أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حيدر جواد السهلاني - الدولة في فكر عبدالجبار الرفاعي















المزيد.....


الدولة في فكر عبدالجبار الرفاعي


حيدر جواد السهلاني
كاتب وباحث من العراق


الحوار المتمدن-العدد: 7204 - 2022 / 3 / 28 - 11:37
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


" الدولة هي أبرد وحش من بين جميع الوحوش الباردة، نيتشه، هكذا تكلم زرادشت"
المقدمة:
أن مفهوم الدولة من المفاهيم التي برزت في الفلسفة والفكر السياسي الغربي الحديث، وقد ورد هذا المفهوم بكتاب الأمير لمكيافيلي، والذي اعتقد في كتابه أن الدولة أو الملكية المطلقة لا يمكن لها أن تقوم، إلا بإعطاء الأمير السلطة المطلقة، وبالتالي وبعد الثورات التي قامت ضد حكم الكنيسة سواء من داخل المؤسسة الدينية، البروتستانتية، أو من داخل المؤسسات العلمية وما قام به العلماء بدحض النظريات العلمية التابعة للكنيسة، أو من خلال المؤسسات السياسية والثورات الشعبية، بدأ الكثير من الفلاسفة يبحثون عن حكم صالح يحقق العدالة والقانون لكل أبناء الشعب، ويحترم دياناتهم ومذاهبهم وألوانهم، وتمخضت هذه الثورات المتتالية عن وقوع الثورة الفرنسية عام 1789، والتي بدأ فيما بعدها تبرز نظريات عن الدولة، خارج الأطر الدينية، وقد اصبح مفهوم الدولة من المفاهيم الحديثة والتي تدل على الحكم المدني البعيد عن الحكم الديني، وإلا يومنا هذا يعتبر هذا المفهوم حديث وذو دلالة ديمقراطية وأيضاً يدل على تطور البلد.
إن الشعور بالدولة سابق على قيامها، فالدولة قد اتخذت عبر العصور التاريخية المختلفة أسماء عدة، و تكتسب قيمتها من شعور الناس بها، وإحساسهم بوجودها، فبدون هذا الشعور لا وجود للدولة، فهذا الشعور يعني الاعتراف بأن ثمة سلطة حاكمة في المجتمع، يخضع لها كل فرد فيه، وهي تجمع سياسي يؤسس كيانا ذا اختصاص سيادي في نطاق إقليمي محدد ويمارس السلطة عبر منظومة من المؤسسات الدائمة، وبالتالي فإن العناصر الأساسية لأي دولة هي الحكومة والشعب والإقليم، بالإضافة إلى السيادة والاعتراف بهذه الدولة، بما يكسبها الشخصية القانونية الدولية، ويمكنها من ممارسة اختصاصات السيادة لاسيما الخارجية، وينظر لها بأنها مجموعة من الأفراد يمارسون نشاطهم على إقليم جغرافي محدد ويخضعون لنظام سياسي معين متفق عليه فيما بينهم يتولى شؤون الدولة، وتشرف الدولة على أنشطة سياسية واقتصادية واجتماعية والتي تهدف إلى تقدمها وازدهارها وتحسين مستوى حياة الأفراد فيها، وينقسم العالم إلى مجموعة كبيرة من الدول، وإن اختلفت أشكالها وأنظمتها السياسية.
تعريفات الدولة:
وردت عدة تعريفات عديدة لمفهوم الدولة، منها:
1_ الدولة وحدة قانونية دائمة، تتضمن وجود هيئة اجتماعية، لها حق ممارسة سلطات قانونية معينة، في مواجهة أمة مستقرة على إقليم محدد، وتباشر الدولة حقوق السيادة بإرادتها المنفردة عن طريق استخدام القوة المادية التي تحتكرها.
2_ الدولة جماعة من الناس تقيم دائما في إقليم معين، ولها شخصيتها المعنوية، ونظامها الذي تخضع له، ولحكامها، واستقلالها السياسي.
