملاً ومحزناً. كانوا يتسائلون: كيف له أن يحتمل كل ذلك الوقت وحيداً ممدداَ على سريره لا يغادره أبداً، ليس باستطاعته الحركة. لابد أن الوقت طويل، ولابد أن الملل في أعلى درجاته. ولكن الأمر مختلف بالنسبة له. فهو يتحرك بفكره. بل ان الوقت يبدو ضيقاً ولا يكفي لانجاز كل تلك المهام، وإتمام كل تلك النقاشات المستفيضة التي كان يخوضها. لا يكفي الوقت أبداً للاحاطة بكل ذلك الكمّ الهائل من المعلومات التي كان عليه مراجعتها، وإعادة النظر فيها، واستخلاص النتائج منها.
عليه أن يعيد النظر في سلسلة طويلة من الذكريات والأحداث. لم يكن قراره أبداً في استحضارها، بل هي التي تدفقت هكذا، بلا استئذان منه، وبلا رغبة منه، ولكنها بدأت. لم يكن من سبيل لايقافها، بل لم يكن هناك طريقة لتفادي الانشغال بها، بل الاندماج بها، والرغبة الجامحة لمتابعتها وكأنها تحصل للمرة الأولى.
لم ينقطع عرض شريط الأحداث لحظة واحدة منذ مدة طويلة، بل تواصل في اليقظة والمنام. لم يعد بمقدوره تمييز لحظات اليقظة عن لحظات النوم، تداخل الحلم بالواقع، واستمر عرض الأشرطة في لحظات التذكر الواعي وفي ساعات الاحلام والكوابيس.
ثم بدات اللقطات تتكرر. لماذا تتكرر لقطات بعينها، وأحداث محددة؟ لابد أن وراء ذلك التكرار حكمة، لابد أن يكون هناك مغزى ما. كان يفكر. بعد أسابيع، أو أشهر ربما، اختزلت الأشرطة الى مشاهد محددة. ظلت تتكرر في أوقات مختلفة بشكل عشوائي. ثم بدأ عددها يتناقص، أو هكذا خُيِّل له على الأقل.
كان كمن يلعب لعبة فكرية مع مجهول. كان يعجبه توقع ظهور مشاهد معينة، ولكنها لا تظهر، ثم عندما ييأس منها تعاود الظهور. وأحداث أخرى تداوم على إعادة نفسها، مرات عدة بسرع مختلفة، ثم تختفي ولا تعاود الظهور الا بعد أيام.
كان يتذمر من اللحظات التي كان البنغالي يقدم الخدمة له فيها مثل تبديل غياراته، أو تنظيفه، أو أطعامه، ليس لأنه لا يريد ذلك، ولكن هذه الخدمات بدت له في أحيان كثيرة تقدم في أوقات غير مناسبة تماماً. فهي تقطع عليه اندماجه مع الأحداث التي كان يتابعها بشغف منقطع النظير. ولكن كومار لا يأبه لتذمره غير المعلن. فيواصل عمله بشكل ميكانيكي وكأنه يقوم بخدمة دمية. يرفع الأغطية، ويبدل الغيارات، ويداوي الجروح والتقرحات بما يتوفر لديه من مراهم، ويقلم الأظافر، ويبدل الأثواب، ويضع له الشوربة في فمه بواسطة ملعقة، ويجبره على شرب جرعات من الماء، قبل أن يعيده الى الوضع الأفقي، يمسح فمه بمنديل، ويدثّره. هكذا دائما. يقوم كومار بعمله وهو يدندن بأغنية أجنبية. ليته يصمت، كان سلمان يفكر، ولكن كومار لا يتوقف أبداً. عيناه جاحضتان، شعره أسود كثيف، كفاه كبيرتان بشكل ملفت للنظر، وجهه الأسمر طويل بشكل استثنائي، قامته فارعة. يبدو مصمماً على إداء عمله. ثم يغيب عن الغرفة. ليس لسلمان علم بالذي كان يعمله في فترات اختفائه. اذ قد يكون نائماً في غرفته، أو قد يكون منهمكاً بانجاز أعمال الطبخ أو غسل الملابس، عموماً يسبب وجود كومار ارباكاً لما كان يشاهده سلمان.
يا له من عرض مشوق ذلك الذي كان يشاهده كمن يتابع مسلسل درامي طويل يتعلق بأحداثه. ولكنه على علم تماما أن ما يشاهده هو حياته التي مرّت، والتي لم يكن لديه متسع من الوقت لمشاهدتها. كان في ما مضى يعيشها، وكان منهمكاً بها، ولكنه لم يكن يشاهدها. الآن فقط تُعرض عليه كفلم سينمائي، وهو مستمتع بمشاهدته، بل أنه مندهش لأمور كثيرة كانت قد حصلت ولكنه لم يلقِ لها بالاً. الآن فقط يستطيع النظر والتفكير وفرز الأمور برويّة. مشكلته الوحيدة أنه يشعر أن الوقت لم يعد كافياً للقيام بكل ما يلزم من تحليل واستنتاج وما الى ذلك من أمور يتطلبها البحث العلمي! كان يتراءى له انه كان يسمع قلبه ينبض، ويسمع عقارب الساعة تقفز كل ثانية مذكرة اياه ان الوقت يمر.
سرّ الوجود
بذل سلمان داوود وهو مستلقٍ على سريره بصمت جهداً كبيراً لمعرفة الموضوع الذي يدور حوله هذا الفلم الطويل الذي ما انفكت أحداثه ومشاهده تعرض عليه ليلاً ونهاراً. لم يستطع تحديد فحوى هذا الفلم. ولكن فكرة بدأت تهيمن على عقله، وبدا له أنها هي ما كانت تستتر وراء ذلك التدفق الهائل من الذكريات. وبقليل من التفكير اكتشف أن ذلك الانثيال العجيب للصور والمشاهد لم يكن جديداً عليه، بل هو بالضبط ما كان يدور في دماغه طوال حياته.
طوال حياته لم يكن يركّز على موضوع واحد فقط، ولم يكن طيلة حياته يشغل فكره بقضية واحدة فقط. بل كانت تدور في عقله عواصف ذهنية متناقضة وبمستويات متعددة. وحتى في تلك اللحظات التي يبدو فيها لمستمعيه متمكناً رابط الجأش وهو يعرض فكرة أو نظرية علمية وهو في أعلى درجات التركيز تنهمر المعلومات والأمثلة والحجج منه بشكل سلس وجميل ومحبب، حتى في تلك اللحظات التي يحسده فيها مستمعوه على صفاء ذهنه وتمكنه من تبسيط المعقّد وتقريب البعيد، حتى في هذه اللحظات، كان هو وحده يدرك حجم التساؤلات والتشكيك الذي كان يثار في أعماق عقله. هو وحده كان يعيش تلك الضوضاء الصاخبة التي كانت تحدث هناك في دماغه. فما إن يعرض فكرة في مستوى الوعي الذي يحدِّث فيه طلبته، حتى تشتعل في مستويات أخرى أفكار مناقضة، ومُسفِّهة ومشكّكة بهذه الفكرة. وتبرز أمامه تلك الأماكن التي ناقش فيها كل فكرة متعلقة بهذه الموضوع، وتعرض أمام عينيه صفحات الكتب التي قرأها في هذا الصدد، ويتذكر المكتبات التي تواجد فيها، والمقاعد التي كان يجلس عليها، والمختبرات التي كان يجري تجاربه فيها. وتبرز بشكل غير مسيطر عليه كل الحوارات المحتدمة التي خاضها مع اساتذته وزملائه في وقت سابق عندما كانوا يناقشون مسألة ذات صلة. ويتذكر بشكل واضح الحجج التي كان يدفع بها أمامهم، ويكتشف أحياناً أن رأي أحدهم الذي كان يرفضه بشدّة صار يبدو له الآن أكثر تماسكاً بعد مرور عشرات السنين. انهمار الصور والمشاهد كان من طبيعة عقله الجبار ولم يكن حدثاً غريباً يحدث له بشكل استثنائي وهو على سرير موته فاقد القدرة على النطق والحركة. بل هو ديدنه الذي اعتاده. فلم العجب الآن؟ لماذا يبدو الآن وهو يشاهد هذا الفلم السينمائي الطويل مستغربا؟ بل مذهولاً؟
كان طيلة سني عمره متوزعاً بين عالمين متناقضين. لم يشعر بالاستقرار أبداً. فقد عرفه الناس المحيطون به ملحداً. هو نفسه لا يعلم متى بدأ ت هذه الفكرة. ولكنه كان ملحداً على أية حال. نعم هكذا كان الجميع يقولون. وهكذا كان هو مدركاً ان هذه هي صورته التي يراها الآخرون. الا أنه في الحقيقة ليس كذلك. لم يكن ملحداً تماماً، ولم يذق طعم الإيمان بما وراء المادة لحظة واحدة. كان في قرارة عقله متذبذباً بين هذا وذاك.
وحده هو كان يعرف هذه الحقيقة. وكان يتألم كثيراً. كم تمنى أن يستريح على ضفة واحدة، ولكنه كان يجهد نفسه بالتنقل بين الضفتين في كل يوم، وفي كل ساعة بل في كل لحظة. شعور مؤذٍ ومربك ومجهد أن لا تستقر على رأي، أن تحاصرك الأسئلة التي لا نهاية لها.
