أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسن ميّ النوراني - رواية هدى والتينة (22)















المزيد.....



رواية هدى والتينة (22)


حسن ميّ النوراني
الإمام المؤسِّس لِدعوة المَجْد (المَجْدِيَّة)


الحوار المتمدن-العدد: 7016 - 2021 / 9 / 11 - 19:27
المحور: الادب والفن
    


(حكاية رجُل يشتهي الحبّ ولا ينالُه!)

جلس في فناء بيته الخارجي.. يسْبح مع موسيقى ناعمة حالمة تنبعث من مذياع في غرفة نومه.. وريح تعزف لحنا صاخبا، فترقص النخلتان الجارتان على أنغامه، وحفيف أوراق الشجر يرسم ألوانا على لوحة المشهد المسموع، وحمام يهدل، وعصافير تلهو في الفضاء وعبير يتسلل من مخادع أنثوية، وجفاف الثرى متشقّق ويستنزل المطر؛ ورتّل الأبيض: "وعندما يُشرق صباح الغد، وتنهض مرح من فراش براءتها.. سأعانقها، وهي على صدر أمها، وأُوِشْوِشُها: رجاء قريبا تُزَفّ!!.. ثم انقضى زمن قصير.. وجاء القمر والنجوم صفّاً صفّا، فانهزمت حشود السواد الظلوم.. ثم غداً وعند الفجر تأتي الشمس جديدة.. وترقص الحسناوات في قلب عقلي.. وحولي.. ولك يا بهجة الحبّ، يا هُدى، أرقَى وأصلِّي!!"..
****
- "تمنيتُ لو أن عقد قراني يكون غدا، لكن أختكَ تعيسة الحظ، أهله غير موافقين على زواجنا، وأنا لا أريد الارتباط به، ما لم يوافقوا على ذلك!"..
تحادثا ساعات طويلة..
- "أنا بحاجة إلى أخ لي!"..
- "وأنا بحاجة إلى أخت!"..
غاصا معا في أعماق نفسيهما، فتحت خزانة أسرارها..
- "لم أتحدث في هذا الموضوع مع أحد قبلك؛ أشعر أنني ارتكبت خطيئة!!".
- "هوِّني عليك؛ يحتاج كل منا إلى أخ موثوق مأمون الجانب، ليصحبه في رحلة إلى أغوار مكنوناته!"..
- "هل يريد أن يتزوجني، لحاجته إلى مَن يصحبها إلى أغوار نفسه؟!"..
- "هذه حاجة مشروعه!"..
- "قال إنه بحاجة إلى امرأة يتحدث معها، حديثا من القلب إلى القلب! وأنه لا يستطيع أن يتخذ من زوجته خليلة لروحه!"..
- "هل يمكن لرجل أن يتخذ من زوجة جاهلة خليلة لروحه؟!"..
تنهَّدا معا.. وتمزّقت نفساهما، وزاد نزيف جروح قديمة، لم ينقطع نزيفها!
وصمتا طويلا، ثم سألته:
- "لماذا لا يصبر عليها، فقد يغير الله الحالَ إلى حال يشتهيه؟!".
- "الله لا يبادر إلى تغييرنا، فهو لا يغيّر ما بقوم حتى يغيِّروا ما بأنفسهم!"..
- "ستبقى على غيّك؛ وتريدني أن أتزوجك!"..
استمرا يتحدثان إلى ما بعد منتصف الليل بنصف ساعة.. كانت تتكلم بصوت خفيض: "أنا أفعل شيئا لا أرضى عنه، وإلا ما كنت أخشى أن أرفع صوتي، فيسمعني من حولي!"..
- "صنعنا التابوهات وجعلناها أصناما فاستعبدتنا!"..
- "سمعت جدّي يقول: المرأة عجينة ليّنة، يستطيع الرجل أن يصنع منها ما يشاء!"..
- "ذكورة جاهلة مغرورة، أيتها الحبيبة!"..
تظاهرت بالغضب من قوله: أيتها الحبيبة؛ وبغيظ مصطنع، قالت:
- "سأغلق الهاتف!!"..
سارع للاعتذار: "لن أعود إلى ذلك؛ ولكن الرجل يحب أخته، وليس بيننا نزاع على الإرث حتى يغيب الحب عما بيننا.. أنت تعرفين أن المشكلات بين الأخ وأخته في بلادنا تأتي من طمع الذكور في حقوق البنات.. الحمد لله ليس بيننا خلاف على ما ترك لنا والدانا!!".. أضاف: "كنت أعتزم الاتصال بك، لأعرف رقم الآخر، رغبت في تهنئته بالفوز بك، وخطر لي، أن أطلب منه، أن يمنحني فرصة الشهادة على عقد قرانكما!!"..
ثم دعاها للتفكير مليّا في قرارها.. وفي صباح اليوم التالي، أخبرته أنها لم تنم طوال ليلتها الأخيرة، وأكّدت أنها لن توافق على عقد قرانها مع الآخر قبل أن يوافق أهله على زواجه منها. وقبل مغيب شمس اليوم، زفّت له رجاء أخبارا سارة لها: "بعض معارضي زواجي من الآخر أظهروا شيئا من الليونة في موقفهم!".. كانت نبرتها مبتهجة، وهي تشعر أنها تقترب من تحقيق هدفها.. وبدت مطمئنة الحديث:
- "أشعر أنني أصبحتُ في مأمن من تطلعاتك للاقتران بي!!"..
أضافت في المكالمة المسائية التي أعقبت مكالمة صباحية طويلة بينهما: "عندما أرتبطُ مع الآخر، لن يبقى أمامك مجال للتفكير في الزواج مني.. وستكون أخوّتنا بريئة من رغبتك التي لا تزال حية في صدرك.. كنت قد قرّرت أن لا أعود للاتصال بك مرة أخرى هذا اليوم، لكنني لم أملك أمري، فطلبتُ رقمك بدافع جوّاني، لم ينتظر إذنا من عقلي، ونسيت ما كنت قد عزمتُ عليه!!"..
- "انتصر قلبك على ظلم عقلك!!"..
