أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - دلور ميقري - الجريمة والعقاب : طريق نجيب محفوظ في بحث مقارن 2 / 3















المزيد.....


الجريمة والعقاب : طريق نجيب محفوظ في بحث مقارن 2 / 3


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 1663 - 2006 / 9 / 4 - 10:17
المحور: قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
    




لا يخفى أنّ موضوع الجريمة ، روائياً ، معروفٌ كأكثر المضامين والأشكال الفنية إثارة ً. إن شخصية الفاعل ( المجرم ) ، هي المقدر لها أن ترتكب الفعل ( الجريمة ) ؛ وبالتالي إدخال التغيير في مضمون الرواية ، وتطوير سياقها الدرامي إلى ما يُعرف ، نقدياً ، بـ " مأزق العقدة " . فالخطيئة والجزاء هما أكثر التحققات الشائعة للفعل الأساسي " يغيّر " : أيْ تعارض الفرد مع المجتمع وتعارض المتغيّر مع الثابت " (1) . في رواية نجيب محفوظ ، " الطريق " ، نجدُ بطلها ، " صابر " ، يتلقى إشارة تحفزه على " الإختيار " . إن توجهه إلى القاهرة للبحث عن أبيه المفقود ، عملاً بوصية الأم قبل رحيلها ، سنعتبره إفتراضاً الحافز الأول لفعل التغيير ، الموصوف آنفاً ( أيْ الجريمة ) . أما الحافز الثاني ، على إفتراضنا نفسه ، فيتمثل بعلاقة بطلنا هذا مع " كريمة " ؛ زوجة العجوز خليل أبو النجا ، صاحب الفندق . هذه المرأة ، التي ستصبح أيضاً شريكة " الفكرة " ، المتمثلة بالجريمة ، كانت لا تكف عن بث علامات إستفهام مستفزة إرادة عشيقها . إنها تهمس له في إحدى لقاءتهما ، السرية ، عن جدوى التعلق بجهاز التليفون ، إنتظاراً لخبر ما عن الأب المختفي : " لا رأيَ عندي ، ولكنه حلم كالتليفون ، أن أرث سريعاً الفندق والمال المودع بإسمي ، وأن نعيش معاً إلى الأبد " (2) .

هكذا حلم / فكرة ، كان قد راود " راسكولينكوف " ، بطل رواية دستويفسكي " الجريمة والعقاب " . فهوَ في غمرة قنوطه ويأسه ، يلوّح لخادمة النزل الذي يقيم فيه ، بأنه يريد إكتساب : " ثروة كاملة ، دفعة واحدة " (3) . سنلاحظ هنا ، أيضاً ، موضوعة " الإختيار " وقد أضحت قدَرَ البطل ؛ متمثلة بفعل الجريمة . وفي هذا الشأن ، شكل لقاء راسكولنيكوف بوالد الفتاة " سونيا " ، ومن ثمّ تلقيه لرسالة من أمه ، ما يمكن وصفه بالحافزيْن الأساسيين لتصميمه على نبذ التردد وإنجاز " ذلك الفعل " : إنّ والد سونيا ، يحدث بطلنا عن دفعه لإبنته هذه ، الشابة ، في طريق البغاء تجنباً لموت الأسرة جميعاً ، جوعاً . ورسالة أمه ، تفيده بعزم أخته ، " دونيا " ، على الزواج من رجل ثريّ في حدود الكهولة . إنّ راسكولنيكوف لا ينخدع بكلمات أمه المطمئنة ، بل ينظر إلى هذا الزواج كما لو أنّ دونيا تبيع نفسها ؛ وربما سيكون وضعها مستقبلاً أسوأ من سونيا ، المومس .