3_ الدولة مجموعة من الأفراد (الشعب) يعيشون على إقليم محدد (الأرض)، ويخضعون لسلطة سياسية حاكمة (الحكومة)، وتتمتع بالاعتراف الدولي، كشرط للتمتع بالصفة الدولية.
4_ الدولة عبارة عن ذلك الشخص المعنوي الذي يمثل أمة (تقطن أرضا معينة)، والذي بيده السلطة العامة، أو كما يسمونها السيادة.
5_ الدولة هي عبارة عن كيان سياسي منظم، يتمثل في مجموعة من الأفراد الذين يقيمون على أرض محددة، ويخضعون لتنظيم سياسي وقانوني واجتماعي معين، تفرضه سلطة عليا.
6_ الدولة هي مجموعة من المؤسسات القانونية والادارية والعسكرية التي تم انشاءها من لدن جماعة من الناس بموجب عقد مشترك لغرض تنظيم حياتهم في كافه المجالات داخل مجال ترابي معين.
نشأت الدولة:
ظهرت مجموعة من النظريات التي فسرت نشأة الدولة منها:
أولاً_ النظرية الالهية، يعتقد اصحاب هذه النظرية أن الدولة تعود نشأتها من الله (جل جلاله)، وأن الإنسان ليس عاملاً أساسياً في نشأتها وأن الإله هو الذي اختار لها حكاما ليديروا شؤونها.
ثانياً_ نظرية القوة، ترى هذه النظرية أن الدولة نشأت من خلال سيطرة الأقوياء على الضعفاء، إذ إن كثير من المجموعات الحاكمة اعتمدت على القوة في الوصول إلى الحكم مستغلة خوف وقلق الأفراد من الحروب وحبهم الأمن والاستقرار ،وهي وسيلة في بناء الدولة وقوتها.
ثالثاً_ النظرية الطبيعية، أن أساس هذه النظرية مبني على طبيعة الإنسان الاجتماعية وحيث أن الإنسان لا يستطيع العيش منعزلاً عن غيره من الأفراد، فلا بد أن يتعاونوا من خلال تفاعلاتهم الاجتماعية المختلفة، ومن هنا رغبت الجماعات في أن يكون لها قيادة أو سلطة ومن ثم دولة ذات سيادة وسلطة.
رابعاً_ نظرية العقد الاجتماعي، ترى هذه النظرية أن أفراد الشعب أجمعوا على قيام الدولة من خلال اتفاق مجموعة الأفراد (مع الحاكمين) ،حيث يتقبل الشعب حكم الدولة مقابل تلبيتها حاجات الناس وتنسيق علاقاتهم مع بعض، وقد نادى بهذه النظرية بعض المفكرين السياسيين مثل: توماس هوبز وجون لوك وجان جاك روسو.
