أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - جواد البشيتي - الانفجار الكبير Big Bang.. بين -الفيزياء- و-الميتافيزياء-!















المزيد.....



الانفجار الكبير Big Bang.. بين -الفيزياء- و-الميتافيزياء-!


جواد البشيتي

الحوار المتمدن-العدد: 1617 - 2006 / 7 / 20 - 11:59
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


النظرية (أو الفرضية) لا تنشأ إلا تلبية لحاجة معرفية، فالبشر يحتاجون، دائماً، إلى شرح وتوضيح وتفسير "الحقائق"، فهُم، أوَّلاً، يحدِّدون تلك الأشياء والظواهر الطبيعية التي ينظرون إليها على أنَّها "حقائق"، ثمَّ يسعون، عبر "نظرية معيَّنة"، إلى شرحها وتوضيحها وتفسيرها. وكلمة "لماذا" تكون، عادة، هي "المبتدأ" في السؤال الكبير (المفتاحي) الذي مِنْ أجل إجابته وُضِعت "النظرية".

هل الكون، في الوقت الحاضر، يتمدَّد ويبرد؟ الكوزمولوجيون يعتقدون أنَّ كوننا مستمر، حتى الآن، في تمدُّده وبرودته. وينظرون إلى اعتقادهم هذا على أنَّه "حقيقة لا تشوبها ذرَّة مِنَ الشك". وقد جاءت نظرية "الانفجار الكبير" لشرح وتوضيح هذه "الحقيقة"، أي أنَّها جاءت لتشرح لنا وتوضِّح "لماذا" كوننا ما زال مستمراً، حتى الآن، في تمدُّده وبرودته.

الحاجة المعرفية إلى نظرية "الانفجار الكبير" وُلِدت سنة 1920 عندما اكتشف هابل Hubble أنَّ المجرَّات البعيدة عن مجرَّتنا تتحرَّك بعيداً عنَّا، وأنَّ المجرَّات الأكثر بُعْداً هي الأكثر سرعةً في ابتعادها عنَّا، أو في ارتدادها. وهكذا استنتج هابل نفسه أنَّ الكون كله يجب أنْ يكون في حالة تمدُّد.

تمدُّد الكون، الذي ما زال مستمراً حتى الآن، يعني، على وجه الدقَّة، أنَّ مجرَّاته جميعاً يرتد بعضها عن بعض، وكأنَّها شظايا قنبلة. ويعني، أيضاً، أنَّ مجرَّاته المتباعدة الآن كانت، في الماضي، متقاربة، أي أنَّ حجم الكون كان أصغر. وهكذا استنتج (أو افترض) كوزمولوجيون أنَّ الكون قد جاء من "نقطة مفردة" Single Point.

عندما نرى ونتأكَّد أنَّ مجرَّات الكون هي الآن في تباعد مستمر فإنَّ المنطق يفرض علينا أنْ نستنتج أنَّ هذه المجرَّات كانت في الماضي قريبة مِنْ بعضها بعضاً، ولكن ليس مِنَ المنطق في شيء أنْ "نتطرف في هذا الاستنتاج"، فنُعْلِن أنَّ الكون قد جاء مِنْ تلك "النقطة المفردة" ذات الخواص الميتافيزيقية. ثمَّ ما هو القانون الفيزيائي الذي يمنعنا مِنْ أنْ ننظر إلى هذه "النقطة المفردة" على أنَّها كانت تعدل "الشمس"، أو "الأرض"، أو "البطيخة"، في حجمها؟!

لماذا هذا الإصرار، الذي ليس مِنَ الفيزياء في شيء، على أنْ تكون "النقطة المفردة" معدومة الحجم، وعلى أنْ نفهم "انفجارها" على أنَّه تلك "القوَّة الميتافيزيقية" التي خلقت المادة، والزمان، والمكان، وكل شيء؟!

التصوُّر الكوزمولوجي المسمَّى "Big Bang" إنَّما يقوم، في جوهره، على الفكرة (الميثولوجية) البسيطة الآتية: لا شيء غير "العدم" كان قَبْلَ "الانفجار الكبير"، الذي هو، في هذا التصوُّر، في منزلة "الخالق" في الأديان، فهذا "الانفجار"، الذي لا يشبهه انفجار، هو الذي خلق كل شيء.. خلق الزمان والفضاء والطاقة والجسيمات والمادة..!

إنَّ "النقطة المفردة" هي "العدم" Nothingness الذي بفضل "الانفجار الكبير" وعبْرِه تحوَّل إلى "وجود" و"مادة". "لقد انفجر العدم فخُلِق الكون"!

هذا هو "العمق الفلسفي" لأهم نظرية كوزمولوجية في القرنين العشرين والحادي والعشرين!

بَدْءُ الكون بانفجار يحمل على الاعتقاد بتصوِّر خاطئ بحسب وجهة نظر أنصار نظرية "الانفجار الكبير". وهذا التصوُّر هو تصوُّر "الانفجار" على أنَّه مِنْ نمط الانفجار المألوف في المعرفة والتجربة البشريتين، أي أنَّه انفجار حدث في موضع ما في الفضاء.

خطأ هذا التصوُّر إنَّما يكمن، بحسب وجهة نظرهم، في النظر إلى "الفضاء" على أنَّه شيء كان له وجود قَبْلَ حدوث "الانفجار الكبير"، فهذا الانفجار، في معتقدهم، هو القوَّة التي خلقت "الفضاء"، ثم قامت بمطِّه ومدِّه. وليس تمدُّد وتوسُّع الكون (أي تباعد مجرَّاته) سوى تمدُّد وتوسُّع "الفضاء"، فلا شيء (لا فضاء ولا مجرَّات) حول "سطح البالون (الكوني)"، ولا شيء في داخل هذا البالون، فالكون كله، بفضائه ومجرَّاته، إنَّما هو "سطح البالون". وكل "نقطة" (أو مجرَّة) على سطح البالون يمكن النظر إليها على أنَّها "مركز الكون"، كما أنَّ كل "نقطة" تتحرَّك بعيداً عن غيرها بالسرعة ذاتها. أمَّا إذا كان لا بدَّ مِنْ تشبيه الكون بـ "الكرة" فإنَّ هذه الكرة ليس كمثلها كرة أو جسم كروي، فـ "الكرة الكونية" إنَّما هي، في معتقد أنصار نظرية "الانفجار الكبير"، "غشاء كروي" لا شيء فوقه، ولا شيء تحته، لا شيء في خارجه، ولا شيء في باطنه!

هذا التصوُّر الكوزمولوجي إنَّما يكمن خلله الأعظم، بحسب وجهة نظرنا، في كونه يضرب صفحاً عن حقيقة أنَّ "المادة"، مهما كان شكلها أو نوعها، ليست بالشيء الذي يمكن أنْ يُوجَد مِنْ دون "الفضاء"، فالمادة والفضاء إنَّما هما شيء واحد غير قابل للتجزئة. ويكفي أنْ تَعْتقِدَ باستحالة وجود "الفضاء" قَبْلَ "الانفجار الكبير"، الذي خَلَقَ الفضاء ثمَّ وسَّعه، حتى تَعْتقِدَ، بالضرورة، بأنَّ "النقطة المفردة" التي "وقع فيها هذا الانفجار الكبير" كانت "غير مادية" في ماهيتها وجوهرها، أي أنَّها كانت "نقطة روحية خالصة"، فهذا الانفجار إنَّما هو القوَّة التي بفضلها انبثق الكون (المادي) مِنَ "الروح الخالصة"، أمَّا "الانسحاق الكبير" فهو القوَّة التي بفضلها سيفنى "الكون المادي" ويتلاشى في "الروح الخالصة" ذاتها!

الدقائق الثلاث الأولى..

العالِم ستيفن وينبرغ Steven Weinberg ألَّف كتاباً صغيراً، عنوانه "الدقائق الثلاث الأولى مِنْ عُمْرِ الكون". واستحق وينبرغ على جهده الإبداعي جائزة "نوبل" للفيزياء سنة 1979. ويَعْرِض لنا في هذا الكتيب تلك النظرية الفلكية الأهم في القرنين العشرين والحادي والعشرين.. نظرية "الانفجار العظيم".

وفي نهاية هذا الكتيب، يرى الكاتب أنَّ السعي، عن رضا، لفهم الكون هو مِنَ الأشياء النادرة التي تسمو بالإنسان، وتنتشله مِنَ الترهات وصغارة الحياة اليومية، وتنعم عليه بشيء مِنْ شرف المشاركة في هذه المسرحية التراجيدية.

ولكن، هذا السعي ليس مِنَ الأمور التي في متناول كل إنسان لاعتبارات عديدة، مِنْ أهمها أنَّ عقول البشر مثقلة ومقيَّدة بأفكار مسْبقة، وبأجوبة إيديولوجية جاهزة، فلا ترى في الكون وأحداثه وظواهره، إلا تعبيرا عن حكمة فلسفية!

مِنْ أرومة الفلسفة تفرَّعت العلوم على اختلافها. ومع تقدُّم العلوم وازدهارها تضاءل الاهتمام بالفلسفة حتى جرؤ كثيرون على القول بأنَّ هذه الأداة المعرفية علاها الصدأ، ولا بدَّ لنا، بالتالي، مِنَ الكفِّ عن استعمالها. وغاب عن هؤلاء أنَّ المعرفة تقوم على العلاقة الجدلية بين "العام" و"الخاص"، فالجوانب والأبعاد العامة مِنَ الواقع تطرح، على الدوام، أسئلة وقضايا من طبيعة فلسفية صرف. ونستطيع القول، الآن، إنَّ الفلسفة والعِلْم في طريقهما إلى "وحدة أعلى وأرقى"، فأحدث وأهم المنتَجات الفكرية للكوزمولوجيا، وميكانيكا الكم، وفيزياء الجسيمات دون الذرِّية، يشير إلى اشتداد صعوبة تمييز حقائق الفلسفة مِنْ حقائق العِلْم.

كثيرة هي الأفكار والتصوُّرات التي نسجها الخيال، ولكن، ثمَّة حقائق علمية يعجز الخيال، مهما كان خصباً، عن الإتيان بمثلها. فهل تُصدِّق أنَّ الكون بمجرَّاته التي تضمُّ كل منها مِنْ مئة مليار إلى ألف مليار نجم، كان محصوراً، قبل خمسة عشر مليار أو ستة عشر مليار سنة، ضمن حيِّز تَكْبُرُهُ نواة الذرَّة بمليارات المرَّات، وأنَّه كان بالثقل ذاته الذي هو فيه اليوم؟!

وماذا نسمِّي هذه "النقطة" المتناهية في الصِغَر إلى حدٍّ يصعب، بل يستحيل تخيُّله، والتي انفجرت قَبْلَ ستة عشر مليار سنة، فوُجِدَ الكون الذي نعيش فيه الآن؟ هل نسميها "العدم"؟

"فيزياء العدم" عند هاوكنغ!

إنَّ ستيفن هاوكنغ لا يتردَّد في القول بأنَّ الكون قد خُلِق مِنْ "لا شيء"؛ لأنَّ الفهم الحديث لميكانيكا الكم يسمح بهذا. لقد قوَّض هاوكنغ، بهذا الفهم الحديث لـ "ميكانيكا الكم"، أهم قانون اكتشفته الفيزياء، وهو قانون "استحالة خلق المادة مِنَ العدم". قد نجد صعوبة في تعريف "المادة"، أمَّا "العدم" فإنَّ تعريفه هو المستحيل بعينه، فلا يمكننا، في أي حال، تعريف "العدم". لماذا؟

لأنَّ الإنسان لا يملك في رأسه مِنْ أفكارٍ سوى تلك المتعلقة بـ "العالم المادي"، فأنا أملكُ في رأسي فكرة عن القمر؛ لأنَّ هذا الجسم السماوي موجود "في خارج فكري"، و"في استقلال تام عنه". حتى الأفكار الخيالية، كمثل فكرة "نهر مِنْ ذهب"، تُوجَد في رأسي؛ لأنَّ "عناصرها" موجودة بالفعل، فثمَّة "نهر" في الواقع، وثمَّة "ذهب". ويستطيع الخيال نسج علاقة "غير واقعية" بين أشياء "موجودة في الواقع". أمَّا الشيء الذي لا وجود له في العالم المادي فلا يمكنني أنْ أُكوِّن أي فكرة عنه.

ومع ذلك، تجرَّأ هاوكنغ، وهو فيزيائي لامع، وليس رجل دين، على القول بأنَّ الكون قد خُلِقَ مِنْ "لا شيء". والمثير للدهشة، حقَّاً، أنَّ هاوكنغ يتزعَّم ويقود جمهرة مِنَ العلماء إلى العوالم النظرية لـ "الثقوب السوداء". وكان هذا العالم قد أكَّد في كتابه "قصة موجَزة للزمان" أنَّ "الذرَّة الأولى" التي صدر عنها كوننا عقب "الانفجار العظيم" هي "ثقب اسود"، وأنَّ "الثقب الأسود" يمتلك "حجما غير معدوم"، وتعمل فيه القوانين ذاتها التي تعمل في عالمنا الحالي.

وفي هذا "الحجم غير المعدوم" لـ "الثقب الأسود"، الذي نشأ عنه كوننا، تركَّزت كتلة الكون وطاقته، فثِقَلَهُ هو ذاته ثِقَلُ الكون الذي نعيش فيه الآن، أي أنَّ الفراغ، أو الفضاء، في داخل "الذرَّة الأولى" كاد ينعدم، ولا نقول انعدم. ولكن، لنرجع إلى ستيفن وينبرغ وكتيِّبه "الدقائق الثلاث الأولى مِنْ عمر الكون".

قَبْلَ "الانفجار"!

في البدء، أي قَبْلَ ستة عشر مليار سنة، كان "شيء" لا نعرف، وربَّما لن نعرف أبداً، عن ماهيته وخواصه وتركيبه أي شيء. وهذا "الشيء" كان متناهياً في الصِغَر، فحجمه يقلُّ عن حجم نواة الذرَّة بمليارات المرَّات. ومع ذلك كان يشتمل على كل كتلة الكون الحالي وطاقته، فكان، بالتالي، شديد الكثافة والجاذبية. ومِنْ فرط جاذبيته ما كان في مقدور الضوء أو جسيمات الضوء (الفوتونات) الإفلات منه، أي أنَّه كان، بالضرورة، مظلماً. ويُفترَض أنَّ هذا الشيء، أو هذه الكتلة المركَّزة ذات الكثافة الهائلة، كان في غاية الحرارة.

لقد انفجرت "الذرَّة الأولى"، وتناثرت "شظاياها" في كل اتِّجاه، وانطلقت كل "شظية" بسرعة خيالية. وهذه العملية تسمَّى تمدُّد، أو انتشار، أو توسُّع، الكون. ونحن، إلى يومنا هذا، نعيش في كون في حالة انفجار.

لا تسألوا وينبرغ: ماذا كان قَبْلَ "الذرَّة الأولى"؟ ولا تسألوه: ماذا حدث قَبْلَ الانفجار العظيم؟ فـ "الفيزياء الكوانتية"، التي تصوَّرها الفيزيائي الألماني ماكس بلانك لا تزال تبحث عن جواب عن السؤال الثاني، ضاربة صفحاً عن السؤال الأوَّل، العصيُّ على كل إجابة، على ما يزعمون.

إنَّ وينبرغ يريد أنْ يتحدث بشيء مِنْ الاطمئنان والثقة، وكأنَّه كان هناك شاهداً على ما حدث، ولهذا يبدأ بالحديث عن الثانية الأولى التي أعقبت الانفجار الكبير.

يقول وينبرغ: بَعْدَ نحو جزء مِنْ مئة جزء مِنْ هذه الثانية، هبطت حرارة الكون إلى مئة مليار درجة مئوية تقريباً. وكانت كثافة هذا الحساء (أو الضباب) الكوني، عند درجة الحرارة هذه، تعادل أربع مليارات مرَّة كثافة الماء.

