أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسن ميّ النوراني - رواية: هدى والتينة (18)















المزيد.....


رواية: هدى والتينة (18)


حسن ميّ النوراني
الإمام المؤسِّس لِدعوة المَجْد (المَجْدِيَّة)


الحوار المتمدن-العدد: 7010 - 2021 / 9 / 5 - 15:29
المحور: الادب والفن
    


(حكاية رجُل يشتهي الحبّ ولا ينالُه)

جلس إلى جانب التينة، وقد كّرَبَه الهمُّ وشغل بالَه سوءُ حاله.. تنتصب اليافطة التي تحمل اسمه بين عينيه.. ظلت خمسة اشهر، معلقة في الهواء على شرفة البيت الذي رحل إليه من بلد إقامته السابق، صامدة في وجه ريح الشتاء العاتي، تنتظر مرور "الحبيبة" من أمامها.. اليافطة فوق باب البيت الخارجي الذي يسكن فيه الآن، تنتظر زيارة ثانية من "الحبيبة".. سأل نفسه متمنيا.. بينما يحدّق في راية سوداء تلتف على نفسها في ركود الريح، معلقة على عامود الإنارة أمام بيته، راية تحمل شعار حركة جهادية تقاتل الاحتلال: "هل تدخل فجأة؟!".. أضجرته شؤون السياسة.. في الانتفاضة الأولى (1987-1993م) كان لا يزال يقيم في مدينة من مدن الثراء العربي.. كان يقف في مصرف ويبيع مشغولات تراثية فلسطينية بأسعار عالية يدفعها المشترون وهم يعرفون أنه يبيعها لصالح الانتفاضة التي كان يودع في حساب مصرفي لها، حصيلة ما يجمعه.. عندما اندلعت الانتفاضة الراهنة، شرع في تأسيس لجان تتكون من المثقفين، تحت شعار: "المثقف في قلب المعركة".. صعقه بعد أيام قليلة ما كشف عنه جهاز أمني فلسطيني من أن أحد المشاركين في تأسيس اللجان، كان من عملاء الاحتلال الإسرائيلي.. خيانة الوطن خطيئة لا يستطيع التسامح مع مرتكبيها.. يؤسفه، أن يلعب الخونة من أبناء شعبه دورا خطيرا في ملاحقة واغتيال أفراد المقاومة المسلحة؛ يدرك أن الاحتلال الإسرائيلي ينجح في إسقاط العملاء تحت تأثير ظروف صعبة أو مستغلا نقاط ضعف بشري في أشخاصهم.. مع ذلك؛ فهو لا يستطيع التسامح مع خائن لوطنه وشعبه وقضيته.. هذا رغم أن التسامح إحدى أهم صفاته التي يعرفها عنه المقربون منه.. مشروع لجان المثقفين فشل؛ المثقفون محبطون، ولا يملكون قوة روحية مثل التي يمتلكها؛ يتهمونه بأنه يحلم بتغيير العالم، و "يزرع الورد في المزبلة"؛ كما قال له أديب كبير في غزة، عندما دعاه "الأمام الأبيض" للانضمام إلى "جماعة حق البهجة – حب"؛ لكنه ردّ:
- "أليست مزبلة بوردة، أفضل من مزبلة بلا ورد؟!"..
- "نحن مثقفي هذا البلد، نملك مفاصل متكلسة.. لا نستطيع مجاراتك فيما تطرح.. خير لك أن تبشر بفكرك في أوساط العامة من الناس، قد تصادف هناك من النجاح ما يعسر عليك أن تلقاه بيننا!!"..