اعترفتْ: "أنت تعاملني بحنان واحترام، لم أحظَ بهما من قبل، وأنا بأشدّ الحاجة إليهما؛ لكنني، أقمع قلبي، عمدا، وبإصرار وعناد أعمى وأصمّ!"..
- "للقلب حكمته التي لا غنى لنا عنها!"..
- "أنا أترك لعقلي الكلمة الفصل.. أنا خائفة من عواقب زواجي من رجل له زوجة جاهلة.. قال لي في المكالمة الأخيرة بيننا، إن زوجته بدأت تُوليه اهتماما، لم يعهده منها من قبل!!"..
****
هذا اليوم.. نهض من نومه، وقبل أن يغسل وجهه، ويبدل ثيابه، فتح النافذة المطلة على التينة، وهاتف رجاء: "صباح الخير يا أختي".. أضاف في صدره: "صباح الخير يا تينة!".. ثم سأل رجاء: "هل حظيتِ بنوم هانئ ممتع، في ليلتك الأخيرة؟".. وقبل أن يحين موعد انصرافها من عملها، عاد لمهاتفتها: "هل طرأ جديد؟!".. أجابت بنبرة يائسة وفيها حسرة: "لم يتصل!!"..
ثمّ صمَت الهاتف طويلا، فضاق بصمته صدرُه، ثمّ نفد صبرُه، واغتاظ، وتساءل هل من الذوق والحكمة أن يعود للاتصال بها مرّة ثالثه، وهي تعرف عنه، أنه حريص على أن لا يُثقل على أحد، ولا أنْ يقتحم حياة الآخرين، بقول أو فعل، قد لا يستحسنوه: "لكنها أختي، ولها عليّ حقُّ الأخت وواجب عليّ أنْ لا أتخلى عنها، في فرح تنتظره، أو محنة يبدو أنها تصيبها!"؛ قال لنفسه؛ وأطرق وصمتَ وقتا قارب الساعة؛ ثمّ اتصل بها:
- "أُعاني صداعا شديد! أرجوك أن تتركني!!"..
أجاب منزعجا: "هل حدث ما أساءك؟!".. أنهتْ الحديث القصير، الذي استغرق أقل من دقيقة، بانفعال حادّ لم يعهده منها:
- "أرجو أن تتركني يا دكتور، مع السلامة!"..
صَدَّعت كلماتها قلبه، وشوَّشت فكره؛ لمْ يغتظ من حِدّتها، رغم قسوتها؛ لكنه تساءل: "لماذا عادت لمخاطبتي بلقبي بعد أن تعودتُ منها على مناداتي باسمي المجرد؟!.. هل تراجعتْ عن اتفاق تآخينا؟!"..
استلقى على فراش عيادته.. حدّق في السقف، تذكّر "الحبيبة".. بات على عتبة النوم.. حضنتْ راحتاه رأس هُدى، وحطّه فوق صدره، وقال: "رأيتُكِ وأنتِ تذرفين دموعَك.. تمسحين الحزن الذي ينهمر من عيون ينهمر الألم منها.. ورأيتُكِ عارية وأنتِ في أبهى البهاء، وتمام الزينة.. تراقصين البهجة في أعراس المساكين واليتامى.. وبعد أن أودعْتِ جثماني، بطن الأم الكبيرة، هرولتِ إلى الجهة الغربية، ولوّحتْ كفّاك الناعمتان بتحية الشوق لمغيب يأتي بعده شروق جديد. وبينما أنت تكتبين قصيدة في جمال الشفق، تعالى صياح النجدة.. فخلعتِ عنكِ ثيابك، وجدّفتْ يداك وساقاك في بحر الظلمة.. والنور من قلب عقلك صاعد.. فاندثرتْ الحيتان، ومددتِ جناحَيك.. فحضنتِ الفتى.. وقفزتِ به فوق طوفان الموت.. ثم صحوتُ.. فتلمستكِ.. فما وجدت غيري..!!"..
****
صحا بعد ساعة من انتهاء المكالمة القصيرة جدا.. رنّ جرس الهاتف.. لم يُعِرْه اهتماما.. قال بانكسار: "رجاء و"الحبيبة"، غابتا في الصمت الحزين!".. لم يبرح غرفة عيادته، منذ بدأت أطول مهاتفة بينه وبين رجاء، في الليلة السابقة، وقبل أن تذهب في البحر السحيق.. وكان فيها، كطفل تقفز منه مشاعره، بعفوية، وبلا ضابط يحكمها؛ فردّدَ مرّات عديدة: "أُحبكِ.. أحبك..!!"..
****
عاد فنام، ورأى رجاء في حُلْم، كان واضح التفاصيل، ثقيل الوقْع عليه:
كانت أسيرة حزن احتجاجي قاسي؛ أبتْ، في البدء أن تكشف أسباب ما يعتريها من ألم نفسي حاد.. قال لها: "لا تحزني؛ فلن يخْطِئك ما قدّر ربّ الخير لك!"..
- "الحمد لله على كل حال!"..
- "كنتُ أُخمِّن، منذ البدء، أنه لن يوفيك قدْرك!"..
- "لكنّكَ لُذْتَ بالصمت؟!"..
- "أُقدِّر أته لا يليق بكِ أنْ تتزوجيه!"..
- "أتقول ذلك، بعد أن شاع بين الناس خبرنا؛ ماذا سيُقال عني؟!؛ سيحكمون ضدّي، وستلوك ألسنة الثرثرة حكايتي، وتعيب سيرتي، وتنهش لحمي وعِرضي.. سيعيِّرونني بأني المرفوضة من كل الرجال، المطلَّقة عدّة مرّات، وسيفتري المفترون، فيخترعون أسبابا لفشلي، تنال ديني ونسبي!"..
- "أحسب أن الصدمة تُهوّل عليك تخميناتك، وأن اليأس يحملك إلى سوء الظن فوق ما يستحقّ الأمر!"..
- "أنتِ حبيس برجك النائي، لكني أعيش في الواقع وأدرك أنه أسوأ مما يتصوره قلبك الأبيض؛ وأنا مررتُ بتجارب انفصال عن الرجال، ورفْضٍ منهم لي، فعُوملتُ ككلبة جرباء، فاضطررتُ إلى هجر مسقط رأسي، وفررتُ أطلب النجاة والأمن والسلامة، وأُمنّي النفس بزواج جديد، في مكان بعيد عن مكاني القديم!"..