قلنا أنّ فكرة ً / حلمَ يقظة ، راودَ بطليْ " الجريمة والعقاب " و " الطريق " ؛ وصفناهُ برغبة كل منهما في إكتساب الثروة تحقيقا لطمأنينة الحياة . على أنّ حلمَ المنام ، بدوره ، كان بمتناول كل من البطليْن ، أيضاً . قبل كل شيء ، يتعيّن علينا إيراد ما يراه النقدُ ، فيما يخصّ دور الحلم في الفن الروائي ، بوصفه خرقا لوحدة الحياة التي يُجرى تصويرها ، فضلاً عن إمكانية لحياة من نوع آخر تماماً : أيْ أن بطل ذلك العمل الروائي ، يصبح في الحلم إنساناً آخر ، يستطيع فيه أن يختبر ويجرّب (4) . كان للأحلام مكانها المميّز في أدب دستويفسكي ؛ هوَ المعلم الفذ في المعالجة النفسية لأبطاله . وبما أن إزدواجية الشخصية تتحكم ، عموماً ، ببطل " الجريمة والعقاب " ، كما سيأتي معنا تفصيله ، فما كان له إلا التوقف في محطة الحلم قبيْل رحلة الجريمة : إثر تسكع مجهد ، يغفو راسكولنيكوف في مكان منعزل ، فيرى في منامه أنه بصحبة أبيه ( المتوفي منذ صغره ) . وإذا بسكارى يخرجون ، فجأة ، من حانة ويضربون فرسا صغيرة حتى الموت . يثيره المنظر ويحاول إعتراضهم ، ولكن الأب يقول له : " هذا لا يعنينا " . يفيق بطلنا من حلمه ، ويتساءل ما إذا كان يستطيع هوَ أن يضربَ بالفأس رأساً بشرياً . يمكننا هنا تأويل هذا الحلم ، وفق الخطاطة التالية : أ ـ الحانة ( بطرسبورغ ، كمكان بديل ) = الرحلة . ب ـ مرافقته لوالده ( كبديل عن الأم ) = البحث عن الأب . ج ـ الفرس تجرّ عربة ( أخته دونيا وهمومها ، كبديل عن سونيا ) = الحبّ المستحيل . د ـ السكارى يقتلون الفرس ( إختبار " الفكرة " ) = مجانية الجريمة . هـ ـ يحاول إعتراضهم ، فيمنعه والده ( معارضة خنوع الأم ) = صحوة الضمير .

يمكننا على هذا مقاربة حلم بطل " الجريمة والعقاب " بحلم بطل " الطريق " . فهذا الأخير ، كان وقتئذٍ حائراً بين حبّ سريّ لإمرأة ناضجة ، هيَ " كريمة " ؛ زوجة صاحب النزل ، وحبّ معلن لفتاة شابة ، إسمها " إلهام " ؛ موظفة في الجريدة التي نشر فيها إعلانا بخصوص والده ، المفقود . إنه يحلم إذن في إحدى الليالي بموعد في المقهى ، مع ذلك الأب ( وإسمه " الرحيمي " ) . يفاجأ هناك بحضور إلهام ، التي يقدمها الأب على أنها إبنته ، والتي لا تلبث أن تفرّ من المكان . يقدم صابر أوراق نفوسه لوالده ، إثباتا لصلة الرحم بينهما . وإذا بهذا الوالد نفسه يمزق تلك الأوراق ، فيهاجمه صابر قائلاً : " أنتَ تمحو وجودي محواً " . الغريب أنّ بطلنا ، حينما يلتقي إلهامَ في اليوم الذي تلى الحلم ، يعلمُ منها أنها ، بدورها ، عاشت حياتها مفتقدة لأبيها الغائب . وهيَ ذي خطاطة لمفاصل ذلك الحلم ، وتأويلنا له : أ ـ المقهى ( القاهرة ، كمكان بديل ) = الرحلة . ب ـ موعد مع الأب ( هاتفٌ من الأم ) = البحث عن الأب . ج ـ حضور إلهام وفرارها ( الأخت ، كبديل عن كريمة ) = الحبّ المستحيل . د ـ الأب يمزق الأوراق ( الإختيار الوحيد ) = مجانية الجريمة . هـ ـ صابر يهاجمه ( معارضة وصية الأم ) = صحوة الضمير .