ويضيف قائلاً: إنَّ حرارة الكون استمرَّت في الهبوط حتى بلغت في نهاية الدقائق الثلاث الأولى مليار درجة مئوية.. هنا، كانت الكثافة لا تزال عالية إلى حدٍّ ما (أقل قليلاً مِنْ كثافة الماء). وكلَّما تمدَّد الكون هبطت درجة حرارته. وقام واضعو نظرية "الانفجار الكبير" بإجراء عمليات حسابية لمعرفة كثافة الكون الحالية فوجدوها تعادل ثلاث ذرَّات مِنَ الهيدروجين في المتر المكعب الواحد.

إنَّ الكون في حالة تمدُّد، فهل يظل يتمدَّد إلى ما لا نهاية؟ عندما وضع آينشتاين نظريته النسبية نسي أنْ يضع تصوُّراً عن تمدُّد الكون والانفجار الأوَّل الذي ولَّده، إذ اعتقد بـ "كون مستقر".

وإنَّنا، اليوم، بإزاء تصوُّرين للكون: "الكون المفتوح"، المتمدِّد إلى ما لا نهاية، و"الكون المغلق"، الذي سيخضع، في آخر المطاف، لقوَّة الجاذبية، ويَغْلبه وزنه، فينهار على ذاته، أي يبدأ مساراً معاكساً مِنَ التطور، هو مسار التقلُّص والانقباض.

وبحسب التصوُّر الثاني، لن يكون الكون الحالي، المتمدِّد، سوى طور تالٍ لآخر انكماش وآخر انتفاضة (انفجار). ونستطيع أنْ نتخيل دورة لا نهاية لها من التمدُّد والانكماش، فإذا كان الانكماش هو مستقبل كوننا فعلى الأرجح أنَّ ماضيه كان كذلك، فالمجرَّات المبتعدة إحداها عن الأخرى، الآن، كانت، مِنْ قَبْل، أكثر تقارباً.

الملاحظة المفتاحية

ولكن، ما هي الملاحظة الأهم التي جعلت العلماء يعتقدون بنظرية "الانفجار العظيم"؟ لقد لاحظ هؤلاء أنَّ المجرَّات القريبة منَّا تبتعد عنَّا في سرعة بطيئة نسبياً، بينما المجرَّات البعيدة تبتعد عنَّا في سرعة أكبر كثيراً. ثمَّ لاحظوا أنَّ المجرَّات الأكثر بُعْداً، والتي نستطيع رؤيتها، تبتعد عنَّا في سرعة تعادل ثلثي سرعة الضوء.

في ضوء ذلك، استنتج العلماء أنَّ المجرَّات الآخذة في الابتعاد عنَّا كانت في الماضي أكثر قُرباً منَّا، وأنَّ الكون في حالة توسُّع وانتشار.

إنَّ الرسول الذي يحمل إلينا المعلومات عن المجرَّات والنجوم هو الضوء المنبعث أو المنطلق منها. ويتألَّف الضوء مِنْ جسيمات تسمى "فوتونات". وتسير "الفوتونات" في الفراغ، أو الفضاء، بسرعة هي "السرعة القصوى" في الكون، وتبلغ هذه السرعة 300 ألف كيلو متر في الثانية الواحدة.

إنَّنا بناءً على ذلك، لا نرى الشمس في زمانها الفعلي، بل بَعْده بثماني دقائق، فإذا انشطرت الشمس فإنَّ الأرض لن تتأثَّر بهذه الكارثة الكونية إلا بعد حدوثها بثماني دقائق. النجم "الفاسانتوري" هو أقرب نجم إلى المجموعة الشمسية، إذ يبعد عن الأرض نحو أربع سنوات ضوئية، وهذا يعني أنَّنا نرى هذا النجم، دائماً، قَبْلَ زمنه الفعلي بأربع سنوات. والمناظير الحديثة حين تطلُّ على أجسام السماء البعيدة إنَّما تطلُّ على ماضيها، فكلَّما نظرنا إلى ما هو أبعد رأينا ما هو أقدم.

لقد قدَّر العلماء عُمْر الكون بستة عشر مليار سنة، فإذا تمكَّن المنظار "هابل" مِنْ رؤية أجسام كونية تبعد عنَّا ستة عشر مليار سنة ضوئية فإننا، عندئذٍ، نرى، بفضله، حافة، أو نهاية، الكون، أي نرى تلك الأجزاء مِنَ الكون التي نشأت، توَّاً، عن "الانفجار العظيم"، ويستحيل أنْ نرى الحالة التي عليها هذه الأجزاء الآن.

إنَّ المجرَّات الأكثر بُعْداً عنَّا، يهرب بعضها مِنْ بعض، أي "تتباعد" بسرعة خيالية. وهذه الصورة التي نراها، الآن، بفضل الضوء، إنَّما هي صورة هذه المجرَّات قَبْلَ مليارات السنين. المجرَّات الأبعد عنَّا تتباعد، أي تبعد عنَّا ويبعد بعضها عن بعض، بسرعة خيالية، والمجرَّات الأقرب إلينا تتباعد هي، أيضاً، ولكن بسرعة بطيئة نسبياً. هذا يعني أنَّ الكون لا يزال في حالة تمدُّد.

قد نرى كوننا حين كان طفلاً رضيعاً، ولكن، لماذا تستعصي علينا رؤيته حين كان جنيناً؟ لأنَّ الكون في مرحلته الجنينية كان على هيئة "ثقب اسود". وهذا الجسم، أو بالأحرى الجسيم، كان مِنْ فرط جاذبيته يمنع حتى الضوء مِنَ الإفلات منه، ولهذا لا يمكننا رؤية الكون حين كان جنيناً.

نظرية أو فرضية "الانفجار العظيم" جاءت لتُدْخِل في مفهومي "المادة" و"العدم" مزيداً مِنَ التشوُّش والغموض؛ ذلك لأنَّها وعدتنا بانتهاء البحث عند تخوم ذلك "الشيء" الذي كان موجوداً قبيل "ثوانٍ" مِنْ وقوع هذا "الانفجار".

هذا "الشيء" دعاه القس والكوزمولوجي البلجيكي جورج لاميتر George Le Maitre سنة 1927، "الذرَّة البدائية"، ودعاه فريدمان "الكتلة المادية شديدة الكثافة". وقد كان القس لاميتر هو أوَّل مَنْ تحدَّث عن انبثاق الكون مِنْ انفجار تلك "الذرَّة البدائية".

"ذرة لاميتر" اشتملت على كل مادة الكون، وكان حجمها يزيد كثيراً عن حجم الشمس قَبْلَ أنْ تنفجر وتتمزَّق قطعاً صغيرة لا عدَّ لها ولا حصر. وقد استمرت كل قطعة في الانقسام حتى ظهرت الذرَّات في الكون.

في هذا "الشيء" وقع "الانفجار العظيم"، ولكن "الكون"، الذي يمكننا معرفته، بحسب بعض الفيزيائيين والكوزمولوجيين، هو، فقط، الكون الذي كان بَعْدَ 10 ثوانٍ أو 43 ثانية مِنْ وقوع هذا الانفجار، فالكون، في حالة وجوده السابقة لهذه الثواني، سيظلُّ، وفق رأي هؤلاء، مستغلقا على الفهم البشري!

وبناءً على ذلك، يقول بعض أنصار نظرية "الانفجار العظيم" إنَّ هذه النظرية لا تستطيع توضيح "طبيعة" ذلك "الشيء"، الذي كان موجوداً "قَبْلَ" وقوع "الانفجار".

ويقولون، أيضاً، إنَّ كلمة "قَبْل" قد تكون "خاطئة"، أو "معدومة المعنى"؛ لأنَّ "قَبْل" هي ظرف زمان؛ ولأنَّ "الزمان" ذاته "خُلِق" عند وقوع "الانفجار العظيم"، أي أنَّ ذلك "الشيء" الذي كان موجوداً "قَبْل" وقوع "الانفجار" كان شيئا "معدوم الزمان"!

وهذا "العدم" عندهم كان يشمل، أيضاً، "القوى الفيزيائية الأربع" (الجاذبية، القوَّة الكهرومغناطيسية، القوَّة النووية الضعيفة، القوَّة النووية الشديدة) إذ أنَّها، جميعاً، كانت، في بداية الكون، مندمجة، أو منصهرة، في قوَّة واحدة مفردة، ثم تجزَّأت، أو تمايزت، أو تغايرت.

"قوَّة الجاذبية" هي التي انفصلت أوَّلاً. وبَعْدَ انتهاء طور "التضخم" Inflation انفصلت "النووية الشديدة"، ثمَّ انفصلت "النووية الضعيفة"، فالقوَّة "الكهرومغناطيسية". تمدُّد الكون أفضى إلى برودته، التي أفضت إلى ظهور جسيمات وقوى مختلفة. ولكن، أين وقع "الانفجار العظيم"؟

"الفضاء" إذ انفجر!

"الانفجار العظيم"، بحسب آراء القائلين به، لم يقع في الفضاء. لم يقع "في داخل فضاء" كما هي الحال في انفجار قنبلة يدوية. الفضاء ذاته هو الذي انفجر، ثم تمدَّد.

ولكن هذا الفضاء الذي انفجر لم يكن، وُفْقَ زعمهم، موجوداً "قَبْل" وقوع "الانفجار"، فالفضاء (المكان) والزمان وُجِدا "بَعْد" هذا "الانفجار"!

لقد جاء الكون مِنْ تلك "النقطة" ("الذرَّة البدائية"، "الذرَّة الأُم"، "البيضة الكونية") التي نحار في وصفها، أو تسميتها، ولكنَّنا سندعوها "المفرد" Singularity.

"الانفجار (الكوني) العظيم" يجب أنْ يؤدِّي إلى "تمدُّد" لـ "الكيان المادي" الذي وقع فيه وشمله، ولكن ليس ثمَّة موجب أو داعٍ للقول بأنَّ "كل تمدُّد" يجب أنْ ينشأ عن "انفجار"، فقول كهذا إنَّما يماثل، في منطقه، قول "كل الحيوانات يجب أنْ تكون كلابا؛ لأنَّ كل الكلاب حيوانات"!

الخلل الأعظم في نظرية "الانفجار العظيم" يكمن في قولها (الذي لا مبرِّر فيزيائي له) إنَّ "كل" المادة في الكون يجب أنْ تكون قد تركَّزت وتكثَّفت في ذلك الحيِّز المتناهي في الصِغَر ("المفرد" Singularity). وفي قولها، أيضاً، إنَّ الكون والزمان والفضاء وكل شيء فيزيائي آخر قد خُلِق في "لحظة واحدة" تسمَّى "الانفجار العظيم" Big Bang.

إنَّ المستحيل بعينه هو أنْ تضع "كل" مادة الكون، أو هذا "المقدار المطلق" مِنَ المادة (مِنَ الكتلة والطاقة) في تلك "النقطة" ذات الكثافة المطلقة، فـ "غير المحدود" في المقدار لا يمكن تركيزه في "حيِّز محدود".

بحسب وجهة نظر غث، تركَّزت "كل" مادة الكون في حيِّز أصغر كثيراً مِنَ الحيِّز الذي يشغله بروتون واحد. وغنيٌّ عن البيان أنَّ كوْناً بدأ في هذا الحجم لا يمكنه أنْ يبلغ حجمه الحالي إلا إذا تمدَّد في سرعة تفوق أضعافاً مضاعفة سرعة الضوء!

وكان ستيفن هاوكينغ قد أوضح أنَّ الكون يمكن أنْ يُوْلَد حتى مِنْ دون تلك "النقطة ذات الكثافة غير المحدودة".

خطأ كبير آخر، في هذه النظرية، هو النظر إلى الكون على أنَّه مساوٍ لـ "الكون المرئي المنظور". وكان إيريك ليرنر قد أوضح أنَّ معادلات آينشتاين تسمح بوجود "عدد غير محدود" مِنَ "الأكوان المختلفة".

في المستقبل، سنكتشف مزيداً مِنَ المجرَّات والأجسام الفضائية البعيدة جدَّاً عن كوكب الأرض، وسنعرف، بالتالي، أنَّ في الفضاء القصيِّ مِنَ الأجسام ما يزيد عمره عن 20 أو 30 أو 40 أو 50.. مليار سنة. وسنعرف، أيضاً، أنْ ليس من نهاية لاكتشافاتنا هذه، والتي ستتسع وتزداد وستكون أكثر دقَّة مع إحرازنا لمزيدٍ مِنَ التقدُّم العلمي والتكنولوجي في مجال الرصد الفضائي.

لو كان لدينا، الآن، أدوات وأجهزة وطرائق رصد فضائي أكثر تطوراً لاكتشفنا أجساماً فضائية (مجرَّات مثلاً) تبعد عنَّا 50 مليار سنة ضوئية مثلاً، أي أنَّ عمرها أكبر مِنَ العمر الذي افترضوه للكون. واعتقد أنَّ تقدُّما علمياً وتكنولوجياً كهذا سيدمِّر، عملياً وليس نظرياً فحسب، أركان نظرية "الانفجار العظيم".

"تمدُّد هابل" في تفسير مختلف

هانز ألفين وأسكار كلاين فَهِمَا ظاهرة "تمدُّد هابل" في طريقة مختلفة، قائلين إنَّ مقداراً هائلاً مِنَ "المادة" و"المادة المضادة" قد تجمَّع، قَبْلَ 10 مليارات أو 20 مليار سنة، "في زاوية واحدة صغيرة مِنَ الكون المرئي المنظور"، فتولَّدت مِنْ هذا "التجمُّع" مقادير هائلة مِنَ الإلكترونات والبوزيترونات النشيطة والعالية الطاقة. هذه الجسيمات المحتجَزة في حقول ومجالات مغناطيسية، دَفَعَت، بقوَّة "انفجار"، مادة "البلازما"، التي منها تكثَّفت المجرَّات، بعيداً في الفضاء. هذه المجرَّات المتطايرة في الفضاء أنتجت ظاهرة "تمدُّد هابل".

القائلون بهذه النظرية البديلة ينزعون عن "الانفجار" تلك "القوَّة السحرية الميثولوجية"، فلا خَلْقَ، على يديه، لا للمادة ولا للفضاء ولا للزمان، فهذا "الانفجار"، الذي كان هائلاً وعنيفاً، إنَّما وقع في أحد أجزاء الكون.

ألفين وخلافاً للاعتقاد السائد لدى معظم العلماء بأنَّ "الفضاء" ليس سوى "فراغ مطلق" Empty Vacuum أوضح أنَّ "تيَّارات مِنَ البلازما" و"حقولاً مغناطيسية" تغمر وتعمُّ الكون بأسره، وأنَّ "مقذوفات انفجارية مفاجئة مِنَ الطاقة" تملأ الكون.

ونحن لو تحرَّينا الدقَّة والموضوعية لنظرنا إلى كل الأجسام والجسيمات في الكون على أنَّها "قاذفات" دائمة للطاقة، فما مِنْ جسم أو جسيم إلا ويُطلِق، دائماً، كمِّيات مِنَ "الجسيمات المادية"، التي تنتقل وتتحرَّك في الفضاء في سرعة عالية جدَّاً، فبعض المادة، في الجسم أو الجسيم، يكون "مجمَّداً" محتجَزاً، وبعضه يكون "متطايراً" حرَّاً طليقاً.

يجب أنْ يكون الجسم أو الجسيم في هذه الحال مِنَ "الثنائية" حتى يُوْجَد، فالجسم أو الجسيم المنغلق على نفسه انغلاقاً مطلقاً، فلا يُطْلِق ولا يمتص "جسيمات مادية"، في استمرار، لا وجود له!

المادة، ديناميَّة في طبيعتها، في حالة مِنَ الحركة والتبدُّل الدائمين، ولا يمكننا فهم وتفسير وتعليل ديناميَّتها إلا بالجسيمات المادية المتدفِّقة مِنَ الأجسام (والجسيمات) في استمرار.

التشويه الميثولوجي

لكَ أنْ تتخيَّل، إذا كنتَ قادراً على مثل هذا التخيُّل، أنَّ "المفرد" Singularity كان مشتمِلاً على كل ما في الكون مِنْ "مادة"، أي على كل ما فيه مِنْ "كتلة" و"طاقة"، وكان شديد "الكثافة (غير محدود الكثافة)" ولكن حجمه كان صفراً أو معدوماً، أي لا حجم له!