- "أُحبّكِ أُحبّكِ أُحبّكِ ولن أملّ ترديد القول: أُحبّكِ أُحبّكِ أُحبّكِ؛ فثوبي لرشدكِ وهيّا تعالِ نقتسم الفراشَ الضيّق فسيتسع بالحب وسنبتهج بحبِّنا ونحيا أحرارا ونُعْلي مجدنا!"..
- "داست أقدام كثيرة على كرامتي؛ فلن يهدأ بالي، قبل أنْ أنتقم لكرامتي!"..
- "أُحبّكِ أُحبّكِ أُحبّكِ.."..
- "لا أريد حبّا؛ أريد ثأرا!"..
- " أُحبّكِ أُحبّكِ أُحبّكِ..!"..
- "لا أريد حبّا، أُريد سيفا!"..
- "أنا جئْت بالحبّ لا بالسيف!"..
- "إذن، أنتَ لستَ لي!"..
- " أُحبّكِ أُحبّكِ أُحبّكِ..!"..
- "كنتُ أُحبّك، لكنكَ سقطتَ في الاختبار!"..
- "سأُصلّي من أجل أن يعود إليك!"..
- "لنْ أرحمهُ وإن عاد!"..
- " أقلبُكِ قاس حقود أسود؟! حسبتُكِ رقيقة كقطّة وديعة أليفة!"..
- "كنتُ لكن الجرح غائر، والنزيف كثيف غزير!"..
- "أقسم الله في القرآن الكريم، بكاظمي الغيظ العافين عن الناس، وبشَّر الصابرين بثواب عظيم!"..
- " إذا تملّكت الأنثى ذكرا، قيَّدته في قفصها، قيْدَ الرقيق، وفتحت له قلبا ليِّنا رؤوفا رحيما رؤوما شفوقا وأعطت بسخاء لا يضجر ولا يتذمّر ولا يهن ولا يسأل أجرا ولا يدّخر جهدا وبذلتْ فوق ما تطيق؛ فإذا كفر بها وأنكر نعمتَها وأفلتَ منها إلى سواها، أو طلبَ حريّتَه؛ طار صوابها، وشطّ انتقامها واستلّت السيف من غمده وحاربت بشراسة الضواري وخرّبتْ ودمّرتْ وأحرقتْ وأفسدتْ وفتحتْ أبواب سقر للناس قبل ميعاد الله، بغير ميزان ولا ضمير ولا خُلُق ولا حساب ولا دين!"..
- "أعي أننا حين نخسر المعركة، نفقد سلامة التقدير وحُسن التدبير، ونكيل بغير عدل ونأبى أن يُكال لنا كما نكيل لخصمنا!"..
- "تزعمُ أنّك تحبني وتخذلني حين هزيمتي!"..
- "أنتِ نازلتِ زوجتَه، فأشعلتْ نار حرب أنتِ الآن تُشعليها فتحرقي قلبك، وسيأكلك لهيبُها فتخسري الآتي، كما خسرتِ جولةً لا تسدّ الطريق المضيء ولا تغلق الآفاق الرحبة المُشاعة للمحبين المؤمنين العاملين الصابرين المثابرين الجادّين المتسامحين، ولا تغلقُ أبوابا مشرّعة للقلوب الحيّة الحرة المبتهجة بالوئام والسلام، القاضية بعدل إذا الحكمُ طالنا وتغيّا ما نشتهي أو طال سوانا وتغيّا ما يشتهونه!"..
- "أنتَ منحاز إلى جنسك؛ فلنْ تنصف في حكمك، ولن تنتصر لي وتنحاز إلى جانبي!"..
- "حربكِ بين أنثى وأنثى!"..
- "سأجعل حصنها جحيما! ساسرقه من حضنها في ليلة دهماء، أو في ضحى عجماء!"..
- "زيدي البنزين على الحطب يشتدّ الحريق، ويشيط الشر ويتمادى الشيطان؛ فتوبي لربّك العليم بخفايا الأقدار الحليم الحكيم؛ فهو يغلق طريقا فيه هلاكنا، ويفتح أمامنا، سبيل نجاتنا؛ استعيذي بربك القوي القادر الكريم، من كل آثم طاغِ جاهل ظالم حقير، يكنْ مغيثا لكِ.. وآمني بي واتَّبِعيني، يكون إيمانُك معكِ لا عليك، ويتَّبِعك فوزك المبين، وتنالي حقّك وتسعدي وينمو زرعك وتسلمي وتخْلُدي في نعيم حب مبتهج حُرٍّ كريم!؟"..
- "أنا مغدورة مقهورة، فلا تراودني بمعسول الكلام ولباقة اللسان!"..
- "أنتِ عمياء البصيرة صمّاء مغلولة العقل مكبّلة النفس؛ فارجعي إلى رُشْدك إنّي أُحبّكِ أُحبّكِ أُحبّكِ.. أنا قدُرك المكتوب فارْضِ واشكري!"..
- "خدعْتَني بزعمك إنّكَ تحبّني، وغدرتَني حين احتجْتُ إليك، فلَمْ تغضبْ لغضبي، ولمْ تبرحْ سماءَكَ وتستلّ سيفكَ، وتباغتْ بالموتِ عدوّي؛ فلا حاجة بي إلى بؤسك فابْقَ في تيهك إنّي نبذْتُ حبّكَ من دمي ومحَوتُ ذكرَك وأمَتُّك وحفرتُ قبركَ ودفنت جثمانكَ وأهلتُ عليك تراب حقدي، وتقبّلتُ فيك العزاء، وخلعتُ ثيابه السوداء، واشهرتُ السلاح، واقتحمتُ ساحة الوغى وانتهى الكلام فلا وئام ولا سلام ولا رجعة ولا ندم؛ فإمّا لي أنا، وحدي أنا؛ وإمّا الموتُ الزؤام!"..