في الرواية التي تشكل المغامرة محورها ، تلعب الصدفة دوراً أساساً لكل الصلات التي تربط مصائر شخصياتها ؛ حتى أنها " توجههم " لإلتقاء ببعضهم البعض ، في الزمان والمكان المطلوبَيْن فنياً . إن كل ما هو مفاجيء ، وغير متوقع من وجهة النظر العادية ، له حضوره هنا . لا غروَ إذا أن تلعبَ المصادفات دورها ، فيما يخصّ بطليْ " الجريمة والعقاب " و " الطريق " ، على حدّ سواء ، ولتقود خطاهما على الطريق المرسوم لها : أ ـ تعارف راسكولنيكوف مع والد سونيا : ولقاء صابر مع كريمة = حوافز الجريمة . ب ـ إستماع راسكولنيكوف لطرف من حديث " ليزافيتا " ، عن تغيّبها عن منزل شقيقتها ، المرابية ، في مساء اليوم التالي " لأمر خاص " : وما علمه صابر من كريمة بأنها تتغيّب عن بيتها في " يوم معلوم " ، كل أول الشهر لزيارة أمها = مكان وزمان الجريمة . ج ـ يهتدي راسكولنيكوف لفأس " مناسبة " ، لدى حارس البناء : فيما تعثر كريمة على قضيب حديديّ " مناسب " ، تعطيه لعشيقها = أداة الجريمة .

لقد إجتمعتْ ، إذا ، لدى بطليْ دستويفسكي ومحفوظ ، التعسَيْن ، كل الشروط المتطلبة لإنجاز الجريمة ؛ من فكرة وحلم وحوافز ومصادفات . بقيَ على هذا ، تنفيذ " ذلك الفعل " . وهنا أيضاً ، نجدُ الخطوات المرافقة لإعداد وتنفيذ الجريمة ، على الإيقاع ذاته في الروايتيْن : أ ـ قبيل قيامه بزيارة العجوز المرابية لقتلها ، كان راسكولنيكوف يودّ الذهاب إلى منزل أحد أصدقائه ، ولكنه يعدل عن ذلك : وهذا ما كان أيضاً من أمر صابر ، بخصوص رغبته بلقاء صديقته إلهام ثم تجنبه لها في آخر لحظة = حسمُ التردد فيما يخص الجريمة . ب ـ يرهن راسكولنيكوف بعض الأشياء عند المرابية العجوز : بينما يوصي صابرُ عشيقته بإخفاء بعض حليها والإدعاء بأنها سرقت من لدن قاتل زوجها = تمويه دوافع الجريمة . ج ـ إضطرار صابر للإختباء تحت سرير العجوز ، قبيل دقائق من قتله : وهذا ما كان قد فعله راسكولنيكوف ، لحظة شروعه بالقتل ، حيث يسخر من نفسه قائلاً : " نابليون يزحف تحت سرير عجوز شمطاء ! " = علامة على الإخفاق المرتقب للخطة . د ـ بعيد إرتكابه للجريمة الأولى ، تتملك راسكولنيكوف فكرة مقلقة ؛ وهي إمكانية أن تكون العجوز لا زالت على قيد الحياة : وكذا الأمر مع صابر ، إذ يشك في موت العجوز ويحبّ أن يتأكد من ذلك بنفسه ، ولكنه يشمئز من الفكرة = علامة على الجريمة التالية ، غير المخطط لها . هـ ـ يغادر راسكولنيكوف بيت العجوز المرابية ، متوجهاً فوراً إلى النهر ( القنال ) ، ليرمي فيه الأدوات المستخدمة في القتل : وهذا الأمر يكرره صابر ، بتوجهه إلى النهر ( النيل ) ، للغرض نفسه = محو آثار الجريمة . و ـ في صباح اليوم التالي ، الذي أعقب جريمته ، يكتشف راسكولنيكوف أنّ جيبه ملطخ بالدماء ، فيهرع إلى الحمّام ويستخدم الصابون لإزالتها : وهذا بالضبط ، تقريباً ، ما حصل لبطلنا صابر ، في إفاقته في اليوم التالي للجريمة ، حينما يجدُ في يمناه فردة القفاز الملطخة بالدم ، فيذهب إلى الحمّام مع الصابونة ويتخلص من أثره = إشارة للإخفاق الحاصل في الخطة المرسومة . ز ـ يتساءلُ راسكولنيكوف ذلك الصباح نفسه ، الشاهد لإكتشافه آثار الدماء على ملابسه ، ما إذا كانت الخادمُ قد دخلت غرفته أثناء نومه ورأت شيئاً مريباً : إنه نفس السؤال ، المتبادر لذهن صابر ، بعدما تخلص من آثار الدماء ؛ إذ يصادف الخادم أمامه فيعتبر ذلك بادرة سوء = إشارة اخرى على الإخفاق الحاصل لتلك الخطة .