أحد أصدقائه القدامى، وهو موضع اعتزازه، قام بزيارته للمرة الأخيرة، زيارة نصح.. دعاه فيها الصديق القديم، إلى الإقلاع عن ادعائه بأنه نبي: "هذه بضاعة لا سوق لها، لا بين عامة الناس، ولا بين المثقفين!!"؛ قال الصديق.. ابتسم "الإمام الأبيض" لصديقه، بعد أن أنهى نصيحته له، وتساءل بينه بين نفسه: "متى ادعيتُ أني نبي؟!".. بعد عودته إلى الشيء من الوطن، وعندما أخبره صديق مشترك، أن الصديق الناصح هذا، موجود في قطاع غزة، ، غمرت السعادة قلبه، وقال في سره: "هكذا أستطيع أن أتنفس بحرية!!".. اختفى الصديق الناصح بعد زيارته.. وإن تقابلا صدفة، أو بادر هو إلى الاتصال الهاتفي به، يلمس منه استجابة سلبية، ما زال حتى اللحظة، لا يعرف لها سببا!!
قبل ظهر يوم الأحد، تحدثت معه رجاء من هاتفها الجوال الخاص بها:
- "هل تناولت إفطارك؟".
- "أجل، فعلت ذلك امتثالا لما طلبته مني في محادثة الأمس؛ أضمرت أن أخبرك بذلك، عند أول اتصال بيننا؛ وأن أقول لك، إنني طفل مطيع!! أحد أصدقائي وصفني ذات مرة بأنني طفل كبير!!".
- "إني أتصل معك الآن من هاتفي الخاص، أفعل ذلك رغم أن الجميع يستخدمون هواتف العمل لأغراضهم الشخصية؛ لكني امتثلت لما قلته لي بالأمس بأنه لا يجوز استخدام هاتف العمل في الاتصالات الشخصية!!".
- "إذا ارتكب غيرنا الأخطاء، فإن هذا لا يسوغ لنا ارتكابنا نحن للأخطاء!!".
سألته في مكالمة الأمس: "كيف قضيت نهارك؟ ماذا أكلت؟".. حدثها عن زيارة والد "الـ..".. لم ينطق باقي الكلمة: "حبيبة".. فهمت معنى توقفه، اقترحت عليه أن يقول: "الجارة".. تساءل بإحساس مبتهج: "هل تشعر بالغيرة؟!".. يلاحظ أنه كلما يمس الحديث بينهما مسألة العلاقة القلبية، التي يحاول الاقتراب منها، تحرف هي الكلام في اتجاهات أخرى، يتساءل: "هل النساء مخلوقات من المراوغة؟!".. تنهدت وقالت: "أرسل إحدى قريباته اليوم، وتحدثتْ معي في مسائل تتعلق بالجانب المالي، أشعر أنني مجروحة"؛ لكن الرجل، الذي تأمل رجاء، أن تقترن به، والذي أوفد إليها قريبته، لم يتصل بها شخصيا، وهي لا تزال تنتظر؛ تحدثت عن خيبتها: "ضاعت مني قبل ذلك، فرصة زواج، كنت أتمنى أن تتم.. زميل لي في العمل، وجدت فيه كل الصفات التي أتمناها في الرجل الذي أرغب في الارتباط به؛ اقتربنا من الشروع في الزواج؛ لكنه تراجع قبل أن يبدأ التنفيذ!!". ردّ عليها: "لا تتعجلي في اتخاذ قرار ارتباط برجل.. أتحدث إليك بقلب مفتوح، ولا أريد أن أقول بقلب...، حياتك بدون رجل لا يربطك به الحب، خير لك من زواج من رجل لا تحبيه ولا يحبك.. هذا موقفي؛ لا أريد امرأة لا أحبها.. لا أريد أن أكون أنا، أو تكون هي، كتلة صماّء من اللحم والشحم.. أريد علاقة بين روحين ناشطتين معا!!".. تنهدت، وقالت:
- "ترددت قبل أن أطلبك على الهاتف، خشيت أن يكون خطك مشغولا بالإنترنت؛ هل ينشغل خطك بالإنترنت فقط؟!".
- "ينشغل بالإنترنت بشكل رئيسي؛ أمّا اتصالاتي مع سواك فتكون قصيرة!!".
انطلقت إشارة صوتية من هاتفه الجوال، تعلن وصول رسالتين عليه، تلكأ في فتحهما لمعرفة ما تتضمناه، أو التعرف على مصدرهما.. واصل الحديث مع رجاء: "انظري إلى السماء.. القمر بدر مكتمل.. وغيوم متفرقة تسبح في نوره"؛ استجابت لدعوته، ولكنها لم تتذوق جمال الصورة الفنية الكونية التي رسمها لها وهو يتذوقها!! كشف عن مصدر الرسالتين، صاح ببهجة طفولية: "إنها الشيطانة!!".. لم يتبين فحوى الرسالتين الصادرتين منها؛ جوّاله قديم ولا يستقبل الرسائل المرسلة إليه باللغة العربية..
