أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حيدر جواد السهلاني - الطبيب الثائر، جيفارا















المزيد.....



الطبيب الثائر، جيفارا


حيدر جواد السهلاني
كاتب وباحث من العراق


الحوار المتمدن-العدد: 6987 - 2021 / 8 / 13 - 19:12
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


" في حب بلادك ،لا تكن محايداً ،كن متطرفا حتى الموت، جيفارا."
المقدمة:
جيفارا، طبيب وكاتب وزعيم حرب عصابات وقائد عسكري ورجل سياسة واقتصاد، ودبلوماسيا وعاشقاً للحياة والحرية والوطن والإنسان والفقراء وللمرأة وللفنون والثقافة والمعرفة والثورة، التي نذر نفسه من أجلها، ومنحاز للفقراء إلى الحد أعتقد أن الأغنياء مذنبون ، ويعتبر جيفارا بطل ثوري ورمز عالمي لمكافحة الفقر والظلم الذي يقع على الإنسان من أخيه الإنسان، فهو جسد كل معاني البطولة والتضحية من أجل العيش الكريم، ويعتبر أكثر المناضلين شهرة في العالم عبر مراحل التاريخ الحديث، ونموذج الشباب بالمعنى الروحي والكفاحي في القرن العشرين، فلا غرابة وليس بالكثير على مسيرته التحررية وتضحياته الجسام وإنجازاته البطولية أن تضعه مجلة (التايم) واحداً من أشهر مئة شخصية الأكثر تأثيراً في العالم، وتعتبر صورته التي شاعت وانتشرت كثقافة ثورية في الأوساط الشعبية بعد وفاته، وهو يعتمر القبعة الحمراء التي تتوسطها نجمة بيضاء، تعتبر رمزاً وشعاراً في كل مكان وفي كل وجدان وضمير إنساني في هذه الأرض، وتعد أيقونة عالمية ترمز إلى رفض الظلم والثورة عند كل الطبقات الشعبية والفقيرة وعند كل الشعوب المستغلة من حكامها الذين يعيشون على حساب شعوبهم ومقدراتهم وعلى بيع الثروات الوطنية لأسيادهم الرأسماليين، فكان جيفارا شيوعياً ماركسية ضد الإمبريالية والرأسمالية و القوة الاستعمارية التي من شأنها أن تعارض وتحاول تدمير أي حكومة وطنية تسعى لمعالجة الظلم والفقر، لذلك آمن جيفارا بأنه على الشعوب المستعمرة والتي تعيش الظلم والفقر والاضطهاد ، يتوجب عليها أن تناضل بالطرق السلمية وإن لم تفلح فوجب عليها حمل السلاح ، فالنضال المسلح هو الطريق الوحيد أمام الشعوب الساعية إلى التحرر، والسعي للاستقلال والعيش الكريم.
جيفارا، سيرة وفكر:
ولد إرنستو تشي جيفارا (1928) في حي روساريو بمدينة بيونس أيريس، و ينتمي إلى عائلة تنحدر من أصول إيرلندية وإسبانية ، وهو الأكبر من بين خمسة أطفال، وكانت عائلته غير تقليدية، تنحدر أمه سيليا دي لا سيرنا من عائلة ثرية في بوينس آيرس، تعلمت في دير وكانت ذكية ومتمردة للغاية، واصبحت في وقت مبكر ناشطة في الحركة النسوية وكانت أول امرأة في الأرجنتين ترتدي البنطلون وتدخن وتقود سيارة، أما والده إرنستو جيفارا لينش، كان يكبرها بست سنوات وكان شخصاً عنيد لا يقاوم، وانساناً مرحاً لا يهدأ ، وكثيراً ما سبب الاحراج لعائلته المحترمة، فقد كان يرقص التانغو في وقت كانت تعتبر فيه هذه الرقصة مبتذلة وتخص ابناء الطبقة العاملة وحدهم، تزوج الاثنان على عجل، وبعد ستة أشهر، ولد جيفارا، وقد أنشأ سيليا و إرنستو أطفالهما في بيئة محفوفة بالمخاطر، وتم تشجيعهم على حرية الفكر والعمل ، وكانت شخصية الوالدين مختلفتين جذرياً ، و كانت الام متمسكة بالانضباط وأهمية الدراسة، في حين كان الأب يشتهي المغامرة والابتعاد عن المسؤولية مما جعل علاقتهم متقلبة، ويقول خوان مارتن جيفارا: "كان والدي يريد العيش دون أن يقيده شيء و يمكنك القول أنه كان الى حد ما منطلقاً، و هذا أعطانا الشعور بأننا يمكن أن نسافر، وأن نرى العالم، في حين أن والدتي كانت أكثر صرامة، وكانت لديها أفكار صعبة جداً، وكان أخي جيفارا مزيجاً من الاثنين". ولم يتجاوز جيفارا عمره العامين عندما اكتشف أهله أنه مصاب بمرض الربو، ولازمه طوال حياته ومراعاة لصحة الأبن استقرت الأسرة في ألتجراسيا، وقد تلقى تعليمه الأساسي على يد والدته ، وكان قارئا لمؤلفات ماركس و أنجلز و فرويد، حيث توافرت الكتب في مكتبة أبيه بالمنزل، ثم التحق بمدرسة كوليجيو ناسيونال الثانوية عام 1941، وتفوق في الأدب والرياضة، وعند بلوغه الثانية عشر من عمره تعلم لعب الشطرنج من والده حتي صار محترفا وشارك في العديد من البطولات المحلية كما كان مولعا بالشعر خاصة أشعار الشاعر بابلو نيرودا وجون كيتس، ورأى في تلك الفترة وعايش مأساة لاجئي الحرب الاسبانية الأهلية، والأزمات السياسية المتتابعة في الأرجنتين، خلال عهد الديكتاتور الفاشي بوان بيرون، وقد غرست هذه الأحداث في ذهن جيفارا الصغير الاحتقار للمسرحية الديموقراطية البرلمانية، وكره السياسيين وحكم الأقلية الرأسمالية، وحكم استعباد دولار الولايات المتحدة الامبريالي، ثم التحق جيفارا بحركات طلابية لكنه لم يظهر اهتماما ملحوظا بالسياسة، وفي العام 1947 عادت الأسرة للعاصمة ليلتحق الفتى بكلية الطب في بيونس أيريس في الحادية والعشرين من عمره وتخرج في العام 1953، درس الطب ليفهم مرضه، لكنه أهتم فيما بعد بمرض الجذام، وفي العام 1949 ذهب في رحلة طويلة لاكتشاف الأرجنتين الشمالية على دراجة نارية، مع صديق طبيب كان أكبر منه سنا اسمه ألبرتو جراندو واستمرت الرحلة 8 أشهر قابل فيها الطبقة الكادحة للمرة الأولى، وكونت شخصيته واحساسه بضرورة وحدة أميركا الجنوبية، وفي العام1951 عاود الرحلة مرة أخرى وطاف خلالها في أميركا الجنوبية، الأرجنتين، وتشيلي وبوليفيا وكولومبيا، والاكوادور وبيرو، وعايش معاناة الفلاحين والطبقة الكادحة من العمال وفهم طبيعة الاستغلال الذي تعانيه شعوب الدول المضطهدة، وكيف يستغل الرأسمالي حاجة الفقراء، ويخضعهم لإرادته، وقد اعتمد الرفيقان على ذاتهما في توفير مصاريف الرحلة، فعملا في قيادة الشاحنات وتحميل المراكب والتطبيب وجلي الصحون وحراسة المستودعات وغيرها.. غير أن أكثر الأعمال تأثيراً في نفس جيفارا كان عمله في ملجأ للمصابين بمرض الجذام في (سان باولو) الواقعة على نهر الأمازون، و هناك اكتشف جيفارا أعلى أنواع التضامن الإنساني والإخلاص بين رجال منعزلين يائسين، لا أمل لهم في العودة إلى قراهم، وقد أحبهما المصابون فشيدوا لهما طوافة يقطعان بها نهر الأمازون باتجاه كولومبيا في طريق عودتهما إلى أرض الوطن، وقد ساعدت هذه الرحلة جيفارا على تحسس مواطن الجمال والطبيعة والتاريخ في قارته، ومواطن الأسى متمثلة في الجوع والجهل والمرض، وقد تأثر المناضل اليافع، بمعاناة الجماهير الكادحة تحت سياط الاستغلال الإمبريالي الجشع، وأحس بمسؤوليته تجاه المظالم الاجتماعية