5 ـ العقاب :

يلاحظ " تودوروف " ، أنّ بعض الصفات المتفردة في كل قصة ، تعمل في النص بطرق مختلفة . فالحدث نفسه يكون جريمة من منظور وعقاباً من منظور آخر . هكذا أمر يُظهر ، بحسب وجهة نظر ناقدنا ، الغموضَ في القصص التي يستمتع بها القاريء ؛ فمثل هذا الغموض : " يترك إنطباعاً بمصير خاص ، بمكيدة محكمة " (5) . إن موضوع القتل في " الجريمة والعقاب " ، كان حاضراً منذ البداية في ذهن بطلها ، راسكولنيكوف . إن قتله للعجوز المرابية ، لم ينظر إبه بطلنا كجريمة أبداً ، بل كعقاب إجتماعيّ بحق " حشرة " تمتصّ دم المخلوقات البشرية المعذبة . علاوة على أن الجريمة ، بالنسبة لهذها البطل ، كانت عبارة عن وضع " الفكرة " في حقل التجربة . غير أنه بعد قتله لليزافيتا ، شقيقة المرابية ، والذي تمّ بغير إرادته ؛ نراه يُصرّح في مونولوجه ، أنّ على ذلك الذي يملك ضميراً : " أن يتعذب إذا كان يعترف بخطئه . إنه عقاب إضافة إلى عقاب الأشغال الشاقة " ( الجريمة والعقاب ، ص 446 ) . بطل دستويفسكي ، إذا ، يرى ويعرف كل شيء منذ البداية . إنه غريبٌ عن الموتيف ( الدافع ) الذي يصرّح به بطل محفوظ للمحامي : " الحكاية كلها كالحلم . جئت من الإسكندرية للبحث عن أبي ، فوقعت أحداث غريبة نسيت فيها مهمتي الأصلية حتى وجدت نفسي أخيراً في السجن " ( الطريق ، ص 184 ) .

هذا الإختلاف ، الموصوف ، في دوافع البطليْن مردُهُ ، برأينا ، الشكل الفني الخاص بكل من دستويفسكي ومحفوظ ، أكثر مما يرتبط بمضمون هذا العمل الروائي أو ذاك لديهما . ومن هذا المنظور ، نقترح فهم مقاربتنا للخطوات المقررة في مسلك كل من البطليْن ، الذي أعقب إرتكابه جريمته : أ ـ في الليلة ذاتها ، الشاهدة على مقتل العجوز أبو النجا ، يحلم صابر بعراك ينشب بينه وبين كريمة أمام أنظار ذلك الزوج العجوز ، والذي لا يكترث لهما : بيْدَ أنّ راسكولنيكوف ، على ما يبدو ، كان أكثر نقمة على عجوزه المرابية . فهو يحلم بدوره أنه يهوي بالفأس على رأسها ، فلا تموت بل تضحك منه مع كل ضربة جديدة = إشارة ذات دلالة ، للعقاب المرتقب . ب ـ إثرَ إرتكابه الجريمة ، يصمم صابر على ملاقاة إلهام في اليوم التالي مباشرة . لا بل وحتى راودته فكرة أن " يعترف لها بكل شيء " : وهذا ما كان من شأن راسكولنيكوف أيضاً . إنه يفكر برؤية صديق له في الدراسة ، مباشرة بعد وقوع الجريمة المزدوجة ، ولكنه يعدل عن ذلك . ثم لا يلبث أن يقع بطلنا فريسة للهذيان ، فيقرر الذهاب إلى سونيا لكي " يعترف لها بكل شيء " = إشارة على صحوة الضمير . ج ـ في صباح اليوم المشرق على سقوط ضحيته ، يؤوب بطل محفوظ للنزل فيجد رجال البوليس بإنتظاره . ولكنه يعلم من الخادم بأن هؤلاء قد قاموا بالتحقيق مع جميع النزلاء . مع ذلك ، يجتاح الإضطراب بطلنا خلال إنتظار دوره في التحقيق ، لدرجة تهيأ له فيها أنّ المحقق شبيهٌ للرحيمي ، والده المفقود : الحالُ في اليوم التالي لجريمته ، أنّ بطل دستويفسكي يفتح عينيه على رؤية دعوة خطية من البوليس . وبالرغم من أنهم هناك، في دائرة التحقيق ، يعلمونه أن الموضوع يتعلق بالإيجار المترتب عليه لصاحبة النزل ، فإننا نراه يضطرب بشدة إلى درجة الإغماء . وكانت صدمته تلك ، نتيجة إرهاقه النفسي ، أو ربما بسبب إنصاته لثرثرة رجال البوليس عن مقتل المرابية وأختها = إشارة اخرى على صحوة الضمير . د ـ جواباً على سؤال المحقق ( لا يعطه المؤلف إسماً ) ، أين كان ساعة وقوع الجريمة ، يقول صابر : " تجولت في الشوارع " : ويكون مشابهاً جواب راسكولنيكوف على السؤال نفسه ، الذي قابله به المحقق ( وإسمه للمناسبة : بورفير ) : " مضيت إلى الشارع " = علامة على الضياع . هـ ـ تُظهر أسئلة المحقق أن الشكوك تحوم حول صابر ، فتبدأ الظنون تتناهش هذا الأخير : " هي خطة بلهاء . ومحاولة الهرب جنون . ولسوف ترصدكَ عين لا تغمض " ( ص 134 ) : أما بطل دستويفسكي ، فيخرج من مقابلة المحقق يائساً ، هاتفاً بحنق : " ينبغي أن أفرّ . أفرّ بأسرع وقت . أفرّ تماماً ! ولكن إلى أين ؟ " ( ص 232 ) = علامة على المصير المحتوم .