انتهت المكالمة بينه وبين رجاء بعد ساعة من بدئها.. هاتف "الشيطانة" التي لم يسمع صوتها منذ عدة شهور..
- "هل قرأت الرسالتين؟".
- "لم يسجلهما الجوّال.. ماذا كتبتِ فيهما؟".
قالت بدعابتها الحلوة المعهودة منها: "هبل!!". سألها عن حالها وعن طفلتها؛ فقالت: "أية طفلة تعني؟!".. أخفت عليه طوال فترة الحمل بها أنها حامل.. وأنكرت أنها ولدت عندما تحدث إليها في الموضوع بعد أن كان قد ترامى إليه أنها أنجبت طفلة.. بكت الطفلة التي تنكر أمها وجودها؛ قال لها: "أيتها الكاذبة؛ بكاء مَن هذا؟!".. علا صوت بكاء الصغيرة؛ انفجرت "الشيطانة" ضاحكة.. بعد عودته من غيابه الطويل عن الوطن إلى قطاع غزة، شاركته "الشيطانة" التي سماها "حقل الفرح"، تجربة عاطفية اشتعلت بالجنون.. سألها من جديد:
- "ماذا كتبت في رسالتيك؟".
- "شيئا تهواه!!".
- "في الحب؟!".
- "أجل!!".
قال لرجاء قبل أيام قليلة، إن "الشيطانة" خرجت من دمه!!.. وتحدث مع "الشيطانة" عن رجاء..
****
ريح واهنة تداعب العلم الأسود المثبت على عمود الإنارة الواقف أمامه.. حماسه للانتفاضة واهن أيضا!! يتألم من مسلسل الموت الذي يحصد مواطنيه، ومعه عذابات متلاطمة فوق صدور بني شعبه.. ويتألم أيضا من الموت الذي يقع في صفوف الإسرائيليين.. في عقيدته الفلسفية: "هناك سبيل غير سبيل الموت!".. لا ينسجم مع حرب تجعل من إقامة دولة فلسطينية في أجزاء من فلسطين في الضفة الغربية وقطع غزة هدفا لها.. يقول: "كل فلسطين لنا"؛.. ويراهن على الوقت: "أوقفوا الموت في وطني.. ودعوا الحب ينتصر!!".. في اعتقاده: بالحب الذي يجمع الرجال والنساء من بني شعبه، وراء الأبواب المغلقة، تنهزم الدولة الصهيونية.. إسرائيل لا تخشى أسلحة العرب المدججة جيوشهم بها.. تخشى إسرائيل على مصيرها من زيادة عدد الفلسطينيين عن عدد اليهود في دولة واحدة تضمهم معا.. لذا، ينادي: "فلسطين وطن واحد، لا يقبل القسمة.. وطن واحد لعاشقيه!!".. بعد سنوات قليلة، ترجح كفة العرب على اليهود في حدود فلسطين التاريخية؛ فينتصر الحق بدون موت ودمار.. يقول: "بالحب المُعَقْلَن، نصنع وطنا للنور في فلسطين، فتعود فلسطين موطنا للنبوة التي تفتح المحدود الإنساني على المطلق الوجودي".. الإسرائيليون يرفضون دعوة الحب التي يبشر بها؛ ففيها هلاك عدوانيتهم.. وهلاك ظلاميتهم التي تعود لعقيدة دينية ضالة.. الحب في النور؛ هو الدين الحق.. هكذا يعتقد.. والمتعجلون من بني وطنه، لقطف ثمار شجرة محرمة.. المستفيدون من حل عاجل يكرس وجود العدوان؛ لن يقبلوا دعوته.. التي لن تسمح لكروشهم بمزيد من الانتفاخ على حساب شقاء المعدمين، والأبرياء المخلصين.. قالت له رجاء: "أنت مختلف!!".. أخبرها أنه تحدث مع شيخ السياسيين الدكتور حيدر عبد الشافي؛ فقال له الأخير: "وضعنا لا يسُر.. هكذا