ولو أرَدْنا أنْ نكون أكثر دقَّة في وصف هذا "الشيء" لقُلْنا إنَّه لا يمكن أنْ يكون سوى "العدم"، فإذا كان "الزمان ـ المكان" لم يُخْلَق بَعْد، أي لم يكن له مِنْ وجود في "النقطة الكونية"، فلا يجوز التحدُّث عن انحنائه. وإذا كان هذا "الانحناء" غير موجود فلا يمكن تصوُّر وجود "كتلة" أو "طاقة" في هذه "النقطة"؛ ذلك لأنَّ وجود "الكتلة" و"الطاقة" هو الذي يُنْتِج انحناء "الزمان ـ المكان". وغنيٌّ عن البيان أنْ لا وجود للمادة ما دامت "الكتلة" و"الطاقة" غير موجودتين!

ومع ذلك، يتحدَّثون عن "الكثافة غير المحدودة"، و"الجاذبية الهائلة"، و"الحرارة الهائلة" لهذه "النقطة"!

كثافة ماذا، وجاذبية ماذا، وحرارة ماذا؟! "كثافة" و"جاذبية" و"حرارة".. "العدم"؟!

قد تبدي عجزاً عن تخيُّل هذا الشيء، الذي انبثق منه الكون، مماثلاً لعجزكَ عن تخيُّل أشياء أخرى جاءت بها نظريات وتصوُّرات كوزمولوجية عديدة، مثل "الكون الذي له أكثر مِنْ ثلاثة أبعاد مكانية".

وثمَّة مَنْ يقول إنَّ الكون كان حتى حدوث "الانفجار العظيم" مشتمِلاً على أكثر مِنْ أربعة أبعاد.. كان مشتمِلا على عشرة أبعاد، ولكن، لسوء حظِّه وحظِّنا، حطَّم "الانفجار" ستَّاً منها. ويقولون إنَّ هذه الأبعاد الستة هي، الآن، أصغر مِنْ أنْ نستطيع ملاحظتها، فكل اكتشافاتهم الكوزمولوجية هي مِنَ النوع الذي لا يمكننا ملاحظته وإدراكه!

أمَّا ردُّهم على هذا العجز الذي تبدي فهو أنَّ ثمَّة "أفكاراً" أو "تصوُّرات" كوزمولوجية صحيحة، ولكن عقل الإنسان لا يستطيع تخيُّلها أو تصوُّرها، فوجود "شيء" يشتمل على كل الكتلة والطاقة في الكون، ويكون معدوم الحجم في الوقت نفسه، إنَّما هو "حقيقة كوزمولوجية" ينبغي لك الاعتراف بها على الرغم مِنْ أنَّ عقل الإنسان لا يستطيع تخيُّل هذا "الشيء"!

بهذه الطريقة في التفكير والنظر إلى الأمور، والتي يحاولون فرضها عليكَ، يمكن، في رأيهم، ويجب أنْ تبدأ المعرفة الكوزمولوجية الحقَّة!

ولكن هل ثمَّة وجود لشيء، أو هل يمكن أنْ يُوجَد شيء، يعجز عقل الإنسان عجزاً مطلقاً عن إدراكه، أو تخيُّله، أو تصوُّره؟ الجواب هو: كلاَّ لا وجود له ولا يمكن أنْ يُوْجَد!

إنَّ شيئاً لا نستطيع تخيُّل وجوده إنَّما هو شيء لا وجود له، ولا يمكن أنْ يُوجَد. إنَّكَ تستطيع أنْ "تتصوَّر"، في ذهنكَ، "التفاحة"؛ لأنَّ التفاحة "واقع موضوعي". كما تستطيع أنْ تتصوَّر، في ذهنكَ، شيئاً، لم يُوْجَد مِنْ قَبْل، ولا يُوْجَد الآن، ولن يُوْجَد أبداً، مثل "عروس البحر"، ولكن هذا الكائن الخرافي كان ممكناً التصوُّر؛ لأنَّ العناصر التي يتألَّف منها (الإنسان والسمكة) موجودة وجوداً فعلياً.

في مقدور الذهن البشري أنْ يُبْدِع كائنات خرافية لا عدَّ لها ولا حصر، ولكن ليس في مقدوره البتَّة أنْ يتصوَّر "كائناً" معدوم الحجم، لا طول له، ولا عرض، ولا سُمك، أو عمق.. ليس في مقدوره أن يتصوَّر كائنا اجتمعت في خَلْقِه عناصر مادية عديدة إلا عنصر مادي واحد هو "المكان"، فكل شيء يمكن تخيُّله وتصوُّره إلا ذاك الشيء الذي ليس له حجم. لا يمكننا ذلك ليس لأنَّ عقل الإنسان عاجز عن تصوُّر "بعض الأشياء الحقيقية"، وإنَّما لاستحالة وجود شيء لا حجم له.

"التفاحة" نتصوَّرها في ذهننا؛ لأنَّ لها حجماً، وهذا الكائن الخرافي المسمَّى "عروس البحر" نتصوَّره هو، أيضاً، لأنَّنا لا نجرِّده مِنْ خاصِّية مادية جوهرية هي "المكان" بأبعاده الثلاثة.

"المفرد" Singularity يشتمل على كل كتلة الكون وطاقته، ولكن يكفي أنْ تقول إنَّ حجمه معدوم حتى تُحَوِّله مِنْ "وجود" إلى "عدم"، أو إلى كائن ميتافيزيقي، فكيف يمكنكَ إثبات وجوده، أو الاستدلال عليه، إذا ما سلَّمتَ بأنَّ حجمه معدوم؟!

وأنتَ عندما تقول إنَّ في هذا "الشيء" المعدوم الحجم تكمن كل "مادة الكون" فإنَّما تقول، في عبارة أخرى، إنَّ كل "مادة الكون" قد فنيت أو تلاشت في "العدم".

إنَّ هذا "المفرد" Singularity يمكن تصوُّره تصوُّراً واقعياً إذا كان "غير معدوم الحجم". إنَّنا نستطيع تصوُّر شيء اشتمل في حجمه المتناهي في الصِغَر والضآلة (لا في حجمه المعدوم) على مقادير هائلة مِنَ المادة، أي مِنَ الكتلة والطاقة.

مِنْ مقدِّمة صحيحة إلى..

لقد بدأت القصة كلها إذ فسَّروا ظاهرة فيزيائية (ضوئية) على أنَّها دليل على أنَّ الكون يتمدَّد ويتَّسع. هذه الظاهرة أوحت إليهم بفكرة أنَّ مجرَّات الكون في تباعدٍ مستمر، وأنَّ الأبعد منها عن الأرض يبتعد عنَّا بسرعة أعلى.

وإذ اقتنعوا بصحة هذه الفكرة قالوا، مستنتِجين، إنَّ هذا "التباعد المجري" يدلُّ على أنَّ مجرَّات الكون كانت، في الماضي، متقاربة. حتى هذا الفصل مِنَ القصة كان التفكير منطقياً وعقلانياً.

بدأوا يحيدون عن هذا التفكير عندما تخيَّلوا أنَّ هذا المسار مِنَ "التقارب المجري" يمكن ويجب أنْ ينتهي بنقطة كونية تشتمل على كل مادة الكون مِنْ دون أنْ يكون لها حجم، فالتضاؤل في حجم الكون يمكن، في تصوُّرهم، أنْ يبلغ نهايته بهذا الحجم المعدوم للمادة!

عندما استنتجوا أنَّ مجرَّات الكون كانت، في الماضي، متقاربة، وأنَّ حجم الكون كان، بالتالي، أصغر، فقد كانت لديهم "مقدِّمات فيزيائية ومنطقية" تجيز القول بصحة هذا الاستنتاج، ولكن أين هي الأسباب التي تحملهم على الاعتقاد بأنَّ "التقارب المجري" يمكن ويجب أنْ ينتهي بهذه "النقطة الكونية" المعدومة الحجم؟!

ما هي تلك الفيزياء التي تسمح قوانينها ومفاهيمها وتجاربها بالقول إنَّ جسماً له كتلة يمكن أنْ نزيد كثافته مِنْ خلال تقليل حجمه أكثر فأكثر حتى يتحوَّل حجمه المتضائل إلى "حجم معدوم"؟!

يقولون إنَّ في هذا "الشيء" المعدوم الحجم، والذي منه انبثق الكون، كانت تكمن مادة الكون كلها.. كل كتلته وطاقته، ولكن ما هي "طبيعة" هذه المادة؟ ما هي خواصها ومكوِّناتها؟ جوابهم عن هذا السؤال، هو: "لا نعرف"!

هُم لا يعرفون ذلك، ولكنَّهم يعرفون حقَّ المعرفة أنَّ "الشيء" كان معدوم الحجم، وأنَّ "كل شيء" قد خُلِق إذ وقع "الانفجار العظيم" في هذا "الشيء"!

هُم يعرفون حقَّ المعرفة أنَّ "الزمان"، أيضاً، كان معدوماً، ثم خُلِق على يديِّ هذا الخالق (الفيزيائي) الجديد، المسمَّى "Big Bang"!

هُم لا يعرفون مكوِّنات المادة في هذا "الشيء"، ولكنَّهم يعرفون حقَّ المعرفة أنَّ هذا الخالق الجديد قد خَلَق أوَّلَ ما خَلَق "جسيمات أوَّلية"، يتألَّف منها كل شيْ، أمَّا هي فلا تتألَّف من شيء!

في معتقدهم كان "الكوارك"، ثمَّ كان "البروتون" المؤلَّف مِنْ ثلاثة كواركات. أمَّا "الكوارك" ذاته فكان مخلوقاً بسيطاً، له كتلة، وله حجم، ولكن لا "مكوِّنات" له، أي لا يتألَّف مِنْ "جسيمات"!

هذا "الشيء" يشتمل، في اعتقادهم، على كل مادة الكون، ولكنَّه لا يمكن أنْ يشتمل على جسيمات (أوَّلية) لها كتلة وحجم مثل "الكوارك"، أو "الإلكترون"، فهل كان مشتمِلاً على "فوتونات"، مثلاً؟ إنَّهم يميلون إلى الإجابة بـ "نعم" عن هذا السؤال؛ ذلك لأنَّهم يؤمنون بكائن خرافي آخر يسمُّونه "الطاقة الخالصة"!

فلنفترض أنَّ هذا "الشيء" كان مؤلَّفاً مِنْ "طاقة خالصة"، أي مِنْ "فوتونات" فحسب، ولكن، هل ثمَّة طاقة، أو ضوء، إذا ما انعدم وجود "الجسم" و"الجسيم"؟!

فهذا الضوء (أو الفوتونات) الذي يسافر في الفضاء إنَّما انبعث مِنْ "جسم" هو "النجم"، مثلاً، ثمَّ سافر في "الفضاء"، أي بين "أجسام فضائية"، ولسوف يمتصَّه "جسم آخر".

هذا الضوء لا وجود له إلا إذا انبعث مِنْ "جسم" ليمتصَّه "جسم".. لا وجود له إلا إذا سافر في "الفضاء"، أي "في داخل جسم"، أي في داخل مجرَّة، أو في داخل مجموعة مِنَ المجرَّات.. أو في داخل الكون.

ثمَّ، ما هو الجسم الذي له "كتلة" و"حجم"؟ أليس هو "الطاقة المركَّزة"؟! أليست "الكتلة" هي "الطاقة المركَّزة (أو المجمَّدة)"؟! أليست هي "تجسيد" للطاقة؟!

نحن لو حوَّلْنا 1 كغم مِنَ السكَّر، أو الماء، أو أي شيء آخر، إلى "طاقة خالصة" فإنَّ مقدار هذه الطاقة سيكون كافياً لتشغيل سيارة مِنْ دون توقف مدة 100 ألف سنة!

ولكنْ، هل مِنَ الممكن أنْ نُخزِّن في "البروتون"، مثلاً، مقداراً هائلاً مِنَ "الطاقة" مِنْ دون أنْ تزيد كتلته؟ كلاَّ ليس ممكناً. وهل مِنَ الممكن أنْ نفعل ذلك إذا كان "البروتون" جسيماً "معدوم الحجم"؟! متى حدث في "عالم الفيزياء" أنْ زِدْنا كتلة جسم، أو جسيم، عَبْر إدخالنا فيه "كمِّية مِنَ الطاقة"، وكان هذا الجسم، أو الجسيم، "معدوم الحجم"؟!

يقولون إنَّ "النقطة المادية" ما أنْ وقع فيها "الانفجار العظيم" حتى شرعت تتمدَّد، متغلِّبةً على "قوَّة الجاذبية"، فهل كان لقوَّة الجاذبية مِنْ وجود في داخل هذه النقطة، أم أنَّ "الجاذبية الكونية" هي، أيضاً، مِنْ مخلوقات هذا "الانفجار"، الذي خَلَقَ "كل شيء"؟!

لو افترضنا أنَّ "قوَّة الجاذبية" كانت موجودة في داخل هذه "النقطة"، ولو افترضنا أنَّ لهذه "النقطة" حجماً لا يزيد عن حجم "نواة الذرَّة"، فهل يجوز القول إنَّ "الجاذبية" هي القوَّة التي جعلت هذه "النقطة" متماسكة، مترابطة وموحَّدة؟!

كيف يجوز مثل هذا القول ما دامت الجاذبية هي أضعف "قوى الربط" في داخل "نوى الذرَّات" و"الجسيمات"، وما دام تأثيرها غير قويٍّ إلا بين "الأجسام الكبيرة" مثل الكواكب والنجوم والمجرَّات؟!

في داخل "نواة الذرَّة"، مثلاً، تترابط "الجسيمات (البروتونات والنيوترونات)" وتتماسك ليس بـ "قوَّة الجاذبية" الضعيفة في هذا النطاق المتناهي في الصغر، وإنَّما بـ "القوَّة النووية الشديدة" قصيرة المدى. إذا كانت حال "الجاذبية" في"نواة الذرَّة" هي هذه الحال، فكيف تكون حالها في داخل تلك "النقطة الكونية" التي يقل حجمها، إذا افترضنا أنَّ لها حجماً، كثيراً عن حجم "نواة الذرَّة"؟!

ثمَّ إذا كان "المفرد" Singularity في الكون، و"المفرد" في أي "ثقب أسود"، متماثلين في الماهية والخواص الجوهرية فلِمَ لا يتماثلان في "الجاذبية" وشدَّتها؟!

كل كتلة الكون تركَّزت في تلك "النقطة"، ولكن لا انحناء، أو تقوُّس، في "المكان" و"الزمان"، اللذين ما كانا قد "خُلِقا" بَعْد!

كيف نقول بالصلة الجوهرية العضوية بين "الكتلة" وانحناء "الزمان ـ المكان"، ثمَّ نقول بوجود كل كتلة الكون في "نقطة" مجرَّدة مِنَ "الزمان" و"المكان"؟!

وإذا كانت هذه "النقطة"، التي تشتمل على كتلة وطاقة الكون، لا حجم لها، ومعدومة الزمان والمكان ("قَبْل" الانفجار الكوني العظيم) فما الذي أثارها وحرَّك فيها الرغبة في "الانفجار" و"التمدُّد"؟! ما الذي نقلها مِنْ تلك الحال إلى هذه الحال؟! كل هذه الأسئلة والتساؤلات لا إجابات عنها، ليس الآن فحسب، وإنَّما مستقبلا!

ولكنْ، كل هذا "المجهول"، الذي لن يتحوَّل إلى "معلوم"، لا الآن ولا مستقبلاً، لا ينال، في اعتقادهم، مِنْ قوَّة تلك "الحقائق المطلقة"، مثل حقيقة أنَّ كل ما في الكون مِنْ "مادة" كان كامنا، قَبْلَ خَلْق الزمان والمكان، في "نقطة" معدومة الحجم!

بقي أنْ نسألهم: هل مِنْ فَرْق جوهري قد بقيَ بين "قصة الخَلْق التوراتية" وقصة الخَلْق الجديدة التي جاءوا بها؟!