التي تنفذها الإمبريالية بحق الشعوب المغلوبة على أمرها، فخالط الفقراء وقاسمهم مشاعر الأخوة، ومشاعر النقمة تجاه المستغلين والمتسلطين على أرزاقهم، وفي نفس الوقت بدأت تتبلور لديه بواكير المشاعر الأممية التي عبر عنها بوضوح في قوله: "أشعر أنني جواتيمالي في جواتيمالا ومكسيكي في المكسيك وبيروني في بيرو". وأخذ يعد نفسه للمرحلة القادمة، فحاول في كل مناسبة أن يتنصل من أصله الثري، ويدرب نفسه على تحمل الشدة والمعاناة والحرمان، وكان من العزيمة بحيث يستمر في السير زهاء ثلاثة أيام في أراض شديدة الوعورة دون أن يتذوق طعاماً قط، ورحلته هذه أصبحت موضوع فلم سينمائي بعنوان (يوميات دراجة نارية ، وهو فلم برازيلي أمريكي بيروني أرجنتيني انتج عام 2003 أخرجه والتر ساليس، ويتحدث الفلم عن الرحلة التي قام بها جيفارا وصديقه حول أمريكا اللاتينية قبل انخراطه في العمل الثوري، و الفلم مبني على كتابات ومذكرات الرجلين، وقد نال الفلم جوائز عدة في مهرجانات مختلفة) وفي هذه الرحلة تشكلت أفكاره السياسية وبات ينتقد اللامساواة الفظيعة والفقر الذي تعيش فيه القارة بسبب الولايات المتحدة واستغلالها الإمبريالي لخيرات بلدان قارة امريكا اللاتينية، وخلص إلى أن السبيل الوحيد لمعالجة هذا التفاوت هو أن يثور الناس العاديون وأن يستولوا على السلطة ،ولكن كان كلما يعود من مغامراته البرية، يصنع جواً من الفرح والسعادة في الأسرة، ويبرهن لأشقائه كم هو مخلص لهم وكم يحبهم، وعندما تخرج جيفارا لم يرد أن يصبح ممارسا عاما ينتمي للطبقة الوسطى، وكرس نفسه ثائرا أو محرضا على الثورة أو مشاركاً فيها حيثما أمكن، وفي عام تخرجه 1953 سافر الى المكسيك البلد الأميركي اللاتيني الأكثر ديموقراطية ، وكان ملجأ للثوار الأمريكان اللاتين من كل مكان، ثم ذهب إلى جواتيمالا إلى الاقتناع بضرورة خوض الكفاح المسلح العنيف وأخذ المبادرة في مهاجمة الإمبريالية، ورغم مرارة الهزيمة، لم يعد جيفارا إلى الأرجنتين وإنما شد رحاله إلى المكسيك، وفي المكسيك عكف جيفارا على دراسة النظريات الثورية، وبشكل خاص الأعمال الكاملة لماركس ولينين حيث ناقش خلالها مع منفيين يساريين الأفكار الشيوعية، و شارك في عام 1954 في مقاومة الانقلاب العسكري الذي دبرته المخابرات الأميركية في غواتيمالا في ظل حكومة جاكوب أربنز، ولم يلتحق بالخدمة العسكرية لأصابته بالربو، وحين هاجم فيدل كاسترو في نفس الفترة عام 1953 على قلعة موناكو، بعد أن فشل الهجوم سجن وحوكم، وألقي دفاعه في المحكمة بمثابة بيان أو برنامج سياسي مما أدى لإعجاب جيفارا بـ كاسترو، ومحاولة التعرف واللقاء به، وفي العام 1955 قابل جيفارا المناضلة اليسارية هيلدا أكوستا في منفاها في جواتيمالا فتزوجها، وأنجب منها طفلته الأولى، وهيلدا جعلته يقرأ للمرة الأولى بعض الكلاسيكيات الماركسية، إضافة الى تروتسكي وماوتسي تونج ماو، وهناك وفي نفس العام 1955 التقى جيفارا بكاسترو وقويت علاقة الرفيقين ببعضهما، وخططا لتحرير كوبا من حكم الديكتاتور باتيستا، وانطلقا كلا الثائرين، وقد قام الأخير بتجنيد جيفارا كطبيب في البعثة ومعهما 80 ثائرا آخر على متن سفينة قاصدين شواطئ كوبا ورأى كاسترو أنهم في أمس الحاجة الى جيفارا كطبيب، وقد كان قلب جيفارا يشتعل غضباً، وكل ما يحتاجه هو ولادة ثورة جديدة، والقتال إلى جانب رجال تلهمهم المثل الثورية الأصيلة للنضال ضد الطغيان، ويقول جيفارا " إن اقتناعي بالالتحاق بأي ثورة ضد الطغيان لا يستغرق من الوقت إلا القليل." فالتحق جيفارا بالثوار دون أدنى تردد، وفي العام 1956 سجن جيفارا مع كاسترو ومجموعة متمردين من كوبا غير أن هذا لم يبعدهم عن هدفهم في تحرير كوبا، فعندما اكتشفت قوات باتيستا أمرهم وهاجمتهم، لم يسلم منهم سوى 20 ثائرا صعدوا جبال السيرامايسترا، وهناك أعادوا ترتيب صفوفهم، ثم نجح المتمردون في اقناع الفلاحين والفقراء بضرورة الثورة فأمن ذلك لهم حماية محدودة، وأعلنوا الثورة الكوبية عام 1956، ثم ثبتت جديتهم وتلاحقت انتصاراتهم، وكان من أهم أسباب انتصاراتهم خطاب كاسترو، الذي تسبب في اضراب شامل، وخطة جيفارا للنزول من الجبال سيرا باتجاه العاصمة الكوبية، وفي العام1959 اكتسح رجال حرب العصابات هافانا، على رأس 300 مقاتل بقيادة فيدل كاسترو، وأسقطوا الديكتاتورية العسكرية باتيستا، على الرغم من تسليح حكومة الولايات المتحدة وتمويلها لـ باتيستا، وفي عام 1959 وفي أتون انتصار الثورة الكوبية، تزوج جيفارا اليدا وعاشت معه حتى 1965 قبل ان يتوجه الثائر الكبير الى الكونغو لمساندة حرب التحرير التي كان يشنها باتريك لومومبا بوصفها وسيلة لدفع حركة مناهضة الإمبريالية في القارة الأفريقية، ويعتبر هذا الزواج الثاني في حياة جيفارا، حيث تزوج لأول مرة من هيلدا في عام 1955 وحدث الطلاق بينهما في عام 1959، وأسفر هذا الزواج عن ابنه واحدة هي هيلدا جيفارا (ولدت في عام 1956و ماتت في عام 1995). أما اليدا مارش فقد أنجبت من جيفارا أربعة اطفال هم كامليو وسيليا وأرنستو وأختهم الكبرى التي تحمل نفس اسم الأم اليدا، و بعد نجاح الثورة برز جيفارا كقائد ومقاتل شرس جدا لا يهاب الموت وسريع البديهة، يحسن التصرف في الأزمات فلم يصبح مجرد طبيب، بل قائد مع كاسترو برتبة عقيد في قيادة الثورة، وأشرف كاسترو على استراتيجية المعارك في حين قاد وخطط جيفارا للمعارك، وحين عرف كاسترو بخطاباته التي صنعت للثوار شعبيتها، كان جيفارا خلف صياغة الخطاب، واعادة رسم أيديولوجيا الثورة على الأساس الماركسي اللينيني ، وبعد انتصار الثورة صدر قانون يمنح الجنسية والمواطنة الكاملة لكل من حارب مع الثوار مع رتبة عقيد ، ولم توجد هذه المواصفات سوى في جيفارا، الذي أصبح الرجل الثاني بعد كاسترو، وآمن جيفارا منذ البدء بضرورة ادارة هيئة للنظام الاقتصادي، وأشرف على محاكمات خصوم الثورة، وأسس من خلال منصبه كوزير للصناعة إصلاحاً زراعياً عماده تأميم الأرض وتوزيعها بعدالة، من أجل إنصاف الفلاحين والفقراء، ومن ثم عين في منصب مدير البنك المركزي، أعلى مؤسسة اقتصادية ومالية في كوبا الاشتراكية، وعين قائداً للقوات العسكرية الكوبية، وكذلك كان مندوباً لكوبا في هيئة الأمم المتحدة، ومعروف بخطابه الشهير أمام الجمعية العامة الذي خاطب فيه المندوب الأميركي الذي ترك القاعة عندما صعد جيفارا إلى منبر وقال "أنا أعرف أنك تسمعني الآن، على دولتك أن تدرك أننا سنقاوم إلى الأبد، وأمامنا خياران: الوطن أو الموت أو إما النصر أو النصر."