في ما يُعرف أدبياً بـ " رواية الجريمة " ، يتجه كل حدث طاريء ، في حيوات الشخصيات ، ضمن سياق حلّ العقدة ؛ المتحدد بالعقاب . هذا مع تشديدنا هنا ، بأنّ قصَتيْ دستويفسكي ومحفوظ هاتيْن ، لا يدخلان في تصنيف رواية الجريمة وإنما يتخذان ، بهذا الشكل أو ذاك ، شيئاً من إسلوبها ومضمونها ، الفنيين . وعلى كل حال ، فإنّ وصول السرد ، بشكل عام ، إلى ما يُنعت نقدياً بـ " حل العقدة " ، أو هدف الحبكة ، إنما يرتبط بوظائف عناصر البنى الروائية ؛ كنبرة المؤلف والحوار وخصائص القصّ . إنّ إتجاه التحقيق ، في روايتيْ " الطريق " و " الجريمة والعقاب " ، كان في خطة مؤلفيْها على النسق نفسه مما أوردناه آنفاً ، من الوصول إلى حلّ العقدة في كل منهما ؛ على الأقل كلاسيكياً فيما يخصّ دستويفسكي . على ضوء ذلك إذاً ، نقدم مقاربتنا للمفاصل التالية في كلا الروايتيْن : أ ـ علمنا مما سبق ، أنّ المحقق أخذ يشك بصابر . كانت لتلك الشبهة ، على إعتقاد كريمة ، علاقة بالخادم ( وإسمه للمناسبة : علي سريقوس ) الذي لمحها في إحدى الليالي وهي على السلم المفضي لغرفة عشيقها : والمحقق في " الجريمة والعقاب " يعلق أهمية على شهادة عامل الدهان ( وإسمه : نيقولا ) ، ويسأله ما إذا كان رأى أحداً ينزل السلّم ، ساعة وقوع الجريمة = عنصر المفاجأة . ب ـ في يوم الجريمة ، كان صابر بحالة من اليأس والهذيان ، حتى أنه يجيب صاحب الحانة المشتكي من رداءة الطقس : " أنا مجرم من سلالة مجرمين ! "( ص 109 ) : وفي هذا اصدد ، كان راسكولنيكوف في الحالة النفسية ، نفسها . إنه في الحانة ، وخلال حديثه مع ضابط بوليس ، يسرد تفاصيل تتعلق بإخفاء المال المسروق من المرابية ، مختتماً وهو يغمز بسخرية : " هذا لو كنتُ أنا الذي قتلت العجوز وليزافيتا ! " = عنصر التصعيد . ج ـ في غمرة هواجسه ، يفاجأ صابر بخبر سعيد ، ينقله له معاون صاحب الفندق ، القتيل ( وإسمه للمناسبة : محمد الساوي ) . ومفاد الخبر ذاك ، أنّ البوليس قد قبض على الخادم علي سريقوس بتهمة قتل أبو النجا ، بعدما ضبطوا لديه المال المسروق : مثل تلك المفاجأة الموصوفة ، تعيد قليلاً من التوازن لراسكولنيكوف . إذ يعلم بخبر توقيف العامل نيقولا ، بتهمة قتل المرابية وأختها ، بدافع السرقة . كان دليل اليوليس ، هنا أيضاً ، بعضاً من متاع المرابية الذي حاول المتهم بيعه = عنصر القرين ، المفترض . د ـ تتلاشى من جديد طمأنينة راسكولنيكوف ، حينما يؤكد له المحقق عدم تعويله على إعتراف نيقولا بجريمته المزعومة . إن هذا الأخير ، بحسب المحقق ، ينتمي لطائفة صوفية تؤمن بتضحية النفس تكفيراً عن خطيئة البشر : أما مسألة إعتراف علي سريقوس بجريمته المزعومة ، فما كانت بحسب سياق السرد ، سوى خدعة من المحقق ( المختفي في ظل محمد الساوي ) . كان هدف التحقيق هنا ، أن يترك صابر حيطته ويتصل بعشيقته كريمة ، ليصار إلى ضبطهما معاص وإدانتهما = عنصر القرين ، على حقيقته .