يرى الرفاعي أن العائلة هي أول مؤسسة مجتمعية أنتجها الإنسان، تلبية لضرورات فرضتها طبيعة حياته على الأرض، وتأسست العائلة على صلات عاطفية وقيم أخلاقية ومبادئ قانونية، ويتحقق في إطارها تأمين الحاجات المادية والنفسية والمعنوية، وتنظيم العلاقات بين أفرادها في ما يخص العمل والإنتاج والتوزيع، وحل النزاعات، وردع الظلم، وما زالت أجمل كيان إنساني ابتكره الكائن البشري، وأرق حضن يحتضنه ويؤمن له الحماية والأمن، ولا تقوم أية عائلة بفرد واحد، ولا تستمر بنيابة فرد عن الكل في كل شيء، وكما أنتج الإنسان العائلة تلبية لضرورات فرضتها طبيعة حياته على الأرض، وكذلك أنتج الإنسان الدولة تلبية لضرورات فرضتها طبيعة حياته على الأرض، بعد أن بلغ نضج الإنسان الذهني وثقافته مرحلة متقدمة، وتشعبت علاقاته الاجتماعية وتشابكت وتعقدت، وتطورت وتنوعت وسائل وأنماط إنتاجه، وتراكم رأس ماله، وازدادت ثرواته المادية والرمزية، واخترعَ الإنسان وقتئذ الدولةَ، وتعمل على حماية الأفراد والمجتمع من الظلم والتعسف في استعمال الحق، وتعيد تنظيم شبكات العلاقات الاجتماعية وحمايتها بما يرسخ بنية المجتمع وأمنه، وتسهم في إدارة الثروات، وتنمية الإنتاج، وتضمن التوزيع العادل للثروة، وترسم خططًاً للتنمية الشاملة، وتبتكر برامج للتطوير، والدولة ظاهرة اجتماعية مركبة، وهي أهم وأعمق وأعقد مؤسسة ابتكرها الإنسان، فقد احتاجت البشرية، من خلال مسيرتها الطويلة في تاريخها، إلى آلاف التجارب الفاشلة حتى استطاعت أن تبتكر ظاهرة الدولة، ولم تولد هذه الظاهرة ناجزة كاملة نهائية، بل كانت وما زالت، مثل أي ظاهرة اجتماعية مشتقة من احتياجات البشر، تتوالد وتتكيف وتترسخ، تبعا لنمط الاجتماع البشري ورتبته في سلم التطور الحضاري.( نلاحظ هنا أن الرفاعي يفسر نشأت الدولة بتفسير اجتماعي ، و يبتعد عن التفسير الديني لنشأة الدولة، ونعتقد هنا أن نشأة الدولة كان الدين اللاعب الأساسي في نشأتها، وذلك أن الإنسان ولد متشبع دينياً، وذلك من خلال أبا الإنسانية آدم( عليه السلام)، وقد كان لنبي آدم عليه السلام، مجموعة من الأولاد ويشكلون مجتمع ليس بالقليل، وهذا المجتمع كان تسير أموره من خلال النبي آدم(عليه السلام)، و النبي يشرف على توزيع العمل والتكاتف الاجتماعي، وبعد مرور الزمن بدأ المجتمع يكبر ويهاجر إلى مدن أخرى، وبدأ يفقد دينه الأولي، لكنه احتفظ بشيء منه، وبدأ حب التملك لدى بعض من الناس وحبه للتسلط والتسيد على الأخرين، والإنسان بطبيعته يؤمن بوجود إله يساعده ويحميه سواء من الحيوانات المتوحشة أو الطبيعة، وبذلك بدأ الإنسان يتسيد على أخيه الإنسان بدافع ديني، وبدأ الادعاء بالألوهية أو هو يشكل نصف إله ،وعلى المجتمع تقديسه، وقد كان هذا الاعتقاد موجود في أغلب الحضارات القديمة، ووصل الحد في بعض الحضارات، أنه لا يجوز للعائلة المالكة الزواج من خارج العائلة، فكان الأخ يتزوج أخته، أو الأب يتزوج بنته، أو الأبن يتزوج أمه وهذا ما كان موجود على سبيل المثال لا الحصر في مملكة كيلوبترا، وبذلك أن نشأة الدولة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالدين، وإلى يومنا هذا يشكل الدين المنبع الأساسي للدولة، سواء من الناحية التشريعية، أو المساهمة بربط المجتمع، إذ يعد الدين عاملاً أساسياً في الحفاظ على التكاتف الاجتماعي، ونلاحظ هنا الدول التي تحكمها الأنظمة الغير مؤمنه بوجود الله، تجدهم يصنعون للمجتمع مقدسين ومقدسات، وذلك من أجل الحفاظ على ربط المجتمع فيما بينهم ووجود لهم مشتركات من خلال المقدسات).