"تنقية" لا بدَّ منها

ينبغي لنا تنقية وتخليص هذه النظرية الكوزمولوجية مِنْ كثير مِنْ شوائب الميتافيزيقا Metaphysics فما دُمْنا في أرض الفيزياء، ولم نغادرها بَعْد إلى أرض الميتافيزيقا، لا يجوز لنا أنْ نحذو حذو هاوكنغ، فنقول بخَلْق العالم مِنْ "لا شيء". حتى "الذرَّة الأولى" التي انفجرت، فنشأ عن انفجارها الكون، لا يمكن أنْ ننظر إليها على أنَّها "العدم"، فالمادة يمكن أنْ يتضاءل حجمها أكثر مِمَّا يستطيع العقل تخيُّله، ولكنَّها لن تنعدم في أي حال.

إنَّ كل شيء له بداية وله نهاية. وكل شيء إنَّما هو عبور حتمي مِنْ لحظة نشوء إلى لحظة زوال، فالشيء الذي لم ينشأ ولن يزول، لا وجود له البتَّة. حتى كوننا كانت له لحظة نشوء، وسوف تكون له لحظة زوال.

ولكن "المادة" ليست بالشيء المحدَّد، العيني، حتى نقول بنشوئها وزوالها. إنَّها ليست "الذرَّة"، أو "البروتون"، أو "الإلكترون"، أو "الكوارك"، أو "الفوتون". إنَّها ليست "النجم"، أو "المجرَّة"، أو "الثقب الأسود"، أو "الكون". ومع ذلك، هي جوهر كل هذه الأشياء المحدَّدة، العينية. فعندما يتحوَّل الجليد إلى ماء، والماء إلى بخار، "يزول" الجليد، و"ينشأ" الماء، فـ "يزول" الماء و"ينشأ" البخار. وفي أثناء كل هذه العمليات مِنَ "النشوء" و"الزوال" تظل "المادة" موجودة، لا تنشأ ولا تزول، فما نراه مِنْ "نشوء" و"زوال"، مِنْ "خَلْق" و"فناء"، إنَّما هو "المادة" تتحوَّل مِنْ شكل إلى آخر. إنَّكَ تستطيع أنْ تُثْبِتَ أنَّ البخار نشأ مِنَ الماء، ولكنَّكَ لن تستطيع أبداً أنْ تُثْبِتَ أنَّ البخار نشأ مِنَ العدم، أو أنَّ الماء بزواله تحوَّل إلى "لا شيء".

لقد قالت نظرية "الانفجار العظيم" إنَّ مقدار المادة (الكتلة والطاقة) في الكون لا يزيد ولا ينقص. وهذا صحيح. ولكن، الخطأ كان بقولها إنَّ هذا المقدار "محدود"، و"يمكن حسبانه"، بل أنَّ مؤيِّديها حسبوه بالفعل.

إنَّ مقدار المادة في الكون هو مقدار "مطلق"، "غير محدود"، ولا يمكن، بالتالي، حسبانه. ودرءاً لأي سوء فَهْم، نقول إنَّنا نعني، هنا، بـ "الكون" كل العالم المادي، فإذا كان كوننا جزءاً فحسب مِنَ العالم المادي فإنَّه يجوز، عندئذٍ، حساب مقدار المادة (الكتلة والطاقة) الذي يشتمل عليه.

وهُمْ إذ وقعوا في هذا الخطأ، بسبب مَيْل فلسفي معيَّن، تشوَّش تصوُّرهم للفضاء، أو المكان، فمادة الكون (أي كل العالم المادي بحسب وجهة نظرهم) التي تركَّزت في حيِّز متناهٍ في الصِغَر كاد ينعدم الفضاء، أو الفراغ، في داخله، انفجرت وتناثرت "شظاياها" في فضاء لم يقولوا لنا أي شيء عن سعته أو عن خواصِّه. فتمدُّد الكون لا معنى له إلا إذا سلَّمنا بوجود فضاء يتمدَّد فيه الكون، ولو ثَبُتَ وتأكَّدَ أنَّ تمدُّد الكون، أي هذا التباعد المستمر والمتزايد السرعة بين "مجموعات المجرَّات، هو في الأصل تمدُّد ما يسمُّونه "الغشاء الفضائي". وهذا الفضاء لا معنى له، بل لا وجود له، بحسب نظرية النسبية لآينشتاين، إذا كان خالياً مِنَ المادة.. مِنَ الكتلة والطاقة. فهل هذا الفضاء مفتوح أم مغلق؟ كان هذا هو السؤال الأجدر بالإجابة.

إذا كان مفتوحاً، لا نهاية له، فكيف يجوز الاعتقاد بأنَّ الكون الذي نعيش فيه الآن هو الكون الوحيد، وبأنَّ كل المادة محصورة فيه؟ وإذا كان مغلقاً، له نهاية، فماذا يُوْجَد بَعْدَ نهايته؟ إنَّ معلوماتنا عن المجرَّات والنجوم نحصل عليها بفضل الضوء المنبعث منها والذي وصل إلينا. فكيف يمكننا أنْ نبني تصوُّراً عن الكون، أي عن كوننا، وتسعة أعشاره لم يُعْثَر عليها بَعْد؟!

ويعتقد علماء الكوزمولوجيا أنَّ "غير المرئي" مِنْ كتلة كوننا يصل إلى 95 في المئة، فهذه المادة المستترة في المجرَّات ذاتها يمكن أنْ نرى أثرها وتأثيرها، ولكن لا يمكن أنْ نراها هي.

لقد قالت لنا نظرية "الانفجار العظيم" إنَّ كل مادة الكون كانت، قَبْلَ ستة عشر مليار سنة، مركَّزة في حيِّز أصغر مِنْ نواة الذرَّة بمليارات المرَّات، ولكنَّها لم تعلِّل لنا ذلك، فالرغبة الفلسفية، على ما يبدو، في إلباس مفهوم "العدم" اللبوس الفيزيائي هي التي كانت تكمن في أساس هذا القول. ونجد أنَّ وينبرغ يتحدَّث أكثر مِنْ مرَّة في كتابه عن خَلْق المادة، أو الجسيمات المادية، مِنَ "الطاقة الخالصة". وهو يكاد يجعل مفهوم "الطاقة الخالصة" ومفهوم "العدم" واحداً، علماً أنَّ هذه "الطاقة الخالصة" ليست سوى جسيمات "الفوتون" التي أثبت آينشتاين أنَّها تتأثَّر، أثناء انتقالها عَبْرَ الفضاء، بجاذبية النجوم التي تمرُّ بالقرب منها. فماذا بقي مِنْ نظرية "الانفجار العظيم"؟ بقيت نواتها العقلانية، وهي "الانفجار" الذي يمكن النظر إليه على أنَّه قوَّة خَلْق للنُظُم الكونية، التي تجتاز أطواراً مِنَ التمدُّد والانكماش.

إنَّ الفيزياء غير اللاهوت، وإنَّ اللاهوت غير الفيزياء. ومِنْ مصلحة الفيزياء أنْ تبقى بمنأى عن تأثيرات اللاهوت، كما أنَّ مِنْ مصلحة اللاهوت أنْ يبقى بمنأى عن تأثيرات الفيزياء، فلِمَ لا نعطي ما للفيزياء للفيزياء، وما للاهوت للاهوت؟!

"مُغْلَق" أم "مفتوح"؟

هل الكون مفتوح أم مغلق؟ ينتمي هذا السؤال إلى عائلة الأسئلة الكوزمولوجية الكبرى التي لم تَجِدْ، حتى الآن، الأجوبة الحاسمة القاطعة، ويمكن أنْ تظل ردحا مِنَ الدهر تؤرِّق العقل الإنساني، الذي طالما أرَّقته أسئلة فلسفية مشابهة، وسعت الأديان في تهدئته وإراحته بالأجوبة التي جاءت بها.

السؤال ما كان ممكناً أنْ يقتحم "العقل الكوزمولوجي" لولا تلك الملاحظات الفيزيائية التي جعلت علماء الفلك والكوزمولوجيا يُجْمِعون على فكرة أنَّ الكون في حالة تمدُّد مُذْ حدث "الانفجار العظيم".

ومِنْ رحم تلك الملاحظات، وهذا الإجماع، وُلِدَ السؤال الآتي: هل يستمر الكون في التمدُّد إلى ما لا نهاية (فرضية "الكون المفتوح") أم يبلغ في تمدُّده حدَّاً أقصى، ثم يشرع يتقلَّص وينكمش، فتتركَّز كل مادته في حيِّز متناهٍ في الصِغَر يَصْغُر الحيِّز الذي تشغله نواة الذرَّة (فرضية "الكون المغلق")؟

السؤال ظلَّ بلا جواب حاسم وقاطع؛ لأنَّ العامل الذي يحسم الإجابة، وهو "مقدار المادة" في الكون، أي في كوننا، لم يتحوَّل بَعْد مِنَ "المجهول" إلى "المعلوم". المتَّخِذون هذا العامل طريقاً إلى الإجابة يؤكِّدون أنَّ الكون يجب أنْ يكون مفتوحاً إذا ما قلَّ مقدار كتلته عن مقدار معيَّن، ويجب أنْ يكون مغلقاً إذا ما زاد؛ ذلك لأنَّ هذه الزيادة تُمكِّن قوَّة الجاذبية الكونية مِنَ التغلُّب، في آخر المطاف، على القوَّة التي تدفع الكون إلى مزيدٍ مِنَ التمدُّد والاتِّساع.

وتشترك كلتا الفرضيتان في أنَّ القائلين بهما يقولون، في الوقت نفسه، بـ "وحدانية الكون"، أي نفي وإنكار وجود كون آخر أو أكوان أخرى.

كم يبلغ مقدار "المادة" في هذا الكون الواحد؟ عن هذا السؤال السخيف يجيبونكَ قائلين: "في دقَّة، نستطيع حساب مقدار المادة في الكون المرئي. ثمَّة "ذرَّة واحدة" في "كل عشرة أمتار مكعبة مِنَ الفضاء"!

سنة 1970، كتب جيرالد دي فوكالور مقالاً علمياً، أوضح فيه أنَّ أي جسم في الكون لا بدَّ لكثافته مِنْ أنْ تقل عندما يكبر حجمه، متسائلاً في استغراب: كيف نبحث عن "معدَّل الكثافة الكونية" في كون متمدِّد؟!

الكوزمولوجيون يبحثون عن الكثافة المتوسِّطة للكون حتى يتمكَّنوا مِنْ معرفة ما إذا كانت جاذبيته كافية لوقف "تمدُّد هابل"، فهذه الكثافة (لا الكتلة الكونية الثابتة المقدار) هي العامل المحدِّد لمصير الكون (تمدُّد إلى الأبد، توقُّف التمدُّد عند حدٍّ معيَّن إلى الأبد، انكماش وتقلُّص).

تمدُّد الكون

مِنْ ظاهرة "التباعد المجري"، أي تباعُد مجرَّات الكون، وُلِدَ استنتاج أنَّ الكون يتمدَّد، وفي تمدُّد مستمر، مع أنَّ الظواهر الفيزيائية التي وَلَّدت لدينا الاعتقاد بهذه الظاهرة ما زالت تحتاج إلى مزيدٍ مِنَ الجلاء في التفسير والتعليل.

ومُذْ أكَّد آينشتاين في نظرية "النسبية الخاصة" أنْ لا شيء (لا جسم ولا جسيم) في الكون أو الطبيعة يمكن أنْ يتحرَّك في سرعة أعلى مِنْ سرعة الضوء (جسيم "الفوتون") والفيزيائيون جميعاً، تقريباً، يؤمنون بأنَّ سرعة الضوء هي السرعة القصوى في الكون، وبأنْ لا جسيم، مهما صغر، يمكن أنْ يتجاوز في حركته هذه السرعة. ومع ذلك، فالكون، وفق رأي طائفة واسعة مِنَ الكوزمولوجيين، يتمدَّد في سرعة أعلى مِنْ سرعة الضوء.

هذا لا يعني أنَّ ثمَّة أجساماً فضائية أو مجرَّات، مهما كانت بعيدة عنَّا في المكان والزمان، تتحرَّك في سرعة أعلى مِنْ سرعة الضوء.

إنَّ مجرَّات الكون في حالة تباعد تشبه "حالة التنافر"، أي أنَّ كل مجرَّة تبتعد وتتحرَّك مرتدَّة عن الأخرى، فإذا قِسْنا هذا التباعد نَجِد أنَّ المسافة الفاصلة بين مجرَّتين تتباعدان، تزداد بنحو 300 ألف كم في أقل مِنْ ثانية، مع أنَّ كلتا المجرَّتين لا تستطيع أنْ تقطع هذه المسافة (300 ألف كم) في أقل مِنْ ثانية واحدة.

بحسب نظرية "الانفجار العظيم"، يمكننا أنْ نرى، عبر "آلة الزمان" وهي التلسكوب، الكون في كل المراحل التي اجتازها في تطوره، باستثناء المرحلة الأولى، التي كان فيها الفضاء "غير شفَّاف"، فيَمْنَع الضوء، بالتالي، مِنَ الانتقال الحر. في تلك المرحلة كان فضاء "الكون الصغير الحجم" مفعماً بجسيمات (إلكترونات) تعترض سبيل الشعاع الضوئي وتمتصَّه.

ومع اتِّساع حجم الكون (أي بعد 300 ألف سنة مِنَ "الانفجار العظيم") وازدياد برودته، وتكتُّل وتكثُّف جسيماته، بالتالي، زادت "شفافية" الفضاء، فصار ممكنا انتقال "الفوتونات (جسيمات الضوء)" في حرِّية، ورؤية الأجسام الفضائية عَبْرَ التلسكوبات في ماضيها السحيق.

نحن، الآن، وبفضل التلسكوب "هابل"، نستطيع رؤية "مجموعة مجرية" Cluster تبعد عنَّا 15 مليار سنة ضوئية، أي عندما كان الكون في مرحلة الطفولة. ولكن أجزاء الكون، في تلك المرحلة، كانت، بحسب نظرية "الانفجار العظيم"، قريبة من بعضها بعضاً. معنى ذلك، أنَّنا يجب أنْ نرى تلك "المجموعة المجرية" ضمن طائفة واسعة مِنَ "المجموعات المجرية" القريبة جدَّاً مِنْ بعضها بعضاً، فهل نراها، حقَّاً، ضمن مثل هذا "التجمُّع الكوني" حتى نتمكَّن مِنَ الاقتناع بركن مِنْ أهم أركان تلك النظرية الكوزمولوجية؟!

لو أنَّ "مراقبا" في كوكب في "مجموعة مجرية" تبعد عن "مجموعتنا المجرية" 15 مليار سنة ضوئية، نَظَرَ، عَبْرَ تلسكوب قوي، إلى "مجموعتنا المجرية" فهل سيرى مسافات فضائية هائلة تفصلها عن "المجموعات المجرية" الأخرى؟!

إنَّ "المجموعة المجرية" التي لا نستطيع رؤيتها، الآن، إلا عبر تلسكوب قوي مثل تلسكوب "هابل" كنَّا سنراها قَبْلَ 15 مليار سنة (لو كنَّا موجودين) بالعين المجرَّدة.

هل نستطيع رؤية "كل" الكون؟ كلاَّ لا نستطيع، فنحن لا نقدر أنْ نرى أكثر مِنْ جزء صغير مِنَ الكون، فانحناء أو تقوُّس الفضاء لا يسمح لنا بغير ذلك. وهذا العجز إنَّما يماثل عجز إنسان ما عن رؤية "كل" سطح الكرة الأرضية مِنْ مكان معيَّن مِنْ هذا السطح.