شعّت عينا حورية القديمتان، في ظلام الليل، وهمستْ في المنام، في أذنه: "ما أغاظ رجاء، ليس فشل مشروع زواجها؛ أغاظها أنها هي التي بادرت بالسعي إليه، بعدما أوقعتْه في حبائلها؛ هي لم تقل ذلك لك! والحقّ إنّ نكوصه قاس على المرأة ومُهين! وتزداد شراستها، بماضٍ سجّل عنها، أنها أغْوت كثيرين، وأن سيرتها لم تكنْ محمودة؛ فأعرض عنها الناس ورفضها مَن سعتْ للزواج منهم، خاصة، بعد تطليقها من أزواج سابقين، وبعد رفض أبي أبنائها من اللحاق بها وبأبنائه منها، بعدما رحلتْ إلى هنا! أمّا أنتَ فهَوّنْ عليكَ وهدّئْ روعَك؛ زوبعةٌ في فنجان، وبركانُ صوتٍ يندب الحظّ العاثر، سيحمله الريح إلى بعيد.. وسيوفنا نحن النساء الإماء من هواء ومثلومة؛ النساء هنا خانعات النفوس مُسلِّمات مؤمنات أنّهنّ ناقصات عقل ودين، وأنّهنّ قيدُ الطلب كلما اشتهى الذكر مضاجعتَهن، فإن أبَيْن غضِب الله وذكوره عليهنّ حتى يسْتغْفِرْن ويتُبْنَ فيُقبل منهنّ استغفارهنّ وتوبتهنّ ويُؤْمرْن أنْ ينْصعْن ويتقرَّبن من السيدِّين العالي والواطي؛ فيُفرِّقْن الفخذين؛ ليطْفئ الذكرُ شهوتَه، غير مبالٍ بشهوتها، ولا نارِها، ولا حالها، ولا إنسانيتها!.."..
****
في المكالمة الطويلة بينهما، قال: "زواجك من آخر، لم يكن اختيارا يلائمك!"
- "هل كنت ترى ذلك منذ البدء؟!"..
- "أجل!"..
- فلماذا خبّأته عني؟!"..
- "كنت أخشى أن تخطئي تأويله؛ فتتشوه صورتي لديك.. وكنت أقول لنفسي: قد يكون رأيي، ظَنّا آثما، صادرا عن رغبتي فيك، وتعلّقي بك، وحاجتي إليك!"..
صمتا معا، ثم أردف: "احمدي الله على أن زواجك منه، لم يتم.. كنتُ أُشْفِق عليك من ولوج مستقبل، ستواجهين فيه خصما جاهلا!!".. تنهدتْ.. وقالت: "كنتُ على وشك أن أتصل به، وأن أنقل إليه أنني عدلتُ عن قرار قبولي به، لكنه سبقني بِهُنَيْهَة، فأخبرني أنه لن يكون قادرا على الارتباط بي.. إن ما يعذبني هو أنه سبقني!!".. ردّ بنبرة فيها تفكُّه: "إنه سيد سابق!!".. تابع:
- "أنتِ لا تزالين تشكين في صدق مشاعري الأخوية نحوك!!".
- "لا أشك.. ولكني ألوذ بالحذر!!".
- "لن تجِدي الرجل الذي يناسب قلبا وعقلا كبيرين مثل قلبك وعقلك!".
- "تعني لن أجد من يناسبني باستثنائك أنت!!".
- "أعرف أني أناسبك من جوانب، ولا أناسبك من جوانب أخرى، وأعرف أيضا حقيقة مشاعرك نحوي، والتي تحاولين إخفاءها.. أعرف أنك تحبينني!!"..
صمتت، وتنهدت.. قال: "أنا في الحب مجنون.. ولا أدري لماذا أتحلى بالعقل في حبي لك!!.. أودّ أن أخرج هذه اللحظة، وأصعد مئذنة المسجد القريب مني، وأنادي بأعلى صوتي: أحبك.. أحبك يا رجاء.. أحبك!!"..
- "فإذا نهض الناس وقصدوا المسجد؟!"..
- "أكون إماما لهم في صلاة الحب!!.. هل خفّ صداع رأسك؟!"..
- "أفْضل مما قبل!!"..
صَمَتا معا.. ثم قال: "أحبك.. أحبك.. أحبك.. أحبك.. أحبك.. أحبك.. أحبك.. رجاء؟! أين ذهبت؟!.. رجاء؟!؛ تكلمي.. تكلمي يا رجائي وسمائي.. لن أبقى الطفل المطيع ولا الذي يكبت مشاعره في صدره.. أحبك.. أحبك.. أحبك.. ؟!!".. وبينما الصمت يرتدي الوجودَ كله، انتبه إلى أن الحياة انتعشتْ تحت سراويله الشتائية التي يرتديها.... قال في نفسه: "هذه أول مرة يتحدث فيها الصمت بلغة الحب!!".. وأوغل الصمت.. وعقارب الساعة تدنو من الواحدة صباحا.. وبرْد الليل القارس يتوغل في جسده.. وجيش الاحتلال الإسرائيلي قتل ثمانية فلسطينيين في الساعات العشر الأخيرة.. ورجاء أغلقت الهاتف، وحاول أن يفتح الخط معها من جديد.. دق جرس الهاتف جوار فراشها ثماني مرات.. لم تجب.. خلع ملابسه، وارتدى بيجامته الزرقاء السماوية، واندسّ تحت لحاف وبطانية من اللون ذاته.. وتذكر أن رجاء قالت له وهي تهاتفه قبل قليل، إنها تتدثر ببطانية زرقاء سماوية، وفوقها لحاف أزرق سماوي أيضا.. "قريبان جدا نحن يا رجاء.. يا أختي وحبيبتي!!".. وأول ما صحا في صباح اليوم التالي، هرع إلى هاتفه الجوال.. طلبها على هاتفها الجوال الذي يكشف رقم الطالب.. لم تردّ.. طلبها على هاتف عملها.. لا أحد يجيب.. عاود المحاولة، رنّ هاتفها الجوال طويلا.. لا جواب.. طلبها على هاتف العمل مرة أخرى، ردّت زميلتها: "رجاء لم تأتِ اليوم!!".. طلبها على هاتفها المنزلي. لا أحد يردّ.. السماء ملبدة بالغيوم، والريح عاتية.. والبرد يتسلل من باب مشقوق.. والنوافذ مغلقة.. وصوت مرح الطفولي غائب هذا الصباح.. لكن العصافير تغرِّد.. والنخلتان الطويلتان صامدتان مرفوعتا الرأس شامختان.. والأوراق الجافة المتساقطة من التينة تفرش الأرض تحت التينة وتحت الشرفة الصامتة إلا من ذكرى "حبيبة" كانت هنا. والرمَّانتان تتقدمان نحو تَخلُّق النهود.. النهود؟!! يحلم.. يحلم بصدر من حب لا يزول.. ولا فطام له عنه أبدا..!!