الدولة والدين:
يرفض الرفاعي فكرة الدولة بأنها ظاهرة نبوية، فهذه الفكرة لا تؤكدها الوثائق، ولا الدراسات المتنوعة حول نشأة الدولة وتطورها عبر التاريخ، إذ إنها تكشف عن أن نشوء الدولة سببه تعقيد الحياة الاجتماعية، وصراعات السلطة والثروة بين البشر، وحاجاتهم إلى تنظيم عملية الانتاج وإدارة التوزيع، فالبشر لم يتعرفوا على الدولة من خلال الأنبياء، كما هو الحال مثلاً مع مفهوم التوحيد، فقد ظهر الأنبياء داخل مجتمعات بلا دولة، أو في مجتمعات تحكمها دولة، وسياق الآيات القرآنية واضح بشأن هذه القضية، إذ أعلن بعض الأنبياء دعواتهم داخل تجمعات مدنية عرفت الدولةَ وعاشت في ظل أنظمة سياسية قبل دعواتهم.
أما دولة الخلافة والسلطنة في التاريخ، فإنها ليست معبرة عن المضمون الروحي والأخلاقي للقرآن الكريم، بل إن تجربة الخلافة الأموية والعباسية والعثمانية تضج بالانتهاكات المثيرة للقيم الأخلاقية والمضامين الروحية في القرآن الكريم، كما يحدثنا عن ذلك التاريخ المنسي للمضطهدين في تاريخنا، الذين كانوا ضحية قمع وتنكيل وانتهاك مريع للكرامة أمثال الثوار الأحرار، والسبايا، والرقيق ، واستخدام الأساليب المخجلة في بيع البشر وشرائهم في أسواق النخاسة، والمعاملة غير الانسانية للرقيق والإماء، وأن الدولة الدينية الذي تحيل إليه أدبيات الجماعات الدينية، تجدها تستأنف دولة المسلمين في التاريخ، علماً أن دولة المسلمين، منذ عصر الخلفاء الراشدين حتى إلغاء أتاتورك الخلافة العثمانية عام 1924، لم تتشكل وتتأطر وتتسع وتتقلص في أفق النص المقدس، أي إنها كانت دولة دنيوية أنتجها البشر، ولم تكن مشتقة من النص، ولم تكن دولة إلهية ربانية، ولم يكن حضور الدين وتشريعاته ومنظومته القيمية لدى الخلفاء الأمويين والعباسيين، والسلاطين العثمانيين، سوى طلاء خارجي باهت وقشور واهية، لصياغة رسوم دار الخلافة، وتلوين بروتوكولات قصور الخلفاء والأمراء والسلاطين، وكل من يتأمل الحضور الشكلي للدين في سلطة الخلفاء والسلاطين يجد تضاداً بين دين السلطة ودين الناس، وكل من يقرأ تجربة السلطة في تاريخ الإسلام لا يرى تطابقاً بين الدين والدولة، بل يجد المجال السياسي على الضد من المجال الديني بمضمونه الروحي والأخلاقي، وأن تجربة دولة الأنبياء، لا يوجد دليل تاريخياً على قيام دولة على يد نبي قبل الإسلام، لا دليل في الكتاب الكريم على ذلك، وما قد يفهم من قصة النبي سليمان في القرآن الكريم من وجود دولة، فهو ليس دولة بالمعنى الذي عرفه تاريخ الدولة بوصفها ظاهرة مجتمعية أنتجها البشر، لأن القرآن الكريم تحدث عن دعاء سليمان أن يهب له الرب "مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّن بَعْدِي" سورة ص، الآية35 ، وهو ملك يدير شيئاً من شؤونه "عِفْرِيتٌ مِّنَ الْجِنِّ" سورة النمل، الآية 39، ومن الواضح أن القرآن الكريم هنا لا يتحدث عن دولة بالمعنى السياسي للدولة المتزامن مع لحظة ملك سليمان، ولعل في مدلول "المُلْك" هنا إشارة إلى معنى رمزي يؤشر إلى هالة وسطوة روحية عظمى لسليمان، تحققت من خلال النبوة، وما ورثه من مكانة معنوية كبيرة من أبيه داود، وهو ما وضعه في مقام استثنائي فرض على الكل احترامه وتبجيله، بنحو صار فيه حتى من لا يعرفه ينصاع لسطوته، بعد أن ينكشف له ما يمتلكه من هالة روحية وسطوة معنوية كبرى، كما أن مصطلح الحكم الوارد في الآيات الأخرى في القرآن الكريم، وهي "وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ" سورة المائدة، الآية 44، "وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ" سورة المائدة، الآية 45، "وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ" سورة المائدة، الآية 47، يدل على الحكم في القضاء، ولا يدل على الحكومة والسلطة السياسية بالمعنى المتداول اليوم باللغة العربية، كما تكشف عنه دلالة الآيات الوارد في سياقها، مضافاً إلى أن هذه الآيات تخاطب أهل الكتاب خاصة، لذلك تدعوهم للتمسك بحكم التوراة والانجيل، ولم ترد أية إشارة في سياقها للمسلمين أو كتابهم القرآن الكريم.