ولكن "الجواب" لا ينتهي عند هذا الحد، فإذا نحن اعتقدنا بوجود كون آخر، أو أكوان أخرى، فإنَّ شخصاً ما في كون آخر يستطيع أنْ يرى كل كوننا. أمَّا إذا اعتقدنا بـ "وحدانية كوننا" فإنَّ عجزنا المؤكَّد عن رؤيته كله لا يعني أنَّنا لن نرى، دائماً، إلا الجزء الذي نراه الآن، فمثال "سطح الكرة الأرضية" لا يصلح هنا. لماذا؟ لأنَّ الضوء المنبعث مِنْ كل جسم فضائي على "سطح البالون الكوني" لا بدَّ له مِنْ أنْ يصل، أخيراً، إلى عيوننا؛ لأنَّ هذا الضوء لا بدَّ له مِنْ أنْ يسير في "خط دائري". في حالة واحدة فحسب، لن يصل هذا الضوء إلينا، هي أنْ يَتَّسِع الكون بسرعة تفوق سرعة الضوء.

قانون هابل

إنَّنا ندرك وجود النجوم والمجرَّات مِنْ خلال الضوء المنبعث منها. ويتألَّف الطيف الضوئي Spectrum مِنْ ألوان عدَّة، فماذا يعني، كوزمولوجياً، أنْ يكون أحدها، وهو اللون الأحمر، عظيم المقدار؟ يعني أنَّ الجسم الفضائي، المنبعث منه هذا الضوء، يتحرَّك بعيدا عن الأرض، بسبب تمدُّد الكون. وتسمَّى هذه الظاهرة الفيزيائية "ظاهرة دوبلر" Doppler Effect.

ومِنْ هذا التبدُّل في مقدار اللون الأحمر Red Shift في الطيف الضوئي يقدِّر علماء الفلك "سرعة ارتداد" هذا الجسم (نجم أو مجرَّة). وبحسب "قانون هابل" Hubble s law تكون "سرعة الارتداد"، الناشئ عن تمدُّد الكون، متناسبة مع بُعْدِ الجسم الفضائي المرتد، فكلَّما زاد بُعْده (عن الأرض) زادت سرعة ارتداده أو ابتعاده عنها، فظهر لنا ذلك مِنْ خلال زيادة مقدار اللون الأحمر في الطيف الضوئي لهذا الجسم.

زيادة هذا المقدار إنَّما تؤكِّد أنَّ الجسم الفضائي يبتعد أو يرتد عن الأرض في سرعة عالية، ولكنَّها، في ذاتها، لا توضح كم يبعد عنَّا هذا الجسم، فحساب بُعْده يتمُّ بطرائق أخرى. وعندما يقدِّر علماء الفلك، بهذه الطرائق، بُعْد الأجسام الفضائية عنَّا يقارنون بين هذا البُعْد ومقدار اللون الأحمر في أطيافها الضوئية. وقد توصَّلوا بفضل هذه المقارنة إلى أنّ الأبعد منها هو الأسرع في الابتعاد عنَّا.

غير أنَّ وجود مقدار مِنَ اللون الأحمر في الطيف الضوئي للجسم الفضائي لا يعني، دائماً، أنَّ هذا الجسم يتحرَّك بعيداً عن الأرض، فمقدار مِنْ هذا اللون نراه في الطيف الضوئي للشمس، التي، مع ذلك، لا تتحرَّك بعيدا عنَّا.

إنَّ كل جسم فضائي يتحرَّك بعيداً عن الأرض لا بدَّ لطيفه الضوئي مِنْ أنْ يشتمل على مقدار مِنَ اللون الأحمر، ولا بدَّ لهذا المقدار مِنْ أنْ يزيد إذا ما زادت سرعة ارتداده عنَّا، ولكن ليس كل جسم فضائي يشتمل طيفه الضوئي على مقدار مِنَ اللون الأحمر يجب أنْ يكون في مثل هذه الحركة الارتدادية.

ثمَّ أنَّ وجود مقدار مِنَ اللون الأحمر في طيف ضوئي قد يكون ناتجاً مِمَّا يسمَّى "تأثير كومبتون" Compton Effect فزيادة هذا المقدار قد تكون متأتية مِنْ اصطدام شعاع الضوء بإلكترونات وبروتونات حرَّة تنتشر وتتحرَّك في مناطق عديدة في الفضاء.

"الضوء الأبيض" White Light إنَّما هو "شيء مُرَكَّب" Composite. وعندما ينحل هذا "المُرَكَّب"، أي "الضوء الأبيض"، نرى الألوان الآتية: البنفسجي، والأزرق، والأخضر، والأصفر، والبرتقالي، والأحمر.

معنى ذلك أنَّ الضوء المنبعث مِنْ كل جسم فضائي، أكان قريباً مِنَ الأرض أم بعيداً عنها، لا بدَّ له مِنْ أنْ يشتمل، دائماً، على اللونين "الأزرق" و"الأحمر". وبناءً على ذلك، يمكن القول إنَّ الجسم الفضائي الذي يقترب مِنَ الأرض بسرعة متزايدة يجب أنْ يزيد مقدار اللون الأزرق في "ضوئه المنحل"، وإنَّ الجسم الفضائي الذي يبتعد عن الأرض بسرعة متزايدة يجب أنْ يزيد مقدار اللون الأحمر في "ضوئه المنحل".

المُثْبَت والمؤكَّد في نظرية "الانفجار الكوني الكبير" Big Bang هو "بعض مصادرها الفيزيائية"، التي أهمها تلك الظاهرة التي ندعوها ظاهرة "تمدُّد هابل". وقد تكون نظرية "الانفجار العظيم" هي "التفسير" المجافي للحقيقة لهذه الظاهرة الفيزيائية، التي نحتاج، على الرغم مَِّا أحدثته، وتحدثه، "النظرية" مِنْ جلبة وضجيج، إلى تفسير "جديد جيد" لهذه الظاهرة.. تفسير ربَّما لا يحتاج إلى نظرية "الانفجار العظيم".

إدوين هابل يؤكِّد أنَّ السرعة التي تتحرَّك فيها المجرَّات بعيداً عنَّا تتناسب مع بُعْدها عن الأرض، فالمجرَّة الأبعد هي الأسرع في حركتها الارتدادية. ولقياس ذلك نحتاج إلى معرفة شيئين: سرعة المجرَّة، ومدى بُعْدها.

السرعة يمكننا حسابها بواسطة "التبدُّل الأحمر"، ولكن ليس لدينا بَعْد أدوات ووسائل نستطيع بها تقدير المسافات الفضائية الهائلة.

مقدار اللون الأحمر (الانزياح تجاه اللون الأحمر) في الطيف الضوئي للجسم الفضائي يزداد إذا كان يزداد ابتعاداً عن الأرض. أمَّا إذا كان يزداد اقتراباً فإنَّ مقدار اللون البنفسجي (أو الأزرق) هو الذي يزداد.

ضوء أي جسم يتحرَّك إنَّما هو ما يسمَّى "تغيير دوبلر". فإذا كان يتحرَّك بعيداً عنكَ فإنَّ "الأحمر" (التردد الأدنى) في ضوئه يزداد. أمَّا إذا كان يتحرَّك مقتربا منكَ فإنَّ "الأزرق" (التردد الأعلى) هو الذي يزداد. وكلَّما تحرَّك الجسم بعيداً عنكَ في سرعة أكبر فأكبر ازداد مقدار اللون الأحمر في طيفه الضوئي.

دوبلر اكتشف ذلك مِنْ دون أنْ يتوصَّل إلى استنتاج أنَّ الكون في حالة تمدُّد، فجاء هابل بهذا الاستنتاج مِنْ "تغيير دوبلر".

في الفضاء، وفي وجه عام، "الأبْعَد" مِنَ الأجسام (عن الأرض) هو "الأسرع" في حركته الارتدادية عنَّا.. هو "الأقدم" وجوداً، وهو الذي يكون مقدار "الأحمر" في طيفه الضوئي هائلاً، فالجسم الفضائي الذي يزيد مقدار اللون الأحمر في طيفه الضوئي زيادة هائلة، هو "الأبْعَد"، "الأسرع" و"الأقدم"!

كيف يمكن تفسير ظاهرة أنَّ "الأبْعَد" في الأجسام الفضائية يتحرَّك "أسرع" بعيداً عن الأرض؟ هابل فكَّر مليِّا في الطريقة التي تسمح له بأنْ يجيب إجابة صحيحة عن هذا السؤال.

لا بدَّ، وفق ما تصوَّر، مِنْ أنْ يكون قد وقع انفجار كبير، جعل المجرَّات تتطاير بعيداً عن بعضها بعضا كما تتطاير شظايا قنبلة يدوية انفجرت.

ظاهرة أنَّ كل مجرَّة ترتد بعيداً عن الأخرى إنَّما تشبه انفجار قنبلة يدوية، فالقطع (الشظايا) الأسرع في تطايرها لا بدَّ مِنْ أنْ تكون هي "الأبْعَد". هذا، في بساطة، ما اكتشفه هابل.

وقد أتاح لنا "قانون هابل" ، مثلاً، معرفة أنَّ ثمَّة "كويزارات" Quasar تبتعد عن الأرض بسرعة أكبر مِنْ 93 في المئة مِنْ سرعة الضوء، وأنَّها لا بدَّ، بالتالي، مِنْ أنْ تبعد عن كوكبنا نحو 10 مليارات سنة ضوئية، فالأسرع (مِنَ الأجسام الفضائية) في ابتعاده أو ارتداده عنَّا هو الأبْعَد عنَّا، والأبْعَد عنَّا هو الأسرع في ابتعاده.

تمدُّد الكون (تباعد مجرَّاته، تمدُّد واتِّساع الفضاء بين مجموعاته المجرية) إنَّما هو تعبير عن وجود، وعن عمل وتأثير، "قوَّة" مضادة لتركُّز "الكتلة" و"الطاقة" في الكون، فهذا التمدُّد الكوني المستمر يُمْعِن في تشتيت وبعثرة "الكتلة" و"الطاقة"، وفي زيادة برودة الفضاء الكوني الفسيح.

ولكن هذا أحد جانبيِّ الصورة الكونية، فَمَعْ هذا التمدُّد واشتداد البرودة الفضائية تتولَّى "الجاذبية الكونية"، الضعيفة القدرة، حتى الآن، على قهر قوى التمدُّد الكوني، تركيز وتكثيف "الكتلة" و"الطاقة" ورفع درجة حرارة أجزاء صغيرة مِنَ هذا الكون الذي يزداد اتساعا، فبفضل عملها وتأثيرها تتجمَّع وتتركَّز وتتكثَّف سُحُب الغاز، فتشتعل بواطنها الخاضعة لضغوط "الثقل" الهائلة. وهكذا تتكوَّن "الأفران النووية" في بواطن هذه السُحُب، ويشرع الهيدروجين يحترق، ونواه تندمج، فتتولَّد وتنمو في داخل النجم "القوَّة الحرارية"، التي تقاوم ضغوط جاذبيته الداخلية.

ونحن لن نفهم هذين الجانبين المتناقضين مِنَ الصورة الكونية إلا إذا نظرنا إليهما على أنَّهما جانبان مترابطان (على تعارضهما وتناقضهما) ترابطاً عضوياً، فوجود كليهما يستلزم وجود الآخر.

"الجاذبية الكونية" و"التمدُّد الكوني" في نزاع دائم، فإذا كان هذا "التمدُّد" قوَّة تُمْعِن في فصل المجرَّات عن بعضها بعضا فإنَّ تلك "الجاذبية" تعمل في طريقة معاكسة ومضادة، أي أنَّها تحاول، في استمرار، شدَّ المجرَّات إلى بعضها بعض.

كيف نفهم تمدُّد الكون؟

أنصار نظرية "الانفجار العظيم" يُفَضِّلون تشبيه "تمدُّد الكون" بـ "بالون ضخم ينتفخ قُمْنا بتنقيط سطحه (الوجه الخارجي مِنَ غشاء البالون) قبل نفخه". "المجرَّات" التي يزداد تباعدها في هذا الكون المتمدِّد في استمرار، هي، وفق هذا التشبيه، تلك "النُقَط"، التي كلَّما نفخنا البالون أكثر ازدادت تباعداً.

"الكون" ليس كل هذا البالون، وإنَّما سطحه فحسب؛ ذلك لأنَّ "المجرَّات"، كما نرى، لا تقع في "داخل" البالون (بين "مركز" البالون والوجه الداخلي مِنْ غشائه). إنَّها تقع على السطح، فحسب، مِنَ البالون.

ولكن، ماذا يُوْجَد في "داخل" هذا البالون الكوني إذا كانت كل مجرَّات الكون، كل أجسامه، تُوْجَد على "السطح"، فحسب، مِنَ "البالون"؟ سؤالٌ آخر يثيره هذا"التشبيه" أو هذا الـ "Analogy" عندما ننظر إلى جسم بعيد (مجرَّة مثلاً). وهذا السؤال هو: هل أنَّنا ننظر إلى هذا الجسم الكوني عَبْرَ الداخل (الباطن، الجوف) مِنَ البالون، فنرى "الجسم البعيد" في الجهة المقابلة مِنَ سطح البالون؟ أنصار نظرية "الانفجار العظيم" يجيبون قائلين: "إنَّ الفراغ أو الفضاء الذي بين مركز البالون (الكوني) وسطحه ليس جزءاً مِنَ الكون (الذي فيه نعيش) لأنَّه لا يقع على السطح مِنَ البالون، فأنتَ عندما تنظر إلى جسم كوني بعيد فإنَّما تنظر إليه عَبْرَ السطح مِنَ البالون وليس عَبْرَ الباطن منه". إنَّ الكون كلَّه، بفضائه ومجرَّاته، وفق رأي هؤلاء، ليس سوى سطح البالون.

الكوزمولوجيون مِنْ أنصار نظرية "الانفجار العظيم" يصرِّون على أنَّ الطريقة الفضلى التي بها نستطيع تصوُّر تمدُّد الكون هي "السطح المُنَقَّط لبالون قَيْد الانتفاخ"، فـ "النُقَط"، التي هي مجرَّات الكون، تبتعد كل منها عن الأخرى؛ لأنَّ "مادة المطَّاط" التي هي الفضاء (أو المسافة الفاصلة بين نقطتين) تتمدَّد، فالفضاء هو الذي يتمدَّد، أمَّا المجرَّات ذاتها فلا تتمدَّد؛ لأنَّ حجم كل مجرَّة يتحدَّد بقوَّة جاذبيتها، التي لا تسمح لها بالتمدُّد.

وفي هذا المثال جوانب أخرى ينبغي لكَ نبذها حتى تتمكَّن مِنْ تصوُّر "التمدُّد الكوني"، فإذا كان للبالون المنتفِخ "مركز"، فليس للكون مثل هذا المركز، وإذا كان البالون يتمدَّد في داخل فضاء، أو ضمن فضاء، فليس للكون فضاء مماثل يتمدَّد الكون فيه، فالفضاء الكوني (المتمدِّد) إنَّما هو "سطح البالون" الذي ينتفخ.

هذا الجانب مِنَ "المثال" قد يعيننا على تصوُّر أو تخيُّل "التمدُّد الكوني" في المعنى الذي يقصدون أو يريدون. ولكن هذا الجانب مِنَ "المثال" إنَّما هو "جزء مِنْ كل"، ولن نستطيع فهم، ولا حتى تخيُّل، هذا الجزء إذا ما انتزعناه مِنَ الكل!

لقد اتَّخذوا هذا الجانب مِنْ "مثال البالون المنتفخ" طريقة في فَهْم تمدُّد الكون (أو الفضاء) ولكن لِمَ نقَّطوا الوجه الخارجي مِنْ غشاء البالون ولم ينقِّطوا وجهه الداخلي؟!

الكون يتمدَّد، في استمرار، أي أنَّ مجرَّاته تتباعد، ويهرب بعضها مِنْ بعض، كأنَّها "تتنافر" تنافر شحنتين كهربائيتين متماثلتين. ولكن تشبيه تمدُّد الكون بانتفاخ البالون يثير مشكلة كوزمولوجية كبرى، فإذا كان الكون، في خاصيتي "المحدود finite" و"غير المحدود Infinite"، يُشْبِه "الكرة" أو "سطح الكرة"، فكيف نُشبِّه تمدُّده بانتفاخ البالون؟ البالون ننفخه، فيزداد حجمه؛ لأنَّ ثمَّة فراغاً أو فضاءً (خارجياً) يمكنه التمدُّد فيه، فالفراغ لا يُوْجَد في داخل البالون فحسب، وإنَّما في خارجه، ولولا هذا الفراغ أو الفضاء المحيط بالبالون لما أمكن انتفاخه وتمدُّده.