كما جاب العالم كدبلوماسي باسم الاشتراكية الكوبية، ومثل هذه المواقف سمحت له أن يلعب دوراً رئيسياً ، في جلب إلى كوبا الصواريخ الباليستية المسلحة نوويا من الاتحاد السوفييتي عام 1962 والتي أدت إلى بداية أزمة الصواريخ الكوبية، بالإضافة إلى ذلك كان جيفارا كاتباً عاماً يكتب يومياته، كما أعلن عن مساعدة كوبا لحركات التحرر في كل من تشيلي وفيتنام والجزائر ،و عمل جيفارا على تطوير الوعي الثوري ليكون حافزاً على زيادة الإنتاج، وفي 17 نيسان في عام 1961 قامت الولايات المتحدة الأمريكية بقصف خليج الخنازير في كوبا، مما سبب اشتباكات عنيفة مع الثوريين ومنهم جيفارا قبالة الساحل الغربي لبينار دل ريو ، وانتهى الاشتباك بفوز الثوريين بالرغم من قلة عددهم بالمقارنة مع إمكانيات الولايات المتحدة الأمريكية، وفي أغسطس من نفس العام أرسل جيفارا رسالة امتنان للرئيس الأمريكي جون كينيدي إثر الغزو الأمريكي لخليج الخنازير عن طريق ريتشارد غودوين، الذي يعمل لصالح البيت الأبيض، ذاكراً برسالته " شكراً لما فعلتم في خليج الخنازير، قبيل هذا الغزو كان الثوار غير واثقين من أنفسهم، ولكنهم الآن أقوى من أي وقت مضى." بيد أن مثاليته انسحبت أيضاً على إيمانه السياسي، فقد غضب بشدة للقرار الذي اتخذه خروتشيف، في مطلع تشرين الأول لعام 1962 والقاضي بسحب الصواريخ السوفيتية عابرة من غابات كوبا، استجابة للتهديدات الأمريكية، وعارض جيفارا هذه السياسة التخاذلية، وأخذ ينادي، بصوت مسموع باستقلال القرار الكوبي عن سياسات الدول الكبرى، ويقول في ذلك " إذا لم تقدم الخصائص الوطنية، في إطار الأممية الاشتراكية، فلن تجدي الاشتراكية شيئاً، وستظل بلداننا تشعر أنها بلداناً صغيرة في مواجهة البلدان الكبيرة." وفي تشرين الثاني لعام 1964 قام جيفارا بزيارته الثالثة إلى موسكو، وتبعها بزيارة نيويورك ضمن الوفد الكوبي، حيث ألقى هناك خطابه الشهير أمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة، ثم استأنف تجواله بين العديد من عواصم دول العالم، مؤيداً بدعم من الرئيس الجزائري بن بلة، الذي كون محوراً اشتراكياً مستقلاً مع كوبا، وصداقة خاصة مع جيفارا، كما التقى عدداً من القيادات الفلسطينية الثورية، وأشاد بجهادهم البطولي ضد الصهيونية الغاصبة، معتبراً الثورة الفلسطينية رمزاً ملهماً لنضالات الشعوب المستضعفة وقد ذكر عنه قوله: "لو قاتل إلى جوارنا خمسون فدائياً فلسطينياً، في بداية الثورة الكوبية، لاختصرنا الحرب الثورية في كوبا إلى النصف." وفي العام 1965 أرسل جيفارا رسالة الى كاسترو تخلى فيها نهائيا عن مسؤولياته في قيادة الحزب، وعن منصبه كوزير، وعن رتبته كقائد، وعن وضعه ككوبي، الا أنه أعلن عن أن هناك روابط طبيعية أخرى، لا يمكن القضاء عليها، بالأوراق الرسمية، كما عبر عن حبه العميق لـ كاسترو ولـ كوبا وحنينه لأيام النضال المشترك.
اختفى جيفارا ونشرت مقالات كثيرة عن مقتله لكي يرد ، أو لعله يحدد مكانه لكنه لم يرد، ثم نشرت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية شائعات تدعي فيها اختفاء جيفارا في ظروف غامضة، ومقتله على يد زميله في النضال القائد الكوبي فيدل كاسترو، مما اضطر كاسترو الكشف عن الغموض الذي اكتنف اختفاءه عن كوبا كاشفاً بأن جيفارا أنطلق بمهمة نضالية. وانطلق الى الكونغو مساندا للثورات التحررية، وقائدا لـ 12 كوبياً، لكنه فشل بسبب رفض الشعب الأفريقي التعاون معه باعتباره غريباً، ولم يقتنعوا بأهدافه، وساعد على ذلك عدم تعاون زعماء الثورة الأفارقة، واختلاف المناخ واللغة، وانتهى الأمر بـ جيفارا في أحد مستشفيات براغ للنقاهة، وزاره كاسترو بنفسه ليرجوه الى العودة، لكنه بقي في زائير محاربا بجانب قائد ثورة الكونغو باتريس لومومبا، وفي يومياته في الكونغو يذكر عدم الكفاءة والتعنت والصراع الداخلي بين القوات الكونغولية المحلية من ضمن الأسباب الرئيسية لفشل الثورة، ثم غادر جيفارا الكونغو في نفس العام بسبب مرضه بالزحار وكان أيضا يعاني من الربو الحاد وسبعة أشهر من خيبة الأمل والإحباط. ثم عاد جيفارا إلى هافانا، وعقد اجتماعات سرية مع صديقه كاسترو لمناقشة موضوع بوليفيا استعداداً لمهمة جديدة فيها، وبالرغم من أن كاسترو كان يحذّر جيفارا من هذه العملية بسبب قوة المخابرات البوليفية، إلا أن جيفارا أصر على موقفه، فوصل إلى بوليفيا في 3 نوفمبر من عام 1966، وبدأ يخطط لتجنيد الرفاق للبدء بالثورة البوليفية ضد حكومة رينيه بارينتوس، لكن عدد الرفاق المجندين لم يتجاوز 21 ثورياً، 2 من بوليفيا و 16 من كوبا و3 من البيرو، حيث كان حشد الفلاحين والمزارعين البوليفيين أصعب بكثير مما اعتقد جيفارا، فكانوا سلبيين لدرجة كبيرة ولم ينضموا إليه وبعد بعض النجاحات القتالية الأولية، وجد جيفارا وجماعته أنفسهم في حالة فرار من الجيش البوليفي، وفي المقابل زودت الولايات المتحدة الأمريكية الجيش البوليفي بالأسلحة والعتاد والمستشارين العسكريين، وبعد حرب العصابات التي حصلت بين الطرفين تم القضاء على المجموعة في 7 اكتوبر عام 1967 من قبل مفرزة خاصة من الجيش البوليفي بمساعدة مستشاري وكالة المخابرات المركزية، بالقرب من وادي نهر جورو، وهناك باغت الأعداء جيفارا ورفاقه وأمطروهم بوابل من رصاص بنادقهم، فتفرق الثوار وأصيب في ساقه فحمله كوبا صديقه على ظهره في مبادرة بطولية محاولاً الابتعاد عن خط النار، ولكن رصاصة أخرى أصابته، فأنزله كوباً وحاولا الرد معاً على مصدر النيران، و في هذه الأثناء حاصرهما رجال الصاعقة، بعد أن أثخنتهما الجراح وأسروهما مع من تبقى من الأحياء إلى مثواهم الأخير، وتم القبض عليهم في وديان بوليفيا الضيقة، وكانت القوة المهاجمة مكونة من 1500 شخص ، واستمر جيفارا في القتال بعد موت أفراد مجموعته ورغم إصابته، وبعد أن تم القبض على جيفارا تم نقله إلى مبنى مدرسة في قرية لاهيجيرا ورفض جيفارا أن يتم استجوابه من قبل ضباط بوليفيين، وفي 9 اكتوبر أمر الرئيس البوليفي رينيه بارينتوس بقتل جيفارا، وكانت الأوامر أن يبتعد توجيه النيران إلى القلب أو الرأس حتى تطول فترة احتضاره، وقد وكل رقيب الصف ماريو تيران بإطلاق النار، فأخذ يطلق النار من الأعلى إلى الأسفل ، وكان الجندي الأول الذي تم تكليفه بمهمة قتل جيفارا غير قادر على تنفيذ الأمر، لذلك تم تمرير المهمة إلى جندي آخر (حصن شجاعته بكأس من البيرة) ، وقبل لحظات من إعدام جيفارا سئل عما إذا كان يفكر في حياته والخلود، فأجاب " أنا أفكر في خلود الثورة." ثم قال جيفارا للقاتل " أنا أعلم أنك جئت لقتلي أطلق النار يا جبان إنك لن تقتل سوى رجل." وقد تردد تيران، ثم أطلق النار من بندقيته النصف آلية، لتصيب جيفارا