وهنا يعني الرفاعي بالدين، هو الدين بمعناه الكلامي والفقهي، الذي ينص على التمييز بين المسلم وغير المسلم، والرجل والمرأة، والسيد والعبد، ومثل هذا المفهوم للدين يتعذر في منطقه الفقهي والكلامي اشتقاق المفهوم الحديث للمواطنة الذي يفرضه بناء دولة حديثة، ومفهوم المواطنة يعني أن تتساوى حقوق الكل بوصفهم منتمين لوطن واحد، من دون فرق بين البشر على أساس معتقدهم أو جنسهم أو لونهم أو طبقتهم، والكثير من الإسلاميين الذين في السلطة اليوم يحلمون في بناء دولة حديثة، ولم يتنبهوا إلى أن مفهوم المسلم الذي تقوم عليه الدولة الدينية غير مفهوم المواطن الذي تقوم عليه الدولة الحديثة، ومفهوم المسلم يتحدث لغة وينتمي الى مجال تداولي غير اللغة التي يتحدث بها مفهوم المواطن والمجال التداولي الذي يتموضع فيه، ذلك أن الدولة الدينية تقوم على الإسلام بمعناه الكلامي والفقهي، الذي يصنف الرعايا على وفق ديانتهم وجنسهم، ويلزم الرعية بالطاعة، كما يشدد على ذلك أكثر كتاب الأحكام السلطانية، ويمنح الراعي حقوقاً وصلاحيات من دون حدود تقيد سلطاته، أو تفوض غيره من الرعية في محاسبته، أو تفرض رقابة عليا عليه، ولا تدخل الهوية الروحية والأخلاقية في تحديد هوية الدولة الدينية، ولا يحضر الإسلام بمعناه الروحي والأخلاقي في التجارب العملية لهذه الدول إلا بوصفه طلاء شكلياً، وبذلك أن التفكير في الدولة الحديثة لدى الجماعات الدينية يستوحي البنى القديمة لمرحلة ما قبل الدولة في تاريخنا، ويحيل إلى ميراث دولة الخلافة وغيرها في عالم الإسلام، لذلك افتقرت أدبيات هذه الجماعات إلى مفاهيم ومصطلحات ولغة الدولة الحديثة، وإن العمل بموجب منطق التكليف الكلامي في المجال السياسي لا يبني دولة حديثة، بل غالباً ما ينتهي إلى نتائج تفشل الحياة السياسية، وتهدم الدولة الحديثة، ذلك أن للفعل المكلف به العبد، على وفق منطق التكليف، نتائج تنتهي أحياناً إلى الضد من مصلحة الوطن والمواطن، ولا تسهم في بناء الدولة، فالمكلف بالتكليف الشرعي مسؤول أن يبرئ ذمته من التكليف، بقطع النظر عن نتائج الفعل وآثاره، لذلك نجد أكثر الاسلاميين في السلطة يكرر هذه المقولة: يهمني إداء التكليف الشرعي، وابراء الذمة أمام الله(جل جلاله) من الفعل المكلف به، لأنه يعتقد أنه مسؤول أمام الله، ومن ينوب عنه من الخلفاء، وقلما نسمع من يقول: مسؤوليتي حيال الوطن والمواطن تفرض علي العمل من أجل مصلحة الوطن والمواطن، والسعي لاستثمار كل الامكانات والفرص المتاحة من أجل بناء الدولة واسعاد المواطن، أما في الدولة الحديثة فكل من هو في السلطة يعتقد أنه مسؤول أمام المواطن والوطن، لذلك ينهض بوظيفته في تأمين متطلبات المواطن والوطن المسؤول عنها.