ذروة القصّ فنياً ، تنتهي بالخاتمة المقترحة . وفي هذا المضمار ، يلاحظ الناقد الروسي باختين ، أنّ كل روايات دستويفسكي تمتلك نهاية حوارية ، فرضية ، بإستثناء " الجريمة والعقاب " ، ذات الخاتمة المونولوجية ، التقليدية (6) . يبقى أنّ تصورنا لإسلوب محفوظ ، فيما يخصّ خاتمة روايته " الطريق " ، محكومٌ حسب في دائرة مقاربتنا للرواية القرينة ، المفترضة : أ ـ يتعمّق شعورُ راسكولنيكوف بالتغرّب عمن حوله . إنه يحاول جاهداً تجنب أمه وأخته كيلا يضطر ، في كل مرة ، للكذب أمامهما . إنّ فكرة " أن تعلما " ، هيَ أكثر ما كان يعذبه : صابر من جهته ، يتألم لإضطراره إختلاق الأكاذيب بحضور إلهام . وعلى هذا ، يقرر قطع صلته بها خشية علمها بماضيه الملوث وحاضره الإجراميّ = العنصر الإجتماعي ، منتبذا . ب ـ تحصل دونيا ، فجأة ، على مبلغ كبير من المال من تركة مخدومتها الراحلة ، فتضعها بتصرف أخيها : وتتدبّر إلهام مبلغاً كبيراً من المال ، تعرضه على صابر كيما يحاول إستثماره = العنصر الإجتماعيّ ، متأخراً . جـ ـ الهذيان يقود راسكولنيكوف إلى منزل ضحيته ، المرابية العجوز . يكاد المحقق أن يأمر بتوقيفه على الفور ، لولا مفجأة إعتراف العامل نيقولا ، حتى أنّ بطانا يفيق على نفسه مردداً في سره : " إنني أحياناً أترك الحماقات تعصف في رأسي " ( ص 300 ) : أما صابر ، فهو في هذيانه أيضاً ينساق وفق لعبة المحقق ، الماكرة ، إلى منزل عشيقته كريمة ، ليقع هناك في الفخ : " أجل كان الجنون يعصف به عصفاً " ( ص 157 ) = العنصر الإجتماعيّ ، مديناً . د ـ يعترف راسكولنيكوف ، أخيراً ، بجريمته المزدوجة . تهتم المحكمة بأخذ آراء علماء النفس بخصوص قضيته ، التي تشغل الرأي العام : " ثمّ إنّ حوادث معيتة قامت فجأة ، فأدى الكشف عنها إلى زيادة العطف على القاتل " ( ص 855 ) : في حالة صابر ، قلنا أنه ضبط متلبساً بعدما إرتكب جريمته الثانية . هاهيَ الصحافة تقوم بإستطلاع آراء علماء النفس وغيرهم ، بشأن القضية المستحوذة على إهتمام الجمهور : " وكم عجبوا للجانب الخفيّ الذي كشف عنه حبّ إلهام " ( ص 165 ) = العنصر الإجتماعيّ ، متفهماً . هـ ـ يقول المحقق لراسكولنيكوف ، وهوَ يحثه على الإعتراف : " إبحث عن الله والمبدأ ولسوف تحيا " ( ص 739 ) : وبالنسبة لبطل " الطريق " ، يقول في مسألته أحدُ رجال الدين ممن إستطلعت الصحافة آراءهم : " وإنّ صابر لو بذل في البحث عن الله عشر ما بذله في البحث عن أبيه ، لكتب الله له جميع ما طمع " ( ص 168 ) = العنصر الإجتماعيّ ، مبرراً . و ـ في السجن يحتفظ راسكولنيكوف بكتاب الإنجيل ، الذي سبق لليزافيتا القتيل أن أهدته لصديقتها سونيا : وصابر السجين ، يطلب من المحامي أن يجلب كتاباً سبق لوالده ، الرحيمي ، أن أهداه لأحد أصدقائه = العنصر الإجتماعيّ ، محرراً .