كم حسد زملاءه المقتنعين بالمادية المطمئنين لها تماماً. كالدكتور الطويل، ذلك المتسرع الذي لا تفارق الابتسامة وجهه. والذي تنبعث منه دوماً رائحة الخمر الذي اعتاد على معاقرته كل مساء. بدا له الدكتور الطويل دوماً رغم طوله الغريب سعيداً مثل طفل. لم يقلق يوماً أبداً. كان يأخذ الأمور ببساطة شديدة حدَّ التسطيح. وكان على استعداد للنوم على كرسيّه. كان يراه وغيره من الماديين سعداء حقاً، فقد حسموا أمرهم، وحجزوا غرفهم في هذا الفندق السعيد المترامي الأطراف، وارتاحوا. لكنه ودون أي تفسير علمي واضح كان ينفر منهم، بل كان يمقتهم!
وكم حسد المؤمنين بما وراء المادة الذين ألقوا أحمالهم واستراحوا، كان في قرارة نفسه يغبط الدكتور القصير. ذلك الرجل الذي بدا له لسنوات طويلة تقيّاً دوماً. فهو يزن أفعاله وكلامه بميزان دقيق مخافة أن يقع في المحظور. كان ورعاً، أو هكذا كان يبدو على الأقل. الدكتور القصير لم يفارق ذاكرته أبداً، قصير القامة، ضئيل الحجم، أصفر اللون، يتعرق دائماً حتى في أشد الأيام برودة. لا يرفع نظره عن الأرض، وبالكاد تستطيع سماعه حين يتحدث. وحين يتحدث فهو غالباً ما يذكر أقوالاً وحكماً وجملاً من مصادر قديمة. كان يرى المؤمنين من أمثال الدكتور القصير سعداء هم أيضا بإيمانهم. ولكنه كان ينفر منهم، ولا يرتاح أليهم أبداً!
أما هو، فقد كان يرى نفسه يحمل أعباء أسئلته الثقيلة على كتفيه، ويدور بها متعباً في أروقة لا نهاية لها. متاهة لا حدود لها من الممرات والدهاليز والسلالم والمنحدرات. ما إن يدلف أحداها حتى يجد نفسه مجبراً على المضي قدماً أو التراجع ليتيه في دهاليز مظلمة أخرى. أكثر من ستين عاما من التأمل لم يهتد خلالها الى واحة يلقي بظلها أحماله، ويستريح. كان ينجز أبحاثه العلمية بسهولة ويسر، وكأنه كان يلعب. ولكنه كان كثير التفكر حول سر الوجود، وماهية الانسان.
لم يشعر يوما بالراحة التامة بفكرة الالحاد. ولكنه لم يجد عالم الأيمان مقبولاً أيضاً. كان في الحقيقة ينفر من سلوك الناس هنا وهناك. ولم يشعر برغبة في البقاء لا هنا ولا هناك.
كان يكره فكرة الألحاد حقاً. فهو يدرك أن هذا الكون غامض الى درجة لا يمكن معها أن يكون عشوائياً أو وليد صدفة. وكثيراً ما وجد في المادية البحتة شيئاً من العمى أو الاختزال أو محاولة غض الطرف عن جانب مهم من الحقيقة، جانب يستعصي على التفسير العلمي.
بعد أن أكمل سلمان داوود الدراسة الاعدادية التحق بكلية الزراعة، وهناك تعمق بدراسة النبات. وأكمل دراساته العليا في انكلترا، وحصل على شهادة الدكتوراه في الهندسة الوراثية. وترقى الى درجة البروفيسور. لم يكن العلم الذي درسه، والبحوث التي نشرها لتسعفه في البتّ في موضوع ما وراء الطبيعة إطلاقاً، بل كانت كلها مندكّة اندكاكاً تاماً بالماديات فقط. ومع هذا فقد ظلَّ جانب من الحقيقة يؤرّقه دون أن يعلن عنه. كانت ثمة أسئلة لا يجد لها في التفسير العلمي المادي قبولاً. وكان عالم النبات سره الكبير. فهو يعلم من النبات ما لا يعلمه غيره. يعلم كل حقيقة كانت تدور في خلايا النبات، وفي مكونات تلك الخلايا الدقيقة، وفي التفاعلات العجيبة التي كانت تجري هناك. ويعلم في الصفات الوراثية، ويعلم كيف يتكيَّف النبات، وأي المعادلات المعقدة في الكيمياء الحياتية تلك التي كانت تجري هناك بصمت لتظهر على شكل تحوير في الشكل أو اللون أو الوظيفة هنا وهناك. ولئن كان التفسير العلمي مفهوماً ومنطقياً فيما يخصُّ ذلك، الا أنه لم يكن كذلك في تعامل النبات مع المستقبل! وتعامل النبات مع الحيوان، وتعامل النبات مع الطبيعة. بدا له أن النبات أذكى من الحيوان اذ يسخّره ويغريه ويدبّر حاجاته من خلاله. وكان يتسائل دوماً، ما أدرى الأشجار أن النحل يحب الرائحة الزكية والألوان الزاهية والرحيق الحلو حتى راحت تتحايل عليه فتلوّن أزهارها بألوان عجيبة، ثم تطلق منها تلك الروائح العطرية الأخّاذة، ثم تركِّز السكر في أجزائها، وتجعله في متناول النحل يمتص منه ما يشاء، ليتم بطريقه ودون أن يشعر عملية التلقيح الحيوية للنبات لديمومة نوعه؟ كيف تسنى للنبات أن يعلم أن عليه أن يجعل بذوره شوكيّة لتلتصق بصوف الحيوانات كي تنقلها الى مكان جديد لتنبت. بل ما أدرى النبات بوجود كائنات تتحرك من مكان الى آخر وهو الثابت الذي لا يعرف الحركة؟ ومن علّمه أن أجسامها مغطاة بهذه المادة؟ ومن علّمه أن عليه أن يجعل بذوره شوكية تحتوي على كلاليب معقوفة ليسهل تعلّقها بالصوف؟ من علَّم النبات أن يجعل بعض بذوره خفيفة ومجنّحة لتطير في الريح؟ وما أدرى النبات بقوانين الجاذبية والديناميكا الهوائية؟ ومن علّم النبات أن يجعل بذوره تبدو وكأنها صخور صماء لا حياة فيها كي تنجو من مناقير الطيور وأفواه آكلات العشب. وكيف لنباتات بعينها أن تنصب أفخاخاً وشراكاً للحشرات والحيوانات الصغيرة، فتطبق عليها، وتفرز عليها سوائل هضمية تحللها، ثم تمتصها. ومن علَّم نباتات بعينها، أن تغري الجرذ ليلعق سكراً حلواً من أزهارها ثم يتبرز فيها، لتمتص برازه سماداً عضوياً ضرورياً لديمومتها. من علَّم بعض النباتات بعد أن تطلق بذورها في التربة، أن تنتج زيوتاً تلتهب لتحرق الغابة كلّها ، ليس لشيء الا لتوفر فرصة لبذورها كي تنمو وقد هيأت لها من رماد الغابة ما يكفيها من سماد، ومن المجال المكاني ما يكفي بعد احتراق المنافسين!
ولكنه مع هذا كله كان ينفر من الخرافات والأباطيل التي وجدها تُتداول من قبل الموقنين بما وراء المادة، من أمثال زميله الساذج الدكتور القصير . تلك الخرافات التي لم يكن عقله المادي المنطقي القوي ليتقبلها. كان عليه أن يطفيء عقله ليؤمن بعواطفه فقط، وليستمتع بالإيمان كما يفعل الدكتور القصير. ولكن كيف له أن يعطّل عقلاً جباراً هضم كل النظريات العلمية وألمَّ بكل ما كُتب في العلم؟ هو يدرك تماماً أن للبحث العلمي أساليب موثوقة يمكن بكل بساطة الركون الى استنتاجاتها دون أن يكون هناك مجال للشك والتردد. وحين تتوفر معطيات جديدة يمكن التخلي عن الاستنتاجات القديمة بضمير مرتاح وتبني أخرى جديدة بكل بساطة. وهذا ما يجعله سعيداً في حقل العلم المادي. أما في ما وراء الطبيعة فأنك لا تستطيع التيقن من شيء، كان يرى. فكيف تسنى لك أيها الدكتور القصير، أيها الغبي المتصبب عرقاً أن تجعل كل العلم الذي تعلمته وعملت به وراء ظهرك لتؤمن بالخرافات؟ أتقدس جهلاً؟ هل استسغتَ السير مع القطيع لتشعر بالأمان؟ كان يتسائل دائماً عندما كان نشيطاً. أكنتَ تحاول إقناع نفسكَ قسراً. أكان عليكَ أن تتشبثَ بالمقولات لمجرد أن هزُّها والتشكيك بها، وفحص متانتها ليس بالأمر المرغوب فيه؟ إن كان ذلك ممكناً بالنسبة لمن لم يتحصل من العلم الا على الشيء القليل، فكيف يكون ذلك ممكناً بالنسبة لكَ يا بروفسيور ؟
كان عقله المتمرد يعمل مثل حاسوب ضخم لا يمكنه السيطرة عليه عندما كان بكامل قوته في مركز البحوث الزراعية، وحتى بعد تقاعده. مئات البرامج وآلاف المسائل بمستويات منفصلة ومتداخلة ومتراكبة كانت تجري بوقت واحد في كل لحظة. رغماً عنه كانت تلك الآلة العملاقة الجبارة تدور متجاهلة العذاب الذي تسببه له، والألم الذي تخلّفه في جسده. لم يستمتع لحظة واحدة بأغنية، أو بعمل فني، أو بمنظر طبيعي جميل. بل ان كل ما يسمعه وما يشاهده يتحول الى مثير بسيط مثل كبسةٍ على زر لتدور بعد ذلك آلاف التروس بشكل تلقائي، أو تشغَّل آلاف المعادلات الرياضية لتطرح نتائجها التي تعامل مرة بعد مرة بعد مرة. كم كان يودُّ أن يسترح دماغه لحظة، ويريحه. ولكن ذلك كان مستحيلا. كم أثّر ذلك عليه وعلى صحته. لم يكن لديه متسع من الوقت ليمارس الرياضة، أو العمل اليدوي، فقد بقي سلمان داوود ضئيل البنية، قامته متوسطة الطول بل هي الى القصر أقرب. يداه صغيرتان، وعضلاته كانت قد توقف نموها في مراحل مبكرة جدا ثم أخذت بالضمور. ومع هذا فقد زاد وزنه كثيرا، اذ كان لا يفكر بالطعام حين يجلس على مائدة الغداء أو العشاء. فيبدأ بالتهام الطعام في الوقت الذي يكون عقله مشغولاً بالتفكير بقضية فلسفية أو علمية. لونه شاحب أقرب الى الصفرة. وقد تأثرت عيناه بوقت مبكر جداً، فاضطر لاستعمال النظارات السميكة والتي كان يبدل عدساتها مرة بعد مرة . منذ أن كان طالباً وحتى بعد أن أصبح باحثاً ومديراً كان لا يهتم مطلقا بهندامه. وكثيرا ما كان يتعرض الى السخرية من قبل زملائه لارتدائه قطعاً غير متناسقة تماماً. ويروى أنه قد حضر ذات يوم في شهر حزيران مرتدياً معطفاً، أما ارتداء الجوارب المختلفة الألوان فقد صار طبيعياً معه.