الدولة المدنية:
يدعوا الرفاعي إلى إقامة دولة مدنية قائمة على أفكار إنسانية أو بالمصطلح العام قائمة على أفكار علمانية وتكون على غرار الدول الغربية، والذي يؤمن الرفاعي بأنها حققت نجاحاً كبيراً، أما بناء الدولة على حياة روحية خاوية أو ضمير أخلاقي هش، هو رهان على أمر لم يتحقق بعد، فالدولة الحديثة تبنى على القانون الحديث والقيم المتناغمة معه والصرامة العادلة في تطبيقه، أما التدين والتقوى فيمكن أن يساعد في تطبيق القانون، فالدولة لبثت يعاد إنتاجها وتطورها من خلال نمو معارف البشر واتساعها، وتنوع تجارب المجتمعات، وتراكم الخبرات، عبر التغلب على الثغرات واكتشاف الأخطاء ، فمنذ ظهور الدويلات في الحضارات الأولى، مثل دول المدن في سومر وغيرها، تنامت الدولة وترسخت ببطء عمودياً وأفقياً، ومع كل مرحلة تضيف خبرات البشر ومعارفهم قوانين وقيم ومفاهيم جديدة لبناء الدولة، وتحذف أخرى لم تعد قادرة على الوفاء بمتطلبات الواقع ومستجداته، ولم يصل الإنسان الى بناء الدولة الحديثة إلا بعد مضي آلاف السنين، والدولة ظاهرة حية، تنمو وتتطور مفاهيمها، ويعاد تكوينها تبعاً لتراكم تجربتها وتنوعها عبر الزمان، وأن نموذج الدولة الحديثة بنيت على الفكر السياسي ونظريات الدولة التي صاغها المفكرون في عصري النهضة والأنوار، ودولة الغرب الحديثة هي الدولة التي ما زلنا نتمناها، ويلوذ بها الهاربون من جور حكوماتنا وعسفها، منذ أن حدثنا عنها، وقد تأسست هذه الدولة على القانون الذي صنعه الإنسان، والقيم التي تتناغم مع روح هذا القانون، وتركزت استراتيجياتها وبرامجها في التربية والتعليم والثقافة والإعلام على بناء شخصية المواطن الذي يحترم القانون، ويكون مسؤولاً حيال المجتمع والدولة، ويكفل له القانون حرياته وحقوقه بوصفه إنساناً.