****
عاود محاولات الاتصال بها.. طلبها على الجوال، لم ترُدّ.. طلبها على هاتف عملها، ردّت زميلتها: "رجاء لن تأتي هذا اليوم!".. طلبها على هاتفها المنزلي. ردّت:
- "لا أرغب في الحديث مع أحد، ورددت على الهاتف لظني أن الاتصال من زملائي في العمل، للاستفسار عن مسالة ما تتعلق بشؤون العمل!".
- "أحبك!!".
- "لا تضطرني إلى إغلاق الهاتف كما فعلتُ في مكالمة الليلة الماضية!!".
- "أريد أن أراكِ!"..
- "لا.. لا أريد لك أن تتولّع بي أشد من ولعك وأنت لم ترني بعد.. أرجو أن لا تجري وراء سراب.. أنا لستُ لك! أعرفُ عنك كل ما أخفيتَه عني، أنتِ قلَقٌ دائم! وموج غدّار!.. أنت سفينة لا تستقرّ في مرفأ!!".
- "أؤكد لك أنكِ مرفأ سفينتي الأخير.. سأقرأ عليك شيئا مما كتبته!".
- "لا أرغب في سماعه.. أنت تحاول استغلال وهَنَ نفسي وجرح كرامتي!".
- "أنت تُهينيني؛ اخلعي نظارتك السوداء.. أنتِ تعرفين أني أحبك من قبل أن تنتهي علاقتك مع الآخر.. أرجوك، اسمحي لي بالتعبير عن عاطفتي نحوك؟!".
- "لن أسمح!"..
كانت تتحدث من سماعة الهاتف المنفصلة عن قاعدتها، المثبّتة بين كتفها وأذنها.. ويداها مشغولتان بتجهيز طعام الملفوف الذي يشتهيه؛ قالت: "ها قد أشعلتُ النار لإنضاج الطعام!".. قال: "أنت تشعلين نارين!!".. وصمتْ، ثم تابع: "أنت تذبحينني!!".. ردّت: "أنا مذبوحة!!".. صمتَ مرة أخرى، ثم قالْ: "لا جدوى منك، دعيني أنزف وحدي!!"..
قال في نفسه: "رجاء تثأر لكرامتها التي هدرها آخر، بالانتقام مني.. للمرأة أنامل وشفاه ناعمة، ولها أيضا قلب تسكنه وحوش ضارية، تخرج إذا أفْلتَ من قفصها رجل تهواه.. وإذا لم تمتلك المرأة من تحبه، وتسْترِقّه؛ أحبت له أن يموت وقَبل أن يفرّ منها!!"..
****
غادر غرفة مكتبه، التي كان يتحدث منها مع رجاء.. ارتمى على فراشه البارد.. استدعى هدى، جذبها وألقاها على ظهرها.. باعد بين ساقيها، وغرس وجهه أسفل بطنها.. قبضتْ كفاه، بقوة على نهديها.. وقال بصوت آت من الأعماق: "ورأيتُك يا نور القلب أريجا يملأ الفضاء، فركبتُ السماوات حتى علوتُ فوق أقصاها.. ومن هناك، أمرتُ، فطُوِي الوجود لي، فكان الوجود خيالي وبهاءك.. ولثمتُ شفتيك، فاستضاء العقلُ بهجةً ولثمتُ صدرَك فاستقام الحب قانونا ولثمتُ وجنتيك فانبلج الليل وردا ولثمتُ بطنك فأينعتِ بعثا من النور فنهضنا فانطلقنا بين الكثبان والوديان وقفزنا من وعْر إلى وعْر نتسلّق الجبالَ ونزرع الحقولَ والنمورُ معنا تحرث الأرض والأسود ترويها والحسناوات يصْنعن الخبزَ والفتيان ينثرون العدل فوق العتبات وجوقة تُغنّي والكون يرقص رقصةَ البهجةِ رقصةَ الحرية..!!"..
****
قالت رجاء في مكالمة الليلة الأخيرة:
- "لن أتزوج!!".
- "وسأعزف بدوري أنا الإمام الأبيض عن النساء كلهن وأكرِّس ما تبقى من حياتي للتكفير عما اقترفتُ من الخطايا.. فهاتي نشرع في نشرع في بناء بيت الحبّ الوضّاء الواسع المفتوح المُشاع!!".
****
ألحّ عليها أن تعترف بحبها له:
- "قولي إني أحبكَ.. قولي.. قولي.. ارحميني!!".
- "لن أنطقها!!".
- "أنت تحبينني!! ولا تفسير لعلاقتنا سوى أننا نتبادل الحب. تعالي نعلنه معا، في هذه اللحظة العميقة من الليل، وعلى إيقاع موسيقى كونية صاخبة، تختلط فيها أصوات الزوابع مع سقوط الثلج.. وفي هذا الصقيع الذي يلفنا.. انطقي.. قولي إني أحبكَ!!"..
استمرت المكالمة التي بدأت بينهما قبل منتصف الليل حتى الواحدة من صباح الأربعاء.. وقبل ظهيرة الأربعاء، قالت له إنها ستبدأ خطوات من شأنها أن تربطه بامرأة أخرى: "حتى لا يبقى أمامَك مجال لمعاودة الكرّة معي!!".. قال لها في محادثة الليلة السابقة: "زواجي من امرأة أخرى غيرك انتحار لي.. أرجوك لا تدفعيني إليه!!".. اعترفتْ أنها تتمنى رجلا ناضجا:
- "أحب عقلكَ وكتاباتك!!".
- "إذن، أنتِ تحبينني!!".
- "إني أحب كتابات نجيب محفوظ؛ هذا لا يعني أني أحبه شخصيا!".
- "الدلائل تقول إنك تحبينني.. لا تطمُسي قلبك!".
- "اِفهم ما تشاء.. ولكنني أعزّكَ وأحترمكَ! دعنا نبقى أخوين!!".
- "إذن، لا تدفعي أخاك إلى الانتحار!!".