هذا التصوُّر للعلاقة بين "تمدُّد البالون" و"الفضاء الذي يتمدَّد فيه البالون" إنَّما يؤكِّد أنَّ "البالون الكوني" لا يمكنه أنْ يتمدَّد إلا إذا كان "منطوياً" على فضاء (فراغ) و"محاطاً"، أيضاً، بفضاء. القائلون بنظرية "الانفجار العظيم" يؤكِّدون أنَّ القول بـ "كون محدود" قيد التمدُّد لا يتعارض والقول بأنَّ هذا الكون هو، في الوقت نفسه، "غير محدود".

يشرحون ذلك قائلين إنَّ "الكون غير المحدود" هو الكون الذي يجب أنْ يكون موجوداً "في كل مكان". وبما أنَّ الكون موجود في كل مكان، ويجب أنْ يكون موجوداً في كل مكان، فلا يجوز القول بـ "فضاء محيط بالكون ويتمدَّد فيه الكون"، فمثل هذا الفضاء أو الفراغ الذي يتمدَّد فيه الكون إنَّما هو "مكان" يجب أنْ يكون مستقلاً ومنفصلاً عن الكون؛ لأنَّه ليس جزءاً مِنَ "سطح البالون الكوني"، فهذا "السطح" وحده إنَّما هو "كل الكون".

وفق هذا التصوُّر الكوزمولوجي السائد، لن نتمكَّن مِنْ فهم "المكان" أو "الفضاء" إذا ما تصوَّرْنا الكون على أنَّه "كرة ضخمة"، تكبر وتتمدَّد في فضاء يحيط بها. وفقه، ينبغي لنا أنْ ننظر إلى "الفضاء" على أنَّه مخلوق مِنْ مخلوقات "الانفجار العظيم"، الذي قَبْلَ أنْ يَحْدُثَ لم يكن للفضاء مِنْ وجود. هذا "المخلوق" (الفضاء) هو الذي يتمدَّد، فتنشأ عن تمدُّده ظاهرة "تباعد الكيانات الفضائية الضخمة" مثل المجرَّات والمجموعات المجرية.

إنَّهم يرون في "الكرة" أو في "كروية الأرض" حلاًّ منطقياً ومرضياً لهذه المشكلة الكوزمولوجية الكبرى، فإذا ما نظرنا إلى الكون على أنَّه كيان يشبه "الكرة الأرضية" فلسوف نتوصَّل إلى استنتاج أنَّ الكون "محدود" Finite و"غير محدود" Infinite في الوقت نفسه.

لو سألْنا "أين يقع مركز الأرض؟"، لكان الجواب: "مركز" الأرض يقع في داخل الكرة الأرضية (في جوفها وباطنها) ولا يمكن أنْ يقع على سطحها. أمَّا لو سألْنا "أين يقع مركز الكون؟"، فإنَّ الجواب سيكون: "ليس للكون مركز مشابه لمركز الكرة الأرضية"، فالكون كله (كل مجرَّاته وأجسامه مع كل فضائه) إنَّما يقع على سطح البالون الكوني".

الكون، وفق هذا التصوُّر، ليس له مِنْ "داخل"، أو "خارج"، أو "حافة". فإذا نحن "أبحرنا" في سفينة فضائية (أو نجمية) في "خط مستقيم"، فلسوف نعود، في نهاية الرحلة، إلى "نقطة الانطلاق". إنَّ ضوءاً ما يجتاز الفضاء، يسافر بين المجرَّات سائراً في "خط مستقيم" ، لا بدَّ له مِنْ أنْ يعود، في نهاية رحلته الكونية، إلى "الجسم" الذي منه انطلق. لا بدَّ له مِنْ ذلك نظرياً على الأقل.

ظاهرة "تمدُّد الكون" إنَّما نستدِلُّ عليها مِنْ خلال "تباعد مجرَّاته". ولكن هذا "التباعد" يجب فهمه، كما يقولون، على أنَّه نتيجة لتمدُّد "المكان (الفضاء)" و"الزمان" ذاتهما، فلا وجود لإطار أو نطاق مكاني أو زماني "مطلق"، تتباعد فيه المجرَّات ويتمدَّد الكون، فالنقاط على سطح البالون الذي نقوم بنفخه تتباعد بسبب تمدُّد مادته المطاطية (الفضاء).

في الشرح "المُبَسَّط" لـ "قانون هابل" Hubble s Law يُقال إنَّ الفضاء بين المجرَّات يتَّسع ويزداد اتَّساعاً، وإنَّ المجرَّة الأبعد عنَّا هي الأسرع في ابتعادها عنَّا (أي عن الأرض ومجرَّتنا درب التبَّانة).

على أنَّ هذا التباعد أو الارتداد العام لا ينفي "الحركة العشوائية" التي تفضي إلى "تصادم مجرَّات"، فمجرَّتنا، على سبيل المثال، ربما تلتهمها، مستقبلاً، مجرَّة آندروميدا Andromeda Galaxy.

ونحن إذا أردْنا إظهار مزيدٍ مِنْ "الدقَّة" في فَهْم "قانون هابل" Hubble s Law لا بدَّ لنا مِنَ القول إنَّ مجموعات (تجمُّعات، عناقيد) المجرَّات Galaxy clusters هي التي تتأثَّر فيه، فالأجسام الكونية التي في تباعد مستمر ليست المجرَّات ولا النجوم وإنَّما مجموعات المجرَّات.

إنَّهم يَعْنون بتمدُّد الكون تمدُّد واتِّساع "الفضاء" لا تمدُّد (اتِّساع حجم) كل مجرَّة مِنْ مجرَّاته؛ ذلك لأنَّ جاذبية المجرَّة تمنع كتلتها المادية (النجوم وسحب الغاز..) مِنَ الابتعاد عن بعضها بعضا، فالمسافات الفضائية الفاصلة بين المجرَّات (بين المجموعات المجرية Galaxy Clusters على وجه الدقَّة) هي، فحسب، التي تزداد وتتسع نتيجة لتمدُّد واتِّساع هذا "الغشاء" المسمَّى "الفضاء".

المجرَّات لا تتحرَّك بعيداً (عن الأرض وعن بعضها بعضا) "عَبْرَ" الفضاء، وإنَّما تتحرَّك "مع" الفضاء، فنُقَط سطح البالون، الذي هو قيْد النفخ، ليست هي التي تتحرَّك، بعيداً عن بعضها بعضاً، عَبْرَ سطح البالون، وإنَّما غشاء البالون هو الذي يتحرَّك (يتمدَّد) فتتحرَّك معه.

إذا كان "التمدُّد الكوني"، أو "تمدُّد الفضاء"، يعني تباعُد المجرَّات، فكيف يتَّفق ذلك مع حقيقة أنَّ المجرَّات تعيش ضمن مجموعات وتجمُّعات وعناقيد Galaxy clusters؟!

ألا تُوْجَد جاذبية لـ "المجموعة المجرية" تمنع المجرَّات مِنْ أنْ تبتعد عن بعضها بعضا، مثلما تمنع جاذبية المجرَّة النجوم التي تتألَّف منها مِنَ التباعُد؟!

إنَّ المجرَّات المجاورة لنا (لمجرَّتنا "درب التبَّانة") تزداد تقارباً بتأثير جاذبية المجموعة المجرية، فمجرَّة "آندروميدا"، التي تبعد عنَّا مليوني سنة ضوئية، ومجرَّتنا (درب التبَّانة) تزدادان تقارباً.

ونسأل أيضاً: ألا تُوْجَد تجمُّعات كونية أكبر وأوسع يضم كل منها عدداً مِنَ المجموعات المجرية، ولديه مِنَ الجاذبية ما يمنع هذه المجموعات مِنْ أنْ تبتعد عن بعضها بعضا؟!

إنَّ هناك تجمُّعات للتجمُّعات المجرية تعرف باسم "التجمعات العظمى للمجرَّات"
‏GalacticSuperclusters.‏ والتجمُّع الأعظم الذي تنتمي إليه مجرَّتنا يضم أكثر مِنْ 100 تجمُّع مجري على هيئة قرص مفلطح يبلغ قطره 100 مليون مِنَ السنين الضوئية‏,‏ وسمكه عشرة ملايين مِنَ السنين الضوئية. ويرى بعض الفلكيين وجود تجمُّعات أعظم مِنَ "التجمُّعات العظمى للمجرَّات".

بحسب رأيهم، يتمدَّد الفضاء بتأثير قوَّة غير واضحة الماهية والمعالم. أمَّا الجاذبية الكونية فتقاوِم تأثير هذه القوَّة بأنْ تمنع كل "مجرَّة" مِنَ التمدُّد، محافِظةً، بالتالي، على طول المسافات الفضائية الفاصلة بين النجوم في داخل المجرَّة الواحدة.

إنَّ القول بتمدُّد الفضاء لا يكون منطقياً إلا إذا شمل هذا التمدُّد (بدرجات ومقادير متفاوتة) كل ناحية مِنْ نواحيه.. حتى الفضاء في داخل الذرَّة الواحدة.

كل فضاء (كل جزء مِنَ الفضاء) يجب أنْ يشمله التمدُّد (المختلف درجةً ومقداراً) فلا يُستثنى منه حتى الفضاء بين النجوم في داخل المجرَّة الواحدة.

إذا وافقنا على ذلك فلا يبقى مِنْ معنى للقول بأنَّ الفضاء، فحسب، هو الذي يتمدَّد. إنَّ الكون كله، بفضائه وبكل ما فيه مِنْ أجسام وجسيمات، هو الذي يتمدَّد.

هناك مِنَ الفيزيائيين والكوزمولوجيين مَنْ يعتقد بأنَّ تمدُّد الكون، والذي ما زال مستمراً، قد شرع يتباطأ، فما الدليل عندهم على أنَّ تمدُّد الكون آخِذٌ في التباطؤ؟ الدليل هو أنَّ الأجسام الكونية الأبْعَد (عن الأرض) هي الأسرع في ابتعادها عنَّا مِنْ تلك المجاورة لنا والقريبة منَّا. وهذه الأجسام الأبْعَد عنَّا، مسافةً، هي، في الوقت نفسه، الأقدم نشوءاً وتكوُّناً. وهكذا توصَّلوا إلى أنَّ تمدُّد الكون كان في الماضي أسرع مِمَّا هو الآن.

أين تكمن علَّة "التمدُّد الكوني"؟

إنَّها تكمن في "الكثافة العظمى" لِمَا يسمَّى "الذرَّة البدائية"، التي نشأ عنها الكون، فهذه هي التي تسبَّبت بتمدُّده السريع.

والكون، في طفولته، اجتاز مرحلة قصيرة مِنَ "التمدُّد الأسرع"، فتضخَّم وانتفخ حجمه، الذي كان أقل مِنْ حجم "البروتون"، ليبلغ، في "جزء صغير مِنَ الثانية"، حجم "كرة القدم".

ويُنْظَر إلى فرضية أو فكرة "التضخُّم" Inflation التي طوَّرها ألن غيث وأندري ليندا وبول ستاينهاردت على أنَّها التطور الأهم في التفكير الكوزمولوجي منذ اكتشاف أنَّ الكون، الذي وُلِدَ مِنْ "نقطة لا نهائية الكثافة" أو مِنَ "المفرد" Singularity في حالة تمدُّد، تسبَّب بها "الانفجار العظيم".

ومع تزايد تمدُّد الكون، برد أكثر الهيدروجين والهيليوم، فتكثَّفا أكثر، فظهرت، بالتالي، النجوم والمجرَّات. هذه "الكثافة العظمى" هي التي أنتجت تلك القوَّة المضادة لها، فكان "الانفجار العظيم" لهذه "الذرة البدائية"، فـ"التمدُّد الأسرع" للكون.

ويتضح مِنْ ذلك، أيضاً، أنَّ وجود عنصري الهيدروجين والهيليوم سبق وجود النجوم والمجرَّات، التي نشأت وتكوَّنت بفضل تكاثف هذين العنصرين.

كم مِنْ نوى ذرَّات الهيليوم تكوَّن (مِنَ البروتونات والنيوترونات) عند ولادة الكون مِنْ هذه الكرة الناريَّة ذات "الكثافة العظمى"؟ الحسابات أظهرت أنَّ نسبة الهيليوم المُنْتَج في "الانفجار العظيم" تُحدِّدَها درجة حرارة هذه الكرة الناريَّة، فالحرارة الكونية كانت في الثانية الأولى بَعْدَ "لحظة الخَلْق" 10 مليار درجة، ثمَّ مليار درجة بَعْدَ 100 ثانية، ثمَّ 170 مليون درجة بَعْدَ ساعة واحدة. وعلى سبيل المقارنة، نشير إلى أنَّ حرارة قلب الشمس تبلغ، الآن، نحو 15 مليون درجة.

معظم مادة الهيليوم في الكون أُنْتِج بَعْدَ ثلاث دقائق مِنَ "الانفجار الكبير"، أي بعدما بلغت برودة الكون الحد الكافي لإنتاج نوى هذا الغاز. بَعْدَ ذلك، وفي بواطن النجوم، أُنْتِج نحو 1 أو 2% مِنْ غاز الهيليوم.

الـ "Big Bang" هو آلية خَلْق الكون مِنْ "لا شيء" كما يزعمون. وهنالك مِنَ الكوزمولوجيين مَنْ يعتقد بأنَّ أكواناً عديدة (وليس كوننا فحسب) يمكن أنْ تُخْلَقَ مِنْ "لا شيء Nothing"، عبر "Big Bang" خاص بها، لتختفي مِنَ الوجود سريعاً، أي لتعود إلى الـ "Nothing"، عبر "انسحاق كبير" Big Crunch.

وفي زعمهم، أيضاً، أنَّ هذه العملية مِنَ الخَلْقِ والفناء تَحْدُث، دائماً، ومِنْ دون أنْ يكون هناك خرق لقانون حفظ المادة. وكل كون مِنْ هذه الأكوان (أو غالبيتها) إنَّما يتألَّف مِنْ بحر مِنَ الإلكترونات Electrons والنيوترينات Neutrinos والفوتونات Photons. كم عدد الأكوان "الميتة"؟ جوابهم :"العدد لا نهائي"!

الـ "فَوْفضائي" Hyperspace

الفلسفة المثالية، تُقرُّ بوجود "عالمين منفصلين انفصالاً مطلقاً"، هما "الطبيعة"، أو "العالم المادي"، و"العالم اللا مادي"، أو "عالم ما وراء (ما فوق) الطبيعة".Hyperphysical وبما يشبه هذا التصوُّر الفلسفي المثالي، تحدَّث كوزمولوجيون عن فضاء غير فضائنا، يتَّسم بطابع "ميتافيزيقي" أسموه "Hyperspace".

وهذا الفضاء "فَوْق الفضائي (فَوْفضائي)"، أو "وراء الفضائي"، أو الـ "لا فضائي"، ليس بجزء مِنْ كوننا، فهو لا يقع على "سطح البالون الكوني"، الذي فيه، أو عليه، فحسب، يقع كوننا، بمجرَّاته وفضائه..

إنَّهم يقولون بأنْ ليس للكون مِنْ "مركز" مشابه لمركز الكرة الأرضية، وبأنَّ "سطح الكون"، أو "سطح البالون الكوني"، لا يمكن أنْ يشتمل على "مركز" الكون، فهل يجوز، بَعْدَ ذلك، القول بوجود مركز للكون؟ عن هذا السؤال "الفيزيائي" يجيبون إجابة "ميتافيزيقية" ولكن بـ "لغة فيزيائية"!