المشكلة التي أزعجته في قضية ما وراء الطبيعة هي موقف وأساليب الكثير من الموقنين بها. أولئك الذين لم يكن ليطمئن الى أي شيء يصدر عنهم. فسلوكهم عنده مريب، وأساليبهم ملتوية، وطرقهم في التعامل مزعجة. أما زملاؤه الملحدون فقد كان الكثير منهم يصيبه بالغثيان. لا تشغل بالهم مسائل العلم بعد انتهاء الدوام الرسمي! ولم تنعكس على حياتهم بأي شكل من الاشكال. وتزعجه قدرة الكثير منهم على تسطيح اختصاصه، وجعله مجرد طبقة رقيقة منعزلة. زاوية من زوايا الحياة، مثل رفّ صغير مركون في مكتبة عظيمة تعلو رفوفها الاتربة. رفّ يلجأ اليه وقت الحاجة، عند اعداد محاضرة أو بحث. ثم يتركه لينشغل بحياته الاعتيادية كأيِّ أنسان جاهل. ينفر من زملائه الماديين كالدكتور الطويل وغيره والذين يبدو أنهم مرتاحي الضمير بما توصلوا اليه من نتائج علمية، فاستقر رأيهم بحدود المادة، وانكروا بشكل مطلق ما وراء المادة. كان يراهم كما يرى الجهلة متنطعين، فارغين. كان يراهم كمن تهرَّب من الاسئلة لعجزه عن مواجهتها، واكتفى بالاجابات الجاهزة التي جاء بها آخرون، واستراح. كل الذي يقومون به هو محاولة تقليد اساتذتهم ليبدوا عليهم الاندكاك بالعلم المادي ولكنهم في الحقيقة ليسوا أكثر من أغبياء! كان يعتقد.
أكثر ما كان يزعجه في زملائه العلماء بغض النظر عن أفكارهم أنهم كانوا يتخذون من العلم مهنة يكسبون منها رزقهم. بل ينظرون اليها باعتبارها مصدر للرزق فحسب. أما هو فقد كان لا يفكر بالرزق، بل لا يفكر بشيء آخر سوى العلم. وكان يريدهم أن يكونوا مثله! كان يعتقد أن العلم همٌّ كبير يبُتلى من يشتغل به، ولا ينبغي أن يُستغل لتحصيل منافع، بل يجب الانقطاع والتبتل لخدمة العلم. فمن الذي يقوم بالاجابة عن الاسئلة إن انشغل العلماء بتوافه الأمور؟ كان يعتقد! وكثيراً ما سخر منه زملاؤه بسبب تفكيره السخيف هذا.
يعتقد أن الخوف هو ما دفع المؤمنين والملحدين من الباحثين الى الالتحاق بجماعاتهم. كان يفكر، اذ لا يستطيع الانسان أن يبقى وحيداً. هذه صفة موروثة في الكائن الحي في أن يكون ضمن جماعة! فخوفه من المجهول، خوفه من أن يبقى وحيداً، ضعفه أمام الظروف الخارجية، وانعدام ثقته بنفسه هو ما يلجئه الى حضائر يتواجد فيها آخرون من صنفه، فترتاح نفسه، ويشعر بأمان الجماعة، ويستطيع أن يلبي حاجاته الأخرى. هكذا لجأ الملحدون الى جمعياتهم، ومجموعاتهم، ونقاباتهم، وهكذا فعل المؤمنون أيضاً. هناك وسط الجماعة يمكن للانسان أن يخدم نفسه، ويشبع جشعه، و يلبي حاجته وحبه للمال، وحبه للجاه، وحاجته للحب والانتماء. ولكن لا يجب على الباحث في العلم أن يكون كذلك. عليه أن يتحررمن حاجاته ليحلّق حراً طليقاً في سماء المعرفة! كان يعتقد.
أنتم أيها الماديون يا من تشدقتم بحبكم للحرية، هل تعرفون الحرية حقاً؟ يتخيل أنه يخاطب الدكتور الطويل، أنتم تعبدون أصناماً أوجدتموها، تضعون أشخاصاً نصب أعينكم، وتتخيلون أنهم يراقبونكم، تنزلونهم منزلة الإله، تحذرون أن تأتوا بحركة تغضبهم، أو قولاً لا يرضيهم. ما الفرق بينكم وبين الذين يؤمنون بما وراء المادة؟ يتساءل سلمان.
صراع مرير كان يخوضه في نفسه طيلة ستين عاماً أو ربما أزيد من ذلك. صراع لا يعلم به أحد. صراع لا حدود له. صراع تتداخل به الأزمان والأماكن، وتمتزج به التجارب والعلوم وينصهر في أتونه الواقع والخيال، ويمتزج فيه العلم والأيمان. دوامة رهيبة ليس لها حدود كانت تضطرب في دماغه. ولكن من يراه من زملائه وطلابه يحسده على قدرته في المحافظة على هدوئه وتأمله لساعات في مكتبة مركز الابحاث الزراعية، أو في كافتيرا المركز وهو يجلس هادئاً يتلذذ بفنجان قهوة، وحده يعلم ما كان يدور هناك في أعماق عقله. وحده يعلم أن ما يفكر به هو دون غيره هو قضية الموت.
الموت
ياله من وقت مناسب للتفكير بمثل هذه القضايا، حيث تعطل الجسد تماماً. واختفت متطلباته. كان يفكر في نفسه. وكأن حاجات جسده كانت تلهيه يوم كان له جسد يتحرك عن التفكير بالوجود! يتهكم. ولكنه يكتشف وهو ملقىً على فراش موته مثل خرقة أن مشاهدة شريط حياته الآن تختلف جذرياً عمّا عاشه. فقد كان منشغلاً بما كان يدور في عقله المتوثب دوماً من أسئلة وشكوك وتحليل وصراع بين المتناقضات. لم يكن يلمُّ بكثير من التفاصيل التي كانت تجري حوله في الواقع. أما الآن فهو يرى الأحداث كمتفرج. يرى نفسه من زاوية رصد خارجية تماماً مثلما يرى المرء نفسه من خلال فلم سينمائي. الآن لديه الفرصة لاكتشاف أشياء جديدة ضمن تلك الاحداث ما كان بامكانه التفكير بها أو التعرف اليها عندما حدثت.
ويدرك أن المهمة التي هو بصدد انجازها الآن وهو ملقى على سريره الصديء الذي تنبعث منه رائحة البحر كبيرة وشاقّة، وأن الوقت المتاح له لانجازها ضيق جداً. يدرك سلمان أن عليه مشاهدة تلك الأفلام، ثم عليه أن يجمع المعلومات الجديدة، ثم يحذف ما يراه زائداً ومتكرراً، ثم يحلل الأحداث ليجد الروابط بينها، ثم أن عليه أن يجد المعاني الكامنة والاستنتاجات المستخلصة، ثم عليه أن يرسم صورة جديدة لم تكن لديه. ثم عليه أن ينظر ما اذا كانت هذه الاستنتاجات الجديدة التي لابد أنه سيتوصل اليها إن أسعفه الوقت القليل المتبقي لديه ستساعده في بناء إجابات متماسكة وراسخة عن الاسئلة الوجودية التي طالما بحث عن إجابات مقنعة عنها طيلة حياته ولكنه لم يفلح في ذلك. هل يا ترى سيستقر في ضفة المادية العلمية أم أنه سيجد نفسه مطمئنا في ضفة الايمان بالروح؟ هل سيجد نفسه مجبراً على التعايش مع حالة اللايقين التي طالما أرَّقتْه؟ هل سيجد نفسه وهو يخطو الخطوة الأخيرة باتجاه الموت وهو متوزع بين الألحاد والايمان؟ ولكنه كباحث علمي لم يكن قادراً على تعريف معنى الايمان حتى. هو يشتغل بالمعرفة. ان تفترض فرضية في البحث العلمي، وتشكك بها، ولا تعرف ما اذا كانت صحيحة أو خاطئة، فتختبرها، تخضعها لتجربة ما. ثم في ضوء نتائج التجربة تجد أنك تعرف. وتضيف الى معرفتك. لا مكان للايمان اذن.