في الذراعين والساقين، ثم سقط جيفارا على الأرض وعلى ما يبدو قضم رباط معصميه ليتجنب الصراخ، ثم أطلقت عدة أعيرة أخرى، مما أدى إلى إصابة قاتلة في الصدر ، وقد أصيب جيفارا بتسعة أعيرة نارية في المجموع ، شمل هذا على خمس مرات في الساقين، مرة واحدة في كتفه الأيمن والذراع الأيمن، ومرة واحدة في صدره، وطلقه واحدة في الحلق، ثم أرسلت جثة جيفارا في طائرة مروحية ونقلت إلى فالغراند، حيث التقطت صور فوتوغرافية للجثة التي وصفها الموديفار لصحيفة سان فرانسيسكو كرونيكل بأنها تشبه المسيح على البلاط الخرساني في غرفة الغسيل في مستشفى نوسترا سينورا دي مالطا، ووصف تيران الذي كلف بالقتل لحظات الإعدام فقال " لم أجرؤ على إطلاق النار، وفي تلك اللحظة رأيت جيفارا عملاقاً، و بريق عينيه شديدا، وشعرت كما لو أنه ينهض، وعندما حدق بي شعرت بالغثيان، واعتقدت أنه وبحركة سريعة كان قادراً على أن يسلبني سلاحي، وأخيراً قال لي جيفارا كن هادئاً، وصوب جيداً، أنت في النهاية ستقتل رجلاً." وروت إحدى الممرضات اللاتي رأين جثته بعد إعدامه كيف أصابتها الصدمة من عينيه المفتوحتين وشعره الطويل ولحيته المرسلة، وأكدت أنه كان يشبه المسيح. واعترف كاسترو يوم 15 أكتوبر أن جيفارا مات وأعلن الحداد العام ثلاثة أيام في جميع أنحاء كوبا.
امتنعت الحكومة البوليفية عن تسليم جثة جيفارا إلى أخيه، وامتنعت عن التنويه بمكان وجود جثته أو مدفنه أو قبره، لئلا يصبح قبر جيفارا ذو مقام عظيم ومزاراً وملهماً للثوار من كل أقطار العالم، ، لكن في أواخر عام 1995 كشف الجنرال البوليفي المتقاعد ماريو فارغاس لجون لي أندرسون مؤلف كتاب (تشي جيفارا: حياة ثوري)، أن جثمان جيفارا يقع بالقرب من مهبط الطائرات في فاليغراند، وكانت النتيجة بحث دولي عن الرفات، وفي عام 1997 وبعد بحث طويل وجدوه، و قاموا بدفن جثمان جيفارا مع ستة من رفاقه المقاتلين مع مرتبة الشرف العسكرية، في الضريح الذي تم بناؤه خصيصاً في مدينة سانتا كلارك. ويمكننا أن نجمل الأسباب التي أدت إلى فشل الثورة في بوليفيا: وهي تخلي الحزب الشيوعي البوليفي عن دعم الثوار، حرمان الثوار من الدعم اللوجستي، قلة عدد الرجال المتطوعين للقتال، عدم توفر معلومات كافية عن البيئة المحيطة، عزوف السكان الأصليين عن دعم الثوار وصعوبة الاتصال بهم نظراً لاختلاف لغتهم وعاداتهم ، هروب المتخاذلين من معسكر الثوار إلى ثكنات الجيش المعادي وإفشاؤهم لأدق الأسرار، قساوة الجغرافيا التي أودت بحياة الكثيرين، دعم الولايات المتحدة الأمريكية.
من صفات جيفارا:
جيفارا يتكون فكرياً وينمو بأحاسيسه التمردية وينمي إدراكه الثوري ويصقله بالملاحظة والرؤية والبحث والقراءة والتثقيف الذاتي، لأنه آمن بأن " المثقف الذي يلوذ بالصمت أكثر خراباً من النظام الدكتاتوري القمعي الذي يمارس القتل ضد أبناء شعبه." ولد جيفارا بانتماءات كثيرة، فكان أبن العالم بأسره، ينتمي للكرة الأرضية بكل بقاعها وأنحائها وأقطارها، وللإنسانية بكل أممها وشعوبها وقومياتها، رغم إحساسه بالانتماء الأساسي للقارة اللاتينية أميركا الجنوبية، ولكنه آمن إيماناً لا شائبة تشوبه بأنه " أينما يوجد الظلم فهناك وطني." فثار وحارب ضد الظلم في غواتيمالا والأرجنتين وكوبا والكونغو الأفريقية وبوليفيا والمكسيك، وكان يجد له دوراً أممياً ومناضلاً وثورة عارمة في كل مكان يجد فيه ظلماً وظالمين ومظلومي " إن مقاومة الظلم لا يحددها الانتماء لدين أو عرق أو مذهب، بل يحددها طبيعة النفس البشرية التي تأبى الاستعباد وتسعى للحرية." ولكنه كان يعلم طبيعة المتاجرين بالدين والذين يهينون قيمه الروحية وقدسية تعاليمه من أجل استغلال الإنسان " إن أبشع استغلال للإنسان هو استغلاله باسم الدين، لذلك يجب محاربة المشعوذين والدجالين حتى يعلم الجميع أن كرامة الإنسان هي الخطّ الأحمر الذي دونه الموت." ولذلك على الثوار أن يملؤوا العالم ضجيجاً كي لا ينام العالم بثقله على أجساد الفقراء." سواء كان الظلم والاستغلال باسم الدين أو تحت كابوس الهيمنة الاستعمارية، هكذا آمن جيفارا، ولم يغير جيفارا العمل الوزاري ، فهو لم يتخل عن مثاليته في السياسة أو الاقتصاد أو الحياة الاجتماعية، في إحدى الأيام كان يجلس في مكتبه بصحبة رفيقه ريكاردو روخو، عندما هاتفته زوجته وبدا أنها تطلب منه إرسال سيارته الرسمية لتستعملها في بعض شؤونها في المدينة، فكان رد جيفارا: " لا يا اليدا، لا أنتِ تعلمين جيداً أنها ليست سيارتي، بل سيارة الحكومة، فليس لك إذاً أن تستعمليها، اركبي الباص كما يفعل كل البشر في الجزيرة." وذكرت والدته أنه كان يرسل كل الهدايا التذكارية التي يتلقاها إلى مراكز الشبيبة دون أن يكلف نفسه عناء فض أغلفتها ليعرف ما بها، بينما الزائر لمنزله يستغرب خواءه وتواضع أثاثه، وقد آمن جيفارا بالحب بالمفهوم العميق الذي يجعل كرامة الإنسان في المقدمة " في دستوري الكرامة أولاً ثم الحب." لذلك كرس حبه للوطن وللثورة " إن حبي الحقيقي الذي يرويني هي الشعلة التي تحترق داخل الملايين من بائسي العالم المحرومين، شعلة البحث عن الحرية والحقّ والعدالة." لأن الوطن هو الشيء الوحيد الذي تستطيع أن تحبه بتطرف كبير، " قد يكون من السهل نقل الإنسان من وطنه، ولكن من الصعب نقل وطنه منه." أن جيفارا زهد بالمناصب الرفيعة التي كان قد تبوأها في كوبا وبالأدوار الأساسية التي كان يضطلع بها هناك، وبالأموال الَّتي كان يمكن أن يجمعها لو اشتغل بمهنته الأصلية كطبيب، وبدلاً مِن أن يكتفي بما حققه من إنجاز بمساهمته الأساسية في انتصار الثّورة الكوبية، وأن يتقاعد ويعيش على أمجاده تلك الثورة، وينصرف إلى حياته الخاصة وهواياته، اختار عناء المشاركة في ثورات إفريقيا وأميركا اللاتينية ثم خسران حياته مع أنّه كان يستطيع أن يبتعد عن هذا العناء كله بذريعة مرض الربو المزمن الذي كان يعاني منه، لكنه كان ذو نزعة أممية حقيقية، حيث جعل من قضية الإنسان أينما كان قضيته الشخصية، ومن أعداء الإنسان أعداءه، وقد أحب جيفارا العمل، واعتقد أنه مكافأة وواجب وطني، لذلك لم يكتف بالعمل المكتبي أو الوظيفي وإنما عمل أيام عطلته في المناجم والمزارع، وكان يجالس العمال ويتعرف إلى مخاوفهم وآمالهم عن كثب، وقد شوهد عدة مرات مرتدياً قميصه الذي نحل لونه في بعض مواضعه وحذاؤه المترب، يقود المزارعين فرحاً إلى مزارع قصب السكر بصحبة زوجته ولفيف من أصدقائه، وفي المزارع ينهمك الجميع في قطاف المحصول تحت أشعة الشمس المحرقة، وبعيداً عن كاميرات الإعلام كانت قبضتا جيفارا تعانق المنجل في عشق لا مثيل له للأرض والعمل، وهي ذات القبضة السمراء التي طالما عانقت السلاح بعزم، وضمت الفقراء والمحرومين بعطف.