في هذه الإجابة يقولون إنَّ "مركز" الكون يقع في "فضاء" يسمُّونه "Hyperspace". هذا "الفضاء" (الميتافيزيقي) يقع بعيداً عن "سطح البالون الكون"، أي عن كوننا. وبناءً على ذلك، يُوْجَد "مركز" للكون، ولكنَّه لا يُوْجَد، ولا يمكن أنْ يُوْجَد، بحسب وجهة نظرهم، في كوننا، الذي له ثلاثة أبعاد مكانية!

الكون إنَّما يتمدَّد "في" هذا "الفضاء (الخرافي)" غير الموجود في كوننا، والذي يسمُّونه "Hyperspace" ويعتبرونه "البُعْد (المكاني) الرابع"، غير المرئي أو غير المنظور!

وهذا النوع مِنَ الفضاء يشمل، في رأيهم، كل فضاء يتألَّف مِنْ أكثر مِنْ ثلاثة أبعاد. وهُم يعتقدون أنَّ "المكان ـ الزمان" Space – Time في مرحلة الطفولة مِنْ عُمْر الكون، كان مؤلَّفاً مِنْ عشرة أبعاد.

وهكذا نسجوا مِنْ ظاهرتي "تمدُّد الكون" و"انحناء الفضاء (أو المكان)" هذه الخرافة التي يلبسونها لبوساً فيزيائياً وكوزمولوجياً. وثمَّة كوزمولوجيون يقولون بكون له 4 أو 5 أبعاد أو 11 بُعْداً!

في مثال Analogy "نملة تعيش وتتحرَّك على سطح بالون، منقَّط، ينتفخ في استمرار"، لا يستطيع هذا الكائن الحيُّ (النملة) أنْ يرى الفضاء المحيط بالبالون، والذي فيه يكبر ويتمدَّد البالون، ولا الفضاء الذي في داخل البالون، والذي كلَّما انتفخ البالون أكثر كَبُرَ حجمه (أي حجم الفضاء في داخل البالون).

والنملة ذاتها لا تستطيع أنْ تتحرَّك (أنْ تنتقل مِنْ موضع إلى موضع) إلا على السطح مِنَ البالون، والذي بالنسبة إليها يُعدُّ الفضاء الوحيد الذي فيه تعيش وتتحرَّك، وكأنْ لا وجود (بالنسبة إليها) للفضاء المحيط بالبالون، وللفضاء الذي في داخله. هذا الفضاء وذاك إنَّما هما الـ "Hyperspace" بالنسبة إلى النملة، التي تفهم تمدُّد الفضاء على أنَّه اتِّساع المسافة بين نقطتين على سطح البالون نتيجة انتفاخه أكثر.

ليس لهذا الـ "Hyperspace" مِنْ وجودٍ بالنسبة إلى النملة، وإنْ كان موجوداً بالفعل، فالفضاء، الذي في مقدورها أنْ تتحرَّك وتنتقل فيه، هو وحده الموجود بالنسبة إليها. وهذا الفضاء هو السطح المؤلَّف مِنْ "بُعْدين اثنين" فحسب. أمَّا "البُعْد الثالث"، أو هذا الـ "Hyperspace"، فلا يقع في متناول إدراكها وفهمها.

الكون، بالنسبة إلى هذه النملة، لا وجود له إلا حيث في مقدورها أنْ ترى، أنْ تعيش وأنْ تتحرَّك وتنتقل، أي لا وجود له إلا على "سطح البالون" المؤلَّف مِنْ بُعْدين فقط.

إنَّها لا ترى ولا تُدرِك الفضاء المحيط بالبالون، أو الفضاء الذي في داخله، وليس في مقدورها أبداً الانتقال إلى هذا الفضاء أو ذاك، وكأنَّها في "أسْرٍ فيزيائي أبدي" على سطح البالون.

النملة في مقدورها أنْ تتحرَّك على "سطح البالون" في "خط مستقيم"، بالنسبة إليها فحسب وليس بالنسبة إلى "مراقِب خارجي"، وفي "خط منحنٍ". في مقدورها أنْ تتحرَّك في اتِّجاه "يمين ـ يسار"، أو في اتِّجاه "أمام ـ وراء"، ولكنْ لن يكون في مقدورها أبداً أنْ تتحرَّك في اتِّجاه "أعلى ـ أسفل".

نحن البشر، فحسب، ولكوننا نعيش ضمن "فضاء مِنْ ثلاثة أبعاد"، نستطيع أنْ نرى "كوْن النملة"، أي سطح البالون، على حقيقته الموضوعية، فهذا البالون "محدود" Finite (و"غير محدود" Infinite بالنسبة إلى النملة بسبب الشكل الكروي لسطحه) ويتمدَّد في "البُعْد الثالث"، كما أنَّ الـ "Big Bang" الخاص بـ "كون النملة" يقع في مركز البالون، أي في "البُعْد الثالث" أيضاً. ولنتذكَّر أنَّ "البُعْد المكاني الثالث" هو الذي يسمح لنا بأنْ نتحرَّك في اتِّجاه "أعلى ـ أسفل".

ونحن البشر مثل النملة، نعيش ونتحرَّك وننتقل ضمن كون يقع كله على "السطح" مِنَ "الكرة الكونية". وكوننا هذا يختلف عن "كون النملة" في كونه مؤلَّف مِنْ ثلاثة أبعاد وليس مِنْ بُعدين فحسب. ونحن مثل النملة ليس في مقدورنا أنْ نعيش ونتحرَّك وننتقل إلا ضمن كوننا الذي يقع كله على السطح مِنَ "الكرة الكونية" والمؤلَّف مِنْ ثلاثة أبعاد، فالـ "Hyperspace" الخاص بنا، والمفترَض، لا يمكننا أبداً إدراكه أو الانتقال إليه، وكأنَّ حاجزا يستحيل اختراقه يفصل بينه وبين كوننا، فالفضاء المحيط ببالوننا الكوني، والفضاء الذي يقع في داخله، أي حيث الـ "Big Bang" الخاص بكوننا، إنَّما يقعان، على افتراض أنَّهما موجودان بالفعل، حيث لا يمكننا أبداً إدراكهما أو الوصول والانتقال إليهما، فنحن البشر مع عقولنا ذات الأبعاد الثلاثة، في "أسْرٍ فيزيائي أبدي" على سطح بالوننا الكوني بأبعاده الثلاثة.

إنَّ الجواب عن سؤال "أين يقع الـ Big Bang؟" هو: "يقع في الـ Hyperspace"، أي أنَّه لا يقع على السطح مِنْ بالوننا الكوني، مهما صغر أو كبر حجم هذا البالون.

هذا الـ Hyperspace الخاص بكوننا إنَّما هو "البُعْد (المكاني) الرابع" الذي حَوْلَه ينحني ويتقوَّس كوننا المؤلَّف مِنْ ثلاثة أبعاد (طول وعرض وارتفاع). وهذا "البُعْد الرابع" إنَّما هو الفضاء في داخل بالوننا الكوني، أي الفضاء بين مركز هذا البالون وسطحه، والذي لا ينتمي إلى كوننا ولا يُعدُّ جزءاً منه؛ لأنَّ كوننا كله يقع على سطح البالون فحسب.

ونحن البشر نرتبط، بأدمغتنا وعيوننا وحركتنا.. بهذا السطح فحسب، فنحن، مع كوننا، لا نتبادل أي تأثير مع ذاك "البُعْد الرابع". إنَّنا لا نراه، ولا ندركه، ولا نتَّصل به، ولا نصل إليه. لا نُرْسِل إليه أي شيء، ولا نستقبل منه أي شيء.

في الكرة الأرضية يقع "البُعْد الثالث" بين مركزها وسطحها، الذي ينحني في اتِّجاه هذا البُعْد الثالث، أي حَوْلَه. وسطح الكرة الكونية المؤلَّف مِنْ ثلاثة أبعاد ينحني هو أيضاً، ولكن في اتِّجاه (أو حول) البُعْد الرابع، الذي يقع بين مركز الكرة الكونية وسطحها.

مركز الأرض لا يقع على سطحها وإنَّما في داخلها. إنَّكَ لن تشير إلى مركز الأرض عندما تشير بإصبعكَ شمالاً أو جنوباً، شرقاً أو غرباً. إنَّكَ تشير إليه عندما تشير بإصبعكَ إلى "أسفل" أو إلى "تحت".

أمَّا مركز الكون فيقع في "البُعْد الرابع"، الذي في اتِّجاهه (أو حَوْلَه) ينحني الكون. إنَّه يقع في الـ "Hyperspace". هذا يعني أنَّ مركز الكون لا يقع (لا يُوْجَد) في كوننا المؤلَّف مِنْ ثلاثة أبعاد مكانيَّة، والذي يُوْجَد كله على السطح مِنْ الكرة الكونية.

إنَّ كوننا في تمدُّد مستمر، فأين يُوْجْد مركز هذا التمدُّد؟ إنَّه لا يُوْجَد في كوننا، فأنتَ لا يمكنكَ أنْ تشير إليه عندما تشير بإصبعكَ شمالاً أو جنوباً، شرقاً أو غرباً، إلى أعلى أو إلى أسفل، فالكون إنَّما يتمدَّد في الـ" فَوْفضائي" Hyperspace أي في اتِّجاه (أو حَوْل) البُعْد الرابع، غير المرئي (غير الظاهر وغير المنظور). إنَّه يتمدَّد حَوْل "البُعْد المكاني الرابع"، الذي لا وجود له في كوننا. وإنَّه يتمدَّد، أيضاً، في فضاء لا وجود له في كوننا.

الـ "Hyperspace" ينبغي لنا فهمه على أنه شبيه بـ "البُعْد المكاني السِرِّي". وهناك مِنَ الكوزمولوجيين مَنْ يستعمل هذا المفهوم (Hyperspace ) في وصف الكون في مرحلة طفولته، ففي هذه المرحلة، وبحسب زعمهم، كان الـ "Space – Time" يتألَّف مِنْ 10 أبعاد. ولو كان البشر موجودون في تلك المرحلة لَمَا أدْركوا مِنْ أبعاده تلك غير ثلاثة (طول وعرض وسُمْك) هي التي يُدْرِكونها في كوننا الحالي.

على سطح بالوننا الكوني، نستطيع التحرُّك في "خط مستقيم"، بالنسبة إلينا فحسب وليس بالنسبة إلى "مراقِب خارجي"، وفي "خط منحنٍ". ونستطيع التحرُّك في الاتِّجاهات الآتية: "يمين ـ يسار"، "أمام ـ وراء"، "أعلى ـ أسفل". ونحن نستطيع التحرُّك في اتِّجاه "أعلى ـ أسفل"؛ لأنَّ سطح بالوننا الكوني مؤلَّف مِنْ ثلاثة أبعاد.

تصوُّر كوزمولوجي مضاد

لنتصوَّر "غشاء" بالوننا الكوني على أنَّه شيء يشبه "طبقة كثيفة متَّصلة مِنَ الغيم تتوسط الغلاف الجوَّي للكرة الأرضية". "تحت" هذه الطبقة و"فوقها" يُوْجَد هواء وبخار ماء كثافته أقلَّ كثيراً مِنْ بخار الماء (أو مِنْ قطرات الماء) التي تتألَّف منها طبقة الغيم تلك.

ولنتصوَّر أنَّ هذه الطبقة، التي هي في منزلة كوننا كله، والتي تنحني حول سطح الكرة الأرضية كله، تشتمل على مجرَّتين (متقابلتين) فحسب، هما: "المجرَّة ـ A" و"المجرَّة ـ B".

ولنتصوَّر أنَّنا نركب "طائرة"، تسير ضمن هذه الطبقة مِنَ الغيم، وأنَّ في مقدور هذه الطائرة أنْ تسير في سرعة عادية، وفي سرعة قريبة مِنْ سرعة الضوء، كما في مقدورها، أيضاً، أنْ تسير في "خط مستقيم"، وفي "خط منحنٍ"، وفي الاتِّجاهات كافة.

مهما كانت سرعة الطائرة، ومهما كان الاتِّجاه الذي تسير فيه، ومهما كان الزمان الذي تستغرقه رحلتها، فإنَّها لن ترى، دائماً، إلا إحدى المجرَّتين، ولن تصل إلا إلى إحدى المجرَّتين.

"المراقِب الخارجي"، أي الموجود خارج طبقة الغيم تلك، يرى الطائرة عاجزة عجزاً مطلقاً عن أنْ تخرج مِنْ طبقة الغيم أكان هذا الخروج في اتِّجاه "أعلى" أم في اتِّجاه "أسفل". هذا "المراقِب" يرى أنَّ هذه الطبقة "تتوسط" ما يشبه "الغلاف الجوي" للكرة الأرضية، ولكنَّه، في الوقت نفسه، يرى الطائرة عاجزة عن مغادرة "طبقة الغيم"، وكأنَّها تتحرَّك ضمن "سجن فضائي أبدي" لا مهرب منه، فالاتِّصال مقطوع بين كوننا في ذلك "الغشاء"، أو في تلك "الطبقة مِنَ الغيم"، وبين كل ما يقع ضمن "الفضاء في داخل البالون الكوني" وضمن "الفضاء الخارجي المحيط بهذا البالون"، فهذا الفضاء وذاك هما الـ "Hyperspace"، أي أنَّهما ليسا بجزء مِنْ كوننا، وقد يشتملان على أكوان عديدة، ولكنْ ليس في مقدورنا الاتِّصال بها إلا عبر "ظواهر كونية" ما زالت افتراضية مثل الـ "wormhole".

فَلْنَنْظُر، الآن، إلى الكون، أو إلى كوننا، على أنَّه "كُرَة" أو "بالون منتفخ"، ولنتصوَّر أنَّ كل ما في كوننا مِنْ مادة، مِنْ كتلة وطاقة وقوى، مِنْ مجرَّات ونجوم وكواكب.. ، يقع، فحسب، على سطح هذا البالون. وَلْنَنْظُر إلى هذا السطح على أنَّه "غشاء فضائي"، يضم "المادة" كلَّها، ويتَّسِع ويتمدَّد في استمرار، فتتَّسع، بالتالي، المسافة بين المجرَّات.

ولكنْ دعونا، في الوقت نفسه، نرى (أي نتخيَّل) فضاءً في داخل البالون، وفضاءً آخر محيط به، وكأنَّه يفصل بين كوننا وأكوان أخرى.

دعونا ننظر إلى "الغشاء الفضائي" على أنَّه "فضاء مُركَّز ومُكثَّف"، مقارنةً بـ "الفضاء الداخلي"، الذي ليس ثمَّة ما يمنع مِنْ أنْ ننظر إلى مركزه على أنَّه موضع تتركَّز فيه المادة أو الكتلة والطاقة تركُّزاً شديداً، ومقارنةً، أيضاً، بـ "الفضاء الخارجي"، الذي ليس ثمَّة ما يمنع، أيضاً، مِنْ أنْ نرى فيه أكوان أُخرى.

ودعونا ننظر إلى "الغشاء الفضائي" على أنَّه المجال الذي فيه، وبه، تُحبس (تُعتقل وتُسجن) المادة مِنْ مجرَّات ونجوم، مِنْ أجسام وجسيمات، فلا يُسمَح لها بالحركة (بالسيْر والانتقال) إلا فيه وضمنه.

ودعونا نرى، أي نتخيَّل، "ثغرات (منافذ، مداخل ومخارج)" في جدار هذا "السجن الفضائي"، تسمح بشيء مِنَ "التبادل المادي"، فيهرب جزء مِنَ المادة مِنْ هذا "السجن الفضائي" إلى "الفضاء الداخلي"، تارةً، وإلى "الفضاء الخارجي" طوراً، ويأتي إليه جزء مِنَ المادة مِنْ "داخل البالون" ومِنْ "خارجه" في الطريقة ذاتها. أمَّا إذا ضربنا صفحاً عن تلك "الثغرات" فَلْنَفْهَم هذا "التبادل المادي" على أنَّه مِنْ فعل قوى فيزيائية معيَّنة.

"الاتِّصال المادي" بين كوننا أو فضائنا وبين كلٍّ مِنَ "الفضاء في داخل البالون" و"الفضاء في خارجه والمحيط به" قد يكون ضعيفاً، ولكنَّ ضعفه لا يعني أنَّه معدوم الوجود.