ولكنه من جهة أخرى يرى العالم كنصّ. وهو قاريء هذا النصّ. ويعتقد أن هذا النصَّ غامض ومعقد، وان إمكانية القاريء العقلية محدودة، ولذلك فالفهم كان محدوداً. وبتقدم العلم يفترض أن يزداد النصَّ وضوحاً، وتزداد قدرة القاريء على الفهم. الا أن الأمر الحاصل، كان يفكر، انه بتقدم العلم تزداد قدرة القاريء على اكتشاف مزيداً من التعقيد ومزيداً من الغموض داخل هذا النصّ! ولذلك فان الفهم يظلُّ مستحيلاً. أما الذين انزووا في جماعاتهم، فانهم ليسوا الا هاربين من الأسئلة. يراهم وقد سقطوا صيداً في شبكات ليست من صنعهم، ولكنهم توهموا أنها من اختراعهم، يا لبؤسهم! فعندما تكون المعرفة معقدة، يبدو العالم أكثر غموضاً وتعقيداً، ويغدو الفهم أصعب، فكيف ينشغل الباحثون بالتوافه من الأمور؟ الا ينبغي عليهم أن يتخلصوا من كل ما يلهيهم؟ كان يتساءل. ليفكروا في الموت، ليجدوا له تفسيراً مقنعاً.
الموت ذلك المصير المحتوم، ذلك الحدث المقيت. تلك الهاوية السحيقة من الأهوال التي لا يعلم بها أحد، لم يعد منها ناجٍ ليخبرنا عن ذلك العالم المجهول. ولكنه يفكر، أليست الحياة مجهولة هي الآخرى؟ كم نعرف عن الحياة نحن العلماء؟ قليل جداً، الا يمكن أن تكون الحياة وهماً؟ الا يمكن أن يكون الموت تحريراً لنا من قيود الزمان والمكان، ومن سجن المادة؟ المعاناة في الحياة تنجم عن التغير، فهي أما أن تكون في حالة ترقي أو تدهور، نمو أو اندثار. أما في الموت فلا يوجد تغير، هو حالة من الثبات لا نستطيع تخيلها.
الا يمكن أن يكون الموت فناءً؟ يتساءل سلمان داوود، أليس هو عالم من الفراغ لا يوجد فيه شيء، فلا خوف ولا ألم. الا يمكن أن يكون الموت انتقالاً من فضاء الى فضاء آخر، من قوانين الى قوانين أخرى، مثل انتقالنا من الحافلة الى الطيارة، أو مثل انتقالنا من زنزانة السجن الى مقعد القاضي!
الشيء المؤكد ، كان يعتقد أحياناً وهو ممدد على سريره في تلك الغرفة التي لا يدخلها ضوء الشمس أن الموت مهما كانت ماهيته فإنه سوف يكون أفضل من الحياة في هذه الحفرة وسيكون أفضل من الحياة مع الأقرباء الغرباء والجيران الغاصبين.
الموت! ذلك السؤال الذي حيَّره كثيراً. الموت الذي يوشك أن يلج عالمه. تكونت لديه كباحث علمي فكرة مادية عنه، فكرة بسيطة ومريحة ولا تحمل أي معنى ميتافيزيقي. فالنباتات لاتموت. هي تنمو وتنتج بذوراً جديدة لتضمن استمرار الشجرة بمواقع جديدة، فتنمو الى أجسام جديدة من الشجرة ذاتها. والشجرة عينها لم تكن الا امتداداً لشجرة سابقة لها، وهكذا. وعندما تموت الشجرة فهذا يعني ان هذا الجزء الصغير من جسم النوع المتوزع على مساحات شاسعة من الكوكب قد تحلل. هكذا مثلما تلقي بأظافرك في القمامة بعد تقليمها، فأظافرك هي بضع آلالف من خلاياك أنت لا يشكل موتها أي مشكلة لأحد.
كان يتمنى أن يكون للانسان موتاً مماثلاً لموت النبات. وهو في مرحلة ما من حياته صار أقرب الى الايمان بتشابه موت النوعين. فالانسان الفرد هو كتلة خلايا من جسم الخلايا البشرية التي تتوزع اليوم على أكثر من سبعة مليارات انسان. لا يعني موت شخص أكثر من موت أظفر، أو موت شجرة صفاف منفردة التهمها حريق بالصدفة. عندما يحصل انقراض جماعي للنوع كما حصل للداينوصورات عندئذ يمكن الحديث عن موت النوع. هكذا كان يفكر.
ولكنه كان يشكُّ دوماً. فتجربة الحياة والموت على المستوى الفردي للانسان أكبر وأغنى من أن تكون مجرد انحلال عدد من خلايا النوع. حياة الانسان ، كان يفكر، أكبر من كونها تجربة بايولوجية. ثمة بعد ميتافيزيقي آخر. هل تختفي ببساطة هذه الخبرة التي تكونت لدينا من خلال حياتنا وتتحول الى لاشيء بمجرد موت مادة أجسامنا؟ كم النسبة المئوية من الوقت والجهد التي يصرفها الفرد وهو مهتم بشؤون مادة جسده مقارنة بنسبة ما بذله في التفكير بأمور لا علاقة لها بالمادة كالحب والخير والخوف؟ أتصير كل هذه الأمور عبثاً تتبخر بمجرد توقف خلايا جسده عن امتصاص الأوكسجين وحرق السكر وانتاج الطاقة؟ ولكنه طيلة سنواته التي تجاوزت نصف قرن من البحث لم يكتب عن الموت شيئاً، بل باعتباره عالم بايولوجيا كان مهتما بالحياة وليس الموت. لذلك لم يستطع تحديد ماهية الموت. عقله المنطقي التجريبي المادي يرتاح للتفسير العلمي، ولكنه كعقل فلسفي كان دوما يعتقد أن العلم قاصر في قضية الموت. بل يراه غبيّا أيضا!
الآن فقط ربما بدأ يفكر بالأمر بجدية، أو ربما كان يفكر بهذه المسألة منذ زمن بعيد ولكنه لم يركز عليها كثيراً. فالموت هو عكس الحياة. هو الجانب الآخر من الحياة. فلماذا نركز على الحياة في العلم ولا نبحث في الموت؟ بدأ يعتقد أن كل العلوم الطبية هي اهتمام بالحياة وبالحدّ الفاصل بين الحياة والموت. وأن البايولوجيا هو اندكاك بالحياة. ولا أحد يدرس الموت!
انهالت المشاهد المتوالية في عقل سلمان داوود الممدد على سريره . وباتت تنحصر بمشاهد تجاربه مع الموت التي عاشها. راحت تُعاد أمامه دون أن تكون له سيطرة عليها. كان يقترب من الموت غير مرة. يشعر أنه كان يسترجعها الآن في محاولة من عقله لفهم طبيعة موت الانسان.
المشهد الأول: كان في الثالثة من عمره ربما، عندما دخل غرفة تفوح منها رائحة غريبة. غرفة مظلمة، الضوء الوحيد كان ينفذ من خلال كوة على شكل قوس صغير في أعلى الجدار المقابل للباب. حين دخل الباب انسدلت الستارة الثقيلة التي كانت مرفوعة جزئيا ومعلق طرفها على مسمار مثبت على الجدار. ساد الظلام تماما، الا من شعاع من ضوء الشمس كان مسلطاً على عينيه ليزيدهما عمى. كانت غرفة مخزن أو ما شابه تحتوي على صناديق وبراميل وأشياء أخرى مبعثرة بلا نظام. تعثر بشيء ما، قدر نحاسي ثقيل ربما. وسقط على وجهه. كان القدر الثقيل مليء بزيت الصلّ كريه الرائحة.
رأى بعينيه ذلك الطفل الذي كان هو، وهو يغرق بالزيت الكثيف كريه الرائحة. تلك الرائحة التي ظل يشمها كلما شعر أنه يقترب من الموت. كانت هذه تجربته الأولى مع الموت. أحس بالاختناق، حاول رفع رأسه الا ان قدميه كانتا معلقتين هناك على حافة القدر تمنعاه من الاستواء. لم يكن يرى شيئا، يداه تنزلقان لا يستطيع أن يتشبث بشيء ، كم كان ذلك الزيت لزجاً وكثيفاً وكريهاً. شعر أنه كان كمن ينتزع من الوجود، ليلج عالماً آخراً. اختفى الاختناق والألم الذي أحس به منذ ثواني، واختفت رائحة الزيت، واختفت الظلمة، وبدلاً عن وضعه المقلوب رأساً على عقب في قعر ذلك القدر النحاسي الثقيل، شعر أنه يحلّق مثل عصفور في تلك الغرفة التي يغمرها النور. كان ذلك ما رآه للتو في المشهد الذي عُرض عليه وهو على سرير موته. ولكن المشهد ظلَّ يُعاد عليه مرة بعد مرة مع تعديلات بسيطة. لماذا لم يمت في تلك الحادثة؟ لا يعلم. وجد نفسه بعد ذلك وهو ملقىً على أرضية غرفة المخزن قرب الباب وتحت الستارة. رآه الذين مرّوا من هناك، أنقذوه وانتهى المشهد.