اهتماماته الفكرية:
دأب جيفارا على القراءة باستمرار دون كلل، حيث كان الكتاب جليسه الدائم ورفيق دربه، ويذكر جيفارا في مذكراته التي حرص دوماً على تدوينها، وكان يذكر أنه يتوقف خلال رحلاته في المكتبات العامة، التي يزورها حيث يقضي ساعات في القراءة، وقد شغف بالشعر والأدب، أما الفلسفة والتاريخ فقد احتلت موقعاً متميزاً واهتم كثيراً بالفلسفة، فالفلسفة كان يتوق إلى دراستها فأخذ يدون ملاحظات ويجمعها في معجم فلسفي، وتكاثرت صفحاته حتى بلغت سبعة عشر دفتر مازالت محفوظة في مركز دراسات جيفارا في هافانا، وينظر جيفارا للفلسفة ليس في شكلها المجرد، بل باعتبارها قوة قادرة على أن تحرك الممارسة العملية وتوجهها، وهي مشروع للثورة ووسيلة لتحقيق قيم العدالة والإنسانية وإزاحة الظلم عن كاهل الفقراء والوصول إلى الإنسان الجديد، وقد سعى جيفارا لتحصيل المعرفة، لأنه يعرف أن العلم هو من يساعد في بناء الإنسان لذلك أقام العديد من المدارس وإنشاء مراكز لتعليم الفلاحين، إذ كان ذا فكر متفتح على كل الثقافات ومصادر المعرفة، قارئاً نهماً محباً للكتب، وفي مكتبته الخاصة 3000 كتاب لقد نظر جيفارا إلى القراءة كرافد للمعرفة والخبرة وفي الوقت نفسه كصاقل للتجارب الكفاحية الميدانية التي تمكن الإنسان من الوثوق بالقواعد النظرية التي تساعده في المعارك والنضال العملي، والاستفادة من تجارب الآخرين من العظماء الذين سبقوه وتقربه من الانتصار، وارتبط جيفارا ارتباطا وثيقاً بالماركسية في شبابه، حيث كان عضواً في الشبيبة الشيوعية الأرجنتينية، ونظر جيفارا للرأسمالية وجشعها في تحقيق الأرباح القصوى، وحملها مسؤولية الفقر والآفات الاجتماعية، ورفض مقولة دول العالم الثالث، واعتقد أن الهيمنة التي تمارسها الرأسمالية، هو ما أتاح للدول المتطورة أن تتقدم وتتطور على حساب الفقراء وظلم الآخرين، واعتقد جيفارا عدم إمكانية التصالح أو المساواة مع الأمبريالية أو الرأسمالية بسبب طبيعة التناقض التناحري بينها وبين شعوب العالم الثالث، فالغرب الرأسمالي لا يفهم لغة الحوار، وأن حاور فهو يحاور عن خبث وتخطيط مسبق، كما أنه لا يتحاور إلا إذا وجد نفسه في حالة ضعف، وعمل جيفارا على ترسيخ مفهوم العمل كواجب أخلاقي، ومحاربة سلطة العمل، وضرورة تغيير العلاقات الطبيعية والاجتماعية من أجل خلق ثقافة جديدة حيال عملية الإنتاج، قوامها وشرطها الأساسي أن يتوقف الإنسان عن كونه سلعة، وإقامة نظام يوفر للإنسان القدرة على تأدية عمله كإيفاء لواجبه الاجتماعي، واعتقد أن التحرر الكامل يتحقق عندما يصبح العمل واجباً اجتماعياً يقوم به الفرد برضى تام وحين يدرك أن مهتمة الأخلاقية تملي عليه أن يتفانى في العمل من أجل خير وتقدم المجتمع، وقد دعى جيفارا في مسعاه هذا إلى استعمال العديد من الآليات إلا أنه رأى في العمل التطوعي الوسيلة الفضلى لتحقيق ذلك.
آمن جيفارا بالثورة واعتقد إن القوى الشعبية يمكنها أن تشن هجمات مسلحة ضد الجيوش النظامية، وتحسم المعركة لصالحها، ونظر جيفارا للمناطق الريفية في البلدان النامية أفضل ساحات قتال للكفاح المسلح، ويقول جيفارا في هذا الصدد " يجب أن ينتصر الفلاحون في الريف ويحاربوا لتسقط المدن على ركبتيها كما يسقط الموز العفن." وتأثر جيفارا في طرحه هذا بالنظرية الماوية في حرب العصابات والتجربة الجزائرية والفيتنامية في دحر الاستعمار الإمبريالي، ويعتقد جيفارا أنه يمكن للقوات الشعبية أن تكسب الحرب ضد الجيش، وأنه ليس من الضروري الانتظار حتى تتوفر جميع الشروط لصنع الثورة، بل يمكن للتمرد أن يخلقها، وأن حرب العصابات هي أساس نضال الشعب من أجل خلاصه، وهنا يذكر جيفارا مجموعة من الوصايا لمقاتل حرب العصابات، وهي ضروري أن يحتاج إلى مساعدة من سكان المنطقة ويحتاج إلى معرفة جيدة بالمنطقة، وبإمكانية المناورة السريعة والاختفاء السريع، والمبدأ الاساسي هو أن لا يشتبك مقاتل حرب العصابات في أي معركة أو مناوشة، ما لم يكن كسبها مضموناً، فهنا محارب العصابات ضروري أن تكون لديه صفة السرية والمباغتة، وعليه أن يستعمل كل الحيل والخدع الممكنة، بالإضافة إلى استعمال القوة وضروري أن تكون الهجمات مفاجئة، ويطبق مبدأ أضرب وأهرب، وهذا المبدأ هو كمين فتضرب ثم تهرب ثم تعاود مرة أخرى للضرب، إلا أن تصل إلى تدمير العدو معنوياً ثم الانقضاء عليه، ومقاتل العصابات عليه أن يحافظ على حياته، ولكن هو على استعداد للتضحية ، وعليه أن يحافظ على العتاد والذخيرة التي معه، ولا يجوز له الرمي العشوائي، بل الإطلاقة تكون دقيقة وذو اصابة، ويجب أن تكون حرب العصابات متصلة، وعلى العصابات أن تخلق للعدو إيحاء بأنه مطوق بدائرة كاملة، وممكن لحرب العصابات أن يستعمل التخريب، وهنا جيفارا يفرق بين التخريب والإرهاب، فالتخريب هو أسلوب حربي ثوري وذو فعالية بالغة، إلا أنه مع ذلك لا ينبغي أن يستعمل لوقف حركة وسائل الانتاج وترك قطاع من الشعب عاطلاً بلا عمل، بينما الإرهاب هو تدبير غير فعال على وجه العموم ولا يفرق بين الذين يصيبهم، وغالباً ما يصيب الأبرياء من الناس ويدمر عدد كبير من النفوس التي قد تكون عظيمة القيمة للثورة، ويحذر جيفارا من أخذ الأسرى ويبغي أطلاق سراحهم، كما ينبغي الاعتناء بالأسرى الجرحى، أما السكان فيجب أن يتسم سلوك العصابات تجاههم بالاحترام العظيم لكل قواعد وتقاليد المنطقة، حتى يقوم الدليل الساطع على تفوق جندي العصابات أخلاقياً على جندي الطغيان. من مؤلفات جيفارا، حرب العصابات (1961)، الإنسان والاشتراكية في كوبا (1957)، ذكريات الحرب الثورية الكوبية (1968)، يوميات دراجة نارية، يوميات بوليفيا، بعد انتصار الثورة، احلامي لا تعرف حدود.