هذا "الغشاء الفضائي" ليس بالمجال الذي تتساوى وتتماثل فيه "الجاذبية"، فبعضه تتركَّز وتتكثَّف وتشتدُّ فيه الجاذبية، وبعضه تتخلخل فيه الجاذبية وتضعف. حيث تتركَّز الجاذبية تُكرَه "الأجسام" على السير في خطوط منحنية. أمَّا حيث تضعف فيقلُّ الانحناء في هذه الخطوط، أي ترجح "كفَّة الاستقامة" فيها على "كفَّة الانحناء".

إنَّ الجسم المتحرِّك في الفضاء لا يمكنه الإفلات مِنَ الوقوع في مصيدة هذا المسار المنحني أو ذاك إلا بامتلاكه ما يكفي مِنَ "الطاقة الحركية". والجسم المتحرِّك في الفضاء إنَّما ينتقل مِنْ موضع إلى موضع وكأنَّه يسير فوق أسطح كروية فضائية متفاوتة الانحناء والتقوُّس، فهذا السطح الكروي الفضائي أكثر أو أقل انحناءً مِنْ ذاك.

المسارات في الفضاء ليست منحنية انحناءً مطلقاً، وليست مستقيمة استقامةً مطلقة، ففي المنحني منها شيء مِنَ الاستقامة، وفي المستقيم منها شيء مِنَ الانحناء، فهذان الضدَّان ("الانحناء" و"الاستقامة") متَّحدان اتِّحاداً عضوياً، تارةً ترجح كفَّة هذا وطوراً ترجح كفَّة ذاك. والسير في خط مستقيم هو السير في المسار الأقصر.

في الفضاء يمكننا السير في خط مستقيم، ولكن مِنْ غير أنْ ننسى أنَّ الخط المستقيم في الفضاء المنحني هو أيضاً منحني. بالنسبة إليكَ، أنتَ تسير في خط مستقيم، ولكن بالنسبة إلى مراقِب بعيد، أنتَ تسير في خطٍ منحنٍ، أو على سطح كروي. ونحن لو أمعنَّا النظر في الخط المنحني (والشديد الانحناء) لوجدنا شيئاً (أو قدراً) مِنَ "الاستقامة" في كل جزء مِنْ أجزائه. وكلَّما صَغُرَ هذا الجزء رأينا فيه استقامة أكثر.

مستقبل التمدُّد الكوني

كيف نعرف مستقبل "التمدُّد الكوني"؟ عن هذا السؤال يجيبون قائلين: المهمة سهلة مِنْ حيث المبدأ، فكل ما ينبغي لنا معرفته، حتى نعرف مستقبل "التمدُّد الكوني"، هو "مقدار كتلة الكون"!

هذه "الفرضية الخاطئة" هي التي قادتهم إلى النظر إلى الأمور في هذه الطريقة. لقد افترضوا أنَّ للكون، أي لـ "العالم المادي" برمَّته، "مقداراً محدوداً مِنَ الكتلة"، يمكن، عاجلاً أو آجلاً، التوصُّل إلى حسابه ومعرفته، فنعرف، بالتالي، هل سيستمر الكون في التمدُّد إلى الأبد، أم سيبلغ في تمدُّده حدَّاً أقصى يتوقَّف عنده إلى الأبد، أم سيتحوَّل تمدُّده، بعد أنْ يتوقَّف عند حدٍّ معيَّن، إلى انكماش.

هُم يقولون، في معرِض تأكيدهم لبساطة الحل لهذه المسألة، إنَّه يكفي أنْ نحسب مقدار كتلة النجوم والغاز والغبار في مجرَّة ما، وأنْ نضرب الرقم الذي حصلنا عليه بعدد مجرَّات الكون، حتى نتوصَّل إلى معرفة مقدار كتلة الكون.

حسناً، فليجيبوننا عن السؤالين الآتيين: كم عدد مجرَّات الكون؟ هل هذا العدد نهائي غير قابل، أبداً، للزيادة؟ لقد أخطأوا في "المقدِّمات"، فكيف يمكنهم التوصُّل إلى "استنتاجات صحيحة"؟!

ظاهرة "تمدُّد الكون" واستمراره في التمدُّد، وفي تمدُّدٍ متسارِع، أثارت لدى الكوزمولوجيين السؤال عمَّا إذا كان لهذا التمدُّد مِنْ نهاية. وقالوا، في محاولتهم التوصُّل إلى إجابة نهائية عن هذا السؤال، إنَّ كتلة الكون إذا كانت أقل مِنْ مقدار معيَّن فإنَّ الكون سيستمر في التمدُّد إلى الأبد.

ولكنْ، أمَا كان حريَّاً بهم أنْ يسألوا أنفسهم السؤال الآتي: هل كان ممكناً (فيزيائياً) أنْ يتمدَّد الكون هذا التمدُّد لو أنَّ كتلته أقل مِنْ ذلك المقدار؟ أعتقد أنَّها لو كانت أقل لَمَا تمدَّد الكون كما تمدَّد حتى الآن.

إنَّهم يتخيَّلون مستقبل تمدُّد الكون عَبْرَ هذا المثال الذي يوردون: إذا قذفتَ بحجر في الهواء فإنَّ هذا الحجر سيرتفع ليسقط، مِنْ ثمَّ، حتماً، إلا إذا قذفتَ به بقوَّة تجعله يتحرَّك، صعوداً، في سرعة تفوق "سرعة الهروب" مِنَ الجاذبية الأرضية.

هُم، في هذا المثال، إنَّما يفترضون أنَّ القوَّة الدافعة إلى التمدُّد الكوني ستظل متغلِّبة على قوَّة الجذب الكوني إذا كانت كتلة الكون، أو كثافته، أقل مِنْ مقدار معيَّن.

إنَّ الافتراض الذي كان ينبغي لهم أنْ يفترضوه هو أنَّ الكون في تمدُّده يشبه حجراً مقذوفاً لن يتمكَّن أبداً مِنَ الإفلات مِنْ جاذبية الأرض مهما ارتفع، فالقوَّة الدافعة إلى التمدُّد الكوني لا تدفع الكون إلى التمدُّد (عَبْرَ التغلُّب على الجاذبية الكونية) مِنْ دون أنْ تَخْلِق، في الوقت ذاته، عوامل الانكماش الكوني.

هل الكون "مفتوح (سيستمر في تمدُّده إلى الأبد)" أم "مغلق (سينكمش ويتقلَّص ثانية)" ؟ حتى الآن، لا جواب نهائياً حاسماً عن هذا السؤال الكبير الذي يثيره نموذج "الكون المتمدِّد". هذا الجواب لن يكون قَبْلَ معرفة "كثافة الكتلة" في الكون، التي يمكن حسابها أو تقديرها مِنْ خلال ضرب كتلة المجرَّة بعدد المجرَّات في الكون.

لقد أجرى علماء الفلك هذا الحساب، فوجدوا أنَّ هذه الكثافة لا تزيد عن 5 أو 10 في المئة ممَّا يسمُّونه "الكتلة الحرجة".

هذه الكثافة الضئيلة توصَّلوا إليها إذ حسبوا كتلة "المادة المضيئة" في الكون. ثمَّ افترضوا، مِنْ أجل رفع هذه النسبة، وجود مقدار هائل مِنَ "المادة المظلمة" Dark Matter في داخل كل "مجموعة مجرية"، وليس في داخل كل مجرَّة مرئية فحسب، فإذا كانت كتلة "المادة المضيئة" في المجرَّات هي كل كتلة الكون فإنَّ الكون يكون، في هذه الحال، مِنَ النمط "المفتوح".

وإلى أنْ يتوصَّلوا إلى فَهْمٍ مُرْضٍ لظاهرة "الكتلة المفقودة" Missing Mass هذه، ستظل معرفة مصير الكون (يتمدَّد إلى الأبد أم يشرع ينكمش ثانية) متعذرة.

في حسابهم، الذي توصَّلوا بفضله إلى تلك الكثافة الضئيلة، إنَّما استندوا إلى معطيات خاطئة فيزيائياً، ويعود خطؤها إلى تصوُّر كوزمولوجي وفلسفي خاطئ.. تصوُّر جعلهم ينظرون إلى الكون، أي إلى "العالم المادي" برمَّته، على أنَّه "محدود" في "الكتلة" و"المدى"، فنحن وإنْ تمكَّنا مِنْ معرفة متوسط مقدار "الكتلة" في "المجرَّة" فلن نتوصَّل، أبداً، إلى معرفة "العدد النهائي (أو التقريبي)" للمجرَّات في الكون، أي في كل "العالم المادي، فالكون "غير المحدود" إنَّما يستمدُّ جزءاً مِنْ معنى صفته هذه مِنْ أنَّ مجرَّاته لا عدَّ لها ولا حصر.

حتى تلك المجرَّات التي نراها، الآن، بفضل التلسكوبات المتطورة ولاسيَّما التلسكوب "هابل" ليست سوى جزء ضئيل مِنَ المجرَّات التي سنراها مستقبلا.

البحث عن "كثافة الكتلة" في الكون لا يصحُّ ولا يجوز إلا إذا عرفنا، أوَّلاً، "مقدار الكتلة" في الكون و"حجم الكون". هذان العاملان الأوَّليان لم نعرفهما، ولن نعرفهما أبداً؛ لأنَّ "المقدار" و"الحجم" مطلقان!

إنَّنا إذا ما سافرنا في الفضاء في أي اتِّجاه فإنَّنا لن نبلغ أبداً النهاية (أو الحافة) النسبية للكون مهما كانت هائلة المسافة التي قطعناها ونقطعها؛ ذلك لأنَّ تمدُّد الكون هو الوجه الآخر لتمدُّد الفضاء بين المجرَّات (إذا ما نَظَرْنا إلى "المجرَّة" على أنَّها شيء يشبه "الجزيء الكوني") فالمسافة التي نريد اجتيازها بين هذه المجرَّة وتلك لن تظل ثابتة، فهي ستتَّسع في استمرار. إنَّنا، في هذه الحال، كَمَنْ يحاوِلُ اجتياز طريق "متحرِّكة"، تزداد طولاً!

إنَّنا لن نعود أبداً إلى "نقطة الانطلاق"، التي هي ذاتها نهاية الرحلة الفضائية على سطح الكرة الكونية الضخمة، إلا إذا سِرْنا في سرعة تسمح لنا باجتياز "المحيط المتَّسع" لـ "الدائرة الكونية".

إذا كانت أبْعَد مجرَّة نراها، الآن، يبلغ عمرها مليار سنة (صبيَّة) فأين هي "الآن"؟ وهل مازالت على قيد الحياة؟ كل ما نعرفه، وما يمكننا معرفته، هو أنَّ الضوء، الذي غادر جسماً (مجرَّة مثلاً) بَعْدَ مليار سنة مِنَ "الانفجار العظيم"، ووصل إلى الأرض الآن، مجتازاً مسافة قدرها 14 مليار سنة، مثلاً، قد سافر قاطعاً هذه المسافة.

أين هي هذه المجرَّة الآن؟ ربَّما اختفت مِنَ الوجود.. ربَّما التهمها كون آخر مجاور لكوننا، ولِمَ لا؟!

إنَّ سؤال "هل كوننا مفتوح أم مغلق؟" لا مبرِّر له؛ ذلك لأنَّ كوننا، وحتى لا تَدْخُل استنتاجات نظرية "الانفجار العظيم" في نزاع منطقي مع مقدِّماتها، لا يمكن إلا أنْ يكون مغلقاً. لماذا؟ لأنَّ "الكون المغلق" هو وحده ما يفسِّر ويعلِّل وجود "الجسم البدائي"، الذي يقلُّ في حجمه عن حجم نواة الذرَّة، والذي منه جاء كوننا الحالي، بحسب نظرية "الانفجار الكبير"، فإذا كان هذا الجسم لم يأتِ مِنْ تقلُّص أو انكماش كوني سابق فمِنْ أين أتى؟!

كوننا الحالي، الذي هو في حالة تمدُّد مستمرٍ ومتسارِعٍ، لا بدَّ له مِنْ أنْ يبلغ في تمدُّده حدَّاً أقصى ليشرع، مِنْ ثمَّ، في التقلُّص والانكماش، وصولاً إلى "الجسم البدائي"، فـ "قوَّة الجاذبية الكونية" ستتغلَّب، في آخر المطاف، على "قوَّة التمدُّد الكوني"؛ لأنَّ مقدار كتلة الكون يسمح لها، أو سيسمح لها، بإحراز تلك الغلبة.

أمَّا سبب قول ذلك فيكمن في فرضية أنَّ كتلة كوننا ثابتة المقدار، لا تزيد ولا تنقص. وهذه الفرضية لا يستقيم منطقها إلا إذا ارتبطت عضوياً بفرضيَّة مِنْ فرضيتين: فرضية "أنَّ كوننا هو الكون الوحيد"، وفرضية "أنَّ كوننا يعجز عجزاً فيزيائياً مطلقاً عن تبادل المادة مع كون آخر أو مع أكوان أُخرى".

وغني عن البيان أنَّ "انهيار كوننا على ذاته"، بَعْدَ تحوُّل تمدُّده إلى تقلُّص، هو "النتيجة المنطقية" التي تقود إليها مقدِّمة "كتلة الكون الثابتة المقدار" فمِنْ أين تأتي "الزيادة" في الكتلة الكونية، والى أين يذهب "النقص"، إذا ما قلنا بفكرة "وحدانية الكون"، أو بفكرة "انعدام التبادل المادي بين كوننا وبين كون آخر أو أكوان أُخرى"، وإذا ما ظللنا على اعتقادنا بقانون "حفظ المادة"؟!

إنَّ مَنْ فسَّر نشوء الكون بانفجار "الجسم البدائي" لن يظلَّ واقفاً على ارض الفيزياء والعِلْم إلا إذا قال، في الوقت نفسه، بنظرية "الكون المغلق"!



#جواد_البشيتي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بعض من السمات الجديدة للصراع
- كوميديا -تعقُّلنا- وتراجيديا جنونهم!
- لا سياسة إلا إذا كانت بنت -الآن-!
- قصَّة الْخَلْق
- حلٌّ متبادَل ولكن غير متزامن!
- الحرب المعلَنة في هدفها غير المعلَن!
- فرحٌ رياضي أفسدته السياسة!
- إنها -آراء- وليست -مواقف-!
- تهافت منطق -التأويل العلمي- عند الدكتور زغلول النجار وآخرين!
- -حرب صليبية- جديدة على -مادِّية- المادة!
- خبر -صعقني-!
- إما -صمت- وإما -توسُّط-!
- هل هذه -حرب-؟!
- من حجج الاعتراض على -الاستفتاء-!
- كم أحسدك يا شاليت!
- -التسيير- و-التخيير- بين الدين والعِلْم!
- إرهاب التوجيهية!
- من -الرأسين- إلى -الرقبة والرأس-!
- قُلْ لي كم لدينا من الديمقراطيين أقول لك كم لدينا من الديمقر ...
- -حماس- في حوار -الناسخ والمنسوخ-!


المزيد.....




- الرئيس الإماراتي يصدر أوامر بعد الفيضانات
- السيسي يصدر قرارا جمهوريا بفصل موظف في النيابة العامة
- قادة الاتحاد الأوروبي يدعون إلى اعتماد مقترحات استخدام أرباح ...
- خلافا لتصريحات مسؤولين أمريكيين.. البنتاغون يؤكد أن الصين لا ...
- محكمة تونسية تقضي بسجن الصحافي بوغلاب المعروف بانتقاده لرئيس ...
- بايدن ضد ترامب.. الانتخابات الحقيقية بدأت
- يشمل المسيرات والصواريخ.. الاتحاد الأوروبي يعتزم توسيع عقوبا ...
- بعد هجوم الأحد.. كيف تستعد إيران للرد الإسرائيلي المحتمل؟
- استمرار المساعي لاحتواء التصعيد بين إسرائيل وإيران
- كيف يتم التخلص من الحطام والنفايات الفضائية؟


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - جواد البشيتي - الانفجار الكبير Big Bang.. بين -الفيزياء- و-الميتافيزياء-!