مشهد آخر: كان يعمل في مركز البحوث الزراعية وحين انتهى الدوام الرسمي ذات يوم سارع الجميع لمغادرة المركز. كان ثمة حافلتان مستأجرتان تقلّان منتسبي المركز الى بيوتهم. الأولى كبيرة تتسع لخمسين راكباً، والثانية صغيرة تتسع لعشرين راكباً. كان عليه أن يصعد على متن الحافلة الصغيرة. ولكنه حين همَّ بالصعود، تشنّجت عضلة ساقه. أنتابه ألم فظيع، فسقط أرضاً. كان يتلوى من الألم. تبرع عدد من زملائه لحمله الى داخل المركز، ثم تبرع المدير لنقله الى المشفى بسيارته الصغيرة. ولكنه لم يصل الى المستشفى لسببين. الأول أن الألم قد زال كلياً بعد دقائق معدودة، فقد انبسطت ربلة ساقه وصار بإمكانه الوقوف والمشي سليماً تماماً. والثاني هو أن الحافلة الصغيرة التي كانت تسير أمامهم قد اصطدمت واحترقت بعد انطلاقها بثواني. ترجّل كما فعل الآخرون، كانت الجثث تحترق أمام عينيه. كان يمكن أن يكون هو بين الجثث المحترقة لو لم يصبه ذلك الشدُّ العضلي المفاجيء. رأى كل ذلك مراراً وتكراراً وهو مستلق على سريره. ولكن ثمة تفاصيل بسيطة بدت وكأنه يلاحظها لأول مرة.
مشهد آخر: كانت الطائرة الصغيرة تحلّق مرة تلو أخرى وهي ترش مبيداً حشرياً فوق رؤوس النخيل في شهر نيسان. كان يومها قد التحق للتو في عمله كموظف. وكان واجبه ضبط كمية وتركيز المبيد، لتكون الشحنة جاهزة لتحميلها على متن الطائرة عند عودتها فارغة. الوقت كان مهماً أذ يتعين على الفريق رشّ مساحات كبيرة من بساتين النخيل في ظرف أيام محدودة. ولكن فضولاً تملّكه للصعود على الطائرة ذلك اليوم من نيسان، كان يريد أن يرى البساتين من فوق. وثمة مقعد فارغ بجوار الطيار، وثمة صداقة حديثة العهد قد تكونت بينه وبين وسام ذلك الطيار المرح ذي البشرة السمراء الذي كان يلقي النكات قبل كل اقلاع. عندما اتفق مع وسام على الصعود هذه المرة على متن الطائرة، لمح سيارة مدير الزراعة وهي تقترب، أو هكذا تراءى له، أو ربما سمع أحد أفراد الطاقم ينادي عليه، (سلمان المدير قادم، لا تصعد، المدير قادم). عدل عن قراره، أو أجَّل صعوده الى فرصة أخرى. وأقلعت الطائرة. رآها تتحطم على رؤوس النخيل، ثم تهوي، ثم يهزُّ انفجارها المكان، ويندفع عمود دخان أسود بين غابات النخيل الكثيفة. ولم يعد أحد يرى ذلك الطيار بعد تلك الساعة المشئومة. الغريب في الأمر أن المدير لم يحضر، وقد علموا فيما بعد أنه كان يحضر اجتماعا في مقر الوزارة في بغداد ساعة حصول الحادث!
ركض أفراد الطاقم المسئول عن عملية الرش باتجاه حطام الطائرة المحترق، ركبوا السيارات، وعبروا الانهار، وخاضوا في البرك والمستنقعات، وسبحوا لعبور بعض الأنهار الكبيرة، ولكنهم لم يصلوا الا بعد ساعة أو أزيد، كان الحريق قد انطفأ تماماً مخلفاً كتلة من حديد أسود، لا أثر للطيار وسام فيها.
جثى على ركبتيه يبكي بحرقة صديقه الجميل المحب للحياة الذي رحل. ولكن جانبا ً من عقله كان فرحاً لأنه لم يكن على متن ذلك الحطام.
مشاهد الاقتراب من الموت التي كانت تتوالى على ذاكرته ليس لها عدّ. كانت تُعاد عليه مع تغير بسيط في التفاصيل. ثم بدأت تلك المشاهد تنحصر بعدد محدود وكأنها نماذج منتقاة أو نماذج عشوائية في بحث علمي كما كان يقوم بذلك في أبحاثه الروتينية الميتة الخالية من الشغف. أبحاثه العلمية التي كرهها، والتي تمنى لو أنه لم يصرف الوقت الطويل من أجلها. كان عليه أن يعمل من أجل الاجابة عن المسائل الوجودية المهمة. ولكنه لم يفعل.
كانت المشاهد الثلاثة من تجارب اقترابه من الموت تتكرر، ولكنه وجد أنها تتغير مع كل إعادة، وتصير أكثر وضوحاً. وتصير الصورة أكثر دقة.
في المراحل الأخيرة لاحظ سلمان أن الصور المعروضة عليه تتضمن خيالاً، كما لو كان شخصاً ما يظهر في الصور. وقد فاجأه هذا المشهد. وبدا له أن المغزى من عرض تلك المشاهد بات واضحاً الآن. وعليه أن يركز أكثر لحل رموز هذا الظهور الشفاف المريب.
تحت شجرة التوت
تأكد لسلمان داوود أن ما يجري له هو خارج سيطرته تماماً. شيء ما يجري لا يعرف ما هو. لماذا استيقظت هذه الذكريات الآن فقط بهذا الوضوح وبهذا الترتيب؟ فكر في نفسه. ثمة سر في هذا الذي عُرض. فهو ليس تدفقاً عشوائياً اذن، بل ثمة إرادة لا يعلم كنهها كانت وراء اختيار وترتيب هذه الأحداث وعرضها، ولابد أن يكون لهذه الإرادة غاية ما. ترى هل هو عقله؟ أم كائن آخر، أم قوة واعية أخرى؟ لا يعلم.
ومع عرض أحداث الاقتراب من الموت العديدة راحت تظهر له أحداث أخرى متناقضة. أحداث مرت به بأوقات مختلفة من حياته. ولكنه كعالم حاول تصنيفها في محاولة لفهم مغزى استرجاعها الآن.
مشهد آخر: رأى نفسه طفلاً بعمر العاشرة يقف تحت شجرة توت بعد غروب شمس يوم شتائي بارد. كان يرتجف ويبكي خائفاً. كان يعتقد أن مصيراً معتماً ينتظره، وأن مصيبةً كبيرةً ستنزل على رأسه لتطيح بكل أحلامه. سوف يُفتضح أمره. وسوف ينظر اليه الناس نظرة احتقار. عما قريب سيحلُّ عليه العار. وسيكون منبوذاً لا يجرؤ على النظر في عيون الناس. وعليه أن يترك المدرسة.
وفي غمرة عجزه وخوفه وضعفه وقف تحت شجرة التوت العارية الأغصان في تلك الليلة الباردة وحيداً. كانت السماء صافية، وقد بدت النجوم قريبة جداً على غير عادتها. والسكون يخيِّم على العالم. لا أحد يسمعه. لا أحد يعلم بوجوده واقفا هناك وحيدا تحت تلك الشجرة المنتصبة بصمت على ضفة النهر القريب من بيته الغافي بين تلك البساتين التي يلفها الظلام والهدوء والبرد. شعر أنه لابد أن يستنجد بأحد، أحد لن يفضحه، أحد يعلم بتفاصيل ما جرى، أحد له القدرة على محو ما جرى! وجد نفسه يتضرع الى الله بصمت، كان يحدِّثه بكل جوارحه. ويدعوه لمساعدته. رباه أعلم أنك ترى وتعلم. رباه أنقذني. ليس لي ذنب، أنت تعلم. هل ترضى يارب أن تضيع حياتي هكذا؟
أحسَّ بعد أن قال تلك الكلمات وبعد أن ذرف تلك الدموع أنه قد تحسَّن كثيراً. فقد زال الخوفُ عن قلبه الصغير. وأطمئنت روحه. وشعر بالأمان. لا يعلم لماذا حصل ذلك التبدّل.
ولكنه نسي كل ذلك ولم يذكره الا هذه الساعة عندما عرض عليه هذا المشهد. الآن فقط تذكر تلك الحادثة. اذ أنه في سن العاشرة وجد نفسه مولعاً بوسائل الايضاح التي كان يحضرها المعلمون الى الصف من صور كبيرة لطيور وحشرات وأسماك ملونة. وجد نفسه معجباً بالأطلس الكبير الذي يحضرونه أحيانا الى الصف. ولكن وقت الحصة القصير، وعدد التلاميذ الكبير في الصف، وسيطرة المعلمين الصارمة على الدرس لم تتح له فرصة تأمل تلك الصور المبهرة. شعر أنه كان يحتاج الى ساعات يحملق في كل صورة وبكل خريطة لاستكشاف أسرارها. وعندما حدَّث زميلين له بهذه الرغبات، عرضا عليه فكرة التسلل لمخزن المدرسة من أجل مشاهدة تلك الاشياء بهدوء. وجد تلك الفكرة خطيرة، ولكن رغبته الجامحة للمعرفة دفعته للموافقة. تسلل الثلاثة، ولكن الاثنين سرقا بعض الخرائط ثم هربا بها. وهدداه إن هو أفشى سرَّهم فإنهم سيشهدان ضده ويتهمانه بأنه هو من دبّر كلَّ شيء.