يريد قادتنا!!".. قالت رجاء: "إذا كنت على معرفة بالدكتور حيدر، لماذا لا تطلب منه مساعدتك للخروج من وضعك الرديء؟!".. أجابها: "لا أحب أن أفعل ذلك!!".. تابع.. "أحترم من السياسيين اثنين: الشيخ أحمد ياسين، والدكتور عبد الشافي.. الأول رأس الحركة الإسلامية، والثاني يساري عتيق.. لا أتوقف عند أيديولوجية كل منهما، التي أتفق معها وأختلف.. لكنني أحترمهما لالتزامهما بمبادئهما!!".. ذات مرة، سأل الدكتور عبد الشافي، عما إذا كان من المجدي للنضال الفلسطيني ضد إسرائيل، أن يستثمر الفلسطينيون الورقة الأخلاقية، في وجه العدوانية الصهيونية والجهات الداعمة لها؛ فرد الدكتور عليه مؤيدا الفكرة، لكنه استدرك: "ينبغي أولا أن تكون لدينا أخلاق!!".. كانا لحظتها، يقفان على باب مكتب الدكتور حيدر، ليودع المضيف ضيفه.. ضحكا معا، وتصافحا.. وانطلق.. أخبرته رجاء، أن رجلا ذا لحية طويلة، تقدم لخطبتها.. اكتشفت أنه يستخدم اللحية للخداع.. قالت:
- "الحمد لله أني كشفته قبل فوات الأوان!!".
- "الصدق تاج الأخلاق وفضيلة الفضائل أيتها الصديقة.. وكانت قد راودتني أحلام سياسية منذ مطلع شبابي.. لكنني الآن أرغب في شغل نفسي بالعناية بالأمومة والأطفال!!"..
صوت الصغيرة فيروز يجلجل من بيت أسرتها المجاور.. تصيح: "بدِّي الوح عند الدكتول".. تقلب الراء لاما. قالت أمها له: "فيروز تحلم بك يا دكتور، وتقول إنها تحبك أكبر مما تحب أبيها!!".. ينصح المترددين عليه للعلاج النفسي باللعب مع الأطفال.. تلقى ذات صباح، مكالمة هاتفية رفعت توتره العصبي إلى درجة خطيرة.. أحس أن ساقه اليمنى قد أوشكت على التعرض لخطر الشلل.. قال حينئذ لنفسه: "هل أترك نفسي فريسة لهذا الهجوم البشع من التوتر العصبي؟! كيف أفعل ذلك وأنا صاحب النظرية التي تعالج ببهجة الحب.. التي تجعل من الحرية شرطا لازما للبهجة.. واللعب ممارسة بريئة للحرية..".. يعتقد أن اللعب مع الأطفال حرية مبتهجة.. يتابع مستكملا القصة: "كان طفل في الثالثة من عمره، من أبناء صديقي الذي كنت حينها أنزل ضيفا عليه، يقف أمامي، وهو يحضن كرة بيديه، فاغرا فاهه وتحدق بي عيناه البريئتين.. قلت له: هيّا نلعب معا.. استجاب الطفل مبتهجا وفورا وبلا تردد.. انضم أشقاؤه الصغار إلينا أيضا.. لم أشعر بالوقت الذي استغرقته ساقي لعودتها إلى حالتها الطبيعية، الواقع، لم يكن هناك وقت.. وانتهى توتري.. وزال الخطر عني!!".. رنّ جرس الهاتف الجوال، رنّة واحدة.. الرقم الذي استقبله الهاتف غير معروف له.. كثيرون من معارفه يفعلون ذلك عندما تكون لديهم حاجة للحديث معه، فيقوم هو بالرجوع إليهم، دون أن يبالي، ورغم شحة ما يكسبه من مال، بأنه سيدفع في نهاية الشهر تكلفة الاتصالات العالية بالهاتف الجوال.. قال لنفسه: "قد يكون أحد المعارف