أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الصحافة والاعلام - جواد البشيتي - موت -الكتابة-!















المزيد.....

موت -الكتابة-!


جواد البشيتي

الحوار المتمدن-العدد: 1632 - 2006 / 8 / 4 - 05:51
المحور: الصحافة والاعلام
    


ليست "القراءة"، على أهميتها، وإنَّما "الكتابة" هي "أصل" الحضارة، وإنْ كان للأصل هذا أصول. وإنْ كان لي أنْ أفسِّر، أو أُؤوِّل، الآية "الذي علَّم بالقلم"، لقلت لا حضارة بلا عِلْم، ولا عِلْم بلا قلم، أي بلا كتابة، ففي الكتابة نسجِّل، ونوثِّق، كل إنجاز حضاري، فينتقل، بالتالي، من السلف إلى الخلف، ومن جيل إلى جيل، ومن مجتمع إلى مجتمع، ومن زمان إلى زمان، ومن مكان إلى مكان، فتستمر الحضارة بلا انقطاع، وتتراكم المعارف والمعلومات.

تاريخيا، سبقت الكتابة القراءة، مثلما سبق المنطوق المكتوب في التطور اللغوي للجماعات البشرية. والكتابة تفقد معناها، بل وجودها، في غياب "الكاتب"، و"المكتوب"، و"أداة الكتابة"، كالقلم والورقة. ولكن الكتابة هي "الفكرة"، والفكرة هي "الكلمة"، فلا كتابة بلا فكرة، ولا فكرة بلا كلمة.

إنَّ الظلَّ بلا جسم هو المستحيل بعينه، وكذلك الفكرة بلا كلمة؛ وكم دهِشتُ إذ سمعتُ كاتبا يقول: الفكرة في رأسي، ولكنني لا أقدر أنْ أعبِّر عنها بكلمات، منطوقة أو مكتوبة. إنَّ فكرة لا يمكنك أنْ تعبِّر عنها بكلمات هي فكرة لا وجود لها أصلا في رأسك، فليس من فكرة تحضرك ألا وهي مرتدية كلمات، فالإنسان إنَّما يفكِّر بالكلمات، ولو كان صامتا. قد نفاضل، عند التعبير اللغوي، نطقا أو كتابة، بين كلمة وأخرى، ولكن المفاضلة هذه لا تنفي، بل تؤكِّد، أنَّ كل فكرة في الرأس ينبغي لها أنْ تكون مرتدية كلمة أو كلمات.

هذا غيض من فيض في أمر العلاقة بين "الفكرة" و"الكلمة"، ولكن ما هو خير الكلام في أمر العلاقة بين "التفكير" و"الكتابة"؟ جوابا، نقول إنَّ الكتابة هي التفكير في شكله، أو مستواه، الأكثر رقيَّا.. أو في مرتبته "الرسمية"، فعند الكتابة، نضع، أو ينبغي لنا أنْ نضع، "الميزان"، الذي هو موازين عديدة في ميزان واحد، لعلَّنا نقيم الوزن بالقسط ولا نُخسِر الميزان.

أولا، نزن "الكلمة" في الميزان اللغوي حتى تأتي الفكرة في خير تعبير لغوي. وهنا، يكمن "التحدي اللغوي"، فالكتابة تتحدى الكاتب، دائما، على أنْ يُلْبِس الفكرة ما يناسبها، ويوافقها، ويليق بها، من كلمات. والكاتب لا ينشد سوى "الحقيقة"، فهو قد يحب أفلاطون، ولكنه يحب الحقيقة أكثر. هنا يكمن التحدي الآخر والأعظم، فالحقيقة، التي يراها ببصره وبصيرته، تتحداه على الانحياز إليها.

إنَّ الكتابة هي لعبة نقل الحقيقة إلى القارئ، فهل ننقلها إليه كما هي في أبصارنا وبصائرنا، أو كما هي في واقعها الموضوعي، أم ننقلها إليه كما مسختها، أو شوَّهتها، مصلحة مضادة لقول وكتابة الحقيقة؟ خير جواب كان جواب فولتير إذ قال: "قد أُرْغَم على أنْ أمنع نفسي من قول كل ما أنا مؤمن به، ولكن ليس من قوة في مقدورها أنْ ترغمني على أنْ أقول ما أنا لست مؤمنا به". إنها التسوية compromise التي قد يضطر الكاتب إلى عقدها. إنه "الحل" الذي كاد أنْ يتحوَّل إلى "مشكلة لا حل لها" في عالمنا العربي، فـ "التسوية" تلك انتقلت من طور المأساة إلى طور المهزلة؛ ذلك لأن الكتَّاب يزيدون، والقراء يقلِّون، فلكل قارئ عندنا ثلاثة، أو عشرة، كتَّاب!

في مؤلفه الشهير "رأس المال"، تعمَّد ماركس، غير مرة، أنْ يبرز التأثير القوي لهدف "الربح" بسلوك الناس عبر إيراده لأمثلة عن أرباب عمل، ينتجون ويبيعون بضائع مخالفة تماما لمعتقداتهم الشخصية من دينية وأخلاقية، فهذا التاجر يبيع السجاير مع أنه لا يدخِّن ويحارب، في تربيته لأولاده، التدخين، وذاك يبيع أشياء تنهى معتقداته الدينية عن استهلاكها والاتجار بها.