بكى خوفاً وندماً وحسرةً، ولم يكن يعلم ما الذي كان عليه فعله. أعيته الوسيلة، وخاف من افتضاح أمره، وشعر أن حبه للعلم على وشك أن يضيع إن هم أكتشفوا سرقته لمخزن المدرسة. سيطردونه لا محال من المدرسة. لكنه لجأ الى الله . في اليوم الثاني وجد نفسه قد نسي الموضوع تماماً. ولم يثرأحد تلك الحادثة أبدا.
مشهد آخر: رأى نفسه رجلاً كبيراً في الستين من عمره ربما، وهو يجثو على ركبتيه في جوف الليل وحيداً يدعو ربه كما فعل قبل سنين بعيدة تحت شجرة التوت في تلك الليلة الشتائية الباردة. لماذا كان هذا الملحد يلجأ الى الله في مواقف كهذه؟ بدا له أنه كان قلقاً، بل مرعوباً، وعاجزاً. وكأن مصيبة عظيمة كانت على وشك أن تطيح به. يتوسل، ويبكي، وبعد لحظات، وبشكل مفاجيء يجد نفسه هادئاً، يشعر بالاطمئنان دون أن يعلم سبباً لهذا التحوّل. كأن يداً خفيّة قد مسحت على قلبه وأزالت كلَّ ما فيه من خوف وقلق. الآن فقط تذكر ذلك الحدث.
رأى نفسه في مشهد يعود الى العام 2003 عندما كان مسئولاً عن مركز البحوث الزراعية، في يوم ما من شهر شباط كان ذهنه منشغلاً بقضية علمية لم يترك له التفكير بها مجالا للتركيز على الأمور الادارية. يبدو أن زميله الدكتور القصير قد خطط بخبث ودهاء للايقاع به. فجلب له أوراقاً بدت له بريداً اعتيادياً، وطلب منه التوقيع عليها، فعل ذلك دون تردد لأنه كان يريد أن يتفرغ للتفكير بهدوء. بعد أيام اكتشف أنه قد وقع على أوراق تتضمن سحب مبالغ قام الدكتور القصير باختلاسها. حين اكتشف تلك المكيدة اضطرب أيَّما اضطراب، وغضب غضباً شديداً. كانت الدماء تحتقن برأسه، أحسَّ بها وهي توشك أن تتفجر من عينيه. كان يودُّ أن يضرب ذلك القصير، ذلك المتشدق بالايمان. كان يعلم نفاقه وكذبه. ولكن عقله الجبّار أعلمه أن لافائدة من الغضب. لقد حصل ما حصل، وهو متورط بشكل رسمي لا يستطيع الخلاص من هذه التهمة إن هي انكشفت. وأن عليه أن يفكر بطريقة علمية للخلاص من هذه الكارثة التي كانت على وشك أن تطيح به وبسمعته وتاريخه الى الأبد. فكر كثيراً ولم يتوصل الى حلٍّ مقنع. شعر بضعف عقله ومحدودية قدراته. فجثا ودعا، ثم هدأت نفسه. وكأن أحداً قد أخبره أن أمره لن يفتضح! بعد أيام قامت الحرب واحترق مركز البحوث الزراعية، وتمت سرقة محتوياته بأحداث السلب والنهب التي تلت الحرب، وأُسدل الستار على جريمة الدكتور القصير الى الأبد. ثم ترقى الدكتور القصير ليصبح مسئولاً عن المركز، ثم تمت ترقيته الى منصب مهمٍ آخر تطلب انتقاله الى بغداد. ولم يلتقيا بعد ذلك أبداً.

نور وظلام
بدأ سلمان داوود مؤخرا يلاحظ ان مشاهداً جديدة لم تعد تظهر. كانت المشاهد القديمة فقط هي التي تُعاد أمام نظره مرة بعد مرة. ثم بدا أن عددها صار يُختزل. كأن مقص رقيب ما تعهد بتشذيبها وتركيزها واختيار البعض منها. ثم انها صارت أكثر وضوحاً.
تمكن سلمان وهو مستلق على سريره بجسده شبه الميت وبرأسه المشتعل فكراً أن يتبيَّن أنواعاً من تلك المشاهد بحسب ما توصل اليه فكره العلمي . فثمة مشاهد تمثل تجاربه القديمة التي كاد أن يموت فيها. ومشاهد يظهر فيها وهو الذي لا يؤمن بما هو وراء المادة يطلب العون من قوة لا مادية! وثمة مشاهد تظهر أفعال زملائه تلك الأفعال التي كان يمقتها وينفر منها من نفاق وسرقة وظلم.
وعندما تظهر له مشاهد الاقتراب من الموت تزكم أنفه رائحة زيت السفن الكريهة. ولكنه بدأ يرى المشاهد بهيئتها الأخيرة وقد جرى عليها تعديل.
ففي المشهد الأول يرى نفسه طفلاً في الثالثة يتخبَّط عاجزاً في قدر الزيت النحاسي الثقيل. رأسه مغمور بالزيت، وكفا يديه تنزلقان على قاع القدر الزلق وهو يحاول رفع جسده للخروج من القدر. رجلاه معلقتان في الهواء على حافة القدر العالية. يختنق، يتنفس الزيت، ثم يموت! يرى نفسه وقد تحول الى عصفور صغير يحلق في فضاء تلك الغرفة التي صارت مغمورة بنور يتدفق من تلك الكوة التي في أعلى الجدار. تلك الكوة الصغيرة التي اتسعت كثيراً، يهمُّ بالخروج منها لينطلق في الفضاء الرحب الذي يغمره النور. غير أن يداً ما، أو قوة ما تمسك الطير وتمنعه من المرور عبر كوة النور تلك، بل تعيده الى الأسفل. ويرى تلك اليد وهي تمسح عن وجه الطفل ما علق به من زيت، فيختفي الزيت بشكل عجيب. ثم يجد نفسه ممداً في الممر خارج محزن الاشياء القديمة، وثمة شخص بملامح هادئة ودودة يبتسم له. يجلس الى جانبه. يشعر بأن ذلك الشخص محبّ، وجميل، تشيع رؤيته بل الاحساس بوجوده في نفس الطفل شعوراً غامراً بالطمأنينة . لم يستطع تبين ملامح ذلك الشبح الشفاف.
مشهد آخر: ثم ما لبث أن أُعيد عليه مشهد الحافلة التي احترقت. شاهد نفسه وهو يهم بالصعود الى الحافلة، ثم وبصورة مفاجئة يظهر الشبح وراءه يمسكه من ربلة ساقه فتصير تلك المسكة ألماً فظيعاً كأنه شد عضلي يمنعه من صعود الحافلة. يفقد القدرة على المشي، ثم يبدأ بالترنّح، ثم يسقط أرضاً. عندما أُعيد المشهد مرة أخرى تعرّف الى ذلك الشبح، يا للهول! إنه هو . ذلك الشبح نفسه. ذلك الظلّ الذي أنقذه من قدر الزيت. هو بعينه ذلك الشاب الوسيم والهاديء ، ذلك الشيء الذي يتكون جسمه من ذرات متألقة من نور.
مشهد آخر: شاهد الشبح نفسه وهو يهتف له عندما همَّ بالصعود على متن طائرة رشّ المبيدات الحشرية الصغيرة تلك الخردة التي يقودها وسام. سمعه يهتف ( المدير قادم المدير قادم، لا تصعد الطائرة). نعم كان هو نفسه بهيئته نفسها، بملامح وجهه المسالمة، بابتسامته الطيبة نفسها. رآه هذه المرة يمنعه من صعود الطائرة مع وسام.
اذن هذا هو الهدف من اعادة هذه المشاهد. هذا هو الهدف من بقاءه ملقىً بين الحياة والموت. فاقد القدرة على الحركة والنطق. لم تعد به رغبة لا بطعام ولا بشراب ولا برؤية أحد. هو راغب فقط وبشدة بمعرفة ما كان يجري في داخله والذي لم يعد يعرف ما اذا كان انثيال ذكريات، أم هلوسات رجل مسنّ هدَّهُ الجوعُ، أم اشتغال عقل جبار لحل مسائل مؤجلة قديمة، أم هو كشف لا علاقة له به.
كان يمكن لأي شخص آخر غير الباحث سلمان داوود ذلك الذي شغله العلم، وقضّت مضجعه أسئلة الوجود، ذلك الذي قضى حياته كلها يبحث عن الحقيقة التي كان يودُّ أن يستحوذ عليها لتطمئن بها نفسه. كان لأي شخص آخر أن يصاب بالصدمة حين يكتشف أن شبحاً ما كان يلازمه طيلة حياته دون أن يشعر، ولكن العالم سلمان داوود تعامل مع الأمر كأنه يكتشف حقيقة من بحث علمي كان يقوم به. وبدل أن يشعر بالرعب، فرح بهذه النتيجة، وبدا له أنه سيرتاح قليلا من ذلك القلق ومن ذلك التردد الذي وسم كل حياته في قضية الوجود.
ما هذا الشيء الذي لا تتغير هيئته مع السنين؟ ولا تتغير تعابير وجهه المريحة التي لم ير في حياته أجمل منها ولا أهدأ منها، وجهه هو السلام بعينه، هو السكينة بعينها، هو الهدوء. ليس ثمة علامات على هذا الوجه الذي يراه لأول مرة في حياته من تعابير مثل تلك التي تظهر على وجوه البشر من قبيل التساؤل و التعجب و الاستفهام و القلق و الفرح والحزن. ما هذا الوجه؟ حار بوصفه، ولكنه وجد في تعبير السلام تطابقاً مع هذا الوجه. من اللائق بل من الضروري أن يسميه السلام.