- "أنت لستَ مستقرَّا، ولا تُصلِّي كما الناس تصلِّي.. وأنا أريد أن أتزوج رجلا يوفر لي ظرفا يسمح لي بالاستغناء عن عملي الوظيفي.. أنت لا تتصور كم يُذلّ العملُ المرأةَ؟! لماذا لا تبدأ وفي الحال، تنفيذ مشروع إنشاء جمعية تدافع عن حقوق الأمومة والطفولة؟!".
- "أودّ أن تكوني زوجتي وأختي، وأن نعمل معا لإنشاء الجمعية المرجُوّة!!".
قبل الساعة الواحدة ليلا بدقائق، قالت: "أنا خائفة!".. قال، والغضب الكوني العاصف، يهز الليل: "أنا معك.. أتمنى لو أنك الآن في حضني.. أنا أحبك. أنا أحبك!!".. قال: "افتحي قلبك للنور المبتهج بالحب!".. قالت: "هذا قدري!".. ثم أغلقت الهاتف..
قال لها في الاتصال الهاتفي الليلي التالي، الذي استمر مائة دقيقة، إنه محبط!! دعته إلى العودة إلى تديّنه القديم؛ سألها: "هل تكون هذه العودة مهرَك؟!".. قالت بنبرة صوت منبثق من القلب: "قد يكون!".. وأكّدتْ:
- "عودتُك للتدّين، تزيل عقبة جوهرية تحول بيني وبين قبولي بك زوجا!".
- "ولكن، ماذا ستقولين عني، إذا عدتُ للتدين من أجل الفوز بك؟!"..
- "سأمتلئ فخرا، وأعلن أنني حققتُ نصرا باهرا!"..
- "ألن ترينني إمّعة قزما كاذبا خائرا ساقطا مَهينا خائنا حقيرا رخيصا وَغْدا ذليلا هزيلا؟!"..
- "كلا؛ ساراك بعين الرضا!"..
عدم تديّنه، بمقاييس عامة الناس، سبب من أسباب أخرى، يعود إليها رفض رجاء للزواج منه.. قالت في أحاديثها معه: "أريد رجلا آمنا، يمنحني الأمان الذي تبحث عنه، كل أنثى.. وأن يوفر لي حاجاتي النفسية والبدنية والمالية والاجتماعية والنزْوِيّة أيضا!".. وتذكّرت زواجاتها السابقة، وكيف فشلت فيها.. قالتْ بحدّة غيظ مكبوت:
- "كفى! لا أريد الفشل من جديد!"..
- "الحياة مغامرة مفتوحة!"..
- "تركتُ مغامرات الحياة لك؛ غُصْ في بطن المجهول كما يحلو لك؛ أمّا أنا، فأنا أنثى تعشق بريقَ الحياة وزُخرفها، ونفاقها وتلوّناتها وسخافاتها، وتتعجّل عشقها، ولا ترهن نفسها، بأوهام ولا تنتظر المعجزات!".. ماضِيك أنت ضاع في مهب الريح، ولمْ تفِقْ بعد مِن ضلالك!"..
- "اصغِ إلى نداء قلبك!"..
- "هل لديك موضوع مختلف؟!"..
صمتَ وأطرق! وقالت: "تخليتُ عن وعدي لك، أنّي سأساعدك للزواج من امرأة أخرى.: "أتتركيني في الحرمان وحدي أيتها الأخت والحبيبة؟!".. ردّت: "إذا كانت مواصفاتك تُبعدني عنك، فكيف تريد مني أن أسعى لربطك بامرأة أخرى؟! ماذا أقول لها عنك؟!"..
وفي صباح اليوم التالي، تباطأ في النهوض من فراشه.. رنّ جرس الهاتف، قالت: "هل أغضبتكَ صراحتي؟!".
- "لا عليك! مهما تكن الصراحة مُرّة، فهي دواء لا بد منه!".
- "إليك ما وصلني عنها من معلومات. عمرها.. وضعها.. ولديها طفل من زوجها المتوفَّى...".
- "أجمل ما لديها، أن معها طفل بريء؛ سأحبه، كما أحبّ أطفالي، وكل طفل، وأحتضنه وأرعاه..!".
- " هذا يسعدها؛ إنها تناسبك!"..
لكن رجاء رفضت أن تقوم بالاتصال بها والتحدث إليها في موضوع الزواج المقترَح.. وطلبت منه، إذا قام هو بالاتصال بها، أن لا يتحدث معها عنها: "لا تتحدث معها عن معرفتي بك، ولا عن أية علاقات أخرى لك مع النساء.. عليك أن تقطع كل علاقاتك مع النساء، وكُفَّ عن ترديد: هذه أختي وهذه ابنتي.. لن تجد امرأة تقبل ذلك.. سنتحدث أنا وأنت من وقت إلى آخر، وسأزوركم أيضا..، الله يوفقكم!".. وأغلقت الهاتف..
****
"ورأيتك يا هُدى.. وقد حملتِني إلى فوقِ الفوق.. فقال فوقُ الفوق مبتهجا أنتَ الصادق المقدام أيها الأمجد لا تبالي.. ونزلتُ.. فإذا الكريم أنا لم أزل وحدي أفترش الحصيرة والصقيعُ دثاري.. ولكنكِ يا نورَ القلب.. أنتِ.. أنتِ حُلمي.. أنت شوقي ورجائي.. فإن لم يكن بك غضب عليّ.. فلا أبالي!!"..
****
في الطريق إلى بيت المرأة التي اقترحتها رجاء عليه للزواج منها.. دخل مسجد الحي الذي يقع بيت رجاء فيه.. شعر أنه يقترب منها أكثر.. وكان في صلاة الجمعة ظهر اليوم ذاته قد صلى من أجلها: "اللهم املأ بالبهجة قلب رجاء!".. وفي هذا الوقت الذي يتجه فيه نحو بيت أٌمّ الطفل اليتيم، كانت رجاء تشارك في مراسم حفل زواج إحدى قريباتها، قالت له، فيما بعد: "كنتُ وأنا في الحفل أدعو الله أن يوفقك في مشروع زواجك الجديد!".. لكنه لا يريد الابتعاد عن رجاء.. ويخشى من نتائج وخيمة عليه، إذا اقترن بامرأة لم يعرفها: "ولن يكون بمقدور قلبي التعرّف إليها جيدا.. قلبي مسكون بك ومشغول بحبك يا رجاء!"..