يعتقد الرفاعي أن العرب عندما يفكرون في بناء دولة، يفكرون في بناءها من خلال أسوار التراث والمعتقدات الدينية والهويات العرفية، بينما الدولة الحديثة لا تبنى على التراث والمعتقدات الدينية والهويات العرفية، وإنما تبنى على المواطنة التي يحدد نصابها الدستور، إذ ما زلنا حتى اليوم نحاول اقتباس أشكال دساتير دول الغرب الحديثة وتعدديتها السياسية وتداولها السلمي للسلطة ومشاركتها الشعبية وانتخاباتها، وعملها على الفصل بين السلطات، وتفكيك تمركزها بيد شخص واحد، وقدرتها على تحرير المجتمع من تغول السلطة وطغيانها، وحمايتها لأموال الشعب وثرواته من لصوصية رجال السلطة، ومثال ذلك دول الغرب التي وضعت القانون متناسق مع قيم المجتمع ، وتركزت استراتيجياتها وبرامجها في التربية والتعليم والثقافة والإعلام على بناء شخصية المواطن الذي يحترم القانون، ويكون مسؤولاً حيال المجتمع والدولة، ويكفل له القانون حرياته وحقوقه بوصفه إنساناً، ولذلك نجحت بإدارة التعدد وتدبير التنوع، وحسم أكثر النزاعات بشكل سلمي، و أدركت هذه المجتمعات ديناميكية التغيير الاجتماعي العميقة، وكيف أنها جدلية تفاعلية بين الخارج والداخل، فبناء دولة متينة في الخارج من شأنه أن يعمل على بناء الإنسان من الداخل، وبناء الإنسان في الداخل من شأنه أن يعزز قدرات مؤسسات وأجهزة الدولة وفاعليتها، وبناء الدولة المدنية لم يكن على الضد من نظام القيم والثقافة العامة في المجتمع، بل كانت القيم على الدوام متناغمة مع القانون المطبق فيها والثقافة العامة للمجتمع، بنحو اصبحت القيم في حياة المجتمع تتحدث لغة القانون، والقانون يتحدث لغة القيم، وكلاهما يتحدثان لغة ثقافة المجتمع، ، وهذا التناغم بين نظام القيم والقانون والثقافة العامة في الدولة الحديثة يعود إلى أنها كلها تنبثق من رؤية واحدة للعالم، وتنتمي إلى فضاء العقل الحديث ومكتسباته، وهذا التناغم يشكل أرضية صلبة لبناء أية مؤسسة في الحياة، فلو لم يتناغم نظام القيم مع القانون والثقافة العامة أو حدث بينهما فصام، سيؤدي ذلك إلى حدوث اختلالات عميقة، وتهشم بنية هذه المؤسسة وتبددها، وتحضر الثقة كقيمة عليا في الدول المتقدمة، وبذلك سيتراكم المال الاجتماعي برصيد الثقة، لذلك نجد تطور الدول يقاس بمدى بناء الثقة وتجذرها بوصفها قيمة مجتمعية محورية في حياة مواطنيها، ففي الدول المتقدمة ترتفع بدرجات قياسية معدلات، الصدق، والأمانة، والإخلاص، والنزاهة، وتقدير قيمة الوقت، والمثابرة على العمل، والتعامل مع المواطن بوصفه مواطناً وكفى، من دون النظر لمعتقده أو أثنيته أو عشيرته أو طبقته، وذلك ما يدعو أكثر الناس الذين يتعاملون مع المؤسسات الحكومية وغيرها للشعور بالرضا وعدم المظلومية، ويتناسب معدل النمو في كل دولة مع قوة حضور هذه القيم في المجتمع، ويتراجع تبعاً لهشاشة حضورها، وتوفر الثقة وهذه القيم بمجموعها حاضنة حيوية لانسجام المجتمع مع القانون، وتظهر فاعليتها بوضوح في تطبيقه وتنفيذه بأقل كلفة، وتخفض بدرجة كبيرة حالة التناشز بين المجتمع والدولة.