ولكنه بدا يشكك بما رآه. وكعادته دوماً راح يطرح الأسئلة، ترى هل أصاب دماغه خطب ما، هل انخفضت نسبة السكر في دمه؟ هل تعجز رئتاه عن تزويد دماغه بما يحتاج اليه من أوكسجين حتى بدأت قدرته على الفصل بين الفكر والوهم ضعيفة؟ أم أن ما يراه حقيقة وليست وهماً؟ ولماذا الآن فقط؟ لماذا لم يظهر له هذا الكيان قبل ذلك؟
اكتسبت المشاهد الثلاثة الأخيرة معانٍ أكيدة وواضحة. ولكن لماذا يظهر له هذا الكائن النوراني العجيب في كل مرة يوشك فيها على الموت لينقذه من النهاية المحتومة. لابد من وجود علة ما. ألحَّ عليه هذا السؤال. وعلم أنه هو السؤال الوحيد الذي كان عليه أن يسأله منذ البدء ليستريح.
ولكن المشاهد راحت تترى عليه، تعاد عليه بصورتها الواضحة الأخيرة والتي تتضمن وجود ذلك الكائن العجيب الذي كان مستتراً. يظهر له تحت شجرة التوت، يقف الى جنبه، ويمسح على صدره، فتشيع الراحة في نفسه المضطربة. ويظهر له بعد مصيبة الاختلاس وهو يمد له يداً حانية، فينهضه من الأرض، فيشعر بالاطئنان، بعد أن يهمس في أذنه. كأنما كان يخبره الا يقلق.
تعاد عليه مشاهد تصرفات زملائه التي كان يرفضهاً. مشاهد التناقض العجيب الذي عاشه بين الأفكار. توسل الى ذلك الكائن العجيب أن يساعده من أجل أن يفهم. لماذا لم أهدأ يوماً؟ لماذا كنت قلقاً دوماً؟ ولماذا كنت متذبذباً؟ لماذا لم أستقر على رأي؟ أريد أن أعرف السبب. لماذا لم تتركني أموت مختنقاً في قدر الزيت عندما كنت في الثالثة من عمري؟ أرجوك. هل تتركني أموت الآن متلهفاً لمعرفة الاجابات عن تلك الاسئلة التي استعصت عليَّ طيلة حياتي؟
وخُيِّل اليه أنه رآه واقفاً الى جانبه هذه المرّة وليس ظاهراً كجزء من مشهد يعرض، بابتسامته الهادئة المعهودة، بكل السلام الذي يتحلى به. رآه نوراً مكثفاً، كتلة من نور شفاف، وجوده أو الاحساس بوجوده يشيع في نفس سلمان داوود السكينة والسلام. يشعر أنه في مأمن. تتبخر مشاعر القلق والخوف، وتحلُّ محلها مشاعر الاحساس بالطمأنينة، وبلذة العثور على المعرفة الكاملة. ولم يعد قلقاً بخصوص الوقت. بل يشعر أن الوقت قد توقف، أو أنه صار زماناً ممتداً. يشعر أنه قد تحرر من إيقاع دقات الساعة، وحركة عقاربها. وخُيِّل له أن ذلك الكيان النوراني المسالم الواقف الى جانبه في هذه اللحظة، والذي كان واقفاً الى جانبه دائماً بات مستعداً ليجيبه عن كل تساؤلاته. وخُيِّل له أنهما قريبان. آمن سلمان داود أن هذا الكائن النوراني، بل كتلة الذرات المتلألئة هذه ما هي الا روح رافقته منذ أول يوم من أيام حياته. وأنها ترعاه. وأنها تحبّه. آمن أن هذه الروح كانت تحميه وأنها حريصة اليوم على توضيح الأمور أمامه قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة.
ولكن هذا الكائن العجيب لم ينطق. بل ان المشاهد عينها بدأت تُعاد عليه، عرف أن طريقة هذا الكائن بالتواصل معه هي عرض المشاهد عليه، كان يعرف ما يدور في عقله من أسئلة، ولم يكن بحاجة لسماع صوت أو كلمات. هو يتعامل مع النوايا فحسب. وحين يجيب لا يستعمل الكلمات أيضاً، ولكن وسيلته هي المشاهد. بطريقة عجيبة يستطيع أن يجعل سلمان يرى المشاهد التي يرغب في عرضها عليه. ويبدو ان كل ذلك الذي كان يحصل مؤخرا في عقل سلمان هو بتدبير منه.
فقاعة النور: شاهد نفسه في المشاهد التي تعرض عليه هذه المرة وهو محاط بهالة من نور! فقاعة هلامية صغيرة متغيرة الابعاد تحيط بجسمه، تكبر تارة حتى يبلغ عرضها ثلاثة أو أربعة أمتار، وتصغر تارة أخرى، وتكاد تضمحل وتتلاشى تارةً أخرى حتى تكاد تكون بحجم بالون صغير يحتوي جانباً من رأسه فقط، ثم ما تلبث أن تتسع. انها فقاعة نابضة. فقاعة قلقة. يشبه قلقها واضطرابها قلقه الذي سيطر عليه طوال سنيّ حياته. ويشبه اضطرابها أضطراب روحه وتوزعها بين المتناقضات. ذلك الاضطراب الذي حرمه من لذة الاستقرار على رأي، أو الاقتناع الكامل بفكرة. الاضطراب الذي الذي كان منشأه بحثه المستمر عن معنى الوجود. رأى نفسه يافعاً تكتنفه تلك الفقاعة الضوئية النابضة، ورأى نفسه شاباً، وكهلاً، وشيخاً. رأى نفسه طالباً، وباحثاً، وخبيراً. رأى نفسه في مدن مختلفة، وفي أوقات مختلفة، وفي مهام مختلفة، ولكن شيئاً وحيداً ظلَّ ثابتاً لا يتغير، تلك هي فقاعة النور النابضة التي تحيط به. تلك الهالة الضوئية القلقة الهلامية.
حين تسائل: ما هذه الهالة؟ لم يتأخر الجواب. فقد ظهرت له مشاهد ظهر فيها وهو يناقش بحدّة، ويعترض على زميله الدكتور الطويل في مركز البحوث الزراعية، ذلك المعجب بإلحاده. كان الدكتور الطويل قد تلاعب بنتائج البحث العلمي الذي كانا يجريانه. حين اكتشف الدكتور سلمان ذلك التلاعب، ذلك العمل المشين دخل معه بمشادة كلامية. ظهر له ذلك المشهد بوضوح. كيف لك أن تقدم على ذلك العمل الخسيس يا دكتور يا محترم؟ أنت تقول أنك تؤمن بالعلم، فكيف لك أن تتلاعب بنتائج البحث لتغش في حضرة العلم؟ أتؤمن بالعلم وتتلاعب به؟ مثل هذه المشاهد كانت قد ظهرت له مؤخراً، الا أن ما تغير فيها هذه المرة هو ظهور كل شخص وهو محاط بهالة. ظهرت الهالة التي تحيط بالدكتور الطويل ظلامية معتمة. رآه يتحرك وسط فقاعته السوداء كأنها قطعة من الليل. قطعة ثابتة لا تنبض. قطعة سوداء واسعة مستقرة لا تتغير، ترافقه دائماً. بينما تنبض هالته الضوئية هو وتضطرب.
وظهرت له مشاهد أخرى كان يظهر بها الدكتور القصير ذلك المؤمن بما وراء المادة وهو مغلف بفقاعة ظلامية أخرى تماماً مثل فقاعة الدكتور الطويل. رآه وهو يجلب اليه البريد في ذلك اليوم المشئوم، ورآه وهو يدخل معه بنقاش محتدم حول بعض الخرافات، ورآه وهو يحزم أوراقه وكتبه لينتقل الى بغداد لاستلام منصب كبير في الحكومة، رآه في كل الأوضاع وهو داخل فقاعته الظلامية المعتمة الكبيرة.
ورأى أناساً آخرين يعرفهم أو هكذا خُيِّل له وبالكاد ميَّز من بينهم جيرانه الثلاثة وهم يستحوذن على أرضه ويحاصرون بيته، ويحجبون الشمس والهواء عنه، و شاهد أقرباءه الثلاثة وهم ينتظرون موته، وهم يستولون على راتبه التقاعدي، شاهدهم وهم جميعاً تغلفهم فقاعات معتمة ثقيلة.
أسئلة تتولد من أسئلة، لا يستريح. ما الذي يجري هناك؟ ما بال فقاعات الزملاء والجيران والأقارب سوداء قاتمة. ما إن طرح السؤال حتى أُعيدت عليه المشاهد عينها هذه المرة وهي أكثر وضوحاً. فقد رأى كائنات قبيحة كأنها قردة أو سعادين يكسو أجسامها مخاط من القذارة مقزّز وتفوح منها رائحة نتنة، عيونها حمراء مثل جمرات ملتهبة، ووجوهها قبيحة بشكل لم يسبق له أن تخيّل وجوداً له مثل هذا القبح. ظهرت وهي تعتلي رقاب زملائه، وتتربع على رؤوسهم، وتلعب بهم، تتبرَّز على رؤوسهم ووجوههم وعلى أكتافهم. تدخل من قمصانهم لتخرج من أسفل سراويلهم. تتسلق ضاحكةً بوجوهها الكريهة وأنيابها الزرقاء أرجلهم، فتتربع على مناكبهم أو تجلس القرفصاء على رؤوسهم. بإمكانها أن تتحول فتأخذ أشكالاً مختلفة، فتدخل من آذانهم وتخرج من أنوفهم مثل أفاعٍ أو ديدان مقرفة. ولكنهم لا يشعرون بها، بل يواصلون نقاشهم، ويواصلون ما يقومون به وهم لا يعرفون ما الذي كان يجري لهم. وبدا له أن هذه الكائنات المقيتة توجه المركوبين، وتهمس في آذانهم، وتسيطر على كل حركاتهم وأفكارهم، بل تقودهم.