يطلبني من هاتف ليس له؟!".. عاد للرقم الذي سجله الهاتف، عرف الطالب من صوته، صاح ببهجة: "هلا عريسنا!!".. منذ وقت طويل لم يتصل عاهد به، ردّ الأخير، مشيرا إلى مطلقته: "لا تزال تزعجني!!".. كان "الإمام الأبيض" قد اتصل أمس مع مطلقة عاهد التي تتخذ من "الإمام" أبا روحيا لها.. شكت إليه: "عاهد يلاحقني بمضايقاته لي!!".. منذ تعرف عليها وعلى زوجها عاهد، لم يتفقا على رواية واحدة عما ينشأ بينهما من خلافات، كان يبذل جهده لتسويتها.. وكانت جهوده تكلل بالنجاح.. لكن الخلاف الذي انتهى بهما للانفصال، وقع من وراء ظهره، وبعد أن كان قد رحل من بلد كان يجمعهم معا، التي يسكناها، إلى البلد الذي فيه هوى قلبه!! ناشد المنفصلين اللذين يجمعهما طفل لهما جاء بعد أكثر من عشر سنوات من زواجهما: "لا تخوضان حربا بينكما.. ما وقع قد وقع.. المستقبل مفتوح أمام كل منكما.. تنعكس علاقتكما على طفلكما؛ أفضل لكما وللطفل أيضا أن تكونا صديقين.. هذا أجمل لكما وللطفل وأنفع أيضا!!"..
لكنه يدرك أنه "لا أحد يؤمن بك!"؛ كما رددت عليه صديقة له مرارا!!
****
قالت له رجاء:
- "أشعر أنك لا تحب الحديث معي عن ماضيك!!"..
- "أنا هارب!!"..
لا يزال يواصل الهروب منذ هروبه الطفولي الأول، مع "نبيلة"!.. هل سيهرب من رجاء أيضا؟! يقول في نفسه: "سأهرب منها إلى الموت"؛ إنها فرصتي الأخيرة؛ وستكون رجاء سجنه الأخير.. ستكون السجنَ الموصولَ بالموت.. يتساءل: "هل الزواج مشروع للموت؟! لماذا النساء في العادة، يفضلن موت أزواجهن على هروبهم من سجونهن؛ ورَثن هذه الصفة من عهود سحيقة تعلمت المرأة فيها أن تفترس الرجل، والذي بدوره، يقضي حياته في افتراس الآخرين؛ الرجل يطارد امرأة، فتراوغه ثم توحي له أنها استسلمت له فيتوهم أنه اصطادها.. لكنه يكون قد وقع هو في شباك الموت فيها!!".. يقول الإمام الأبيض: "وهْمُ القوة يحكم الرجال؛ لكن الفضيحة تنكشف لدى سقوطهم على النهود وفي الزوايا الرطبة!!".. صوت أم كلثوم يصدح من المذياع: "لستُ أنساك وقد أغريتني..!!".. الليل يلف الناس، وأبواب بيته لا تزال مفتوحة؛ يجلس تحت الشرفة ملاصقا لجذع التينة: هدى في قلبه وعقله ونهاره وليله وحلمه؛ ينتظر رنين الهاتف الآتي من رجاء.. تتقدم قطة الجيران مطمئنة نحو طبق مملوء بالسمك وضعه لها فوق جدار الفناء الخارجي للبيت الذي يسكنه؛ يضع لها بقايا الطعام كل يوم.. كانت رجاء قد قالت له في مهاتفة صباح اليوم إن عليه أن يأكل ما تبقى لديه من السمك الذي طبخه قبل أسبوع، قبل أن يفسد، حيث لا يملك ثلاجة يحفظ فيها الغذاء. عندما رغب في تناول الطعام اكتشف أن السمك لم يعد صالحا للأكل!! ماءت القطة، قفزت وراء السمك الذي سقط من فوق الجدار فتبعثر فوق أرض الفناء الذي يجلس فيه.. أخذ يراقبها ببهجة: لا تزال مطمئنة!!