هذا الخلل في سلوك البشر ما عاد بالأمر المستغرب والمثير للدهشة، فاقتصاد السوق خلق من المبررات ما يكفي لإقناع رب العمل بأنَّ للضرورة أحكاما، وبأنَّ هذا النزاع بين معتقداته الشخصية وسلوكه التجاري يجب ألا يثير في نفسه الشعور بالذنب وعدم الرضا، فالدافع "السليم" هو ما يسمح لرب العمل أو التاجر بتثبيت قدميه في سوق مضطربة وبجني مزيد من الربح وإلا افترسه منافسوه.

ومع تنامي تأثير هذه الذهنية التجارية برز بين "أهل الفكر والقلم" من يحاكي التاجر في هذا السلوك، فزاد كثيرا عدد الكتَّاب الذين ينتجون من الأفكار والآراء والكتب والمقالات ما يخالف معتقداتهم الشخصية، ولكنه يلبِّي احتياجات السوق الفكرية والسياسية، عائدا عليهم بالربح المادي الجزيل، وبالشهرة الإعلامية وببعض الامتيازات التي ينعمون بها من دون أن يجدوا في أنفسهم الجرأة الأخلاقية على البوح بها!

أذكر كثيرا من الكتَّاب الأصيلين العظماء الذين كانوا يبدأون البحث الموضوعي والجاد وفي أذهانهم فكرة يريدون إثباتها، أو دحضها، فإذا بهم، وبسبب حرصهم على تحري الموضوعية في البحث والتفكير، يتوصلون إلى نتائج مخالفة، وربما مضادة، للهدف الذي من أجله بدأوا البحث والدراسة، فيستمسكون بهذه النتائج، معلنين ومؤكدين انحيازهم إليها.

لقد فقدنا، بسبب الفساد والإفساد أو بسبب سياسة التدجين بالعصا والجزرة، هذا الصنف من أهل الفكر والقلم، فما عاد لدينا سوى الكاتب، الذي ما أنْ يمسك بالقلم والورقة استعدادا للكتابة حتى يتصوَّر شخصا، أو فئة، ينبغي له أنْ يكتب بما يلبي احتياجاته، أو احتياجاتها الفكرية والسياسية، فسؤاله الدائم في أثناء الكتابة، هو: هل سيقع قولي هذا موقعا حسنا أم سيئا من نفس هذا الشخص أو الفئة؟

في مقالته أو بحثه يلغي أولا عقله، ويدع معتقداته الذاتية جانبا، ثم يتقمص، في عقله، طريقة تفكير ذاك الذي يحرص على إرضائه وخطب وده، فيكتب معبِّرا عما يستنسبه غيره من الأفكار ووجهات النظر والمواقف، وكأنه رجل آلي لا لحم له ولا دم ولا شعور.

إننا لا ننكر عليه حقه في أن ينتمي سياسيا وفكريا وشخصيا إلى هذه الجهة أو تلك على أنْ يكون هذا الانتماء صادقا مخلصا، متفقا تماما ومعتقداته الشخصية. أمَّا أنْ يكون سلعة رخيصة (أخلاقيا) في السوق، فيخرج من انتماء إلى انتماء يتقاضى عليه أجرا أعلى فهذا ما ننكره ونستنكره.

أعرف أنماطا من الشخصية في مجتمعنا تقشعر لها الأبدان، فهذا شخص لا يملك من كفاءة يتَّجر بها سوى أن يؤكد لرئيسه، بالكذب والتلفيق، أنَّ الجميع، باستثنائه هو، لا يكنِّون له الود والوفاء والإخلاص. إذا جالسه أحسن معاشرته ومجاملته، وبذل الجهد الجهيد في إقناعه أنه بدر البدور والأجمل والأكفأ والذي لم تلد مثله النساء بعد حتى إذا خرج من عنده مسخه مسخا لا تقوى ساحرات الإغريق على أنْ يأتين بمثله!

هذا الشخص، ومثله آلاف مؤلفة في كل درجات السلَّم، لا كفاءة لديه يؤكدها ويبرزها سوى إنكاره وتنكره لكفاءات الآخرين، والبرهنة لولي النعمة على أنه خير من يخدمه في كل ما يشاء ويهوى. ولعل هذه القدرة على أن يسلك الإنسان هذا السلوك هي ما أفرز ظاهرة بوَّاب العمارة الذي يفرض على الناس أنْ يعاملوه على أنه صاحب العمارة!

هذا النمط من الشخصية إنما تخلقه وتنميه حاجات تافهة لدى أصحاب العمارات في مجتمعاتنا التي لم تعرف بعد أهمية خلق وتنمية الإنسان في داخل الإنسان، والتي تنزِّه الإنسان في الكتب المدرسية عن أنْ يكون سلعة تباع وتشترى، لتجعله في الحياة الواقعية ليس سلعة فحسب وإنما السلعة الأرخص!