****
إلى أين يسوقه القدر: من "الحبيبة الجارة"، إلى "الحبيبة الرجاء".. إلى امرأة لا يعرف من هي؟! الجار أبو الجارة، صاحبه إلى بيت المرأة الجديدة، طلب منه أن يترك مسألة ترتيب الزواج له، وأن يمتنع عن فعل أي شيء قد يعمل على إفشال مشروع الزواج، من المرأة التي لا يعرفها.. "أنتَ بعيد عن تقاليدنا؛ فإن خالفتها، أفشلتَ المشروع!!"؛ قال أبو "الحبيبة الجارة".. كان والد المرأة الجديدة وشقيقها في انتظارهما.. كانا يخمِّنان سبب الزيارة.. تحدث أبو الجارة مباشرة في المسألة.. قال شقيقها إن الرد بعد يومين.. قال له أبو الجارة، وهو يشجعه على الزواج من المرأة التي حثته رجاء على الزواج منها: "إنها فرصة ثمينة يجب أن تحرص على أن لا تضيع منك؛ إنها ابنة رجل ثريّ جدا!"؛ رجاء تريد زواجه من المرأة هذه، وتعلل ذلك بقولها: "حتى أنتهي من موضوعك!".. زواج محكوم بالتقاليد.. قبوله به يمثل انقلابا على مبادئه.. هذه هزيمة نكراء له! هل يستسلم لها؟!.. في شبابه المبكر، كان شعاره: "لا.. لا لكل كائن واقع!".. أبو الجارة، الذي يجعل من الثراء المادي، هدفا رئيسا، ورجاء التي يحبها، يدفعانه إلى امرأة لا يعرف عنها، سوى أنها ابنة أغنى عائلة في بلد يهواه القلب.. هل يهوي؟! رجاء رفضته لأسباب منها أنه فقير: "أحب فيكَ خصالك؛ لكن المال حاجة أساسية!".. في الطريق إلى ابنة العائلة الغنية بالمال، حاول أن يُقنع رفيقه، بزيارة ابنته "الحبيبة".. انقطع عن زيارتها منذ أمد طويل، بعد أن ضربها بعنف، يوم العيد، حين فاجأته بزيارة طال انتظاره لها.. كانت قد طلبتْ من أبيها، أن يسمح لها بالعودة إلى بيت زوجها، بعد أن قام الأخير، على مشهد كل جيرانها، بضربها وسبّها وطردها دون طفلها، ليلة العيد: "كان يجب أن تعود إلى طفلها.. أرجوك، اذهب إليها.. لا تتركها وحدها في العذاب.. النبي محمد أجاز لنفسه، ولكل الرجال المتزوجين، أن يتزوجوا نساء غير زوجاتهم.. لكنه رفض أن يتزوج علي بن أبي طالب زوجة أخرى، مع زوجته بنت النبي: "أمّا فاطمة؛ فلا.. طلِّقها، ثمّ تزوّج غيرها!".. عاطفة الأبوة، دفعت النبي إلى أن لا يقبل لابنته، ما يقبله لبنات الناس غيره.. أرجوك، اذهب إليها.. وصالحها.. اُجْبرْ كسرك لها!!".. رد الرجل الذي لا يعرف عن علاقة رفيقه بابنته شيئا: "لن أفعل!.. لن اذهب إليها.. وإذا جاءت عندي سأقيِّدها بالحبال!!".. حبّ الجارة لم يغادر قلبه. حدّث نفسه وهو عائد من زيارة بيت المرأة المنحدرة من عائلة ثرية بالمال: "هل يساعدني الزواج من ثرية الأب، على تنفيذ مشروعي الروحي الخيري؟.. "هاتي نشرع في تنفيذ مشروع جمعية الطفولة والأمومة يا رجاء!".. ردّت: "دعنا ننتظر، نحن بحاجة إلى دعم مالي، أرجو أن توفّره لنا المرأة التي أنت مقبل على الزواج منها!"..
****
"رأيتك يا هُدى، تحرثين الأرض، وتزرعينها من جديد. ورأيتني أصِّلي في محراب رجاء. ورأيتُني دونَك، فصرختُ فانشقّ الثرى عنك.. و ظلّ الحُلْم يلازمني!!"..
****
جلس يدفع في جوفه لقما مغموسة بطبيخ العدس، الرديء التجهيز والطعم.. لا يزال يأكل منه منذ ثلاثة أيام.. تذكّر المرأة التي لا يعرفها والتي قصد بيت أهلها ليطلب يدها.. تُقيم مع أسرتها في قصر من أفخم قصور قطاع غزة.. وتذكرّ أنه دفع ثمنا باهظا، لا يزال يتفاقم، لجرائم بشعه، أُدين بارتكابها، وهو منها براء!".. يشتهي أنثى لذاتها؛ لم تجذبه أنثى لذاتها، غير "الحبيبة".. ولا رجاء أيضا؛ فهو لم يقع في حبها منذ رآها كما حصل مع "الحبيبة الجارة".. إنه لم يرَ رجاء.. هل يمكن للحب أن يقع دون أن تقع العين في شباك العين؟!.. فما قصة رجاء إذن؟!.. رجاء لا شيء هي غير رجاءٍ تائه!..