روى لمعارفه أكثر من مرة أن الله أنقذ عشرين أسرة كاملة لا يقل عدد أفرادها عن مئة، كان هو وأحبته المقربين من بينهم، من موت محقق عندما جنحت بهم مركبة ركاب كبيرة كانت منطلقة على طريق مُعبِّد على حافة جبل ينحدر السفح من قمته مستقيما يشكل زاوية عمودية مع قاع الأرض السحيق عند بدايته التحتية..
ماءت قطة على الجدار المقابل لنافذة مطبخ بيته في مدينة عربية كان يقيم فيها، قال لنفسه إنها تطلب منه ماء لتشربه.. كان صوت سيارة تنظره في الخارج، يشق الأفق، يحثه على سرعة ركوبها، وكان الأطفال أبناؤه يتصايحون ببهجة وهم يندفعون من باب البيت إلى جوف السيارة التي ستقلهم للحاق بالمركبت التي ستقلهم مع كثيرين في رحلة بين جبال شاهقة.. براءة الأطفال تلح عليه بدعوته للخروج، وهو يرد عليها: "سأضع ماء للقطة قبل أن أغادر البيت؛ أشعر أنها ظمأى!!"..
انطلقت الرحلة فوق قمم جبال يلف بها السحاب، وعلى طريق كأنها الصراط المستقيم الذي تصفه كتب الدين: الدقيقة الحادة كما لو كانت في رقة وحِدِّة نصل السكين، ومن لا يملك رصيدا من العمل الصالح الذي جناه في حياته الدنيا لن يفلح في المرور منه صوب الجنة، وسيهوي في قاع الجحيم الذي يمر الناس في يوم الحساب الأخروي من فوقه!! فرقع صوت انفجار وارتجت الحافلة الكبيرة الحبلى حتى الثمالة ببهجة راكبيها، وبأجسادهم، ارتجفت قلوب الصغار والكبار، كبح السائق بمهارة، اندفاع السيارة وهو يجاهد للسيطرة عليها وإبعادها عن الحافة المفتوحة على قاع الموت الغائر فاغر الفاه النهِم.. تجمدت نظرات العيون وتدافعت الأنفاس وانحبست الأصوات.. الحمد لله.. الحمد لله.. نجى ركّاب الحافلة من السقوط عن قمة الجبل الشاهق إلى بطن الوادي السحيق الذي كاد يقع عندما انفجرت عجلة السيارة الأمامية من الجهة اليمنى فيما كانت تنطلق مسرعة في خط لا يفصله عن الهاوية الواقعة عن يمين السيارة غير مسافة قصيرة جدا، وغير آمنة.. قال "الإمام الأبيض" لزملاء الرحلة عندما حطوا رحالهم فوق رأس جبل من الجبال العالية: "نجونا بفضل الله لأني رفضت أن ألحق بكم إلا بعد أن أطفأت ظمأ القطة!!".. ردّ عارفوه بعيون تضج بالتساؤل الحائر: "لستَ ملحدا إذن!!"..
عندما أنهى كتابة رسالة "المبادئ: تجليات الأمل"، طلب من صديق له، صومالي مثقف، أن يحمل نسخة منها إلى أديب كبير.. استأذنه الصومالي في قراءتها.. في اللقاء التالي بينهما، قال له الصديق: "هذا هو الإسلام؛ أنت كتبتَه بأسلوب جديد!!".. لم يكن خطر على باله أنه كتب في "المبادئ" عن الإسلام، قال في نفسه: "قد يكون ما تقوله صحيحا يا صديقي؛ فالمثل العليا سماوات مفتوحة يحلق المبدعون في آفاقها!!"..