وفي كل مجتمع يسترخص الإنسان لا بد للكلمة من أنْ ترخص، وأنْ تتحول في سوق الفكر والسياسة إلى السلعة الأرخص، فبائعوها، من كثرتهم ومن ضعف الحاجة إليها، يبيعونها بأرخص سعر، ومشتروها يشترونها وكأنهم يتصدقون تصدقا على بائعها. وعند الأزمات التي تعصف بالمجتمع والأمة يسألون في استغراب ودهشة: أين هم أهل الفكر والقلم؟! فهل نجيب بألم وحسرة: بعدما تعودوا قلَّة الأكل ماتوا جوعا؟!

كنا نتحدث بفخر واعتزاز عن صناعاتنا القومية المكافحة الرائدة حتى رأيناها تنهار وتتداعى في مناخ "العولمة". وقد أخذ الخراب يعم حتى "صناعة الرأي العام" في مجتمعاتنا، فهذه الصناعة إنما تتولاها، الآن، وسائل ومؤسسات الإعلام الغربي أو كمبرادوره الإعلامي لدينا.

وليس أدل على ذلك من أنك تجد لكل "قارئ" لدينا أربعة أو خمسة كتَّاب. وأحسب أنَّ صحفنا جميعا لو احتجبت إلى الأبد عن الصدور، وحل مكانها صحيفة واحدة تُعنى بنشر الإعلانات والوفيات وبعض الخدمات، لما أحسَّ الناس بغيابها، ولاستمروا في عيشهم اليومي وكأنها لم تزل تصدر!

العيب ليس في الناس أو القراء وإنما في صحافة أقامت سورا صينيا من الاغتراب بينها وبين المجتمع، فلا هي تدرك حاجاته ولا هي قادرة على تلبيتها إن هي أدركتها!



#جواد_البشيتي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الآن بدأت -حرب جرائم الحرب-!
- سلاح يدعى -المطالب الانتقالية-!
- قانا.. عاصمة -الشرق الأوسط الجديد-!
- لدينا -نقاط-.. ولكن أين -الحروف-؟!
- بعض من أوجه -قوة المثال-!
- شعار رايس مترجَما بالعربية!
- إنَّهم لا يجرؤون على الانتصار!
- الجواب عند دمشق!
- -الشرق الأوسط الجديد-.. تنجيم أم سياسة؟!
- -القابلة- رايس آتية!
- هل تسيطر إسرائيل على حدود لبنان مع سورية؟
- الانفجار الكبير Big Bang.. بين -الفيزياء- و-الميتافيزياء-!
- بعض من السمات الجديدة للصراع
- كوميديا -تعقُّلنا- وتراجيديا جنونهم!
- لا سياسة إلا إذا كانت بنت -الآن-!
- قصَّة الْخَلْق
- حلٌّ متبادَل ولكن غير متزامن!
- الحرب المعلَنة في هدفها غير المعلَن!
- فرحٌ رياضي أفسدته السياسة!
- إنها -آراء- وليست -مواقف-!


المزيد.....




- بايدن: دعمنا لإسرائيل ثابت ولن يتغير حتى لو كان هناك خلافات ...
- تيك توك تقاتل من أجل البقاء.. الشركة الصينية ترفع دعوى قضائي ...
- بيلاروس تستعرض قوتها بمناورات عسكرية نووية وسط تصاعد التوتر ...
- فض اعتصامين لمحتجين مؤيدين للفلسطينيين بجامعتين ألمانيتين
- الولايات المتحدة لا تزال تؤيد تعيين الهولندي ريوتيه أمينا عا ...
- -بوليتيكو-: واشنطن توقف شحنة قنابل لإسرائيل لتبعث لها برسالة ...
- بحوزته مخدرات.. السلطات التونسية تلقي القبض على -عنصر تكفيري ...
- رئيسة -يوروكلير-: مصادرة الأصول الروسية ستفتح -صندوق باندورا ...
- سماع دوي إطلاق نار في مصر من جهة قطاع غزة على حدود رفح
- انتخابات الهند: مودي يدلي بصوته على وقع تصريحاته المناهضة لل ...


المزيد.....

- السوق المريضة: الصحافة في العصر الرقمي / كرم نعمة
- سلاح غير مرخص: دونالد ترامب قوة إعلامية بلا مسؤولية / كرم نعمة
- مجلة سماء الأمير / أسماء محمد مصطفى
- إنتخابات الكنيست 25 / محمد السهلي
- المسؤولية الاجتماعية لوسائل الإعلام التقليدية في المجتمع. / غادة محمود عبد الحميد
- داخل الكليبتوقراطية العراقية / يونس الخشاب
- تقنيات وطرق حديثة في سرد القصص الصحفية / حسني رفعت حسني
- فنّ السخريّة السياسيّة في الوطن العربي: الوظيفة التصحيحيّة ل ... / عصام بن الشيخ
- ‏ / زياد بوزيان
- الإعلام و الوساطة : أدوار و معايير و فخ تمثيل الجماهير / مريم الحسن


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الصحافة والاعلام - جواد البشيتي - موت -الكتابة-!