جلس في مكتبه، شارد الذهن، ومن فوق رأسه محلّ ذكريات نسجها مع "الحبيبة" قبل أن ترحل من هنا: "إلى أين يذهب القدر بي؟! أنا الذي قضيتُ عمري مُجَدِّفا عكس اتجاه الريح؟!".. ارتشف ما في قاع الكوب من شاي بارد: "رجاء قمعتْ قلبي وقلبَها.. هل أتعلم منها درس الواقعية؟!". يتمنى لو أن المرأة التي سعى لخطبتها، تشده بذاتها إليه!.. لا يريد أن ينطبق عليه القول السائر: "يا ميخد القرد على ماله.. بروح المال، وبظلّ القرد على حاله!!".. ينتظر ما ستنكشف عنه الأيام القريبة.. أمس، وهو في طريقه مع والدة "الحبيبة"، إلى بيت امرأة لا يعرفها.. عبر حقول النخيل الشامخ.. توقّف بين زهرات شقائق النعمان؛ تذكّر امرأة أحبها، منذ عهد بعيد، كانت تحب شقائق النعمان!.. ثورة الريح والمطر هدأت.. وربيع جديد يبدأ.. والسماء صافية، والتائه يخطئ مدخل بيت يرافقه إليه، والد "الحبيبة"؛ كما يظنّه! "الحبيبة" ساقَته إلى هنا.. هبط سلالم قليلة، من باب قصير، دخله وهو يحني هامته: "هل تعلمتُ من رجاء درسا جديدا في الحكمة الواقعية يا هُدى؟!".. هاتفتْه رجاء قبل قليل من انطلاقه مع والد "الحبيبة"، وحثته على أن يمضي نحو الهدف الجديد بلا تردّد؛ قال لنفسه:
"هل تكون المرأة الجديدة مرفأ حنان لي أنا التائه في الصقيع، المُعْوِز إلى حنان مخملي دافئ يا هُدى؟!"..
****
"وفي صباح هذا اليوم.. الذي يسبق الغد المنتظر.. هاتفتني الثلاث نساء اللواتي أحببتهن بعد عودتي إلى شيء من الوطن.. هل هي صدفة لم تتكرر؟! أمْ هو الوداع يا هُدى؟! أم هز حدس الأنثى القديم، منذ كانت الأنثى، ولم تزل، تنوم وتقوم، وهي طريدة الخوف في غابة وحشية؟! غابة الوحوش لم تنقرض! والنساء حبيباتي، كأنهنّ أحسسن أن طائري على وشك الفرار إلى عشّ جديد.. لا ترحلّي عنّي يا هُدى؟!"..
****
ابتدأ صباحه، بنداء مرح الطفلة العذبة: "يا دكتول.. يا دكتول..".. فتح نافذة غرفة نومه.. ناولته أمّ مرح كوبا من الشاي اللذيذ. قبَّل جبهة مرح؛ فقبّلت الجارة خديّ ابنتها.. كان الفرح العذب الحرّ الرفيع، محشورا بين شبك الحديد المثبت على النافذة، وصدر أمها الناهد؛ أشتهى الأمّ التي يعرف أنها تشتهيه!.. السماء صافية.. وزهرة بنفسجية.. ليست زرقاء بلون السماء، كما كان ينتظر؛ تتفتح في الحوض الممتد بين بابيِّ منزله.. والهدوء يلفّ التينة والشرفة الممتدة فوق نافذة مكتبه الشمالية..
"اِسدِلي ستائري يا هُدى.. لا ماء في الأرض ولا سماء.. لا شوق لا رجاء فلملمي بقاياي وازرعي في رحمك قلبي.. واِشعلي القناديل من موسيقاك وضُمّيني في النور العميق يا دفء الحنان ومِن فوق الفوق تنزّلي مطرا وضاجعي ذكريات أحلامي وتصعّدي نماءَ خير وبهجة وابعثيني صلاة لا تنقضي يا إمامي ولا تبلى.. ولك المجد يا رؤْيايَ يا حُلْمي!!"..
****
قبل اليوم الأخير:
فات موعد الردّ على طلب يد المرأة بنت الثريّ ولم يفِ شقيقها بما وعد به من أنه سيحمل له الردّ، قبل موعدٍ ضربه.. لكن هذا لم يشغل باله!!
طلب من رجاء أن يلتقيا.. وألحّ في طلبه.. لكنها رفضت بإصرار!!
عاد يعرض عليها الزواج منها.. جددت رفضها!!
وفي الساعة الأخيرة من المشهد قبل الأخير .. هاتفته حورية: " أحببت الاطمئنان عليك.. سأزورك قريبا جدا؛ سأكشف لك أسرارا ظللتُ أُخفيها عنك، وحان الوقت لكشفها!!"..
وفي ظلام الفناء الخارجي.. والتينة والشرفة في صمتٍ تُسبِّحان، قال أسيفا: "تائه مجدافي.. وها قد عادت الأرض إلى ما قبل النساء.. فهل انتهتْ روايتي؟!!"..
كلّا؛
وفي انتظار حورية، قبل صعودها مرة أخرى... لِتقرأ فاتحة الرواية؛
آوى "الأبيض" إلى فراشه.. ورتّل وصاياه.. وصلّى.. فابتهج بالحُبّ ونام.......................!!
****



#حسن_ميّ_النوراني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رواية: هدى والتينة (21)
- رواية: هدى والتينة (20)
- رواية: هدى والتينة (19)
- رواية: هدى والتينة (18)
- رواية: هدى والتينة (17)
- هدى والتينة (16)
- رواية: هدى والتينة (15)
- رواية: هدى والتينة (14)
- رواية: هدى والتينة (13)
- رواية: هدى والتينة (12)
- رواية: هدى والتينة (11)
- رواية: هدى والتينة (10)
- رواية: هدى والتينة (9)
- رواية: هدى والتينة (8)
- غَزَلِيّاتٌ نُوراحَسَنِيَّة
- من رواية: هدى والتينة
- رواية: هدى والتينة (7)
- رواية: هدى والتينة (6)
- رواية: هدى والتينة (5)
- رواية: هدى والتينة (4)


المزيد.....




- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- مصر.. الفنان بيومي فؤاد يدخل في نوبة بكاء ويوجه رسالة للفنان ...
- الذكاء الاصطناعي يعيد إحياء صورة فنان راحل شهير في أحد الأفل ...
- فعالية بمشاركة أوباما وكلينتون تجمع 25 مليون دولار لصالح حمل ...
- -سينما من أجل غزة- تنظم مزادا لجمع المساعدات الطبية للشعب ال ...
- مشهور سعودي يوضح سبب رفضه التصوير مع الفنانة ياسمين صبري.. م ...
- NOW.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 154 مترجمة عبر فيديو لاروزا
- لماذا تجعلنا بعض أنواع الموسيقى نرغب في الرقص؟
- فنان سعودي شهير يعلق على مشهد قديم له في مسلسل باللهجة المصر ...
- هاجس البقاء.. المؤسسة العلمية الإسرائيلية تئن من المقاطعة وا ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسن ميّ النوراني - رواية هدى والتينة (22)