المراجع :

1 ـ روبرت شولز ، البنيوية في الأدب / الطبعة العربية في دمشق 1984 ، ص 131
2 ـ نجيب محفوظ ، الطريق ـ القاهرة 1981 ، ص 18 : وجميع إستشهاداتنا هنا ، مأخوذة من هذه الطبعة
3 ـ دستويفسكي ، الجريمة والعقاب / الطبعة العربية لدار الحياة في بيروت ، بلا تاريخ ، ص 90 : وحميع إستشهاداتنا هنا ، مستمدة من هذه الطبعة
4 ـ ميخائيل باختين ، شعرية دستويفسكي / الطبعة العربية في بغداد 1986 ، ص 316
5 ـ البنيوية في الأدب ، ص 134
6 _ شعرية دستويفسكي ، ص 131



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- محفوظ ؛ مؤرخ مصر وضميرها
- الجريمة والعقاب : طريق نجيب محفوظ في بحث مقارن 1 / 3
- كردستان ، موطن الأنفال
- ثقافة المقاومة أم ثقافة الطائفة ؟
- المقاومة والمعارضة 2 / 2
- المقاومة والمعارضة
- الكوميديا السورية
- إنتصار الظلامية والإستبداد ؟
- ثقافة المقاومة ، ثقافة الموت
- لبنان في فم الأسد ، مجدداً ؟
- صلاح الدين عصرنا
- قصف إعلامي ، عشوائي
- محمد أوزون ؛ كاتبٌ كرديّ على أبواب العالم
- من البونابرت العربيّ إلى الطاغوت الطائفيّ
- الزرقاوي ، وسوداويّة الإسلام السياسي
- الوجهُ الجميل لنظام ٍ قبيح
- المثقفُ مستبداً
- الدين والفن
- بين إيكو وبركات 3 / 3
- فلتسلُ أبداً أوغاريت


المزيد.....




- وزير خارجية إسرائيل: مصر هي من عليها إعادة فتح معبر رفح
- إحباط هجوم أوكراني جديد على بيلغورود
- ترامب ينتقد الرسوم الجمركية على واردات صينية ويصفها -بغير ال ...
- السعودية.. كمين أمني للقبض على مقيمين مصريين والكشف عن السبب ...
- فتاة أوبر: واقعة اعتداء جديدة في مصر ومطالبات لشركة أوبر بضم ...
- الجزائر: غرق 5 أطفال في متنزه الصابلات أثناء رحلة مدرسية وال ...
- تشات جي بي تي- 4 أو: برنامج الدردشة الآلي الجديد -ثرثار- ويح ...
- جدل حول أسباب وفاة -جوجو- العابرة جنسيا في سجن للرجال في الع ...
- قناة مغربية تدعي استخدام التلفزيون الجزائري الذكاء الاصطناعي ...
- الفاشر تحت الحصار -يمكنك أن تأكل الليلة، ولكن ليس غداً-


المزيد.....

- فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا ... / زهير الخويلدي
- الكونية والعدالة وسياسة الهوية / زهير الخويلدي
- فصل من كتاب حرية التعبير... / عبدالرزاق دحنون
- الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية ... / محمود الصباغ
- تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد / غازي الصوراني
- قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل / كاظم حبيب
- قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن / محمد الأزرقي
- آليات توجيه الرأي العام / زهير الخويلدي
- قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج ... / محمد الأزرقي
- فريديريك لوردون مع ثوماس بيكيتي وكتابه -رأس المال والآيديولو ... / طلال الربيعي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - دلور ميقري - الجريمة والعقاب : طريق نجيب محفوظ في بحث مقارن 2 / 3