تكريمه:
لا تزال شخصية جيفارا التاريخية ملهمة ومحترمة، ومستقطبة للمخيلة الجماعية والعديد من السير الذاتية والمذكرات والمقالات والأفلام الوثائقية والأغاني ، فقد اصبح جيفارا أيقونة ثورية، عززتها نهايته المبكرة فأضفت هالة أحاطت بالشاب كأنه قديس محارب، وهكذا صار الناس في عشقه ، بين من يعرف جيداً تاريخ المحارب اليساري وسيرته وبين من لا يعرف عنه سوى صورته التي صارت وشماً وتصدرت القمصان، وحظي بالتقدير والاحترام في كل الأوساط، وعبر كثيرون عن شخصية جيفارا ونضاله، مثل مانديلا الذي قال عنه" كان جيفارا مصدر إلهام لكل محبي الحرية في العالم." أما الفيلسوف الفرنسي سارتر فقد وصفه "بأكمل إنسان في عصرنا." وعده الكاتب الإنجليزي غراهام غرين بأنه "يمثّل جيفارا فكرة الشهامة والفروسية والمغامرة." واعتبره الفيلسوف فانون "عالم كامل في رجل واحد." وفي طوابير الصباح يهتف تلاميذ كوبا "سنكون مثل جيفارا" أما فلاحو بوليفيا فينادونه بالقديس أرنستو، وتناولت السينما جيفارا في كثير من الأفلام الروائية والوثائقية، التي أخرجها كبار المخرجين وقام ببطولتها وبتجسيد شخصية الثائر العظيم مشاهير الفنانين والممثلين العالميين، وقد رثاه الكثير من الشعراء العرب منهم الشاعر أحمد فؤاد نجم في قصيدة جيفارا مات والشاعر عبد الرحمن يوسف والشاعر الأمير طارق آل ناصر الدين، ورثاه الشاعر عمر حكمت الخولي في عدة قصائد، باسمه الصريح كما في قصيدة ذكريات من لا يدري، وبالكناية عنه، أما منظمة الأمم المتحدة فقد اعتبرت يومياته ومذكراته من ضمن التراث العالمي، في حين أن صورته المأخوذة من طرف ألبرتو كوردا قد اعتبرت " الصورة الأكثر شهرة في العالم، وهي صورة يتم المتاجرة بها، من قبل تجار النظام الرأسمالي الذي كان يريد اسقاطه، وقد التقطها كوردا هذه الصورة لجيفارا في هافانا، كوبا في 5 مارس عام 1960 عندما ظهر جيفارا وهو في عمر الحادية والثلاثين في مهرجان خطابي لرثاء عشرات الكوبين الذين سقطوا بانفجار باخرة فرنسية، في ميناء هافانا كانت محملة بمتفجرات أرادت الحكومة الكوبية تزويدها للثوار في بوليفيا، إلا أن الصورة لم تجد طريقها إلى عالم النشر إلا بعد مضي سبع سنوات على التقاطها، وقد أدرك كوردا قيمة تلك الصورة، لذلك احتفظ بها على جدار منزله حتى عام 1967، إذ كانت لديه صورتان لذات اللقطة، إلاّ أنه فضل الصورة العرضية على الصورة الطولية بسبب جزء من رأس أحد الحضور في المهرجان الخطابي الذي التقط فيه هذه الصورة، حيث ظهر خلف كتف جيفارا، ولم يتمكن ألبيرتو كوردا من محوه بالتقنيات المتوفرة في تلك الأيام.
من أقوال جيفارا:
(على جميع الثوار في العالم الاقتداء بتلك الثورة العارمة التي قادها الزعيم الصلب الحسين العظيم والسير على نهجها لدحر زعماء الشر والإطاحة برؤوسهم العفنة).
(لا أعرف حدوداَ فالعالم بأسره وطني).
(كثيرون سقطوا في طريق النصر الطويل).
(البداية لن تكون سهلة بل في غاية الصعوبة).
(لو أمطرت السماء حرية، لرأيت بعض العبيد يحملون المظلات).
(لا يزال الأغبياء يتصورون أن الثورة قابلة للهزيمة).
( الدموع لا تسترد المفقودين ولا الضائعين ولا تجترح المعجزات، كل دموع الأرض لا تستطيع أن تحمل زورقاً صغيراً يتسع لأبوين يبحثان عن طفلهما المفقود).
(خير لنا أن نموت ونحن واقفين مرفوعين الرأس من أن نموت ونحن راكعين).
(عند الحاجة نموت من أجل الثورة ولكن من الأفضل أن نعيش من أجلها).
(لا تحزني أمي إن مت في غض الشباب، غداً سأحرض أهل القبور وأجعلها ثورة تحت التراب).
( أنني احس على وجهي بألم كل صفعة توجه إلى مظلوم في هذه الدنيا).
( أينما وجد الظلم فذاك هو وطني).
(إن من يعتقد من نجم الثورة قد أفل فإما من يكون خائناً أو متساقطاً أو جباناً، فالثورة قوية كالفولاذ، حمراء كالجمر، باقية كالسنديان عميقة كحبنا الوحشي للوطن).
(ما يذهب دعه يذهب، لا اريد شيئاً ملطخا بالرجاء مهما كان فليكن ، حتى ولو كانت الحياة).
(حاولوا دفننا ، ولم يعلموا اننا بذور).
(لكل الناس وطن يعيشون فيه ،الا نحن فلنا وطن يعيش فينا).
(إذا فرضت على الانسان ظروفا غير انسانية ولم يتمرد ،فسيفقد انسانيته شيئا فشيء).
(علمني وطني بأن دماء الشهداء هي التي ترسم حدود الوطن).
(قد يكون من السهل نقل الانسان من وطنه ،لكن من الصعب نقل وطنه منه).
(علموا اولادكم ان الانثى هي الرفيقة هي الوطن هي الحياة).
(الذي باع بلاده وخان وطنه مثل الذي يسرق من بيت ابيه ليطعم اللصوص، فلا ابوه يسامحه ولا اللص يكافئه).
(لا يهمني كيف ومتى أموت ، المهم هو ان يحيى الثوار من بعدي ،يملؤون الدنيا ضجيجا ،حتى لا ينام هذا العالم بكل ثقله فوق اجساد الفقراء والمحرومين).
(إذا لم يجد الإنسان شيئاً في الحياة يموت من أجله ، فإنه أغلب الظن لن يجد شيئاً يعيش من أجله).
(إذا كنت تسخط على كل ظالم فأنت رفيقي).
(أنا لا أملك وطناً لأحارب من أجله، فوطني هو الحق).
(كنت أتصور أن الحزن يمكن أن يكون صديقاً، لكنني لم أكن اتصور أن الحزن يمكن أن يكون وطنا نسكنه ونتكلم لغته ونحمل جنسيته).
(لا تصمت عن الحق وسترى كيف سيكرهك الجميع).
(أعظم متعه في هذه الحياة هي فعل ما قال الناس عنه أنك لا تستطيع أن تفعله).
(البداية لا تكون أبداً سهلة بل في غاية الصعوبة).
(لا يهمني شكلك ولا أهلك ولا أموالك ولا منصبك، تهمني شخصيتك، عقليتك, أخلاقك وضميرك، وعلى هذا الأساس سأحترمك).
(لا يقاس الوفاء بما تراه أمام عينيك، بل بما يحدث وراء ظهرك).
(عندما يحكم العالم حمقى، فمن واجب الأذكياء عدم الطاعة).
(الأُمم التي لا تقرأ يسهل خداعها).