"المبادئ" صورة فلسفية لجماعة خلقها خياله الجامح.. قضى عمره يجري وراء الخيال والنساء! يذكر "الإمام الأبيض" مرارا ما قاله الإمام أبو حامد الغزالي من أن "النبوة خيال!!".. قال لحورية: "لو كانت ورائي امرأة مثل خديجة، لكنت نبيا!!".. ويردد: "لولا خديجة ما صار محمد نبيا!!".. في الواقع، يرغب هو في امرأة مجدولة من زوجتيِّ النبي خديجة وعائشة معا!! قضى النبي شيخوخته في صبابة مع عائشة؛ يرى أن من جمالات النبي، عشقه للنساء!! سأل نفسه وهو لا يزال ينتظر رنين الهاتف: "هل تقبل رجاء أن أحبَّها وأحب معها غيرها من النساء؟!".. أرخى جسده على سرير المرضى الذين لا يجيئون إلا نادرا: "كل مشروعاتي فاشلة!!"، قال وأضاف: "حتى رجاء!! فما هي إلا سراب ألهث نحوه، لكنني سأزداد ظمأ على ظمئي!! قد يكون الآخر الآن في زيارتها!!".. يصدح صوت أم كلثوم: "أين من عينيّ حبيبي؟!".. وقف أمام مرآة صغيرة: "وجهي شاخ ولن تقبل بي؛ قالت إنها تبدو وكأنها في العشرينات من عمرها!!".. ألقى جسده المعتل النفس فوق سرير المرضى مرة أخرى؛ حملق في السقف الذي تسكن فوقه ذكريات "الجارة".. ما زال ذبيح العزلة.. قال لرجاء: "أنت أُنسي!".. سكتت رجاء!! كان يسمي "الشيطانة" باسم "حقل الفرح؛ لكن صديقته الغيورة، كانت تصفها بأنها "شرموطة!". وعندما خسر معركته مع "الشرموطة"، كتب: "مضى.. مضى.. حقل الفرح!!".. وسمى "الجارة في شعره، "حقل الورد!!".. لكن الزوج "الثور" اشترى "حقل الورد وطواها في زرائبه!! خرج إلى الفناء الخارجي: القمر بدر مكتمل، والشرفة ترتدي في برودة الشتاء عباءة الموت!! تقترب الساعة من الثامنة ليلا، ولا يزال الهاتف صامتا، نفد صبره وهو ينتظر رنين هاتف يأتيه من "أُنسه".. عاد إلى حجرة عمله، رفع سماعة الهاتف، ضغط أرقامها.. الخط مشغول؟! كرر الطلب، لا يزال الخط مشغولا.. غرز عينيه في صورته التي تعكسها شاشة الكمبيوتر التي يجلس قبالتها.. يرتفع صدره وينخفض تحت لباس ثقيل، هرب من إلحاح عقله عليه بالتفكير في أسباب انشغال هاتفها، لا يراوده الأمل بأن علاقته بها ستثمر رابطة دائمة؛ قال لنفسه: "ما رجاء إلا سحابة صيف في صقيع يلفه!!".. طلبها للمرة الثالثة؛ لكن الهاتف ظلّ هذه الليلة مشغولا بغيره!!
****



#حسن_ميّ_النوراني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رواية: هدى والتينة (17)
- هدى والتينة (16)
- رواية: هدى والتينة (15)
- رواية: هدى والتينة (14)
- رواية: هدى والتينة (13)
- رواية: هدى والتينة (12)
- رواية: هدى والتينة (11)
- رواية: هدى والتينة (10)
- رواية: هدى والتينة (9)
- رواية: هدى والتينة (8)
- غَزَلِيّاتٌ نُوراحَسَنِيَّة
- من رواية: هدى والتينة
- رواية: هدى والتينة (7)
- رواية: هدى والتينة (6)
- رواية: هدى والتينة (5)
- رواية: هدى والتينة (4)
- رواية: هدى والتينة (3)
- رواية: هدى والتينة (2)
- رواية: هدى والتينة (1)
- الحب حق فانصروه ينصركم!


المزيد.....




- تابع HD. مسلسل الطائر الرفراف الحلقه 67 مترجمة للعربية وجمي ...
- -حالة توتر وجو مشحون- يخيم على مهرجان الفيلم العربي في برلين ...
- -خاتم سُليمى-: رواية حب واقعية تحكمها الأحلام والأمكنة
- موعد امتحانات البكالوريا 2024 الجزائر القسمين العلمي والأدبي ...
- التمثيل الضوئي للنبات يلهم باحثين لتصنيع بطارية ورقية
- 1.8 مليار دولار، قيمة صادرات الخدمات الفنية والهندسية الايرا ...
- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسن ميّ النوراني - رواية: هدى والتينة (18)