ولكن سؤالاً برز في عقله: لماذا تستغل هذه الكائنات القبيحة البشر هكذا؟ ودون أن يعلموا بذلك حتى؟ ولكن الجواب لم يتأخر. فقد ظهرت أمامه مشاهد الغابة، بأشجارها التي تزهر، ونحلها الذي يجوب قاصداً الأزهار، ورأى البذور التي تعلق بالحيوانات، ورأى الحشرات التي تصطادها الزهور. وأيقن أن ذلك سرٌ من أسرار الخلق. بل هو بنية ثابتة عميقة تتكرر بأشكال مختلفة وكيفيات عدّة. أن يسخّر بعض المخلوقات بعضاً. لم يكن اذن استعباد البشر من قبل الكائنات الظلامية أمراً جديداً.
ولكن كل ذلك لم يكن ليجيب على كلّ اسئلته. فاذا كانت فقاعات الزملاء ظلامية فما بال فقاعتي أنا مضيئة ولماذا لا تنبض فقاعاتهم التي تحيط بهم بينما تنبض فقاعتي؟
وعندها ظهرت له مشاهد كانت قد ظهرت له سابقاً ولكنها مقربة وواضحة هذه المرة. ولكن يا للهول. ما هذا؟ ما هذا بحق السماء. أرجوك لا أريد أن أعرف. كان يريد أن يتوقف المشهد ولكن الآوان قد فات. فقد بدأ العرض. رأى صراعاً وتدافعا كان يدور حوله بين كائنات قبيحة ظلامية كتلك التي تربعت على رؤوس زملائه، وبين كائنات ضوئية شفّافة. تدافع مستمر، أحياناً يتراجع الظلاميون، فتتوسع الفقاعة المضيئة، وأحيانا تكاد الوحوش القبيحة تطبق على رأسه، فتتقلص أبعاد فقاعته المضيئة، ولكنها لم تنطفيء أبداً. طوال حياته، في كل صراعه مع المتناقضات التي لم يجد لها جواباً، في كل مراحل حياته التي قضاها وهو يبحث عن معنى الوجود، كان يعيش الصراع، ولا يهدأ، وكان التنافس دائراً حول رأسه لا يهدأ. تنافس بين الكائنات القبيحة التي كانت تريد أن تستولي على رأسه، والنورانيين الذين يدافعون عنه. أما زملاؤه الذين آمنوا بالخرافات وظنوا أنفسهم أنهم مؤمنون، وأما زملاؤه الذي اعتقدوا أنهم آمنو ا بالمادة وركنوا اليها واستقرت أنفسهم في كنفها، أما أقرباؤه الجشعون، وجيرانه الغاصبون فقد كانوا في الواقع تحت رحمة تلك الكائنات القبيحة. كثيراً ما كان يحسد هؤلاء وهؤلاء لأنهم حسموا أمرهم وارتاحوا، ولكنه الان يشعر بالرضا لأنه لم يكن يوماً ما منهم. ولكنه سأل سؤالاً آخر: لماذا أنا؟ ما الذي يجعلني مختلفاً؟ ما إن تبادر الى ذهنه هذه السؤال حتى عرضت عليه مشاهد جديدة. مشاهد يظهر هو فيها في مراحل عمرية مختلفة. وعندما اتضحت الصورة أكثر، رأى أن في صدره ما يشبه الضوء، قنديل صغير، شمعة بسيطة. خُيِّل اليه أن الكائن النوراني يخبره أن هذا الشيء اسمه الحب، أو الخير، أو ما شابه. شعلة بسيطة لم تنطفيء حين انطفأت قلوب الآخرين. ضوء بسيط ظل يتوهج طوال الوقت، ليحميه من الوقوع في الظلام. وكأن الكائن النوراني يريد أن يقول له أن هذا هو مكمن قوتك، وهذا الضوء البسيط الذي ظل ينير قلبك هو الذي أنجاك. فلم يتمكن الظلام من أخذك؟
ولكن سؤالاً برز في عقله، هل أنا وحدي هكذا؟ ما إن فكر بالسؤال حتى رأى مشهدا غريباً وكأنه يحلّق في الجو وينظر الى جمع من الناس من علوٍ مرتقع. ظهروا له مثل رؤوس صغيرة، أجساد تحيطها فقاعات. غير ان أكثر الفقاعات ظلامية، وبعضها كانت مضيئة. ثم شاهد ما يشبه المدرسة حيث يلعب التلاميذ في ساحتها تحيط بهم فقاعات مضيئة.
تمنى أن يرى شخصاً يعرفه عن قرب تحيط به فقاعة ضوء. فقد شاهد زميليه الدكتور الطويل والقصير ، وشاهد أقرباءه الغرباء وجيرانه الطيبين وهم داخل فقاعاتهم المعتمة، فليشاهد شخصاً آخراً يعرفه شخصيّأً وهو داخل فقاعة مضيئة.
ما إن خطرت هذه الفكرة على عقله، حتى ظهر له مشهد قديم. مشهد ظهر فيه القلّاف وهو يتمتم ويذرف دموعاً ويواصل حشر فتائل القطن بين ألواح البلم. كان يجلس وثمة هالة من نور تحيط به، هالة كبيرة واسعه ومستقرة. خيل له أن المشهد يزداد وضوحاً، فقد رأى نفسه وهو طفل يتسلل بين الأشياء المتناثرة في ورشة تصليح السفن، ويدنو خلسة من القلّاف العجوز ليعرف ما الذي كان يدندن به ليل نهار، سمعه يتمتم، بل كان يردد كلمة واحدة بكل وضوح. الله، الله، الله. ومع كل كلمة يقولها، كان الضوء الذي يحيط به يزداد توهجاً وبهاءً!
الآن فقط كُشفت له الحقيقة. الآن فقط أحسَّ بالرضا. الآن فقط هدأت نفسه، وارتاح قلبه. لم يعد بإمكانه عمل شيء، ولكنه قرر أن يبلغ الآخرين عما توصل اليه عقله الجبار في لحظاته الأخيرة. كان يريد أن يبلغهم أنه ولأول مرة في حياته الطويلة قد آمن بوجود عالم ما وراء المادة. وشعر بالشفقة إزاء زملائه المختلفين، وأقربائه الغافلين، وجيرانه المخدوعين. ومن صميم قلبه سامحهم جميعاً، وتمنى أن يتحرروا من الظلام الذي استولى عليهم.
وبكل ما أوتي من قوة متبقية لديه صاح، لأول مرة منذ زمن بعيد، خرج صوته رخيماً، هو الذي لم ينطق منذ مدة، صرخ صرخة مرعبة اهتزت لها أركان البيت، وفزع الخادم البنغالي الذي كان يغطُّ بنومه في الغرفة المجاورة. تردد الصوت مخيفاً يشقُّ سكون الليل.
(كومار)
كانت الساعة تشير الى الرابعة فجراً حين رنت هواتف أقربائه، كان الخادم البنغالي يحاول ابلاغهم شيئاً. ولكنهم كانوا يغطّون بنوم هانيء في ذلك الفجر البارد ليوم السابع من كانون الثاني .كانوا جميعاً يرون حلماً واحداً بوقت واحد، كانوا وكأنهم يسمعون صوت العجوز المحتضر سلمان داوود الفرج وهو ينادي:
( كومار).
قبل أن يأتي لنجدته أحد، كان هو يشم رائحة الزيت البحري القويّة، والتي بدأت تكتسب جمالاً أخّاذاً وكأنها عطور أزهار الربيع يحملها نسيم بارد، وخُيِّل اليه أنه بدأ يسمع خرير ماء وزقزقة عصافير أو ماشابه، ولكنه تأكّد أنه بدأ يسمع موسيقى غايةً في الروعة. حين أغمض عينيه، شعر بيدٍ تمتد داخل صدره، وتلامس قلبه، ثم رأى عصفوراً وهو ينطلق في شلال ضوء متدفق من كوةٍ في أعلى جدار، ورأى نفسه ينطلق نحو فضاء رحب لاحدود له.
النهاية



#حامد_تركي_هيكل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حكاية سعيد الورّاق
- كاميرات ثلاث -الجزء الثالث
- كاميرات ثلاث -الجزء الثاني
- كاميرات ثلاث -الجزء الأول
- خيالات
- هو الذي رأى كل شيء _الجزء التاسع والأخير
- هو الذي رأى كل شيء _الجزء الثامن
- هو الذي رأى كل شيء _الجزء السابع
- هو الذي رأى كل شيء _الجزء السادس
- هو الذي رأى كل شيء _الجزء الخامس
- هو الذي رأى كل شيء _الجزء الرابع
- هو الذي رأى كل شيء _الجزء الثالث
- هو الذي رأى كل شيء _الجزء الثاني
- هو الذي رأى كل شيء _الجزء الأول
- سالم ابن دَهَش -ج4 والأخير
- سالم ابن دَهَش -ج3
- سالم ابن دَهَش -ج2
- سالم ابن دَهَش- ج1
- دوامة الأوراق
- حلم بورجوازي سخيف


المزيد.....




- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...
- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حامد تركي هيكل - حكاية موت الدكتور سلمان