العرب وجيفارا:
خلال مسيرته النضالية بسنوات حياته القليلة زار جيفارا العديد من الدول العربية بينها فلسطين المحتلة وتحديدًا قطاع غزة ومصر والمغرب وسوريا والجزائر، السودان، حيث بدأ جولته للدول العربية في العام 1959، رغبة منه في إطلاق حركة ثورية دولية، وقد كان جيفارا معجباً بتجربة الإصلاح الزراعي في مصر، التي بدأت بعد ثورة 23 تموز 1952، ولذلك قرر زيارة مصر في يونيو عام 1959 لمدة 15 يوماً للاستفادة من تجربة جمال عبد الناصر الاشتراكية، الذي استقبله بحفاوة شديدة في قصر القبة في القاهرة، وقد سلمه درعاً تذكارية تكريماً لجهوده في الثورة الكوبية، ولكن على الرغم من هذه الحفاوة، إلا أن الرئيس المصري لم يكن مهتماً كثيراً بالثورة الكوبية، وذلك لشكِه في أن الاستخبارات الأمريكية هي التي دعمتها، تماماً مثلما دعمت الثورة في غواتيمالا، بحسب كتاب (عبد الناصر والعالم) لمحمد حسنين هيكل الذي كان حينها يشغل منصب رئيس تحرير جريدة الأهرام، وبحسب هيكل، بدا الاختلاف واضحاً بين عبدالناصر وجيفارا حينما تطرق الرئيس المصري للحديث عن الإصلاح الزراعي وقال إن ما يفعله هو تصفية امتيازات طبقة معينة وتفتيت سلطة الإقطاعيين، أما جيفارا فكان يقيس عمق التحول الاجتماعي بعدد الأشخاص الذين يمسهم تأثير الإصلاح، وقد رحل جيفارا عن مصر ولم تتمخض زيارته عن شيء يذكر، ثم زار جيفارا بزيه العسكري وبرفقة عدد من الكوبين إلى مدينة غزة، التي كانت تحت الحكم المصري آنذاك، وخلال زيارته قام بإرشاد مقاتلي المقاومة الفلسطينية إلى طرق حرب العصابات لاستعمالها في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، ثم زار سوريا وزار قبر صلاح الدين الأيوبي، والجامع الأموي عقب عقده عدة لقاءات دبلوماسية مع الرئيس السوري شكري القوتلي، كما زار المغرب وقضى بمراكش 18 يوماً يستمتع بالموسيقى الأندلسية ويتجول في الأحياء الشعبية للمدينة، ووقع مع المغاربة اتفاقاً تجارياً بين البلدين، وافق خلاله المغرب على استيراد السكر الكوبي، ثم زار جيفارا الخرطوم واستقبل احسن استقبال رسمي، واستضافه الفريق ابراهيم عبود في القصر الجمهوري والتقط معه العديد من الصور التي نشرت في الصحف السودانية والاجنبية، وقام جيفارا بزيارة عدة مناطق سياحية في الخرطوم، وارتبط جيفارا بعلاقة فريدة من نوعها مع الرئيس الجزائري أحمد بن بلة، وهو أول رئيس للجزائر بعد استقلالها عام 1962 عن الاستعمار الفرنسي، ويقول أحمد بن بلة إنه تعرف على جيفارا خلال زيارته إلى الأمم المتحدة في نيويورك في سبتمبر عام 1962، وكون الجزائر تنتهج سياسة التحرر من الاستعمار والاستبداد توجه بن بلة عقب زيارته إلى كوبا لدعم كوبا وثورتها خصوصاً في محنتها نتيجة أزمة الصواريخ الكوبية، وكان أول لقاء بينهما في 16 أكتوبر 1962 عند وصول بن بلة إلى العاصمة الكوبية هافانا وسط استقبال كاسترو وجيفارا له، ليبدأ عهد التحالف التاريخي بين كوبا والجزائر الاقتصادي والتعاون العسكري، فضلاً عن الصداقة التي جمعت بين بن بلة وجيفارا، ثم عاد جيفارا إلى القاهرة في فبراير 1965 ومكث في المنطقة العربية حتى نهاية مارس ، وفى ذلك الحين كان عبد الناصر قد نبذ تماما شكوكه الأولية في الكوبين وأخذ يعجب بهم لاندفاعهم في تأييد مصر في قضية قناة السويس وفى صراعهم من أجل الحفاظ على ثورتهم ،وكان عبد الناصر يرى في كفاحهم ضد الولايات المتحدة في معركة خليج الخنازير وأزمة الصواريخ الروسية، صراع سمك السردين مع الحوت ، وكان اعجابه كله لسمك السردين ، وكان جيفارا يخطط للذهاب إلى الكونغو من أجل مساعدة الثوار واستشار جمال عبدالناصر، لكن الناصر، لم يشجعه للذهاب إلى الكونغو، وطلب من صديقه جيفارا نسيان فكرة الذهاب إلى هناك أصلاً ورفض إرسال جيش مصري معه لعدة عوامل: أولاً، لأن جيفارا رجل أبيض ولن ينجح في استقطاب الناس هناك، كما أن الغرب الاستعماري سيتهمه بأنه قائد مرتزقة. وثانياً ،لأن الثورة ستنتهي هناك بالفشل بحسب تقدير عبدالناصر، ولذلك نصحه بعدم خوض هذه التجربة لأنها خطوة غير حكيمة، إلا إذا كنت تريد أن تصبح طرزانا، وهنا يذكر أن جيفارا ابتسم وقال للناصر:" إنني أعتقد بأن الثورة ظاهرة عالمية النطاق لا تفرق بين مختلف الألوان والأجناس ولكن هناك أشياء معينة يجب أن تدخل في الاعتبار، أن ما ينبغي علينا عمله هو أن نساعد الإفريقيين، ولنحاول في هذا أن نعطى كل شعب الحق في أن يفعل ما يعتبره صائبا."
جيفارا في وجهة نظر اليمين:
على الجانب الآخر هناك من يرون أن أكذوبة أحاطت بالرجل، ويؤكدون أنه قاتل لا يستحق الاحتفاء، ويطالبون بإزالة تماثيله من الميادين، وخاصة من روساريو المدينة التي ولد بها في الأرجنتين، وهكذا يرى اليمين جيفارا أنه كان مجرماً دولياً و قاتلاً جماعياً، حيث قام بتكوين وتدريب كتيبة إعدام لفرض الشيوعية بالقوة على الدولة الكوبية وأمريكا اللاتينية بأكملها، وقامت كتيبة الإعدام تلك بقتل الآلاف من الرجال والنساء والأطفال، فلم يكن جيفارا في نظرهم سوى مدمن للقتل والأدرينالين، وإنه لم يكن ليغدو شيئاً لولا أيدولوجيته التي عملت علي تلميعه وتحويل كل جرائمه باسم العدالة، فهو لم يهتم بكوبا أو اقتصادها، بل فقط اهتم بالثورة لغرض الثورة لا أكثر ولو كان ولد منذ خمسة قرون فقط لكان من ضمن الرهبان والجنود الذين يقتلون الهنود الأصليين باسم الرب، فكلاهما يرى أن القتل مسموح ما دام طريقاً لهدف أنبل، ويحاول بعض اليساريون نفي قوله لتلك العبارات تماماً، بينما البعض الآخر يفسر هذا بأنه حتى لو قال مثل تلك العبارات، فمن الطبيعي نتيجة الظلم والفقر وعدم المساواة المنتشرة من حوله، وكرد فعل على فظائع النظام الديكتاتوري في كوبا، حيث إنه لم يقتل سوى من يستحق القتل، فكثير من الذين حكم عليهم بالإعدام كانوا متهمين بالتعذيب والاعتداءات البدنية، لكن اليمين يرى أنه غير متسامح مع الخونة الذين كان يعدمهم بطلقة مسدس ، وهذه نقطة يشترك فيها مع هتلر، حيث يعتبران هما الزعيمان الوحيدان اللذان كانا يكرهان الخيانة كرهاً عميقاً، لدرجة أن أدولف هتلر أعدم ضابطاً في جيشه في ليلة زفافه، وهو لم يكتفي بقتل بعض مؤيدي النظام الديكتاتوري السابق فقط، بل وصل عدد الإعدامات في السجن منذ تولي جيفارا من 5 آلاف في أدنى الحالات إلى 16 ألفاً في أقصاها، يقول جيفارا في مذكراته " إن شكليات المحاكمات تفاصيل برجوازية تافهة لا ينبغي الالتفات إليها، فتلك ثورة، ولذلك يجب على الثوار أن يكونوا آلات قتل باردة." وطبق جيفارا جملته هذه على صديقه الفلاح المسكين الذي ينصب نفسه متحدثاً باسمهم ليلاً نهاراً فربطه بكرسي ثم أنهى حياته بطلقة، ويشاع أيضاً أنه لم يهتم فعلاً لسماع شهادات ضحاياه أو أن يتحقق من تورطهم الحقيقي، فكما ورد على لسان الصحيفة الفرنسية (الاكسبريس) في تقرير أحدث ضجة إعلامية في وقته عام 2009 بعنوان (اعترافات وتحقيق حول جرائم جيفارا) وينفي ماكوفر أحد كتاب سيرته الذاتية، كونه بطلاً يستحق العبادة، ويصوره على أنه الجلاد الذي لا يرحم، وأن أتباع جيفارا المعاصرون يخدعون أنفسهم بالتشبث بخرافة ، بينما وصف جيفارا بأنه الماركسي الذي استعمل سلطته العقائدية لقمع المعارضة، ويستغرب الصحافي الكوبي جاكوبو مؤلف كتاب الوجه الخفي لتشي جيفارا، من أن يسمع محبو جيفارا هذا الحديث ويصرون على كونه بطلًا، ويؤكد أن البطل الرومانسي، كان أحد المسؤولين الرئيسيين عن عمليات الإعدام التي حدثت في عام 1959 وما قبلها في بلده كوبا حين كان يقود المقاتلين في الجبال مع فيديل كاسترو، ويؤكد جاكوبو أنه يرى في الملصقات والقمصان التي تحمل صور جيفارا وجه قاتل حقيقي، قتل كثيرين دون سبب ودون محاكمة، أو بمحاكمات لا تتجاوز مدة الواحدة منها نصف الساعة، أُعدم بسببها كثيرون بذريعة كونهم أتباعًا لديكتاتورية باتيستا، وهو ما لم يتم التأكد منه، ويؤكد أن بعض الإعدامات التي تمت بعد هروب باتيستا، واستقرار كاسترو في الحكم، لم يكن لها أي مبرر سوى الانتقام وتعطش النظام للدماء، ومن جانب آخر يوضح جاكوبو أن جيفارا حين كان رئيساً لبنك كوبا الوطني تسبب في كارثة مطلقة، إذ تدهورت قيمة البيزو الكوبي مقابل العملات الأجنبية الأخرى، كما ينتقد جاكوبو ما اعتمد عليه جيفارا لتحفيز العمال حين كان وزيراً للصناعة من توزيع الميداليات الشرفية، ودفعهم للعمل بشكل أقرب للتطوع، ويؤكد أنه كان أول من أنشأ معسكر عمل في كوبا في شبه جزيرة جواناكابيبس، والذي أرسل إليه مسؤولين أو أعضاء في الحزب الشيوعي لم يمتثلوا للقواعد، أو لم يكونوا ثوريين بما فيه الكفاية، وهي الخطوة التي مهدت لانتشار معسكرات العمل القسري في كوبا في ستينات القرن الماضي، والتي حمل إليها المعارضون بحسبه، وفي رأي اليمين فقد خلفت ما يطلق عليها الجيفارية ما يزيد على 10 آلاف قتيل في كوبا على يد النظام الشيوعي، فضلًا عن اضطهاد المثقفين والمعارضين، ونفي الآلاف، وقتل وتعذيب عشرات الملايين في معسكرات العمل القسري، ويعتقد اليمينيون أن الرجل لم يختر طوعاً أن يغادر كوبا ، لقد فشل في تحقيق أي إنجاز، ولهذا فقط غادرها ليجوب من جديد أنحاء القارة ويعود للحرب، بينما يرى عشاقه، أنه ترك السلطة ليستكمل مسيرته في مساندة الشعوب لنيل حريتها.
جيفارا الطبيب الثائر ذو الميول الماركسية، قد نذر نفسه فداء للحرية والتحرر من قبضة الاستعمار الغاشم والنظم المستبدة في شتى بقاع الأرض، ضناً منه أن الماركسية بأفكارها ومبادئها ونظرياتها كفيلة بإنعاش الشعوب والمساواة، والتحرر من أغلال الذل والعبودية، لكنه كان واهماً ولو طال به العمر لأدرك أن تلك الحقيقة ما هي إلا وهم من أوهام ماركس وأتباعه، أن جيفارا نموذج كان يتداوله الشباب والثوار في شتى بقاع الأرض بوصفه بطلاً اسطورياً، ومفوضاً زاهداً في محراب الحرية، لكنه للأسف كان لا يدري أن كل من عاونهم للوصول إلى حكم بلدانهم بواسطة حروب التحرير، قد بقوا على عروشهم طويلاً، وأوقعوا كوبا بمجاعة وحصار خانق، أضف إلى ذلك أن مفهوم جيفارا عن الثورة، هو مفهوم انفعالي وغير مدروس، فذهابه إلى الكونغو وبوليفيا، لم يستطع أن يوحد الثورة أو تجنيد المواطنين ضد السلطة، لكنه مع ذلك يعد اليوم جيفارا بطل ثوري عند الكثير.
الهوامش:
1_ينظر خوان مارتن جيفارا: أخي تشي، ترجمة حسين عمر، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 2017.
2_ينظر تشي جيفارا: حرب العصابات، ترجمة ناهض منير الريس، الاتحاد الاشتراكي العربي، فلسطين.
3_ينظر مجموعة مقالات، تشي جيفارا، صوره تروي أسطورة، دار أبن النفيس، الكويت، ط1، 2016.
4_ينظر تشي جيفارا: مذكرات عن الحرب الثورية، ترجمة فؤاد أيوب وعلي الطود.
5_ينظر تشي جيفارا: يوميات بوليفيا الكاملة، ترجمة مصطفى الفقير، دار الفارابي، بيروت،ط1، 1988.
6_ينظر مذكرات أرنستو تشي جيفارا، عرض وتحليل هشام خضر، مكتبة النافذة، الجيزة، ط1، 2008.
7_ينظر أرنستو تشي جيفارا، يوميات دراجة نارية( رحلة في أمريكا اللاتينية)، ترجمة صلاح صلاح.
8_ينظر تشي جيفارا: أحلامي لا تعرف حدود، الحرية للنشر والتوزيع، القاهرة.
9_ ينظر أندرو سنكلير: جيفارا، ترجمة ماهر كيالي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط5، 1986.
10_ينظر تشي جيفارا: بعد انتصار الثورة، ترجمة فؤاد أيوب و علي الطود.



#حيدر_جواد_السهلاني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- زها حديد وفن العمارة التفكيكي
- دجلة
- العمل التطوعي ، الثقافة الغائبة
- ظاهرة التفاهة
- المنطق عند جوزايا رويس
- مفهوم الولاء عند جوزايا رويس
- مفهوم البطل عند توماس كارليل
- فلسفة العلم واللاعلم عند كارل بوبر
- مفهوم الإرهاب
- مفهوم الاستبداد
- حفار اليقينيات عبدالرزاق الجبران
- المرأة في فكر قاسم أمين
- الدين والدولة في فلسفة مارسيل غوشيه
- الثقافة عند سلامة موسى


المزيد.....




- السيسي يعزي البرهان هاتفيا في وفاة نجله بعد تعرضه لحادث سير ...
- مسؤولون أمريكيون وإسرائيليون يتحدثون عن أيام لإتمام صفقة الر ...
- مقتل 5 فلسطينيين في الضفة الغربية
- وسائل إعلام فلسطينية: -حماس- وافقت على المقترح المصري لوقف إ ...
- القيادة العامة للقوات المسلحة السودانية تصدر بيانا بشأن وفاة ...
- قوات كييف تهاجم قرية موروم بطائرتين مسيرتين
- دراسة أمريكية: السجائر الإلكترونية تضر بنمو الدماغ
- مصر.. القبض على المتهم بالتعدي على قطة في محافظة بورسعيد
- الأسد: في ظل الظروف العالمية تصبح الأحزاب العقائدية أكثر أهم ...
- مصر.. الحبس 3 سنوات للمتهمين بقتل نيرة صلاح طالبة العريش


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حيدر جواد السهلاني - الطبيب الثائر، جيفارا