( الرفاعي ذو الأصول الحوزوية، والذي يؤمن بأن صلاح المجتمع يكمن بتقديم قراءة جدية وجديدة للإسلام، و أن أسيجة التراث لا بد أن تهدم بمعول القراءة الحديثة، لكنه على صعيد بناء الدولة، لا ينظر للتراث الإسلامي وقراءته لتقديم حكومة تحقق العدالة، بل أنه يؤمن بما حققته العلمانية من تحقيق الرفاهية والعدالة والتقدم التكنولوجي للشعب، ويبدو أن الرفاعي والذي عاصر وعايش الكثير من حكم العراق وغيره من الدول العربية، يؤمن بأن احزابهم الإسلامية السياسية، لا يمكن أن تبني دولة، وهذا السبب يبدو لنا منطقياً، فنتفق مع الرفاعي بأن مؤسساتنا الدينية الهشة، لا يمكن لها أن تبني دولة مدنية قائمة على حفظ القانون وتحقيق الرفاهية للمواطن، والدليل على ذلك أن بعض من المؤسسات أو الاحزاب الدينية التي وصلت إلى سدة الحكم، أدت إلى ضياع الوطن والمواطن كما حصل ذلك مع مصر بظل حكم الإخوان المسلمين، وأيضاً ما حصل مع تونس ووصول الإخوان إلى تبوء مناصب قيادية في تونس وأدت إلى ضياع تونس، أما الدول العربية المتقدمة والتي حققت رفاهية للمواطن مثل دول الخليج، هي دول تحترم الأديان جميعاً، وقد أدرك حكام هذه الدول الأذكياء أن المؤسسات الدينية الهشة والمتناحرة، لا يمكن أن تبني دولة، ويقول الرفاعي " أن رهاننا على بناء الإنسان الروحي والأخلاقي الداخلي، الذي تتعهده جماعات دينية ومعاهد تعليم ديني ومدارس ومدونات كلامية وفقهية، لا تبني دول حديثة، والغرب لم يترقب جهود الكنائس والأديرة والمعابد والمدارس، بل أنشغل بتأسيس دولة على أساس فكر سياسي جديد ولوائح للحريات والحقوق التي وضعها الفلاسفة المتنورون، أما الدولة التي أنتجتها الكنيسة في العصور الوسطى استعبدت الإنسان وتحكمت بكل شيء في حياته، وقضت على روح الأبداع".
الهوامش:
ينظر عبدالجبار الرفاعي: الدين والاغتراب الميتافيزيقي، مركز دراسات فلسفة الدين، بغداد، ط2، 2019، من ص45 إلى ص65.



#حيدر_جواد_السهلاني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عبدالجبار الرفاعي سيرة وفكر
- البرلمان في فلسفة جون ستيوارت مل السياسية
- مفكر بعقل فقيه، ماجد الغرباوي
- بيل جيتس
- فلسفة الثورة عند سيد الشهداء الحسين بن علي(ع)
- الطبيب الثائر، جيفارا
- زها حديد وفن العمارة التفكيكي
- دجلة
- العمل التطوعي ، الثقافة الغائبة
- ظاهرة التفاهة
- المنطق عند جوزايا رويس
- مفهوم الولاء عند جوزايا رويس
- مفهوم البطل عند توماس كارليل
- فلسفة العلم واللاعلم عند كارل بوبر
- مفهوم الإرهاب
- مفهوم الاستبداد
- حفار اليقينيات عبدالرزاق الجبران
- المرأة في فكر قاسم أمين
- الدين والدولة في فلسفة مارسيل غوشيه
- الثقافة عند سلامة موسى


المزيد.....




- فيديو كلاب ضالة في مدرج مطار.. الجزائر أم العراق؟
- الناتو يقرر تزويد أوكرانيا بمزيد من أنظمة الدفاع الجوي
- طهران: لا أضرار عقب الهجوم الإسرائيلي
- آبل تسحب تطبيقات من متجرها الافتراضي بناء على طلب من السلطات ...
- RT ترصد الدمار الذي طال مستشفى الأمل
- نجم فرنسا يأفل في إفريقيا
- البيت الأبيض: توريدات الأسلحة لأوكرانيا ستستأنف فورا بعد مصا ...
- إشكال كبير بين لبنانيين وسوريين في بيروت والجيش اللبناني يتد ...
- تونس.. الزيارة السنوية لكنيس الغريبة في جربة ستكون محدودة بس ...
- مصر.. شقيقتان تحتالان على 1000 فتاة والمبالغ تصل إلى 300 ملي ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حيدر جواد السهلاني - الدولة في فكر عبدالجبار الرفاعي